في رحاب سورة

في رحاب سورة الشعراء – 3 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة الشعراء – 3

تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا

المقدم: بدأنا الحديث عن تفاصيل سورة الشعراء بعد مقدمة عامة عنها ووصلنا إلى الآية السابعة (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)) ما نوع الاستفهام هنا؟

د. المستغانمي: هو استفهام فيه معنى الإنكار، استفهام إنكاري ينكر عليهم أنهم لا يرون أنواع النباتات الكريمة التي أنبتها الله في الأرض، الخطاب والحديث عن المشركين (أولم يروا كم) هذه (كم) الخبرية تفيد الكثرة (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) حتى إن العلماء تساءلوا لماذا وردت (كم) التي تفيد الكثرة و(كل)؟ أجاب اللغويون: (كم) تفيد الكثرة و(كل) تفيد الإحاطة كأن الله تعالى يقول ألم ينظروا إلى كثرة أنواع النباتات التي تحيط بجميع أصناف النباتات، كم يوجد في الكرة الأرضية من أنواع النباتات؟! فالاستفهام استفهام ينكر عليهم. ألم يروا هم النباتات في الأرض؟ بلى ولكن الله تعالى أنزلهم منزلة من لم يراها لأنهم لم ينتفعوا بها، فأنكر عليهم عدم الانتفاع فقال (أولم يروا) أنزلهم منزلة من لم ير لأنهم لم ينتفعوا والمفترض عندما ترى أنواعًا من النباتات والورود والزهور تقول سبحان من خلق وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد. ونحن في سورة الشعراء ذكرنا أن أكثر من 180 آية فيها حول القصص وهذه الآية العلمية الوحيدة التي بدأ بها وأرشد إليها (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)

المقدم: ما علاقة هذه الآية العلمية بمحور السورة؟

د. المستغانمي: هذه الآية تفتّح الأذهان وتفتّق التفكير، كان الأولى بكم أن تستدلوا بما في الأرض من نباتات ومخلوقات على قدرة الخالق، أتى بآية علمية واحدة وفي آيات أخرى في سور أخرى (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ﴿٦﴾ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴿٧﴾ ق) تنبههم (قل انظروا) هنا اكتفى بآية علمية واحدة وأتى بثمان قصص: قصة إبراهيم وقصة موسى وهود ولوط، قال العلماء الآية العلمية مطردة لا تتخلف (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا) في جميع الكرة الأرضية، بينما لو ذكر لنا قصة واحدة قصة موسى عليه السلام كيف عاشوا وكيف كذبوا وكيف أغرقهم الله، يمكن أن يقرأها أحد في التاريخ ويقول أنها صدفة أو اتفاقًا أن هؤلاء القوم أغرقهم الله، فحتى تثبت النظرية الإسلامية بأن الأقوام الذين كذبوا هذا هو مصيرهم أتى بقصص لعدد من الأقوام لأن هذه النظرية إنسانية. عندما اطردت العملية وكثرت نستنتج منها نظرية علم الاجتماع ودراسة التاريخ نحن نستفيد من التاريخ نستخرج ونستخلص نحن العقلاء النظرية من الأقوام أما النظرية العلمية تقال مرة واحدة تكفي.

لماذا هنا بالذات (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا) الإنبات (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً) وفي السموات أليس هناك آيات؟ في آية أخرى (أفلم ينظروا في ملكوت السموات) المقصد هنا الإنبات بالدرجة الأولى، الأقوام الذين ذكرهم الله كلهم عندما لم يشكروا نعمة الله ولم يوحّدوه أخرجهم من جنات وعيون وزروع، قوم موسى عليه السلام (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿٥٧﴾ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴿٥٨﴾ الشعراء) فلذلك بدأ بالانبات، ثمة علاقة وإلا لا يوجد شيء في القرآن ليس له علاقة بالمحتوى وبمحور السورة. ولما تكلم عن قوم هود (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ﴿١٣٣﴾ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿١٣٤﴾ الشعراء) لما تكلم عن سيدنا صالح مع ثمود قال (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ ﴿١٤٦﴾ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿١٤٧﴾ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ﴿١٤٨﴾ الشعراء) هنا كان الأليق والأوفق أن يذكر هذه الآية.

ثانيًا اجتهاد مني أنه لما تحدث موسى مع فرعون قال فرعون (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿٢٣﴾ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴿٢٤﴾ الشعراء) (قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴿٢٨﴾ الشعراء) أتت آيات علمية في سياق قصة موسى فلا داعي للتكرار، والله أعلم.

المقدم: ما دلالة زوج كريم؟

د. المستغانمي: الكريم من كل شيء هو النفيس، هو أجود ما في ذلك الجنس، ذكرنا الحجارة الكريمة هي أجود أنواع الحجارة، القرآن الكريم يعني أجود ما قيل، أجود الكتاب.

المقدم: والنبي صلى الله عليه وسلم قال له أهل مكة عندما سألهم ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم،

د. المستغانمي: أخٌ جمع كل النفائس وكل الصفات والخصال العظيمة. هنا (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) ولو كان زوجا غير كريم كالحنظل والأشواك؟ هي أيضًا فيها فائدة وهي من خلق الله. لو قيل: وأنبتنا فيها من كل زوج لكان كافيًا، (كريم) في البلاغة ادماج، أتى بمعنى جديد.

لماذا لم يوصف بـ(بهيج) كما في آية سورة ق وسورة الحج (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)؟ البهجة هي الجمال وهي الحيوية (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) فيه حيوية ونضرة ورشاقة، يبدو النبات مشرقًا لأن سورة الحج فيها حديث عن الموت والموت يناقضه البهجة (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) وبعدها حديث عن الموت (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٦﴾ الحج) حديث عن الموت وفي سورة ق (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴿٨﴾) وبعدها الموت (إنا نحن نحيي ونميت  )، ففي سياق الحديث عن الموت حسُن (بهيج) وفي سورة الحج (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) إلى أن قال (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً) لم يقل خاشعة. إذن في سياق الحديث عن الموت كلمة (بهيج) أليق وهنا تحدث عن النوع الكريم.

المقدم: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿٨﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿٩﴾) هاتان الآيتان تكررتا في السورة ثماني مرات، لماذا هذا التكرار وما المقصود بهما؟

د. المستغانمي: قلنا سابقًا بأن سورة الشعراء أنزلها الله تبارك وتعالى تثبيتًا لقلب محمد صلى الله عليه وسلم ومواساة لقلبه وتسلية له وطمأنة له لأن المشركين كانوا يلاقونه بأشد أنواع الأذى والإزدراء والازدجار ازدجروه وآذوه فأعطاه أمثله للأقوام السابقين، دعوة للنظر في الإنبات وقلنا أن الإنبات هذه معجزة عجيبة تدل على المنبِت على الله الخالق ثم ضرب له أمثلة بالأقوام السابقين: قصة موسى مع فرعون، قصة إبراهيم مع قومه، قصة نوح مع قومه، قصة هود مع قومه عاد وكلهم كذبوا رسلهم وكيف دعاهم أنبياؤهم ورسلهم فكأني بهذه الآية تقول لست واحد يا محمد طريق الدعوة محفوف بالمصاعب وبالعوائق ولكن الله يثبت أنبياءه ويحتسبون الأجر عند الله هكذا هم الدعاة إلى الله. إن في ذلك لعبرة، إن في ذلك لآية للأسف ما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك يا محمد ربك الذي يحبك ويكرمك ويرزقك ويعتني بك (انظر هذه الكاف في ربك) إن ربك عزيز رحيم يستطيع أن يسوق إليهم العذاب: عزيز غالب لكنه رحيم يسوق إليهم الأدلة حتى يتبصروا ويعودوا وإن لم يعودوا في النهاية فسيكون مصيرهم مصير الأقوام السابقة.

المقدم: ثم يبدأ بقصة موسى، السؤال لماذا الابتداء بقصة موسى ولماذا قصة موسى تذكر كثيرًا؟ قلنا سابقا أنها أكثر القصص مشابهة لقصة النبي صلى الله عليه وسلم وللأحداث التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم؟ لماذا بدأ قصة موسى بهذا الموقف (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿١٠﴾) وذكرنا في حلقة ماضية أن قصة موسى ذكرت في أكثر القرآن في مواضع مختلفة منها ما هو متعلق بولادته، منها ما هو متعلق بالبعثة أو بالتكليف، إنزال التوراة لكن لماذا بدأ القصة هنا بهذه الحادثة بالتحديد؟

د. المستغانمي: الشبه بين قصة موسى عليه السلام مع فرعون وبني إسرائيل وبين قصة محمد صلى الله عليه وسلم مع المشركين ومع أهله شبه كبير لذلك هي أكثر القصص دورانًا في القرآن ابتداء من الأعراف، في يونس، في هود، في طه، في الشعراء في القصص في النمل. لكن أيضًا هناك ثمّة أسباب من هذه الأسباب أن المشركين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم – وذكرنا هذا في سورة الفرقان (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ﴿٧﴾ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ) كانوا يريدون آيات حسية يرونها – الله تبارك وتعالى قال لهم لو أن الآيات الحسية نفعت لكانت نفعت فرعون و قومه. موسى عليه السلام أكثر الأنبياء والرسل أعطي آيات حسية: العصا تصبح ثعبانا مبينا، اليد يدخلها في جيبه تخرج بيضاء، فرق بهم البحر، تسع آيات بينات الضفادع والقمّل والدم وكثير من الآيات ولو أن الآيات هي التي تجعلهم يؤمنون لكان فرعون هو أول المؤمنين وكان قومه. فالآيات الحسية ليست شرطًا أن تقود إلى الإيمان لذلك أتى بقصة موسى وضرب بها مثلًا لمحمد صلى الله عليه وسلم وقومه، العبرة بالتفكير، العبرة بالتدبر في هذا المعنى هل هو صحيح أم لا، الطريق التي يدعوكم إليها محمد طريق توحيد الله، طريق الاستدلال بخلقه على الخالق لذلك جاءت بعد ذلك قصة إبراهيم.

المقدم: هنا يقول الله سبحانه وتعالى (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿١٠﴾) القوم الظالمين هم قوم فرعون لماذا يقول (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ) ما قال مثلًا: وإذ نادى ربك موسى ائت القوم الظالمين؟

د. المستغانمي: هذه (أن) تسمى أنّ التفسيرية لأن الآية بدأت (وإذ نادى ربك) (وإذ) هنا ظرف زمان أي واذكر حين نادى، واذكر إذ نادى ربك موسى قائلًا له أن ائت القوم الظالمين، فعل (نادى) يتضمن فعل القول (قال) لما تنادي إنسانًا تناديه تقول له شيئا. (قال) أصرح في القول من نادى، لو قال: وإذ قال ربك لموسى ائت القوم الظالمين، صرّح بالقول أما (نادى) ليست صريحة في القول وتحتاج إلى تفسير لذلك دائمًا نجد (أن التفسيرية) مع نادى ومع أوحى (أوحينا إليه أن أسرِ ) أوحى، نادى، تحتاج إلى أن التفسيرية، لو قال: وإذ قال ربك لموسى ائت القوم، القول واضح صريح.

(وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿١٠﴾) القوم الظالمين هم قوم فرعون لكن لماذا قال (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بعد ذلك قوم فرعون؟ أيهما الأصل: الصفة أم الموصوف؟ الأصل ذكر الموصوف، بعد ذلك تصفه، قدّم صفة الظلم كأن القرآن يريد أن يقول أنهم عُرفوا بالظلم أكثر مما عرفوا بقوم فرعون. الظلم لأنفسهم والظلم للآخرين، ظلموا أنفسهم بكفرهم وبعدم اتباعهم شرع الله وبالشرك لأن الشرك لظلم عظيم وبظلمهم بني إسرائيل، فرعون هو أكبر الظالمين استعبد رجالهم واستحيا نساءهم وقتّل أطفالهم فالظلم ظلمان: ظلم الشرك والظلم الحقيقي. وانظر إلى العبارة (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) كأنهم عُرفوا بالظلم ثم جاءت (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) عطف بيان فإن شئت أن تناديهم بالقوم الظالمين فلك ذلك وإن شئت أن تسميهم قوم فرعون فلك ذلك، أصبحت كلمة الظالمين مقترنة بقوم فرعون وهذا تعبير عجيب لا يوجد إلا في القرآن. القياس اللغوي: أن ائت قوم فرعون القوم الظالمين.

وثمة نكتة قالها المفسرون (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) موسى يترقب: من هم؟ (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) يشتاق إلى الذهاب ودعوتهم ولنهيهم عن الظلم. ارتكزت واقترنت صفة الظلم بهم وأول ما يذهب موسى لفرعون يقول: استعبدت بني إسرائيل فأخرِجهم، اترك عباد الله يعبدون الله.

المقدم: (أَلَا يَتَّقُونَ) هنا الحديث عن قوم فرعون، ما هذه الصيغة؟

د. المستغانمي: قل لهم ألا يتقون؟! هنا طلب.

المقدم: هو الآن يتحدث عنهم فكيف يطلب منهم في ذات الوقت؟

د. المستغانمي: هو قال (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) قال اذهب إليهم وقل لهم ألا يتقون، بلّغهم ألا يخافون الله؟. التقوى هي الخوف من الجليل، هم كانوا لا يعتبرون الإلهية أبدًا، فرعون هو الإله ولأنه كان ينتسب إلى جنس الآلهة كما يقولون ويمثلهم كما كان يقول وهو القائل (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿٥١﴾ الزخرف) لم يكتف بطبقة الملك لم يكتف بقول أنا ملك مصر بل قال أنا إله مصر، وللأسف وجد من حاشيته من يعبده (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴿٥٤﴾ الزخرف)

المقدم: ثم يقول الله سبحانه وتعالى على لسان موسى (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ﴿١٢﴾) هذه الآية كما وردت في آيات أخرى كأن موسى يخاف من شيء متردد في المسألة وهذا وضح في آيات أخرى فلماذا يخاف موسى أن ينطلق إلى قوم فرعون؟

د. المستغانمي: في سورة طه عندما قال (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ﴿٢٩﴾ هَارُونَ أَخِي ﴿٣٠﴾) يريد عضدًا يشد أزره. لأن اسم فرعون ارتبط بالظلم ارتبط بالقتل أيوجد إنسان في الدنيا أمر بتقتيل جميع المواليد؟! ارتبط اسمه بالتقتيل والتذبيح (يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم) وفي آية أخرى (يذبّح أبناءهم) يذبّح وليس يذبح للكثرة، العشرات، الآلآف ذبّحهم لأجل أن بعض الكهنوت قالوا له سيولد مولود ويكون على يده مقتلك فذهب فقتّل المواليد، هذا إنسان ظالم فمن الطبيعي أن يأتي هاجس لموسى وهو بشر والرسل بشر.

المقدم: هو لم يخف من ظلم فرعون ومن جبروته وإنما قال (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ)

د. المستغانمي: لأن رسالة التوحيد مظنة أن يكذبها فرعون الذي يدّعي الألوهية وبعد تكذيبه قد يقتص منه وقد يعاقبه وقد قال له فرعون ذلك (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴿٢٩﴾). قال موسى (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ﴿١٢﴾ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي) حللها المفسرون لماذا يضيق صدره؟ موسى كان فيه حُبسة في لسانه والذي فيه حبسة في لسانه ويريد أن يعبّر لا يستطيع أن يبين وأن يفصح يصبح صدره ضيقًا حرجًا (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي) كل هذا التمهيد (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ)

المقدم: هنا قال (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ) وفي مواضع أخرى قال (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ﴿٢٩﴾ هَارُونَ أَخِي ﴿٣٠﴾ طه) الوزير هو المساعد المعين حتى يعينه في رسالته لكن هنا الذي أفهمه من الآية حين يقول الله تعالى على لسان موسى (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ) كأنه يقول لا تجعل الرسالة عندي وإنما أرسل إلى هارون لكي يقوم بهذه الرسالة، هل هذا صحيح؟

د. المستغانمي: كلامك نصفه صحيح، طلب أن يرسل إلى هارون أن يجعله رسولا. أرسل إلى هارون أي أرسل جبريل إلى هارون ليكلفه بالرسالة معي لكن هذا ليس تنصّلًا من موسى من الرسالة، هو يعلم أن مقامه عالٍ وسامٍ عند الله وهو كليم الله  ناداه بالوادي المقدس طوى (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴿١٣﴾ طه) موسى علم مقامه عند الله وأنه سيطّلع برسالة عظيمة وهي أن يذهب إلى أكبر المكذبين إلى إنسان يدّعي الألوهية والربوبية ويدعوه إلى الله لكنه أراد أن يعضد نفسه بأخيه هارون لذلك قال العلماء لا يوجد إنسان في الدنيا قدّم خيرًا لأخيه أكثر من موسى لهارون، طلب له النبوة والرسالة، شيء عظيم، أنت يمكن أن تبني لأخيك بيتًا، أعطيته سيارة، لكن تجعله نبيًا؟! لذلك لا يوجد إنسان قدّم لأخيه مثل ما قدم موسى لهارون وكانت تلك المقدمات تمهيدية: أخاف أن يكذبون، أخاف أن يضيق صدري، ولا ينطلق لساني، ولهم عليّ ذنب وهو أنه في شبابه قبل أن يسافر إلى مدين خطأ وكز موسى القبطي فقضى عليه فخرج فرارًا لأنه يعلم أن الذي قُتل من الأقباط وفرعون ينتصر للأقباط على بني إسرائيل.

هنا (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي) الموقف محتدم، بنيت القصة هنا على شكل دراما شديدة، بينما في سورة طه التي فيها بيان عناية الله بموسى وهارون (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴿٤٦﴾) فيها العناية، هناك كان موسى في حالة نفسية مرتاحًا أكثر ودعا بالإيجاب (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴿٢٥﴾) أما هنا (وَيَضِيقُ صَدْرِي) أخاف أن يضيق صدري، في طه (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ﴿٢٧﴾) وهنا (و وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي) أخاف أن لا ينطلق لساني. في سورة الشعراء دعا بجملة منفية وفي طه دعا بجملة إيجابية مثبتة لأن الحالة النفسية لها دور حتى عندما قال (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ) أرسل إلى جبريل يرسل إلى هارون يكلفه بالرسالة ويجعله عضدًا لي، هذا الكلام كله محذوف هنا لكن في سورة طه (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ﴿٢٩﴾ هَارُونَ أَخِي ﴿٣٠﴾ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ﴿٣١﴾ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴿٣٢﴾ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ﴿٣٣﴾ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ﴿٣٤﴾ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ﴿٣٥﴾ طه) فجاء بالتفصيل في سورة طه لأن فيها الرعاية وفيها العناية والحالة النفسية التي كان فيها موسى عكسها البيان القرآني.

المقدم: (كلا) الذي أعلمه في اللغة من (كلا) أنها ردع لما سبق، فالله سبحانه وتعالى يقول (قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ﴿١٥﴾) موسى طلب والله تعالى قال (كلا) فما دلالتها؟

د. المستغانمي: هنا (كلا) نفي لقوله (فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ). الآية (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ﴿١٤﴾) قال (كلا) هذا لا يكون، هذا إله، الله عز وجلّ هو الذي يتكلم. (كلا) لن يقتلك، أعطاه الضمان. (كلا) أسلوب ردع لكن هنا نفى عنه أن تستطيع أيدي الاغتيال، أيدي الظلم أن تطاله بشيء قال (كلا) بمعنى: لن يقتلك. ثانيًا (فاذهبا) يعني استجبت لك وأيدتك بأخيك فاذهبا، موسى دعا أن يكون أخوه هارون عضدًا ووزيرًا ومؤيدًا قال تعالى (كَلَّا فَاذْهَبَا) انظر إلى الإيجاز! لأن السياق هنا سياق إيجاز واختصار، مشهد درامي لا يحتاج إلى كل هذه التفاصيل لأنها واضحة ونحتاج نحن المتلقين أن نُعمل عقولنا في القصة بين السورتين: في سورة طه (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ﴿٣٦﴾) يعني هو يثبته ويؤانسه.

المقدم: هنا ما قال له (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ﴿٣٦﴾) ولكن هنا قال قد أوتيت سؤلك بالتكليف (فَاذْهَبَا) فيها معنى قد أوتيت سؤلك.

المقدم: (فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) ما دلالة أن يكون الله سبحانه وتعالى مستمعًا معهما؟

د. المستغانمي: (فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا) هذه الباء تفيد المصاحبة، اذهبا مصاحبين لآياتنا (مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) أي سامعون (معكم: الاثنان جماعة) في سورة طه قال (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) لأن سورة طه بنيت على التثنية وجاء بـ (أسمع وأرى) في الشعراء (إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) الله سميع عليم يسمع كل شيء ما يتلفظ به فرعون، ما يخطر بباله، ما يريد أن ينفذه، كأني أقرأ الآية تقول: العناية الإلهية معكم، لن يمسكم بسوء أبدًا. لذلك أحد الصالحين بعث إليه زميل له صالح رسالة أنه كان مستوحشًا وهو كان صالحًا قال: كيف يستوحش من كان الله معه؟ ردّ عليه جوابًا قال له اذكر فقط (إنني معكما أسمع وأرى) وأنت تذكر الله والله يقول: أنا جليس من ذكرني وحيثما التمسني عبدي وجدني. هذه المعية شيء عظيم لذلك (إن الله مع الذين اتقوا) (مع) إذا كان الله معك فمن ضدّك؟! وإذا كان الله يؤيدك فمن يستطيع أن يغلبك؟! فهنا فيها تثبيت وطمأنة لموسى وهارون.

المقدم: (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦﴾) قال رسول ولم يقل (رسولا) كما ذكر في سورة طه وقلنا أن سورة طه مبنية على التثنية

د. المستغانمي: أولًا لأن سورة طه بنيت على التثنية ولأن في سورة طه أعطى الله تعالى دورًا كبيرًا لهارون، هارون موجود مع السامري وهارون تركه موسى خلفه واستخلفه على قومه (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) السورة كلها بنيت على الزوجية. هنا في سورة الشعراء المقصد توصيل الرسالة إلى فرعون الذي يهم البيان القرآني أن يوضح رسالة التوحيد لذلك رسالة موسى ورسالة هارون هي رسالة واحدة فقال (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ) أنتما الإثنان اذهبا فقولا إنا رسول، رسالة التوحيد فوحّدها (رسول) لو قال إنا رسولا قد يُفهم أن موسى أتى بشيء وهارون أتى بشيء، هذا المعنى لا يُفهم في طه لأنها بنيت على الزوجية وعلى خطابهما حتى فرعون عندما خاطبهما قال (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ﴿٤٩﴾ طه) بينما هنا قال (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) لأن السياق القرآني يركز على التوحيد.

ثانيًا كلمة رسول في اللغة العربية تنطبق على الجمع وعلى الإفراد وعلى التثنية: هو رسول ربه وهما رسول ربهما وهم رسول ربهم. بعض الكلمات مثل ضيف، تقول هذا ضيفي وفي القرآن (هؤلاء ضيفي)، بشر: أنا بشر وأنتم بشر. بعض الكلمات تحتمل في اللغة العربية تنطبق على الإفراد وعلى التثنية وعلى الجمع وكلمة رسول من هذا القبيل.

المقدم: في معظم الآيات التي تتحدث عن تكليف موسى بالرسالة والدعوة والتبليغ خاصة في هذه السورة قال الله تعالى له (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ) هل الدعوة لفرعون أم لقوم فرعون لمن كان فرعون هو ملكهم؟

د. المستغانمي: الأقباط الذين كانوا معه وبني إسرائيل. في مصر أيام حكم الفراعنة وهذا كلام حققه أصحاب التاريخ، الفراعنة كانوا يملكون مصر التي كان فيها الأقباط وكان فيها بنو إسرائيل واستعبدهم فرعون. فموسى عليه السلام أرسله الله إلى كليهما للأقباط ولفرعون وجنده وملئه لأن هنا قال له (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦﴾ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿١٧﴾) هنا خاطبه وطلب منه أن أطلق بني إسرائيل بدل أن تستعبدهم وتقتلهم وتذبحهم لكن هل أُرسل موسى إلى فرعون؟ نعم (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴿٤٣﴾ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴿٤٤﴾ طه) الرسالة إلى فرعون وملئه وجنوده والرسالة إلى بني إسرائيل لتحريرهم من استعباد فرعون فموسى فأرسل إلى الإثنين.

المقدم: (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴿١٨﴾) هنا تظهر الحبكة الدرامية بشكل واضح هنا، كأننا كنا قبل في مشهد حوار موسى مع الله سبحانه وتعالى (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦﴾ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿١٧﴾) هذا حديث من الله لموسى عليه السلام ليبلغه لفرعون، فجأة انتقل الحديث إلى فرعون

د. المستغانمي: هذا فن الاستقطاع يطوي الكلام المحذوف، دراما حقيقية، قصة محبوكة، الأحداث التاريخية وقعت بالتسلسل عندما كلمه الله تعالى عند الطور وقال له أرسل إلى هارون واستجاب له فجأة يجد نفسه أمام فرعون! غير معقول! إذن هنا اقتطع البيان القرآني المشاهد التي يفهمها العقل البشري أي فاستجاب موسى وهارون وذهبا إلى فرعون واستأذنا عليه ودخلا وتحدثا معه وبعد ذلك رد عليهما فرعون هذا الرد عندما قالا له (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦﴾ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿١٧﴾) فرعون مباشرة لم يجبهم قائلًا: كيف أرسل معكم بني إسرائيل؟ وإنما قال (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا) ذهب إلى معنى آخر، تمنّن عليه ويريد أن يقرره بذنبه (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴿١٨﴾ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿١٩﴾ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ﴿٢٠﴾) هو في الحقيقة حوّل سياق الحوار والحديث بدل أن يتكلم معه في الموضوع المهم الذي جاء به موسى وهارون قال (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا) يريد أن يمتن عليه ثم يقرره بذنبه وجرمه ليقول له أنت لست أهلًا لأن تتكلم ولهذه الرسالة لأنك فعلت فعلة شنعاء وضيعة وفظّعها الأسلوب القرآني (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) هذا أسلوب عجيب لا يوجد إلا في القرآن! (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) كان يمكن أن يقول قتلت، أو فعلت الجريمة، قال (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) هذا أسلوب تهويل وتفظيع، باختصار يقول له: أتذكر ماذا فعلت؟ أتذكر جريمتك الفظيعة الشنيعة التي لا تستطيع عباراتي أن تصفها؟! هذا هو أسلوب تهويل كما في قوله تعالى (فغشيهم من اليمّ ما غشيهم) حتى يترك العقل البشري يفكر.

المقدم: لو أن الله سبحانه وتعالى قال (وقتلت) لاتضح المعنى لكن التعبير بـ (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) فالمستمع يقول يا ترى ما الذي فعله موسى؟! فرعون يريد التضخيم والتهويل؟!

د. المستغانمي: هذا أسلوب التهويل. في سورة النجم (فأوحى إلى عبده ما أوحى) المعنى لا ينتهي كأن العبارة لا تحمل ذلك المعنى باختصار. (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿١٩﴾) قال (ألم نربك فينا وليدا) الكافرين تحتمل معنيين: الكافرين بنعمتي كفران نعمة، كافرين بنعمة الفراعنة الذين ربوك في قصورهم، كافر للجميل ويمكن أن تفهم كافر بألوهيتي (أنا ربكم الأعلى) (ما علمت لكم من إله غيري) وموسى يدعوه إلى رب العالمين.

(أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا) موسى لم ينكر هذه المسألة بعد لم يقل فرعون له: أنسيت أنك رُبّيت عندنا في بيوتنا وقصورنا، لم يأت بها بالطريقة الموجبة وإنما أتى بها بالطريقة المنفية وكأن فرعون يلقّن موسى عدم الاعتراض لأنه لما رأى أن موسى كبر وأتى بعقل وبشريعة وبعلم وبتوحيد وبرسالة فهم فرعون أن موسى أنكر كل شيء أنكر ألوهية فرعون وأنكر حتى النعمة فقال (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا) هذا أسلوب تقريري كأنه يلقنه إن كنت شجاعًا أنكر أنك رُبيت فينا ولبثت فينا من عمرك سنين ثم أتى له بالضربة القاضية (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) فردّ موسى عليه (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ﴿٢٠﴾) تقنية لغوية: قال فعلتها، شجاعة ورباطة جأش، كنت شابًا، لم أكن أقصد القتل وأنا من الضالين ولست من الكافرين، استبعد موسى عليه السلام أدبًا لفظ الكافرين وقال بلفظ أخفّ (وأنا من الضالين) فعلتها وأنا جاهل، الضلال كلمة واسعة تحمل معنى ضلال الشباب ضلال الرعونة فاستبعد موسى كلمة الكافرين واستبدلها بأخفّ منها (الضالين).

(فَعَلْتُهَا إِذًا) إذن في اللغة العربية حرف جزاء وجواب. تقول: أزورك، أقول: إذن أُكرمك. فيها جواب لأن كلام فرعون كان فيه معنى الجزاء عندما قال له (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴿١٨﴾ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) كأنك جازيتنا بتلك الفعلة وجئتنا الآن ترشدنا وتأمرنا؟! قال موسى (فَعَلْتُهَا إِذًا) فعلتها والآن سأجازيكم، لأنك عندما ربيتني في قصرك هل ربيتني بمحض إرادتك أم ظلمت العباد وقتلتهم؟! فكان ذلك جزاءً وفاقًا لما فعلت معي.

المقدم: ربما القارئ للوهلة الأولى يشاهد أن موسى تهرّب من من سؤال وأجاب عن سؤال، فرعون قال له (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴿١٨﴾) قضية التربية واللبث عنده، (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿١٩﴾) حاججه في قضيتين وموسى عليه السلام ترك الأولى وأجاب عن الثانية

د. المستغانمي: لأنه كان يعلم أن غرض فرعون هو إفحامه في الثانية وهي جريمة قتل وهو يستطيع عن طريق تلك الثانية أن يقتله. في البداية بدأ يحاججه ويمنّ عليه بالتربية (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) فرعون يريد أن يصل إلى هذا المعنى فقطع موسى عليه الطريق وأجابه عنها (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ﴿٢٠﴾) يومها، أما النعمة التي تمنّ بها عليّ. كان موسى جريئًا وشديدًا وشجاعًا (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ﴿٢٠﴾ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) كانت سببًا وأهدى الله إليّ بعدها خيرًا كبيرًا والفاء تفيد سرعة التعقيب (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا) النبوة (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) جعله نبيّا ورسولًا، ما قال فوهب لي حكمًا وجعلني رسولًا قال (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) وهي من أيقونات السورة (من المرسلين).

(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿٢٢﴾) تلك النعمة نعمة تمنّها علي؟! أهذا كلام تقوله؟! استفهام أصله: أوتلك نعمة تمنّها عليّ؟! أن عبّدت بني إسرائيل؟! لأن سبب ترتبيتي لديكم تعبيدك بني إسرائيل قتلت أطفالهم واستحييت نساءهم فقامت أم موسى بإلقائه في التابوت وألقته في اليم، مجيئي لديكم في القصر كان سببه الأول قتلكم لبني إسرائيل أتلك نعمة أم نقمة؟! هو أخّر له الجواب ليفحمه ويعطيه الخلاصة.

المقدم: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿٢٣﴾)

د. المستغانمي: هنا أيقن فرعون أن موسى كان جريئا ولا يخاف وكان مؤيدا وعنده إجابات فغيّر الأسلوب: أنت دعوتني إلى رب العالمين، وما رب العالمين؟ هذا أسلوب عجيب. سؤال فيه شيء من التهكم والاحتقار وعدم اللياقة مع الله جلّ جلاله. في سورة طه صوّر البيان القرآني العملية بوضوح وطبيعية (فمن ربكما يا موسى) هنا لم يقل من ربكما وإنما قال (ما) (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿٢٣﴾)  ما جنس رب العالمين؟ ما حقيقة رب العالمين؟ استفهام مشوب بالاستغراب والتهكم والتحقير، ما رب العالمين الذي تدعوني إليه؟!!

المقدم: (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴿٢٤﴾) الله سبحانه وتعالى رب كل شيء فما دلالة اختيار (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا)؟

د. المستغانمي: لو قال له رب الشمال والجنوب ورب الجبال والبحار لكن قال رب السموات والأرض أشمل، رب السموات والأرض يعني الكون، الكون الذي خلقه الله، الآن الكون المدرك فقط عن طريق التلسكوبات مئات ملايير من النجوم، هذا في السماء الدنيا فقط، أين باقي السموات؟! فسبحان الذي خلق فرب السموات والأرض وما بينهما من كواكب وشموس ونجوم أشياء عظيمة إن كنتم موقنون إن كان لديكم عملية رياضية تستنتجون بها وتصلون بها إلى اليقين، هو يريد أن يحرّك التفكير لديهم.

المقدم: في سورة طه قال (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴿٥٠﴾) لكن هنا تحدث عن السموات والأرض

د. المستغانمي: لله سبحانه وتعالى في القرآن أسرار وحكم نحن نحاول أن نسبر بعض الأغوار. هنا في سورة الشعراء عندما تكلم عن آية الأرض والإنبات شفعها هنا بآية السموات وبعد ذلك سيأتي رب المشرق والمغرب، أنت يا فرعون ماذا تملك؟ مصر؟ مصر دولة كبيرة واسعة، قال له هل أنت تملك الكرة الأرضية المشرق والمغرب؟ وما بينهما؟ ملكك يا فرعون بسيط وأنا أرسلني الذي يملك السموات والأرض وما بينهما، أنا أرسلني الذي يملك المشرق والمغرب وما بينهما هو يريد أن يعود به إلى جادة الصواب.

المقدم: (قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ﴿٢٥﴾) من الذي قال؟ هل موسى قال لمن حوله ألا تستمعون إلى كلام فرعون؟ أم أن فرعون قال لمن حوله ألا تستمعون لكلام موسى البعيد عن المنطق؟ نرجئ الإجابة للحلقة القادمة إن شاء الله.