نظرات في السور

تفسير الآية (32) من سورة الحِجْر: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} د. أحمد نوفل

تفسير الآية (32) من سورة الحِجْر:

{قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}

د. أحمد نوفل

الربط والمناسبة:

رأينا إباء السجود من إبليس في الآية السابقة، وفي هذه الآية سؤال الله له لمَ أبى السجود؟ والملاحَظ أنّ السؤال أعاد موقفه في الآية السابقة فهو قد (أبى أن يكون مع الساجدين) فجاء السؤال: {مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}؟ فالآيتان بل الآيات بل سياق السورة كله، بل القرآن جملة هو في تمام الاتساق.

المعنى:

{قَالَ}: أي الله عز وجل، أو ربك، إعادة للضمير في (قال) إلى ما في الآية (28): {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} ثم ضميره سبحانه في الآية التالية: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ…} وهو ضمير المتكلم. فلمَ التفت هنا من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب؟

والجواب: أن الالتفات كما أجمع علماء البلاغة فيه تلوين الخطاب وتشويق الأسماع وكسر الرتابة ومفاجأة القارئ بما لا يتوقع.

وهذا عموم لا بأس باستحضاره عند كل التفات، ويبقى خصوصية كل موقع. فما الملحظ هنا؟ أرى الملحظ أن إبليس أهون من أن يقال عنه وله: (قال الله) أو (قلت) أو (قال ربك) لإبليس، فتحقيره مقصود، وتقزيمه مراد، من هنا أرى ملحظ الالتفات المخصوص في هذا الموقع.

{يَا إِبْلِيس}: (يا) لنداء البعيد. ولا يتصور أن الله يكلّمه مباشرة فهو أحقر من أن يكلّمه الله مباشرة وأهون وأذل وأقل. ولا أعتقد أن اسم إبليس أو الشيطان كان اسمه، فهذه أوصاف وإطلاقات وأسماء أطلقت عليه بعد أن أصبح هكذا، أي بعيداً أو مطروداً من رحمة الله.

فالله تعالى يناديه باسمه الجديد أو وصفه الجديد، كما يحاول ضابط أن يتمرد أو يقود حركة انقلاب فيناديه من هو أعلى منه أو رأس الدولة؛ قل يا متمرد أو يا انقلابي أو يا متآمر أو ما شابه.. ولله تعالى المثل الأعلى دائماً ومطلقاً.

{ما لَكَ}: ما خطبك، ما شأنك، ولماذا… أو ما حملك على ما فعلت.. أو نحواً من هذا.

{أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}: أن لا: أي ما دفعك أن لا تكون مع الساجدين. وما منعك أن تكون معهم وما حملك على مخالفة نهجهم؟

فاسم إبليس صدر عليه بعد تكبره ومعصيته أو عصيانه وبعد رفضه وإبائه السجود وبعد تعنصره، فنُبذ وطُرد وغُير اسمه إلى إبليس أو الشيطان.. وتكليفه بالسجود كان وهو على وضعه الأول واسمه الأول، ولما كان المولى لا يريد أن يسميه لم يذكر واقعة تكليفه.

وتعليقنا دائماً وأبداً: والله أعلم، وقولنا دواماً ما قالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]، ويا رب لا فهم لنا إلا ما فهّمتنا إنك أنت الجواد الكريم.. كل هذا محاولات فهم، ومحاولات تفكيك بعض المتشابه في الذهن المسلم، وفي العقل المسلم، ومحاولات تفويت الفرص على المتصيدين والمترصدين والمتربصين.. وما أكثرهم.

وعجيب أمرنا وأمرهم، فلم نر في الأمم من يعادي منهجه على كماله وتمامه كما يفعل بعض الشرائح من أمتنا.

ونسأله دواماً أن يلهمنا الصواب ويجنّبنا الزلل والخطأ والخطل.. إنه سميع مجيب.

لفتة:

بالقطع، إن الله لا يعاقب إلا بنَصّ، ولا يحاسب إلا بعد تكليف محدد معين. أقصد إلى القول إن إبليس قد كُلّف بالسجود بشخصه وعينه تحديداً لا ضمناً لما قيل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ}، فهو ليس من الملائكة، فكان بالإمكان الاعتذار بأنه غير مكلف بالسجود لأنه ليس من الملائكة، وكيف يحاسبه الله وهو ليس من الملائكة والأمر صادر إلى الملائكة. فلا بد أن الأمر صدر لإبليس، كما صدر للملائكة، فكأنّ مولانا قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ}، وقال كما نتوقع وكما تقتضي عدالته: (وقلنا يا إبليس اسجد أنت أيضاً لآدم) من هنا فإن الله سأله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12]، فلمَ لمْ يذكر الله لنا عندما قصّ علينا ما قد حدث هذا التصريح بصدور الأمر إلى إبليس؟

كنت أقول: إن الله لم يقصّ علينا تكليفه بالسجود مع أن الأمر صدر له، احتقاراً له، والآن في ضوء ما قلت آنفاً أزيد على ما قلت: إن إبليس لم يكن اسمه إبليس، فكيف يكون في الملأ الأعلى وهو المسمى اليائس من الرحمة الإلهية؟ هذا تناقض.. وحاشا لكلام الله. أقول: ولكن الله لا يريد أن يذكر اسمه الأول. والله أعلم بطبيعة الحال، لكنها محاولة فهم ومحاولة تعليل..

من دروس الآية:

  1. اسم إبليس يعني اليائس من رحمة الله، ولا يُعقل أن يكون في الملأ الأعلى واسمه اليائس.. إنما هذا اسم جديد أطلقه الله عليه بعد إبائه السجود
  2. نأخذ من هذا جواز أن نسمي أعداء الله بأسماء تشخّصهم بواقعهم المعادي للدين ودعوة الرسل كما سمى القرآن (أبا لهب)، فصار لا يعرفه أغلب الناس إلا بهذا الاسم.
  3. قال الله في الآية هنا {قَالَ} ويقصد مولانا ذاته العليّة.. ويصحّ هذا لو كان الذي يسأله قاضي تحقيق وليس الله مباشرة.. فكما قلت في النقطة الأولى، إبليس أهون من أن يكلّمه الله مباشرة.

* من مشروع تفسير القرآن الكريم للدكتور أحمد نوفل.