مقاصد سور القرآن

مقاصد السور – سورة الزمر وغافر – د. محمد بن عبدالعزيز الخضيري

مقاصد السور

د. محمد عبد العزيز الخضيري

سورة الزمر وغافر

تفريغ الأخ الفاضل هيثم العريان جزاه الله خيرا لموقع إسلاميات حصريًا

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أما بعد، فمعنا في هذه الليلة سورتي الزمر وغافر تسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بهما ويغفر لنا الذنوب.

سورة الزمر

هي سورة التوحيد والإخلاص من أولها إلى آخرها جاءت داعبة إلى التوحيد، آمرة بإخلاص الدين لله عز وجل، وهذه السورة افتتحت بمدح الكتاب وكأنها تتمة لسورة ص، لأنه في آخر سورة ص قال الله تعالى (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)- ( تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) فكأنها تتمة لها، والعلاقة بينهما أنه في سورة ص كان هناك حوار مع الكفار في اتخاذهم أربابًا وآلهة من دون الله عز وجل، وكان هناك نوع من إبطال هذه العبادة لهذه الآلهة، وفي هذه السورة بيان للمعبود الحق وهو الله سبحانه وتعالى. وقد افتتحت بقوله (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) بالحق الثابت الذي لا مرية فيه ولا شك، وختمت بخاتمة تدل على إرادة هذا الحق وأن من اتبع الحق في الدنيا كان من أهل الحق في الآخرة، قال الله عز وجل (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي قضي بينهم بالعدل والقسط الذي لا ظلم فيه ولا حيف. ثم قال الله عز وجل (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) الخالص من الشرك، والخالص من اتخاذ الآلهة والأرباب (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) أي يقولون عن آلهتهم أننا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، والعجيب أن هذه العبارة التي حكاها الله عن أهل الشرك قد وجدها بعض المشايخ مكتوبة عند أحد القبور التي يطاف بها، مكتوب (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) هذه كلمة أهل الشرك في آلهتهم التي اتخذوها من دون الله عز وجل تأتي لتكتبها على قبر؟! فالمشركون ما عبدوا آلهتهم إلا بهذه الحجة وهم يريدون من آلهتهم أن تقربهم إلى الله زلفى، وهؤلاء الذين يعبدون هؤلاء المقبورين هذه حجتهم فاتفقوا وان اختلفت أسماؤهم. ثم الله سبحانه وتعالى يبين أنه منزّه عن الصاحبة والولد وعن الأنداد والنظراء والشركاء (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) ثم يذكر الأدلة على وحدانيته بأنه هو الذي سخّر الشمس والقمر ويكّور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وهو الذي خلقنا من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها. ثم تستمر الآيات في هذا الميدان وهذا المضمار وهي تدعو إلى التوحيد وتبين فضائله إلى أن يأتي في قول الله عز وجل في الآية الحادية عشر (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) وهذا يؤكد ما ورد في أول السورة (ألا لله الدين الخالص) يعني أن هذه السورة جاءت لتأكيد التوحيد ولتعظيم أمر إخلاص العبادة لله جل وعلا (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) الموحدين (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) ثم يذكر جزاءهم ويذكر جزاء من يقابلهم ممن أفردوا الله بالعبادة (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا) أي لم يعبدوا مع الله أحدا سواه لا نبيًا مرسلًا ولا ملكًا مقرّبًا ولا قبرَ ولي ولا شيئًأ مما يعظَّم مما هو يتخذ طاغوتًا يُعبد من دون الله عز وجل (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ) من هم عبادك يا رب؟ (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) ثم تستمر الآيات في هذا الميدان تناقش هؤلاء المشركين وتضرب لهم الأمثال إلى أن يأتي في مقطعها الأخير قوله سبحانه وتعالى (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) دعوة رفيقة حانية من ربنا سبحانه وتعالى بأن لا يقنط أحدٌ من أي عمل عمله سواء كان الشرك أو ما دونه، لا تقنط، إذا أقبلت على الله أقبل الله عليك بتوبته ورحمته وبدّل سيئاتك حسنات ومحا ذنوبك وبدأت صفحة جديدة مع الله عز وجل، حتى إن الرجل الذي يُسلم قبل يوم واحد من وفاته قد يكون خيرًا ممن أسلم قبله بسنين لما يعطيه الله من الكرامة والفضل! فالله يدعونا هذه الدعوة الرفيقة الحانية (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ثم تستمر الآيات إلى أن يأتي في قضية التوحيد والشرك تطبيقها على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول الله له (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ ) حاشاه من ذلك عليه الصلاة والسلام ولكن هذا على سبيل الفرض والتنزّل (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ). ثم ذكر الله أنه سيُنفخ في الصور نفختان، النفخة الأولى نفخة الصعق والنفخة الثانية نفخة القيام من القبور وبعد ذلك توفّى كل نفس ما عملت، ثم يساق الذين كفروا إلى جهنم زمرًا ويساق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرًا، نسأل الله أن يجعلنا جميعًا من أهل الجنة .

سورة غافر

ثم تأتي بعد ذلك سورة غافر وتسمى سورة غافر لأنه جاء في أولها قوله (غَافِرِ الذَّنْبِ) وتسمى سورة المؤمن لأنه ذكر فيها قصة مؤمن آل فرعون – سنذكرها بعد قليل- وهي سورة مكية وفيها جدال المشركين، وبيان الحوار معهم في جوانب متعددة وبطرق مختلفة، ففيها حوارات قوية لهؤلاء الكفار الذين اتخذوا من دون الله آلهة، وحوارات لأولئك المتجبرين المتكبرين المتآمرين على الدعوة وعلى ما جاء به الأنبياء عليهم الصلوات والسلام. افتتحت بقوله (حم) وهذه أول الحواميم، الحواميم سبع سورة غافر وفصلت والشورى والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف تسمى الحواميم أو ذوات حاميم أو آل حاميم، هذه كلها أسماء لها وورد في الأحاديث أن الحواميم ديباج القرآن، كان ابن مسعود رضي الله عنه يفرح جدا بقراءة الحواميم لما فيها من ذكر الدعوة إلى التوحيد وذكر تعظيم الكتاب الكريم وبيان ما فيه من الخير لهذه الأمة.

قال الله عز وجل (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) لاحظوا أوصاف الرب سبحانه وتعالى (الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ) أي قابل التوبة (شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ). ثم يقول الله عز وجل مبينًا موضوع هذه السورة وهو الجدل مع الكفار (مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) لأن آيات الله أوضح من أن يجادل فيها أحد، ولكن الذين كفروا لأنهم ما قدروا الله حق قدره ولأنهم ورثوا دينهم من آبائهم ولأنهم يقلدون على عمى وبغير بصيرة، ولأنهم لا يؤمنون بالبعث فهم يجادلون في آيات الله. قال (فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ) لا يغرنك يا محمد ما عندهم من الملك والظهور والدولة والمدنية والحضارة، كل ذلك متاع زائل لا يُعرف به حق من باطل، يعني لا يقاس الحق والباطل بوجود الدنيا أو تمكّن الناس من الحضارة أو غير ذلك. ثم تستمر الآيات في ذكر هذه المضامين إلى أن تأتي إلى قصة مؤمن آل فرعون، فرعون الخبيث لما شعر أنه أمام حجج واضحة وأدلة وبراهين ساطعة جاء بها موسى، تسع آيات يؤمن على مثلها البشر بل حتى الحجر من ظهورها وبيانها للحق وبيانها لأن موسى رسول من عند الله لا يمكن أن يكذب على الله، أراد فرعون أن يقتل موسى ـ لكن قتل موسى إذا قتله بمفرده وحصلت مشكلة قد يعود الناس عليه باللائمة، فجاء واستشارهم في البرلمان الفرعوني (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) اسمعوا ماذا يقول الخبيث (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) الآن فرعون خائف من موسى أن يبدل الدين! ما هو الدين الذي عندك؟! ألم تقل لهم (ما علمت لكم من آله غيري) (أنا ربكم الأعلى)-قاتلك الله-قال (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) وهذا يدلك على أن هؤلاء الطواغيت شغلهم هو اللعب بالألفاظ، يعبثون بعقول الناس حول الألفاظ، الوحدة الوطنية، الإرهاب، الأصولية، التشدد، التطرف، ولذلك يقول هنا (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) موسى هذا المسكين مع بني إسرائيل ضعفاء فيهم كثير من الذلّ والضعفة هم الذين يخاف أن يظهروا في الأرض الفساد!، موسى ماذا فعل؟ سلم أمره لله بأنه ومن معه من المؤمنين ضعفاء قال (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) هنا جاء دور رجل كان موجودًا في صفوف الملأ من قوم فرعون يكتم إيمانه، عبّر عنه القرآن بقوله (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ) يعني تقتلونه بسبب أنه يقول ربي الله؟! هذه ليست حجة في قتل إنسان من المجتمع وهذا الرجل الذي يقول ربي الله جاء بأدلة واضحة (وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) وأنتم لم تأتوا بدليل واحد على الذي تدعونه، هو الآن يقول ربي الله صحيح، ولكنه جاء بأدلة، أين أدلتكم أنتم؟! ردوا واحدًا من أدلته، كل ما في الأمر تُهَم معلبة يضرب بها هؤلاء الدعاة (أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَاد). قال (وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) لن يضر الكذب إلا موسى (وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ) هذا الآن يهددكم بعذاب ينزل عليكم من عند الله. قال الله عز وجل (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) هنا فرعون ضعف وانخذل، قال (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى) أنا هذا رأيي الذي أرى أنه هو السديد تجاه هذا الذي جاءنا يريد أن يفرق جماعتنا ويدعونا إلى دين غير دين آبائنا (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ). هنا المؤمن لما رأى ضعف فرعون تقدم خطوة أكثر جرأة (وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ) يعني يوم القيامة الذي يكثر فيه النداء (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) ثم تقدم خطوة وذكّرهم بالتاريخ، تاريخ المصريين (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ) هذا في تاريخكم أنتم (مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ) ما آمنتم به لكن كنتم شاكّين (حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ). هنا فرعون شعر أنه قد أُلقِم حجرًا وأنه جاء من أفسد عليه خطته، وأن هذا الذي أفسد عليه خطته الآن جاء بأدلة أو حشد أدلة كثيرة باتجاه استسلام الناس لموسى عليه الصلاة والسلام، وكل هذا وهو لم يُظهر أنه آمن، يعني بخفاء وذكاء، ماذا فعل فرعون الطاغية؟ هذا المتكبر العنيد، بدأ يحتال (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ) يعني أنت الآن صحيح أقنعتنا بأن موسى صاحب دعوة صحيحة، حسنا نحن نريد أن نتأكد بأدلة مادية، نريد نرى ربه، انظر الآن انتقلت المعركة انتقالا عجيبا، وهذا يدل على أن المؤمن قد حقق هدفه بمستوى عال جدا ولذلك أشاد به القرآن، لأنه نقل القضية الآن من كون موسى يخطط لقتله إلى أن الناس يفحصون أدلته، وصارت الدعوة الآن داخل قبة البرلمان الفرعوني، ففرعون من خبثه قال حسنًا من أجل أن نتأكد من إله موسى نريد أن نبني بناء عالي جدا نصل به إلى أسباب السماء يعني طرق السماء وأبوابها حتى ننظر، فان وجدنا آلهًا آمنا به، طبعًا هذا المشروع يحتاج إلى كم؟؟ عشرين أو ثلاثين سنة، بناء برج مثل برج العرب أو غيرها من هذه الأبراج العالية، هو يريد إفشال مخطط المؤمن، لأن دعوة المؤمن كانت قوية وواضحة وصريحة وجاءت على مخطط فرعون واستأصلته من الأساس. الذي لا يفهم القصة لا يدرك ما الذي حصل فيها، كيف تغيرت وانقلبت إلى أن فرعون الآن أصبح يبحث عن أي خيط للنجاة (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ) أصدر أمرا إلى هامان وزيره الكافر مثله (ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) ثم يقول (وَإِنِّي) يعطي النتيجة المبكرة (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا) قال الله عز وجل (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ) أي في هلاك وخسار. هنا المؤمن جهر بإيمانه لأن فرعون استنفذ كل الأوراق التي معه وأبان عن فشله الكبير، ولذلك قال (وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ) أي حقًّا (أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ) أي ما تدعونني إليه من الآلهة ليس له دعوة مجابة لا في الدنيا ولا في الآخرة (وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) ويقال أنهم هددوه فقال (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) أي في القبر وهذا من أظهر أدلة أهل السنة في القرآن على عذاب القبر. قال (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) ولما ذكر هذه المحاجّة في الدنيا ذكر محاجّة الظالمين في الآخرة (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) وتستمر السورة في ذكر ماذا سيكون مآل من استمسكوا بالحق واتبعوا الرسل قال الله لنبيه (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ) اصبر على الحق الذي أوتيت فإنه مرٌّ وفيه حرارة لكن عاقبته حلوة وسعيدة (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ).

وتستمر السورة على هذا المنوال في محاورة هؤلاء المشركين إلى أن تأتي إلى ختامها وهو قول الله عز وجل (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) كالحال الآن الحاصل، يفرحون بما عندهم من صنع الطائرات والقنابل والأدوات الطبية والأشياء العجيبة (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) هذا الإيمان الذي يكون في اللحظات الأخيرة بعد رؤية العذاب لا ينفع الإنسان لأنه بعد معاينة العذاب وانكشاف الغيب، ما ينفع الإيمان إلا إذا كان غيبًا أما إذا كان مشاهدة فلا يصلح (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ).

https://www.youtube.com/watch?v=t1HmQcwav_4

https://soundcloud.com/nasser-alusfoor/gc5gmgkj1kir