في رحاب سورة

في رحاب سورة الشعراء – 4 – د. محمد صافي المستغانمي

في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي

قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف

في رحاب سورة الشعراء – 4

تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا

المقدم: في الحلقة الماضية كنا قد توقفنا عند الآية 26 من سورة الشعراء. (قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ﴿٢٥﴾) هل القول لموسى مخاطبا من حوله ألا يستمعون لكلام فرعون وإنكاره؟ أم القول لفرعون للملأ من حوله: ألا يستمعون للكلام الغريب الذي أتى به موسى؟

د. المستغانمي: هذا أسلوب المحاورات وهو لا يتطلب حرف العطف، لو كانت هناك (واو) يفهم القارئ أن هناك شيئًا يُعطف، مغايرة، أما هنا (قال) هذا أسلوب المحاورات، إذن من الطبيعي أن يكون الجواب على لسان فرعون (قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ﴿٢٥﴾) بعد أن كلمه موسى وقال (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴿٢٤﴾) هذا الجواب لم يعجب فرعون فقال لمن حوله (أَلَا تَسْتَمِعُونَ) هذا استفهام، هو يعرض عليهم (أَلَا تَسْتَمِعُونَ) كأنهم لا يستمعون، نزّلهم منزلة من لم يستمع لأنهم لم ينكروا، لو أنكم استمعتم مثل ما استمعت أنا لفحوى خطاب موسى لأنكرتم كما أنكرت أنا، هو يريد أن يهيّجهم، تهييج، البلاغيون يقولون يراد من وراء هذا الأسلوب التهييج فهو يحثهم أن يثوروا ضد موسى، ألا تستمعون؟! ألا تنكرون هذا الكلام الذي لا يقبله عقل؟

المقدم: لكن موسى عليه السلام يستكمل ويستمر يواصل الشرح (قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴿٢٦﴾) وفرعون يقاطعه لكي يثير القوم ضده

د. المستغانمي:  موسى عليه كان ينوع في أساليب المحاججة (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) هذا كلام كبير، السموات فيها أبعاد بالسنوات الضوئية الفلكية قرّب للمستمعين ممن لا يستطيع أن يتخيل هذا الشيء الكبير ولا يستطيع أن يستدل على الله بالسموات والأرض تستدلون عليه بآبائكم (قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أين آباؤكم؟! أين أجدادكم الذين ماتوا؟! من الذي يملك الموت والحياة؟! من الذي يتصرّف، في الوقت نفسه الحديث يتضمن أن فرعون من تصرّف في آبائه من الفراعنة؟! فالحديث للقوم ومبطّن لفرعون، هنا احتدّ فرعون كثيرًا فقال (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴿٢٧﴾) لأنه مسّه في آبائه، آباؤك يا فرعون ليست لهم قداسة هم بشر من البشر وأتى عليهم ما أتى على الجميع وتصرفت فيهم قدرة الله وأحياهم وأماهم (قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴿٢٦﴾) كلام أثّر على فرعون كثيرا فاحتدّ وقال (إن رسولكم) رسولكم أنتم ليس رسولي أنا الذي أُرسِل إليّ، أخرج نفسه من دائرة الخطاب (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ) يؤكد، كان يمكن أن يقول: إن رسولكم لمجنون، عرّف الرسول بـ(الذي أرسل) – كأنه كما يقولون: عرّف الماء بعد الجهد بالماء – هو قال (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ) لم يزد على وصفه بالنبي وبالرسالة، (لمجنون) هذه اللام المزحلقة تفيد التأكيد و(إنّ) تفيد التأكيد، لماذا أكّد فرعون كلامه؟ فرعون مطالب أن يؤكد كلامه لأنه ليست في موسى خصيصة واحدة تدل على الجنون موسى أبعد ما يكون عن الجنون ففرعون مضطر أن يؤكد ويقول (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴿٢٧﴾) حتى يصدّقه قومه.

المقدم: يستطرد موسى في دعوته فيقول: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴿٢٨﴾) قبلها قال (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴿٢٤﴾)

د. المستغانمي: هذا جزاء يستحقه فرعون (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) فرعون وصفه بالجنون فأجاب موسى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) إن كان لكم عقل، بما أنك يا فرعون وصل بك الحال ووصفتني بالجنون فموسى في البداية كما قال أحد المفسرين لاطفهم ثم عندما شدّوا في الكلام واشتدوا عليه خاشنهم بمعنى وسمهم بالجنون بأنهم لا يعقلون ولكن عبارة موسى فيها أدب (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أما فرعون فكان غير مؤدب مع رسول محترم أمين فقال له (لمجنون)

المقدم: هذا الحوار بين موسى وفرعون يبدأ تصاعديًا بدأه (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴿١٨﴾ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿١٩﴾) وموسى لاينه (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ﴿٢٠﴾) ثم قال (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) قال موسى (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴿٢٤﴾) فيشتد فرعون في الحوار ويصفه بالجنون (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴿٢٧﴾) ثم يرد موسى (قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴿٢٨﴾) ثم يأتي التهديد (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴿٢٩﴾)

د. المستغانمي: هذا الترقي في الأسلوب القرآني وليس من المعقول أن يهدده مباشرة بالسجن، بدأ يخاشنه ثم وسمه بالجنون ثم لما رأى أن موسى كان مُجدًّا وكان لديه من الأدلة ما يفحمه ويفحم الملأ هنا لجأ إلى التهديد وهذه عادة الظالم حينما لا يجد الدليل القاطع العلمي تأخذه العزة بالإثم فيلجأ إلى التهديد (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ) كأنه يقول: أقسم لئن اتخذت إلها غيري، (دائمًا لما نقرأ: لئن، تعني أقسم) هو موقن بأنه هو الإله، (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) لام التوكيد ونون التوكيد الثقيلة و(مِنَ الْمَسْجُونِينَ) لم يقل لأسجننك، هذا يسمى إطناب لكي يفرغ جامّ غضبه على موسى عليه السلام. لو قال: لئن اتخذت إلهًا غيري لأسجننك يكون التهديد بسيطًا نوعًا ما ولكن قال (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) أي لأجعلنك ممن عرفتهم في سجوني أنت تعرف من أكون وأنا الإله الطاغية وقال أصحاب التاريخ أن فرعون كانت له سجون تحت الأرض في آبار من دخل فيها لا يخرج والقتل أهون من سجون فرعون، لذلك هو هدده وأخافه. (مِنَ الْمَسْجُونِينَ) وهي من الأيقونات التي عرفت بها السورة تكرر 22 مرة (من الضالين، من المسجونين، من الكافرين…)

المقدم: قال موسى (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ﴿٣٠﴾) كأن ما ذكره سابقًا بالنسبة لفرعون ليس مبينًا، ليس مقنعًا كأن فرعون يريد شيئا حسيًا ماديًا يراه أمامه

د. المستغانمي: هنا موسى عليه السلام لجأ إلى المعجزات المادية التي أيّده الله عز وجلّ بها وهي مادية، ضرب العصا فإذا هي ثعبان ونزع يده فإذا هي بيضاء تتلألأ كالقمر ولا ننسى أنه في عهد فرعون كانوا يعيشون مع السحر ومع الأشياء الحسية المادية أكثر فتقنعهم وعندما ارتقت البشرية إلى رشدها وبلغت أوجها بعث الله عز وجلّ محمدًا صلى الله عليه وسلم بالمعجزة العقلية العلمية الأدبية وهي القرآن الكريم.

(قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ﴿٣٠﴾) كأن هنا كلام محذوف، كأن موسى يقول أتجعلني من المسجونين ولو جئتك بشيء مبين؟ هنا همزة استفهام لكن المستفهم عنه محذوف (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ﴿٣٠﴾) أتجعلني من المسجونين وقد جئتك بشيء مبين؟! فهم فرعون مباشرة فقال (قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿٣١﴾) يشكك فيه، (إن) أداة شرط لغير المجزوم فيه، لما نقول: إن تأتني أكرمك، إن أداة شرط لكن لغير المجزوم لكن لو كنت جازمًا أقول: إذا أتيتني أكرمتك. فهو هنا يرجّح فرعون فرضية عدم صدق موسى قال (قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿٣١﴾) أنا لا أظن أنك صادق!.

(فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ﴿٣٢﴾) هنا لم يتوانى موسى دقيقة ولا ثانية (فألقى) والذي أفادنا ذلك هو الفاء (فَأَلْقَى عَصَاهُ) الفاء تفيد الترتيب والتعقيب. (فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) الثعبان هو الذكر من الحية يكون طويلًا وكبيرًا وغليظًا في سورة طه قال (فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ﴿٢٠﴾) هي حية كبيرة ولكل سورة جو ولكل سورة خصائص ولكل سورة ثوب لفظي، الثوب اللفظي لسورة الشعراء تتناسب معه الغلظة والشدة، قلنا أن سورة الشعراء هي سورة المواجهة بين الأنبياء والمرسلين والأقوام المكذبين والمواجهة بين المرسلين والمكذبين تحتاج إلى قوة ولذلك صيغت القصة بشكل قوي فيه حبكة درامية قوية، فقوة التحدي في سورة الشعراء واضحة حتى فرعون قال (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) وهدده وسيحتدم الأمر أكثر، هنا في المناظرات الموسوية الفرعونية الثعبان أقوى، هو أشد وهو الذكر من الحية يكون شديدا وقويا. في سورة طه سورة الطمأنة (طه ﴿١﴾ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى ﴿٢﴾) حتى قصة موسى صيغت بهذا الأسلوب فجاءت كلمة (حية) لفظة فيها حياة والكلمة فيها لطافة وفيها الياء البسيطة وفيها حرف الحا مخرجه أسهل بكثير من الثاء في ثعبان، (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى) سورة طه فيها ليونة وفيها الألف المقصورة التي تدخل أقسى القلوب، عمر بن الخطاب كان قاسيًا جبارًا ولما سمع سورة طه لان قلبه وذرفت عيونه فلذلك يروى في الآثار أن الملائكة قالت: طوبى لمن تنزل عليهم سورة طه، إذن (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ) أنسب. بينما في سورة النمل والقصص أراد السياق القرآني أن يبين الخوف الذي اعترى موسى وسياق الخوف قال (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ ﴿٣١﴾ القصص) الجانّ هو القصير السريع من الحيّات ليس المقصود به الجانّ المناقض للإنس، الجان هو السريع القصير من الحيات وهو خطير ويراوغ ويقفز، فلما أراد البيان القرآني أن يصوّر الخوف الذي اعترى موسى (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴿١٠﴾ النمل) أراد أن يصور بشرية موسى (وَلَّى مُدْبِرًا) أما هنا في سورة الشعراء المناظرة تستدعي (ثعبان) وكذلك وردت في سورة الأعراف في المناظرة الموسوية الفرعونية.

المقدم: وصف الثعبان بالمبين فيه دلالة على نفي السحر عن هذا الثعبان لأنه قال في موضع آخر لما ألقوا حبالهم عصيهم (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) [طه: 66] أما هذا فثعبان حقيقي مبين واضح. (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ﴿٣٣﴾) هذه آية حسّية أخرى، من أين نزعها؟

د. المستغانمي: في السور الأخرى هي واضحة، نحن في سورة الشعراء سورة الاختصار بدليل أن آيات سورة الشعراء قصيرة 226 آية في حزب واحد، قصير. نزع يده من جيبه (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [النمل:12] أدخلها تخرج بيضاء، تفصيل. أما هنا نزعها مباشرة، تخرج بيضاء. في غير موضع قال (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى ﴿٢٢﴾ طه) حتى يدفع البرص والبهق والأمراض، بيضاء مشعة تتلألأ للناظرين، اللام حرف جر وبعض المفسرين قال: هنا تفيد الظرفية: فإذا هي بيضاء عند الناظرين، تفيد الظرفية وشبهها بقوله تعالى (وأقم الصلاة لدلوك الشمس) حين دلوك الشمس.

المقدم: هنا تحرّك فرعون (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴿٣٤﴾) حينما قال لمن حوله ألا تستمعون وفي آية أخرى في سورة الأعراف قال (قال الملأ حوله)

د. الستغانمي: في الأعراف الملأ كلموا فرعون بنفس الكلام (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴿١٠٩﴾) وفي سورة الشعراء فرعون تكلم (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴿٣٤﴾) قد يتساءل البعض: من الذي قال؟ الذي قال هو فرعون والملأ يرددون ما قال فهم لا يستطيعون أن يتحدثوا في وجه فرعون أو في حضرته، هو لقّنهم ما يقولون لذلك قال في سورة الشعراء (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) لما قالها فرعون رددها ملؤه.

سيصادفنا عدد من المواضع المتشابهة بين السورتين. في سورة الأعراف كان القصص تاريخيًا سورة الأعراف تناولت القصص لكن من منظار تاريخي بدأت بآدم عليه السلام ثم نوح ثم عاد ثم ثمود إلى أن وصلنا لموسى وفي الشعراء بدأت بموسى أقرب القصص إلى محمد صلى الله عليه وسلم ويراد منها تصوير المواجهة بين الأنبياء والأقوام. في سورة الأعراف كان السياق يحكي لنا القصة ذاتها لكن بهدوء وبوتيرة أخرى لذلك الذين تكلموا الملأ، ثانيًا كثير من الملأ من الأقوام الآخرين تكلموا في الأعراف (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴿٨٨﴾) فبالتالي الملأ أنسب في سورة الأعراف أن يتكلموا، في قصة شعيب في قصة هود (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴿٦٦﴾) وفي قصة صالح (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴿٧٥﴾) (قال الملأ) كثر تكرارها في سورة الأعراف أما في سورة الشعراء خرج فرعون من طوره ومن صبره فهو الذي قال وخرج من كبريائه رأى المعجزات فمن المؤكد أن موسى سيقنع الآخرين فقال فرعون للملأ (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ)

المقدم: وصفه ساحر وفي مواطن أخرى قال سحّار عليم

د. المستغانمي: الملأ دائمًا ينافقون، هم الذين قالوا (سحار عليم) صيغة مبالغة لساحر اسم فاعل وكلاهما صحيح وموسى بريء من هذا ومن ذاك.

المقدم: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴿٣٥﴾) لماذا أخاف الملأ من حوله بهذه المسألة بأن موسى يريد أن يخرجهم من أرضهم؟!

د. المستغانمي: (مِنْ أَرْضِكُمْ) كأن الأرض ليست لفرعون! هو مرة يقول (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿٥١﴾ الزخرف) فأجراها الله من فوقه كما قال أحد المفسرين. يعتد بملكه لكن هنا يريد أن يستثيرهم وأن يهيّجهم ضد موسى فقال (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) هذه أرضكم وليست أرضي، ثم قال (بِسِحْرِهِ). الملأ في الأعراف قالوا (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) لا يوجد كلمة (بسحره) فرعون دبلوماسي متكلم يريد أن يثيرهم قدر الإمكان، هذا الحديث كله في حضرة الملأ الذين هم في مجلس فرعون وزرائه وحاشيئته وليس القوم كلهم، هذا في مجلس فرعون الملأ كبار القوم وسمّوا بالملأ لأنهم يملأون العيون بهاء وصولجانًأ وأبهة وهو أراد أن يستثيرهم. أضاف فرعون كلمة (بسحره) هو يلقّنهم: هذا ساحر بالدرجة الأولى، ثانيًا ترددت كلمة السحر في سورة الشعراء كثيرًا.

المقدم: كأنما فرعون يلقّم الملأ جواب سؤال سيسألهم إياه حينما قال (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)؟

د. المستغانمي: متى كان الفرعون والفراعنة يسألون القوم؟! لم يقل لهم بم تشيرون عليّ؟ بم ترشدونني؟ قال (ماذا تأمرون) صار فرعون مأمورًا بعدما كان إلهًا يدّعي الألوهية أصبح مأمورًا، تواضع كل التواضع ولكن هذا كله تلفيق وكله حثٌّ لهم على أن يكونوا ضد موسى عليه السلام.

المقدم: (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ﴿٣٦﴾)

د. المستغانمي: أرجه يعني أعطه مهلة وأعطنا مهلة أرجئه وهذه فيها قرآءات: أرجئه وأرجِه، يعني أخّره إلى زمن أعطيه مهلة. وهنا هارون اختفى من الحوار كله لأن نبي بني إسرائيل هو موسى عليه السلام وهارون ليس إلا عضدًا لأخيه.

هنا قال (وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ) وفي سورة الأعراف (وأرسل) (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ﴿١١١﴾ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴿١١٢﴾). كلمة بعث وأرسل من المترادفات، كلمات متقاربة لكن بعثنا إليهم رسولا أي أرسلنا لكن (وابعث) هنا فيها معنى إضافي، هيّج، أقِم من بينهم، البعث فيه نوع من اليقظة، الإرسال إرسال عام، البعث فيه إرسال وفيه إيقاظ، البعث يوم القيامة فيها إرسال وإيقاظ. لو انتظر فرعون أن يبعث نفس المرسلين إلى هنا وإلى هناك سيطول الأمر، لا، استنهض من الأقوام ومن المدائن حاشرين، هذا معنى ابعث، هيّج واستنهض وأقِم لهم دعاة حاشرين من بينهم. لو قلنا: وابعث في المدائن أناسًا حاشرين، شُرَطًا حاشرين يجوز ولو أعربناها مفعولا به فصحيح. أناسًا يحشرون السحرة، يحشرونهم وليس ينادونهم أو يجمعونهم، حاشرين يحشرون الناس والسحرة إلى ميقات معين لا يخلفه لا موسى ولا فرعون ثم نتبارز.

(يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ﴿٣٧﴾) الآن المواجهة تحتاج إلى سحّار نريد واحدًا عرّافًا ماهرًا سحّار صيغة مبالغة أن يكون مطّلعًا على فن السحر وهذا يتقربون به إلى الفرعون. سحّار صيغة مبالغة وعليم صيغة مبالغة فعّال وفعيل.

(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) الفاء تدل على أنه تمت الأوامر فورًا في المدائن (جمع مدينة) المدن كثيرة التي كان يحكمها فرعون تمت الأوامر وجيء بالجميع، الفاء تفيد الترتيب والتعقيب فالمهلة كانت بسيطة جدًا.

المقدم: (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) وفي سورة طه قال (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴿٥٩﴾). هنا قال (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) لميقات يوم معلوم ترك الكل غامض، قلنا الدراما فيها الكثير من الأشياء الغامضة وصف اليوم بأنه معلوم وكذلك الميقات ليس معلومًا، أما في سورة طه حدد فقال (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) حدد يوم العيد الذي يحتفل به الأقباط وحدد الوقت (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) وقت الضحوة وقت البيان واجتماع الناس. الذي يلفتنا في هذه السورة التي فيها المواجهة جيء باللفظ باليوم والتوقيت مبهمًا غامضًا وجاء الإيضاح في سورة الإيضاح سورة طه.

المقدم: لماذا يسأل هذا السؤال (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ﴿٣٩﴾)؟

د . المستغانمي: هذا سؤال يثيرهم، يهيّجهم للحضور، هذا سؤال الغرض منه الحثّ والحضّ والاستنهاض (هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) هم يحثّونهم ويستحثونهم على الاجتماع ودائمًا (هل أنتم) في القرآن (فهل أنتم منتهون) بمعنى انتهوا، سرعة يحثهم على الانتهاء وهنا يحثّ بعضهم بعضًا على الاجتماع (هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) أي بادروا واجتمعوا.

المقدم: (لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ﴿٤٠﴾) كأنهم حددوا الفريق الغالب!

د. المستغانمي: الملأ والحاشرون والجميع هم يريدون أن يكونوا عضدًا ومشاهدين للفريق الغالب وهم السحرة (لعلنا) للترجي لم يقل ليت، لعلّ لأقرب الآجال، لعل الترجي يقع أما التمني: ليت الشباب يعود، لا يعود. فهم يترقبون أن تكون الغلبة للسحرة.

المقدم: بدأت المناظرة الفعلية بشكل يصورها القرآن بشكل درامي جميل جدًا. تبدأ المناظرة الفعلية والتحدي ما بين موسى وأخيه من جهة وبين فرعون والسحرة والملأ من جهة أخرى (فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ﴿٤١﴾) هم يريدون أجرًا مقابل هذه المناظرة

د. المستغانمي: احتاج فرعون إلى السحرة، لما احتاج هذا الملك الذي ادّعى الألوهية دعاهم فهم يشترطون هذه فرصة بالنسبة لهم وهم ماديون وهذه فرصة لهم أن يشترطوا أجرًا فقالوا (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) همزة الاستفهام وإنّ التوكيدية ولام التوكيد المزحلقة، أسلوب عجيب! (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ). في سورة الأعراف الثوب اللفظي يختلف فقالوا (وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ﴿١١٣﴾) لأن الوتيرة التي قصَّت بها القصة في سورة الأعراف كانت وتيرة عادية فيها مناظرة لكن بشيء من الهدوء أما هنا في سورة الشعراء فالمواجهة محتدمة فأتوا بالاستفهام (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ). في سورة الأعراف الاستفهام مقدّر وفي الشعراء الاستفهام مصرّح به، في الأعراف قالوا (وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ﴿١١٣﴾) هنا (قالوا أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) لما صرّح بفرعون صرّح بالاستفهام ولما قالوا بدون التصريح لفرعون أضمر الاستفهام.

هم اشترطوا (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) قال فرعون (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿٤٢﴾) في الأعراف لم يقل (إذن) في الأعراف قال (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿١١٤﴾) وفي الشعراء فيها شرطية إنكم إذن لمن المقربين كأنه يقول إن غلبتم فعلًا وحقًا إنكم إذن لمن المقربين. (إذن) هنا حرف جزاء يعطينا معنى الشرط، حرف جزاء وجواب فهنا كأنه يقول: إن كنتم أنتم الغالبين إذن أنتم المقربين، أضيفت (إذن) لتعطي قوة في الأسلوب، أسلوب شرطي ولنا أن نقدّر، بينما هناك قال (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)

المقدم: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ﴿٤٣﴾) في سورة أخرى تشاوروا مع موسى وخيّروه تبدأ أنت أم نحن نبدأ

د. المستغانمي: خيّروه (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ﴿٦٥﴾) في طه لأن العملية فيها تخيير، أما هنا فالدراما محتدمة فصوّر البيان القرآني موسى مباشرة لا ينتظر (أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ) أسلوب فيه عدم مبالاة بما سياتون به، ألقوا ما تستطيعون الإتيان به، (أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ) أبهمها تحقيرًا لما سيأتون به.

حتى إن بعض المفسرين عندما قال لهم موسى (ألقوا) فعل أمر، وهل موسى يأمرهم بأن يفعلوا فعل السحر؟ لا، هنا موسى قال لهم (أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ) لا أمرًا لهم وجثّا على أن يستعملوا السحر إنما قالها لهم بلغة الجدال والحجاج قرروا شبهتكم إئتوا بما تستطيعون الإتيان به حتى أدّ عليه وأدحضه فقط.

المقدم: (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ﴿٤٤﴾) هم متأكدون متيقنون من الغلبة أنها ستكون لهم!

د. المستغانمي: كانوا مستعجلين، عشرات ومئات من السحرة جاؤوا هل يستطيع واحد أن يغلب المئات إن كانت العملية بشرية؟! لكن العملية معجزة إلهية! ويقسمون بعزّة فرعون متأكدون من الغلبة، وأقسموا بعزّة فرعون لم يقولوا بإلهية فرعون والعزّة هي الغلبة والعزّة مرادة هنا، بعزته وبتأييده لنا يقسمون به. وانظر إلى النكتة التناسقية أقسموا بعزة فرعون لأن السورة كلها تقسم بعزّة الله (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) هم يستشعرون كأنهم يقولون بعزّة فرعون، يا محمد إن ربك هو العزيز الرحيم بدليل أنهم لم يقسموا في آية أخرى لا في الأعراف ولا في طه ولا في سورة أخرى أما هنا انظر إلى التناسق في بناء هذا القرآن، لما أقسموا بعزة فرعون قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم ثمان مرات (إن ربك   الرحيم)

(وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) مؤكدات: إنّ واللام والمصدر (نحن) ضمير الفصل يؤكد لم يقولوا إنا غالبون، وتعريف الغالبون قصروا الغلبة عليهم.

المقدم: (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴿٤٥﴾)

د. المستغانمي: (تلقف) رواية حفص عن عاصم يقرأها مخففة (تلقّف) قرآءة الجمهور، تسع قرّاء قرأوها بالتضعيف الذي فيه مبالغة (تلقّف) تتلقّم وتزدرد تأكل بسرعة، تبتلع، فيه شدة الابتلاع (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴿٤٥﴾) مباشرة هذه تسمى الفاء الفجائية فجأة تلقف وتأطل وتبتلع كل ما يأفكون، إذن كل ما عملوه إفك والإفك هو قلب الباطل إلى حق والحق إلى الباطل يقلبون كل شيء والسحر هو نوع من الإفك لأنهم يسحرون أعين الناس ويأفكون ويأتون بعمل مزور مموه منسّق ولكنه في الحقيقة باطل. فلذلك (تلقف) تبتلع تزدرد تلتقم، اللقف واللقم كلاهما سيان لكن اللقف أبلغ. اللقم نحن نلتقم لقمة، لقم ولقف الفاء والميم شفويتان واللقف أشد.

المقدم: مباشرة حينما جاء موسى بهذه المعجزة التي أبهرت السحرة فضلًا عن الناس على اعتبار أن السحرة هم أعلم بمهنتهم فعلموا أن هذا ليس من السحر وإنما شيء من الإعجاز مباشرة (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴿٤٦﴾) لماذا استعمل ذات الفعل: ألقى – ألقي؟

د. المستغانمي: ألقي كأن أحدا ألقاهم، إيمانهم ألقاهم، الله سخّر لهم الإيمان ألقاهم لم يقل فسجدوا، لو أراد جلّ جلاله لقال فسجد السحرة، في ىية أخرى خروا ساجدين، (ألقوا) كأن شيئا ألقاهم وهذا دليل على شدة الاستجابة. لماذا استجابوا بسرعة (فألقي)؟ الفاء تفيد الترتيب والتعقيب لأنهم هم أعرف الناس بالسحر، أن تُبتلى بعالم خير من أن تبتلى بنصف عالم، هم كانوا علماء متقنين عرّافين فالعارف بالشيء يستجيب لك أكثر واسرع أما أن تبتلى بأصناف المجانين فهؤلاء يجادلون أكثر فأكثر (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) (ساجدين) حال.

(الإلقاء) أيقونة في قصة موسى عامة وفي سورة الشعراء

المقدم: (قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٤٧﴾ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴿٤٨﴾) ما دلالة ذكر رب موسى وهارون ألا تكفي رب العالمين؟

د. المستغانمي: فرعون كان يدّعي الإلهية لو قالوا (آمنا برب العالمين) لظنّ السذّج والبسطاء من الأقباط ومن بني إسرائيل أن السحرة يتحدثون عن فرعون لكنهم قالوا (قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٤٧﴾ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴿٤٨﴾) الذي أجرى على هذين الرسولين هذه المعجزة العظيمة، كفروا بربوبية فرعون وهذا كلام قاطع في إيمانهم وكفرهم بفرعون.

المقدم: (قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ)

د. المستغانمي: وفي الأعراف قال (آمنتم به) (قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ) آمنتم بموسى وبمعجزته، آمنتم بالله الذي يدعوكم إليه موسى؟ هنا (آمنتم له) كان مغتاظًا من موسى أكثر، كان شديد الغضب من موسى فقال (آمنت له) وهذا في البلاغة تضمين، والتضمين أن تضمّن فعلًا معنى فعل، كأنه يقول: أآمنتم به منقادين له مستجيبين له؟ فضمّن فعل آمن فعل استجاب وانقاد. (آمنتم به) مستجيبين منقادين له، هذا التضمين فيه إيجاز، في سورة الأعراف قال (قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ) أي بإلهه وبه كرسول؟ (قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ) هو ظنّ وما زال يموّه على البسطاء أنه لا بد أن يكون الإذن من فرعون الإله.

المقدم: وهنا بدأت قصة التلفيق مرة أخرى والكذب (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)

د. لمستغانمي: الإمام الشوكتني في فتح القدير يقول: اعترف بأن موسى هو كبيرهم، هو من مصلحته أن لا يعترف لموسى بأيّ شيء لكن أمام المشهد العجيب وأمام المعجزة العظيمة التي بهرت الناظرين اضطر أن يقول: إنه أستاذكم وكبيركم الذي علمكم السحر وإلا مصلحة فرعون تقتضي أن لا يعترف لموسى أنه كبيرهم. لم يقل إنه ساحر مثلكم وإنما قال (لكبيركم) لأن المعجزة كانت عظيمة. فلا يغتروا بشيء إنه أستاذهم الذي تعلموا منه صنعة السحر، يريد أن يموّه على البسطاء.

المقدم: (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ماذا؟

د. المستغانمي: فلسوف تعلمون نكالي، فلسوف تعلمون العذاب الذي سألحقه بكم جميعًا. هنا بدأ أسلوب التهديد فلسوف تعلمون مغبّة أمره وأمركم لكنه هو بدأ يهددهم بأسلوب شديد اللهجة، عندما حذف المفعول به جعلهم يفكرون بالعقوبة أيّة عقوبة سيوقعها فرعون بهؤلاء البسطاء الذين آمنوا (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ). عندما تقول لابنك: فلسوف تعلم ماذا أفعل، سأريك، يعني الولد يفكر ما هي العقوبة؟! يذهب ذهنه أيّما مذهب لكن لو قال له سأمنعك من الخروج اليوم. (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) تهديد إجمالي ثم بدأ يفصّل (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) ليس لأقطعن وإنما أقطعنّ فيها مبالغة في التضعيف وفي النون المشددة، هذا يسمى توكيد مشدد، اللام مؤكدة ونون التوكيد الثقيلة وقطّ‘ فعل مشدد، مبالغة بأسمى معانيها ولا يوجد في اللغة العربية أكثر من هذه المبالغة!

(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ) إذا قطع اليد اليمنى يقطع الرجل اليسرى وإذا قطع اليد اليسرى قطع الرجل اليمنى حتى يصلّبهم والتصليب يكون بدون هذه العملية، قال العلماء: حتى يكونوا نكالًا وعبرة للبقية فإذا قطّ‘ الأيدي والأرجل وصلّبهم في جذوع النخل يكون ذلك درسًا لبقية الشعب حتى لا يخرج النس عن طاعة فرعون.

في آية أخرى قال (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) وتحدثنا عنها في سورة طه ولم يقل على باعتبار الظرفية. بينما هنا (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) لم يجد الوقت حتى ليقول (في جذوع النخل) إنما قال (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) دون استثناء. في سورة الأعراف قال (ثم لأصلبنكم) وهنا قال (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) كأن هناك في سورة الأعراف أعطاهم مهلة للتفكير أما هنا فالواو تفيد مطلق الجمع ومنه الجمع السريع أيضًا.

المقدم: (قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ﴿٥٠﴾)

د. المستغانمي: لا ضير أي لا ضرر، لا شيء فيما تخيفنا بمعنى لا يضرّنا تهديدك.

المقدم: هم الآن آمنوا هل إيمانهم بهذه الدرجة إلى أن يتحملوا هذه الأصناف من التهديد بالعذاب فيقولوا (قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ)؟

د. المستغانمي: إذا قذف الله الإيمان في قلب المؤمن، عليّ بن أبي طالب عندما آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أصغر فتى آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: اذهب واستشر أباك، – والله تعالى قد جعل الحكمة على لسان عليّ – قال: هل الله عندما خلقني استشار أبي؟! الإيمان عندما يدخل شغاف القلوب ويسكن فيها لا يستطيع إنسان أن يزحزح الإيمان من قلب  الآخر، هذه هي العقيدة. ما معنى العقيدة؟ أفكار نعقد عليها في قلوبنا. لذلك هم دخل الإيمان في قلوبهم وشربوه في أنفسهم وقلوبهم، استوى كل شيء. لا ضير أي لا يضيرنا ما تقول، اِففعل ما تشاء كما قالوا في سورة طه (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) لأنهم عرفوا أن موسى أتى بمعجزة إلهية.

المقدم: الحديث عن الدنيا والآخرة، هناك قال (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) وهنا قال (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ) ربط هذه المسألة بقضية أنت تتحدث عن دنيا ونحن نطمع بالآخرة.

د. المستغانمي: (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ) هذه الجملة هي تعليل كأن أحدًا يقول: لماذا لا ضير؟ لماذا لا تخافون من تهديد فرعون؟ لأننا إلى ربنا منقلبون، هذا تعليل، إنا إلى ربنا منقلبون، لم يقولوا راجعون وإنما منقلبون، شدة الإنقلاب، الإنقلاب رجوع في شدة، يا ليتنا نموت الآن ونستشهد في سبيل الله! كأنهم يقول هكذا. والانقلاب من حال إلى حال انقلبنا في توبتنا إلى الله وإنا إليه منقلبون في آخرتنا وانظر إلى الجملة التي تفوهوا بها بعد ذلك (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿٥١﴾) هذه بيان لتلك، إنا إلى ربنا لمنقلبون، كأنما قائلًا قال لهم: ماذا تقصدون؟ قالوا (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)، نطمع لم يقولوا إنا نرغب، هذا طمع منا نحن لم نصلي لم نزكّي، عندنا طمع في الكرم الإلهي، إنا نطمع. (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا) هنا لام التعليل محذوفة (لأن كنا) لماذا تطمعون أن يغفر الله خطاياكم؟ – والخطايا أشد من الذنوب – لأن كنا أول المؤمنين، على الأقل لأننا كنا أول من استجاب لموسى عليه السلام يا رب إنا نطمع أن تغفر لنا خطايانا الكبيرة التي طالما اقترفناها في حياتنا السابقة.

المقدم: نبدأ بفصل جديد من الدراما يتحدث عن الوحي إلى موسى (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ﴿٥٢﴾)

د. المستغانمي: (أن أسري) قرآءة ورش ونافع وهي قرآءة صحيحة، (أن أسر) قرآءة حفص.

المقدم: انتهت قصة السحرة وإيمانهم ودخولهم في دين موسى وهارون، الآن تبدأ قضية الملاحقة (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)

د. المستغانمي: لم تقع هذه العملية الوحي إلى موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلًا أن يسري بهم ليلًا مباشرة، هي قصة ثانية وفصل آخر لكن طوى القرآن ماذا فعل فرعون، قتل ما قتل، الآن يهمنا إنجاء بني إسرائيل. في سورة الأعراف عشر صفحات قصة موسى مع فرعون أرسل الله على قوم فرعون الجراد والضفادع والقمل والدم وآيات مفصلات وكل مرة موسى يقول له يا فرعون اترك بني إسرائيل يخرجون لعبادة الله وفرعون يمتنع إلى أن جا وقت الذروة التي وصلناها بسرعة في سورة الشعراء لأن القصة درامية هنا أكثر (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي) اسر بهم اي اذهب بهم ليلًا من السُرى (وأسر ولو أن الظلام جحافل) السرى بهم ليلًا أي امشِ بهم ليلًا إنكم متبعون سيتبعونكم فعلّمه وأعلمه الله أن فرعون وجنوده سيتبعونهم (فأوحى إليه (أن التفسيرية) أسرِ بعبادي) قرآءة ورش (أن اِسرِ) من سرى، سرى أمرها بهمزة الوصل أن اِسرِ، وسرى واسرى كلاهما له نفس المعنى مثل سقى واسقى. (أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) فرعون أرسل وراءهم (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ﴿٥٣﴾ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ﴿٥٤﴾ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ﴿٥٥﴾ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ﴿٥٦﴾) أخرج جميع الجند الذين كانوا في المدائن لم يكتفي بعدد لأن الروايات التفسيرية تقول خرج موسى بستمائة ألف من بني إسرائيل، فرعون حشد أكثر مليون مليون ونصف، عدد كبير، فأرسل حاشرين يجمعون كأنهم في يوم الحشر حشر عددًأ كبيرًا (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) الحاشرون يقولون وفرعون قال، أرسل فرعون في المدائن حاشرين يقولون إن هؤلاء لشرذمة قليلون، (هؤلاء) تحقير، (شرذمة) طائفة قليلة، نحن لدينا العدد والقوة والعتاد! (قليلون) صغّرهم واحتقرهم بثلاثة أشياء: (هؤلاء) للتحقير، (شرذمة) هي الطائفة القليلة وزاد فوصفها بجمع قلّة (قليلون). (وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ) (لنا) فرون يدّعي العظمة (لغائطون) أي أغضبونا كثيرًا، الغيظ هو شدة الغضب.

(وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) هذه استراتيجية حربية: أنا كملك وأحذر منهم فما بالكم أنتم؟!! وإنا لجميع ينبغي أن نحذر منهم فلذلك حرّض عددًا كبيرًا للخروج فخرجوا في أدبارهم ووراءهم.

بعد ذلك يبدأ فصل آخر (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿٥٧﴾ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴿٥٨﴾ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿٥٩﴾ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ﴿٦٠﴾) هذا تعليق إلهي ثم تأتي النهاية المأساوية.