قصص القرآن

حوار شعيب عليه السلام مع قومه في القرآن الكريم

اسلاميات
حوار شعيب عليه السلام مع قومه في القرآن الكريم
المصدر: المنتدى العالمي للوسطية
الخميس, January 1, 2009

الحمد لله ، الذي أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وأن يجادل بالتي هي أحسن ، والصلاة والسلام على رسول الله ، الذي بلّغ الرسالة بأبلغ أسلوب ، وأفصح بيان ، وأفضل حوار ،  وبعد :
فهذا بحث أعددته للمشاركة به قي مؤتمر ” الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي ” والذي تنظمه كلية الشريعة في جامعة الشارقة , ودائرة  الأوقاف بالشارقة .
ويشتمل على تمهيد بينت فيه : أسباب اختيار البحث ، ونسب ومكانة شعيب عليه السلام ، وموقف قومه منه . ثم استخلصت عناصر وآداب الحوار الأمثل مع الطرف الآخر من خلال قصة شعيب عليه السلام كما وردت في سور القرآن الكريم .
التمهيد :
أسباب اختيار البحث :

1.  إن الدعاة في هذا العصر بأمس الحاجة لمعرفة أسلوب الحوار الأمثل الذي ورد في القرآن الكريم عند مخاطبتهم للآخرين ، وهذا يؤدي إلى  نجاح كبير في الدعوة ، وفي التعايش مع الناس ، بعكس الخروج عن أسلوب حوار الرسل عليهم السلام مع أقوامهم ، فإنه يؤدي إلى نتائج عكسية ليست في صالح دعوة الإسلام ، خاصة أن علماء التربية يقولون : إذا كانت المُدْخلات سليمة ، فالمَُخرجات تكون سليمة . فإذا عرف الدعاة آداب وقواعد الحوار الجيد المثالي ، لاشك أن هذا سيؤدي إلى نجاح كبير في الدعوة .
2. الحاجة لا تزال قائمة إلى معرفة أسلوب الحوار الأمثل فيما يتعلق بمجالات الحياة كلها ؛ لأن دعوة الإسلام شاملة للعقيدة والحياة دون انفصام .
3. ساد في هذا العصر اعتقاد بأن المسلمين لا يعرفون، إلا الإرهاب والعنف ، ويجهلون لغة الحوار المناسب ، فلعل هذا البحث ،وهو جزء من هذا المؤتمر، أن يصحح ذلك المفهوم.
4. مقارنة الأساليب والآداب التي عرضها القرآن الكريم ، من خلال سيرة الرسل عليهم السلام مع أقوامهم ، بما توصلت إليه نتائج أحدث الدراسات ودعت إلى الالتزام به وتطبيقه .
نسب شعيب عليه السلام
هو ابن ميكيل بن يشجن ذكره ابن إسحاق. ويقال : شعيب بن يشخر بن لاوي بن يعقوب ، ويقال : أمه بنت لوط . وفي حديث أبي ذر في ذكر الأنبياء والرسل قال : ” أربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر”   .
مكانة شعيب عليه السلام :
كان بعض السلف يسمي شعيباً خطيب الأنبياء ، يعني لفصاحته وعلو عبارته وبلاغته في دعاية قومه إلى الإيمان برسالته ،عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيباً قال: ” ذاك خطيب الأنبياء ، لحسن مراجعته قومه  ”   . وهو ما أكسبه القدرة على الحوار مع قومه .
قصة شعيب عليه السلام مع قومه أهل مدين :
كان أهل مدين قوماً عرباً يسكنون مدينتهم مدين ، التي هي قريبة من أرض مَعَان من أطراف الشام ، قريباً من بحيرة قوم لوط ، وكانوا بعدهم بمدة قريبة ، ومدين مدينة عرفت بالقبيلة وهم من بني مدين بن مديان بن إبراهيم الخليل .
وكان أهل مدين كفارا ، يقطعون السبيل ، ويخيفون المارة ، ويعبدون الأيكة وهي شجرة من الأيك وهي : غيضة تُنبِتُ ناعمَ الشجر ملتفة بها ، وكانوا من أسوأ الناس معاملة ، يبخسون المكيال والميزان ، ويطففون فيهما ، يأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص .
فبعث الله فيهم رجلاً منهم وهو رسول الله شعيب عليه السلام ، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ونهاهم عن تعاطي هذه الأفاعيل القبيحة ، من بخس الناس أشيائهم وإخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم ، فآمن به بعضهم وكفر أكثرهم  ، حتى أحلَّ الله بهم البأس الشديد .

ويرى بعض المفسرين أن أصحاب الأيكة قوم آخرون غير أهل مدين، أرسله الله إليهم بعد إهلاك أهل مدين ، وكانوا يسكنون بقرب مدين، فدعاهم إلى الله فكذبوه، فأخذهم عذاب يوم الظلة ، والأرجح أنهما اسمان لمسمى واحد ، والله أعلم .
” هؤلاء ـ يعني أصحاب الأيكة ـ هم أهل مدين على الصحيح ، وكان نبي الله شعيب من أنفسهم ولما نسبوا إلى عبادة الأيكة لم يقل أخوهم شعيب ، لما قال : { كذب أصحاب الأيكة المرسلين }وإنما قال { إذ قال لهم شعيب ألا تتقون } الشعراء / 177 ، فقطع نسب الأخوة بينهم للمعنى الذي نسبوا إليه ، وإن كان أخاهم نسبا ، والصحيح أنهم أمة واحدة وصفوا في كل مقام بشيء ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان كما في قصة مدين سواء بسواء فدل ذلك على أنهما أمة واحدة ”
وقد ذكر أن شعيباً عليه السلام مات بمكة ، ومن معه من المؤمنين وقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة ودار بني سهم .
أساليب الحوار الأمثل المستنبطة من حوار شعيب عليه السلام مع قومه :
يتبين لنا من خلال دراسة الآيات الكريمة ، التي تحدثت عن قصه شعيب عليه السلام عندما حاور قومه فيما يتعلق بطاعة الله ، والالتزام بمنهجه ، وعدم معصيته ، فإننا نستطيع الوقوف على أهمية الحوار ، والأسلوب الأمثل عندما نحاور الآخرين من خلال النقاط الآتية  :
1. دعوة الطرف الآخر إلى الإيمان بالله ووحدانيته قبل كل شيء :
بدأ شعيب عليه السلام دعوة قومه بالتوحيد ، وهي الدعوة التي جاء بها جميع الأنبياء والرسل عليهم السلام ؛ لأن الخصم إذا آمن بالله وحده ، واستسلم له ، فإنه يمتثل لكل ما أمر الله به ، ونهى عنه ، { وإلى مدين أخاهم.شعيباً فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين } العنكبوت / 36 ” أي : أخشوا الآخرة التي فيها الجزاء على الأعمال { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } أي : لا تكفروا فإنه أصل كل فساد ،  والعثو : أشد الفساد ، وقيل : { وارجوا اليوم الآخر } أي: صدقوا به فإن القوم كانوا ينكرونه ” .    وهذا ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، دعاهم إلى قول لا إله إلا الله  ، مرغباً إيّاهم ، إذا قالوها ، ملكوا بها العرب والعجم ، ولم يأمرهم بصلاة ولا صيام في بداية دعوته ”   .ووحدانية الله هي القاعدة التي يعلم أن منها تنبثق كل مناهج الحياة ، وكل أوضاعها ، كما أن منها تنبثق قواعد السلوك والخلق والتعامل ، ولا تستقيم كلها إلا إذا استقامت هذه العقيدة ”
2. استعمال الألفاظ المحببة أثناء الحوار مع الطرف الآخر:
استعمل شعيب عليه السلام ألفاظاً كلها مودة ، ورحمة ولين ، وعطف وحنان ، ولم يتكبر أو يتعالى على قومه ، لأن الألفاظ القاسية والفاحشة ، تؤدي إلى نفور الناس من الداعية ، كما وجه الله ، رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } آل عمران / 159 . ” والفظ : الغليظ الجافي ، وغلظ القلب : قسوته  ، والمعنى : لو كنت فظا غليظ القلب لا ترفق بهم لتفرقوا من حولك هيبة لك واحتشاما منك بسبب ما كان من توليهم ”
وخاطبهم شعيب عليه السلام بلفظ : يا قومِ ، وبلفظ الأخوة كما سجل القرآن ، لم يقل يا كفار ، يا مجرمين  ، قال تعالى: { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } الأعراف / 85 ، أي : دلالة وحجة واضحة وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به ، وأنه أرسلني إليكم ، وهو ما أجرى الله على يديه من المعجزات التي لم تنقل إلينا تفصيلاً وإن كان هذا اللفظ قد دل عليها إجمالاً.
3.  توظيف أسلوب الترغيب والترهيب في الحوار:
لا يجوز للداعية أن يلتزم أسلوب الترغيب لوحده أو الترهيب لوحده دائماً ، بل يجمع بينهما ، كما جمع القرآن بينهما ؛ فشعيب عليه السلام ذكر قومه بنعم الله الكثيرة عليهم ، قال تعالى: { وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } الأعراف / 86 ، ذكرهم بنعمة كثرة النسل ، بعد القلة ، وحذرهم نقمة الله بهم إن خالفوا ما أرشدهم إليه ودلهم عليه .
ورغبهم في الربح الحلال المبارك فيه وإن قل ، والحرام لا يجدي وإن كثر، ولهذا قال : {بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين } هود / 86 ، ورغبهم في الإخلاص لله وحده ، والبعد عن الرياء : { وما أنا عليكم بحفيظ } هود / 86 ، أي افعلوا ما آمركم به ابتغاء وجه الله ورجاء ثوابه .
ثم استعمل أسلوب الترهيب ،  فقال: { وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}. هود / 89  ، أي : لا تحملنكم مخالفتي وبغضكم ما جئتكم به على الاستمرار على ضلالكم وجهلكم ومخالفتكم، فيحل الله بكم من العذاب والنكال نظير ما أحله بنظرائكم وأشباهكم، من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح من المكذبين المخالفين ، وقوله { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيد ٍ}  أي : ” ما بالعهد من قدم مما قد بلغكم ما أحل بهم على كفرهم وعتوهم. وقيل: معناه وما هم منكم ببعيد في المحلة والمكان ، وقيل في الصفات والأفعال المستقبحات من قطع الطريق وأخذ أموال الناس جهرة وخفية بأنواع الحيل والشبهات. والجمع بين هذه الأقوال ممكن فإنهم لم يكونوا بعيدين منهم لا زماناً ولا مكاناً ولا صفات ” .
ثم مزج الترهيب بالترغيب فقال : { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُود ٌ}
أي : اقلعوا عما أنتم فيه وتوبوا إلى ربكم الرحيم الودود ، ترهيب من عدم التوبة ، وترغيب فيها ، فإنه من تاب إليه تاب عليه ، فإنه رحيم بعباده أرحم بهم من الوالدة بولدها ، ودود وهو الحبيب ولو بعد التوبة على عبده ولو من الموبقات العظام ، ” وللودود معينان : أحدهما أنه محب للمؤمنين وقيل : هو بمعنى المودود أي : محبوب المؤمنين ”  .
4. استعمال الفصاحة والبيان والبلاغة أثناء الحوار :
شعيب عليه السلام هو خطيب الأنبياء ، وحواره مع قومه كان حواراً فصيحاً بليغاً ، بعيداً عن الغموض والتشدق ، والمقصود أن يتكلم المحاور عندما يحاور الآخرين ، بكلام واصح مفهوم ، ليس فيه غموض ولا لبس ، ولا  تفاصح وتبجح بألفاظ غريبة ,
5.  تلوين الخطاب في الحوار الطرف المحاور:
النهي عن المخالفات الخطيرة التي يفعلها الطرف الآخر بأكثر من أسلوب ، بعد أن نهى شعيب عليه السلام قومه عن الشرك ، ودعاهم للتوحيد ، وجههم إلى الالتزام بطاعة الله ، حذرهم من معاصي خطيرة تهدد وجودهم ومصيرهم ، ومن أبرز ذلك :
أ – لا شك أن أعظم مخالفة كان يفعلها قوم شعيب بعد الشرك ، هي : الطفيف في الكيل والميزان  ، وبخس الناس أشياءهم ، قال تعالى : { فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} الأعراف / 85 . وقال تعالى :{ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} هود / 84 أي :  لا ترتكبوا ما أنتم عليه وتستمروا فيه فيمحق الله بركة ما في أيديكم ويفقركم ، وهذا مضاف إلى عذاب الآخرة ، ومن جمع له هذا وهذا فقد باء بالصفقة الخاسرة.
فنهاهم أولاً عن تعاطي ما لا يليق من التطفيف ، وحذّرهم سلب نعمة الله عليهم في دنياهم ، وعذابه الأليم في أخراهم وعنفهم أشد تعنيف .
ثم قال لهم آمراً : { و َيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } هود /85 – 86 أي : رزق الله خير لكم من أخذ أموال الناس ، وقال ابن جرير: ما فضل لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف ” .
والمقصود أن الربح الحلال مبارك فيه وإن قل والحرام لا يجدي وإن كثر، ولهذا قال نبي الله شعيب { بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين } هود / 86 .
ج – جريمة الصد عن سبيل الله  وظلم الناس : أمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم وتوعدهم إن فعلوا خلاف ذلك فقال تعالى : { وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً } الأعراف / 86 ، نهاهم عن قطع الطريق الحسية الدنيوية ، والمعنوية الدينية ، تتوعدون الناس بأخذ أموالهم من مكوس وغير ذلك ، وتخيفون السبل
” كانوا قوماً طغاة بغاة يجلسون على الطريق يبخسون الناس يعني : يأخذون العشور من أموال المارة. وكانوا أول من سن ذلك ”  .
وهكذا يمكن الاستفادة من أسلوب شعيب عليه السلام في الحوار مع الآخر ” التلوين في الخطاب مطلوب ، فشعيب عليه السلام كرر دعوة التوحيد بأكثر من أسلوب فأكد النهي عن بخس الحقوق بألوان مختلفة ، أمر بالإيفاء ، بعد أن نهى عن التطفيف ، ووصف الإيفاء بالعدل والحق ، ثم عمهم بعد التخصيص عن بخس الناس أشياءهم ، أي لا تنقصوا مما استحقوه شيئاً ، ثم نهى عن الإفساد في مصالح الدنيا والآخرة ، وذكرهم أن البخس بطر وترف ، ودعا إلى رقابة الله في السر والعلن ” .
6.  اختيار أسلوب الحوار المناسب لحال الطرف الآخر :
حاور شعيب عليه السلام قومه ، وكان منهم الملأ ، ومنهم دون ذلك ، ولكن الحوار والمواجهة مع علية القوم وأشرافهم ، يختلف عن الحوار مع الآخرين ؛ فالمواجهة مع الملأ تتطلب مزيداً من ضبط النفس والحكمة معاً ، والثبات على قول الحق ، والتمسك بلغة الحوار الجيد ، كما حدث بين شعيب عليه السلام والملأ من قومه ، إذ واجهوه بلغة القوة والتهديد والاستهزاء ، وواجههم باللطف واللين ، فأين تكافؤ الفرص ؟ تكاد تكون معدومة ، ولكن الحق لا بد وأن يعلو بإذن الله ، قال تعالى : { قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودون في ملتنا } الأعراف / 88 ، يرتفع حوار الملأ إلى درجة التحدي ، إما أن تكون معنا فنرحب بك ، أو ضدنا فنخرجك ونحاصرك ونضيق عليك ، فيرد عليهم شعيب عليه السلام بالرد المناسب : { قاَلَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ، قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا }. الأغراف / 88 – 89 .ثبات على المبادئ ، واستعانة بالله .
وفي كل الأحوال ، ينبغي على المحاور ان يتحلى بالصبر ، والحوار الهادئ ، مهما كانت مكانة ومنزلة الطرف الآخر المحاور ، ولولا تحلي شعيب بالصبر ، لما نجح في دعوته .
7.  أسلوب مواجهة استهزاء الطرف الآخر أثناء الحوار :
واجه شعيب عليه السلام استهزاء قومه به ، فاتهموه بأنه مسحور وكاذب ، فلم ينفعل ، ولم يغضب ، بل تحلى بسعة الصدر وهكذا الداعية المسلم المحاور ، عليه أن يضبط أعصابه ، ويسيطر على نفسه ؛ فيواجه خصمه بوجه طلق ، وابتسامة عريضة ، وسعة صدر ، قال تعالى : { قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ }. الشعراء / 87 .
يقولون هذا على سبيل الاستهزاء والسخرية والتهكم :”  أصلاتك هذه التي تصليها هي الآمرة لك بأن تحجر علينا فلا نعبد إلا إلهك ونترك ما يعبد آباؤنا الأقدمون ، وأسلافنا الأولون ؟ أو أن لا نتعامل إلاّ على الوجه الذي ترتضيه أنت ونترك المعاملات التي تأباها وإن كنا نحن نرضاها ؟ ”  .
بهذا التساؤل الذي ظنه قوم شعيب قمة في الذكاء ، طرحوا أمامه قضية الإيمان ، وأنكروا أن تكون لها علاقة بسلوك الناس وتعاملهم واقتصادهم. وهذا شبيه بالمقالة الشيوعية – دع ما لله ، لله ، وما لقيصر ، لقيصر – هذه المحاولة للتفريق بين الحياة الاقتصادية ومنهج الإسلام ، والذي بعث به كل الأنبياء عليهم السلام ، وإن اختلفت أسماؤه .
هذه المحاولة قديمة من عمر قوم شعيب ، لقد أنكروا أن يتدخل الدين في حياتهم اليومية ، وسلوكهم واقتصادهم وطريقة إنفاقهم لأموالهم بحرية ؛ ففهموا حرية إنفاق المال أو إهلاكه أو التصرف فيه شيء لا علاقة له بالدين. وهو فهم وهو لا يختلف كثيرا أو قليلا عن فهم عديد من الأقوام في زماننا الذي نعيش فيه ، فيقولون : ما للإسلام وحياتنا اليومية ؟ ما للإسلام وسلوك الإنسان الشخصي ؟
لذا وجب علينا أن نفهم الطرف الآخر بأن الإسلام منهج حياة كامل ، دين ودنيا ، ولا ينبغي فصلهما البتة ، ومواجهة دعوى العلمانية ( فصل الدين عن الدولة ) ومحاربتها .
وسخرية الطرف الآخر قد تتعدى الأنبياء إلى الذات الإلهية ؛ فقوم شعيب عليه السلام أداروا ظهورهم لله وهجروه ، وكذبوا نبيه ، فليعمل كل واحد ولينتظروا جميعا أمر الله.
وانتقل الاستهزاء  إلى تحد من لون جديد ،{ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ، وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنْ الْكَاذِبِين َ، فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ، قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }. 185 – 188
فطلبوا أن يسقط عليهم كسفا من السماء إن كنت صادقاً فيما تدعو إليه ، راحوا يسألونه عن عذاب الله ، أين هو ؟ وكيف هو ؟ ولماذا تأخر ؟ سخروا منه ، وانتظر شعيب أمر الله ، وتحقق وعد الله الذي لا يتخلف .
8. إقناع الطرف الآخر بالأدلة والبراهين والحجج الدامغة :
ردّ شعيب عليه السلام على قومه بالأدلة المقنعة ، فبهتهم ، قال تعالى : { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} هود / 88.
هذا تلطف معهم في العبارة ودعوة لهم إلى الحق بأبين إشارة. يقول لهم: أرأيتم إن كنت على أمر بيِّن من الله تعالى، وأنه أرسلني إليكم، ورزقنى النبوة والرسالة، وعمى عليكم معرفتها، فأي حيلة لي فيكم ؟   ، وهكذا يبين المحاور أنه يمتلك الحجة والدليل ، وأن رأيه ليس مبنياً على الهوى والمزاج .
9.  مطابقة العمل للقول قبل محاورة الطرف الآخر :
لكي ينجح الحوار مع الطرف الآخر ، لا بد أن يطبق المحاور ما يدعو إليه ، وهذا أبلغ وأكثر تأثيراً في نفوس المدعوين ، لذا حرص شعيب عليه السلام ، على عدم مخالفة ما دعا قومه إليه ، قال تعالى : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} هود / 88 ، أي : في جميع أحوالي لست آمركم بالأمر إلا وأنا أول فاعل له ، وإذا نهيتكم عن الشيء فأنا أول من يتركه ، وما أريد في جميع أمري إلا الإصلاح في الفعال والمقال بجهدي وطاقتي ، عليه أتوكل في سائر الأمور وإليه مرجعي ومصيري في كل أمري ”
10. مواجهة تجاهل الطرف الآخر بعدم المعرفة والفهم:
قد يتظاهر الطرف المحاور أثناء الحوار بعدم معرفة الحقيقة رغم وضوحها ، { قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ } هود / 89 أي : ما نفهمه ولا نعقله، لأنه لا نحبه، وليس لنا إقبال عليه ، وهو من قبيل الزعم ، لعدم الرغبة في الاستجابة  ، ” أي : لا نفهم صحة ما تقول ، وإلا فكيف لا يفهم كلامه وهو خطيب الأنبياء ”  كما قال كفار قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم:  { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا حجاب فاعمل إننا عاملون } فصلت/50.
11.  مواجهة الطرف الآخر عندما يلجأ للتهديد بالقوة :
إنّه الأسلوب الذي يلجأ الكافرون إليه دائماً عندما ينهزمون أمام نور الحق ، ودعوة الإيمان ، { وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } هود/91  ، أي : مضطهداً مهجوراً ، ولولا قبيلتك وعشيرتك فينا لعذبناك ورجمناك ، فذكرهم بأن الله أعز ، وأولى أن يطاع ،{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ } أي : ” تخافون قبيلتي وعشيرتي وترعوني بسببهم ولا تخافون عذاب الله ولا تراعوني لأني رسول الله، ، فصار رهطي أعز عليكم من الله  فهو عليم بما تعملونه وما تصنعونه محيط بذلك وسيجزيكم عليه يوم ترجعون إليه “.   وإنا لنراك فينا ضعيفا ، ” لا قوة لك ولا عز فيما بيننا فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروها  ولولا عشيرتك لقتلناك بالرجم وهو شر قتله وكان رهطه من أهل ملتهم فلذلك أظهروا الميل إليهم و الإكرام لهم ، ولا تعز علينا ولا تكرم حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم و إنما يعز علينا رهطك لأنهم من أهل ديننا ”
” لقد وقف شعيب عليه السلام عند النقطة التي لا يملك أن يتزحزح وراءها خطوة ، إنها عقيدة الوحدانية التي لا يملك أي محازر التنازل عنها ، تحت أي ضغط أو أي تهديد من الطواغيت وإلا لتنازل كلية عن الحق الذي يمثله ”
12. تخويف الطرف الآخر من عذاب الله :
إذا نفذت أساليب التلطف والموعظة الحسنة ، قلا بد من المفاصلة والتخويف  من عذاب الله ، قال تعالى :{ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}. هود / 93 .
هذا أمر تهديد شديد ووعيد أكيد بأن يستمروا على طريقتهم ومنهجهم وشاكلتهم، فسوف تعلمون من يخزيه في هذه الحياة الدنيا ، ويحل عليه الهلاك والبوار ، ومن تكون له عاقبة الدار ، ومن هو كاذب مني ومنكم فيما أخبر وبشر وحذر ، {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} . وانتظروا ذلك اليوم  ، هذا كقوله تعالى : { وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}. الأعراف / 87 – 89 .طلبوا بزعمهم أن يردوا من آمن منهم إلى ملتهم فانتصب شعيب للمحاجة عن قومه : { قال أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } أي : هؤلاء لا يعودون إليكم اختياراً، وإنما يعودون إليكم إن عادوا اضطراراً مكرهين، وذلك لأنَّ الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب ، لا يرتد أحد عنه،
ولهذا قال : {قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} الأعراف / 89 .
” أي : فهو كافينا، وهو العاصم لنا، وإليه ملجأنا في جميع أمرنا ” .
13. طلب النصرة من الله أثناء الحوار مع الآخر:
فشعيب عليه السلام استفتح على قومه ، واستنصر ربه عليهم في تعجيل ما يستحقونه إليهم فقال : { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } الأعراف / 89 ،أي : الحاكمين فدعا عليهم، والله لا يرد دعاء رسله إذا استنصروه على الذين جحدوه وكفرو به ، . ” إنه يعرف مصدر القوة ، وملجأ الأمان ، ويعلم أن ربه هو الذي يفصل بالحق بين الإيمان والطغيان ، وتوكل على ربه وحده ، وهي معركة ليس منها مفر إلا بفتح من ربه ونصر ”
وهذا يذهب عن المحاور الاغترار بعلمه وقدرته ، ويعلن التسليم المطلق لله وحده .
14. نصرة الدعاة لبعضهم البعض واتفاقهم على لغة حوار واحدة :
كما فعل شعيب مع موسى عليهما السلام : فلما وصل إلى مدين ، وسقى لابنتي شعيب عليه السلام ؛ لأنه كان كبيراً في السن { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } القصص / 23  ، ثم دعاه شعيب عليه السلام ، قالت : { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص /25 ، وسأله عن خطبه ، فقص عليه القصص ، قال: { لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } القصص / 25.
15.  الالتزام بالعهود والمواثيق المتفق عليها مع الطرف الآخر :
عرض شعيب عليه السلام ، على موسى الزواج من إحدى ابنتيه ، قال تعالى : { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِين َ} القصص / 27.
وبذلك شرط عليه أن يكون مهر ابنته أن يخدمه ثماني سنين ، فإن زادها إلى عشر سنين فهي زيادة غير مفروضة ؛ فوافق موسى ، فقال: { ذلك بيني وبينك أيَّما الأجلين قضيتُ فلا عدوان عليّ والله على ما نقول وكيل }. ” وقضى في خدمته أوفى الأجلين وهو عشر سنين “.
فلو التزم كل من المتحاورين بما تم الاتفاق عليه بينهما ، لعاشت البشرية في سعادة .
16. الدعوة إلى الاعتبار بقصة شعيب عليه السلام :
تبصير الطرف الآخر بمخاطر المخالفة ، كتذكيره بعقوبة قوم شعيب وسائر قصص الأنبياء عليهم السلام ، وهذه نتيجة الكفر والعصيان ، يعتبر بها كل عاقل ، من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، ومع هذا صمموا على الكفر والعناد ، فكان بأس الله الذي لا يرد عن القوم المجرمين ، قال الله تعالى : {فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}الأعراف / 91
أخذتهم رجفة ، أي : رجفت بهم أرضهم وزلزلت زلزالاً شديداً أزهقت أرواحهم من أجسادها، وصيرت حيوان أرضهم كجمادها ، وأصبحت جثثهم جاثية ، لا أرواح فيها، ولا حركات بها ولا حواس لها.
وقد جمع الله عليهم أنواعاً من العقوبات وصنوفاً من المثلات، وأشكالاً من البليات ، وذلك لما اتصفوا به قبيح الصفات ، سلط الله عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات ، وصيحة عظيمة أخمدت الأصوات ، وظُلة أُرسل عليهم منها شرر النار من سائر أرجائها والجهات.
ولكنه تعالى أخبر عنهم في كل سورة بما يناسب سياقها، ويوافق طباقها، في سياق قصة الأعراف أرجفوا نبي الله وأصحابه ، وتوعدوهم بالإخراج من قريتهم ، أو ليعودن في ملتهم راجعين ؛ فقال تعالى : {فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} ؛ فقابل الارتجاف بالرجفة والإخافة بالخيفة ، وهذا مناسب هذا السياق ومتعلق بما تقدمه من السياق.
وأما في سورة هود فذكر أنهم أخذتهم الصيحة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين، وذلك لأنهم قالوا لنبي الله على سبيل التهكم والاستهزاء والتنقص: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} ، فناسب أن يذكر الصيحة التي هي كالزجر عن تعاطي هذا الكلام القبيح الذي واجهوا به الرسول الكريم الأمين الفصيح، فجاءتهم صيحة أسكتتهم مع رجفة أسكنتهم.
وأما في سورة الشعراء فذكر أنه أخذهم عذاب يوم الظلة ، وكان ذلك إجابة لما طلبوا ، وتقريباً إلى ما إليه رغبوا ،{ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ، وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ، فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ، قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }. الشعراء /185 – 188
ذكروا أنهم أصابهم حر شديد ، وأسكن الله هبوب الهواء عنهم سبعة أيام فكان لا ينفعهم مع ذلك ماء ولا ظل ولا دخولهم في الأسراب ، فهربوا من محلتهم إلى البرية ، فأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها ليستظلوا بظلها، فلما تكاملوا فيه أرسلها الله ترميهم بشرر وشهب، ورجفت بهم الأرض وجاءتهم صيحة من السماء فأزهقت الأرواح، وخربت الأشباح.
ونجّى الله شعيباً عليه السلام ومن معه من المؤمنين : قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}. هود / 95 ، وقال تعالى : { فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمْ الْخَاسِرِينَ} الأعراف / 92
17. تثبيت الحجة على الطرف الآخر بعد هلاكه :
ذكر تعالى عن شعيب عليه السلام ، أنه نعاهم إلى أنفسهم موبخاً ومؤنباً ومقرعاً، فقال تعالى : { يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ } أي : قد أديت ما كان واجباً علي من البلاغ التام والنصح الكامل وحرصت على هدايتكم بكل ما أقدر عليه وأتوصل إليه فلم ينفعكم ذلك ؛ لأن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين ، فلست أتأسف بعد هذا عليكم لأنكم لم تكونوا تقبلون النصيحة ولا تخافون يوم الفضيحة . ولهذا قال: {فَكَيْفَ آسَى} أي : أحزن {عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}. أي لا يقبلون الحق ولا يرجعون إليه ولا يلتفتون إليه فحل بهم من بأس الله الذي لا يرد ما لا يدافع ولا يمانع ولا محيد لأحد أريد به عنه ، ولا مناص عنه.
خاتمة البحث : 
من خلال ما تقدم في هذا البحث يتبين لتا الآتي :
1.  الحوار مع الطرف الآخر له أساليبه ، وشروطه وضوابطه ؛ فيجب على المتحاورين الالتزام بتلك الأساليب والشروط والضوابط .
2.  القرآن الكريم عرض قصص الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم ، وظهر من خلال تلك القصص ، الأسلوب الامثل للحوار مع الآخرين .
3. اشتملت قصة شعيب عليه السلام مع قومه على أفضل الأساليب في الحوار مع الطرف الآخر ، عندما حاورهم مبلغاً إياهم دعوة الله  ، وحواره شمل الجانبين ، جانب العقيدة وجانب الحياة ، ولون في الخطاب ، ورغب ورهب ، فحري بكل مسلم أن يطلع عليها ، ويفيد منها .
4. الحوار بالهدوء والحجة والبرهان ، والتعامل بعدل وصدق وشفافية بعيداً عن التعصب والظلم والإساءة والإرهاب والعنف سمة من سمات الحوار الجيد .

– د.محمد أحمد عيد الكردي

قائمة المراجع :
1.إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، أبي السعود محمد بن محمد العمادي، (  دار إحياء التراث العربي – بيروت )
2.تفسير البغوي ،  البغوي ، تحقيق: خالد عبد الرحمن العك ( دار المعرفة بيروت)
3. تفسير البيضاوي ، البيضاوي، ( دار الفكر – بيروت )
4. التحرير والتنوير , محمد الطاهر ابن عاشور ( الدار التونسية للنشر ، تونس، 1984م). .
5. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: ابن عثيمين ( مؤسسة الرسالة – بيروت – 1421هـ- 2000م)
6.  جامع البيان عن تأويل آي القرآن،  محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري أبو جعفر، ( دار الفكر – بيروت – 1405)
7. الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، ( دار الشعب – القاهرة )
8.   الدر المنثور ،  عبد الرحمن بن الكمال جلال الدين السيوطي، ( دار الفكر – بيروت – 1993م )
9. الرحيق المختوم ، صفي الدين المباركفوري ، (دار إحياء التراث العربي – بيروت ،ط2 )
10. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني،  العلامة أبي الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي، ( دار إحياء التراث العربي – بيروت )
11. زاد المسير في علم التفسير، عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، ( المكتب الإسلامي – بيروت – 1404، الطبعة: الثالثة )
12.  فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، ( دار الفكر – بيروت )
13. في ظلال القرآن ، سيد قطب , ( دار الشروق ، القاهرة  1418 هـ / 1997م ، ط / 26 ) .
14. تفسير القرآن العظيم ، إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي أبو الفداء، ( دار الفكر – بيروت – 1401 )
15. محاسن التأويل , محمد جمال الدين القاسمى , دار الكتب العلمية – بيروت,( 1418  / 1997م ) .
16.  مفاتيح الغيب،  فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي، ( دار الكتب العلمية – بيروت – 1421هـ – 2000م، الطبعة: الأولى )
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين