مقاصد سور القرآن

مقاصد السور – سورة سبأ – د. محمد بن عبدالعزيز الخضيري

مقاصد السور

د. محمد عبد العزيز الخضيري

تفريغ موقع إسلاميات حصريًا

سورة سبأ

سورة سبأ هذه السورة الكريمة من السور المكية التي نزلت بمكة اتفاقًا وافتتحت بقول الله عز وجلّ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿١﴾) وقد بّينا مرارًا أن السور التي افتتحت بالحمد خمس: سورة الفاتحة وسورة الأنعام وسورة الكهف وسورة سبأ وسورة فاطر. وافتتاحها بالحمد هو أحد الصيغ التي افتتحت بها سور القرآن وهو صيغة الثناء على الله عز وجلّ فمنه الحمد ومنه التسبيح في سبع سور جاءت وذكرناها في مجلس ماضي. وافتتاحها بالحمد مناسبة لختام سورة الأحزاب لأن الله قال (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴿٧٣﴾) – (الحمد لله) فالحمد كله لله في حكمه وأمره وخبره ووحيه وفي خلقه وتدبيره فهو الذي فصل بين الخلائق جعل هؤلاء مشركين وهؤلاء منافقين وهؤلاء مؤمنين صادقين وأعطى كُلًا جزاءه بحكمة وعدل تام.

موضوعات سورة سبأ هي موضوعات السور المكية تناقش قضية اليوم الآخر والإيمان برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان بالقرآن وأنه من عند الله وما سيحصل بين الكفار من حوارات في نار جهنم متخذة أسلوبا جديدا في بيان هذه الأمور وعاقبتها وهو أسلوب شكر الله على نعمه، فالسورة افتتحت (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿١﴾ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴿٢﴾ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي) قَسَم، قل يا محمد (بلى) ستأتي الساعة (وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) لماذا؟ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿٤﴾) وتستمر الآيات في ذكر العقائد المهمة والعظيمة التي يحتاجها الخلق ومن أعظمها وأجلّها قضية الإيمان باليوم الآخر لأنها مفرق طريق إذا آمنت باليوم الآخر صلحت أحوالك واستقمت وإذا لم تؤمن باليوم الآخر أصبحت وحشًا في صورة إنسان لأنك تريد أن تنهش وأن تأكل بقدر ما تستطيع بغض النظر عما سيحدث لأنك تعتقد أنك ميت وستفنى وأن هذه هي دار اللذة والشهوة  والحياة الحقيقية عندك أما إذا آمنت بالآخرة وعلمت أن الدنيا ممر وأنها ظل زائل وأنها قصيرة جدًا بالنسبة لما ستعيشه غدا ستتغير كل أعمالك وتصرفاتك ولن يحدث عندك شيء من ذلك.

اتخذت السورة أسلوبًا جديدًا في الإقناع بهذه العقائد، ذكر من أنعم الله عليهم فشكروا ومن أنعم الله عليهم فكفروا وهذا الأسلوب في المقابلة أسلوب تميزت به السورة، يقول الله مبينا عبيدا من عباده أوتوا من الدنيا ومن سعتها شيئا مهولا فشكروا واتخذوه سلمًا إلى الآخرة قال (وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) كانت الجبال ترجّع مع داوود إذا قرأ الزبور وحتى الطير ترجّع معه وهذه آية عجيبة لداوود عليه السلام (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) كان داوود عليه السلام يفعل بالحديد ما يشاء بيده من دون نار مما جعله الله له من القوة والشأن وأن هذه المخلوقات لله يضع مفاتيحها والقدرة على التصرف فيها بيد من يشاء من عباده. (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) اعمل دروعًا سابغات واجعل كل حلقة مثل الحلقة الأخرى تدخل فيها بحيث يتكون هذا الدرع الحديدي الذي يلبسه المقاتل وداود أول من صنع الدروع في العالم فصناعة الدروع يعود الفضل فيها إلى هذا النبي الكريم المجاهد في سبيل الله. ما هو المقابل لهذه النعم التي اسبغها الله تعالى عليك يا داوود؟ (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿١١﴾) أي سأحاسبكم على كل نعمة أنعمت بها عليكم بأن تقابلوها بالعمل فا هو العمل؟ اعملوا صالحا وهكذا كل نعمة ينعمها الله عليك لا بد أن تقابلها بعمل فإن لم تقابلها بعمل فقد كفرت شكرها فلا تتأسف إذا سلبها الله منك وإذا شكرتها فترقب المزيد (ولئن شكرتم لأزيدنكم) ويأتي بها بصيغة القسم أي: والله لأزيدنكم. هذا في جانب داوود وأما سليمان قال الله عز وجلّ (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) أي أنها تسير في الصباح مسيرة شهر، المسيرة التي تسيرها الإنسان في شهر، الريح تحمل سليمان وجنوده في الصباح فتذهب بهم إلى مكان يسير إليه السائرون مسيرة شهر وفي المساء مسيرة شهر فكانت تنقل سليمان من بلاد الشام إلى اليمن في الصباح وتعود بهم في المساء، تنقل بمئات الألوف يجلسون على هذا البساط من الريح فتنقلهم بجنوده وأسلحتهم وأمتعتهم وبأنواع ما أوتي سليمان من الجنود الطير الحيوانات الإنس والجن فأوتي ملكا لم يؤته أحدا من العالمين قال في دعائه (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35) ص) فلم يؤتي الله هذا الملك لأحد بعد سليمان. (وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) النحاس يتصرف فيه كيف يشاء (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) حتى الجن سخّروا له (وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) ص) يأمر الشياطين أحضروا لي اللؤلؤ والمرجان من المحيط يحضروا له ما يشاء مما يشاء من بواطن البحر، أيّ آية أعظم وأيّ ملك أشد وأعظم من هذا الملك الذي أوتيه سليمان، بأيّ شيء قابل سليمان نعمة الله عليه؟ هل قال أرأيتم إلى ملكنا العريض، انظروا إلى قوتنا ماذا صنعنا لكم؟ لا، كل هذا ينسب فيه الفضل إلى الله تعالى هذا هو الشكر أن تنسب الشكر إلى الله ثانيًا أن تسخرها في طاعة الله إن لم تفعل هاتين فما شكرت نعمة الله.

(يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ) قدور عنده مثل الجابية التي تملأ بالماء عنده قدر مثله يطعم مائة ألف من قدر واحد (اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا) فسمى عملهم شكرًا منها استدل العلماء على أن الشكر يكون بالعمل (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) السورة مدارها على هذا أن يا عبادي أتيتكم بشرائع وعقائد سهلة يسيرة وأتيتكم بحجج ودلائل وبراهين وأنزلت عليكم كتب وأرسلت إليكم رسل دعوتكم إلى الحق بلين ورحمة ومع ذلك أنعمت عليكم أعطيتكم  وكل هذا قابلتموه بالجحود والكفران. قال الله عز وجلّ (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) الشياطين كانوا يعملون في بناء مدينة كاملة لفهم بها  وكانوا مجهدين في العمل وكان عادة سليمان أن يطيل في صلاته ويتكئ على عصاه فكانت الجن ترقب سليمان من زمن فيظنونه يصلي وهو مات حتى إن الدويبة التي تأكل الخشب عدت على العصا أكلت العصا فما شعر الناس إلا وسليمان يخرّ ميتا مما يدل على أنه مات منذ زمن وهم لا يعلمون فالله استدل بهذا أن الجن ما عندهم من علم الله شيء قال (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴿١٤﴾) أنتم أيها المشركون تعظمون من شأن هذه الشياطين وتفعلون ما ذكره الله عنهم في سورة الجن (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴿٦﴾) وتخافون منهم خوفا شديدا وتظنون أن عندهم من الإمكانات والقدرات ما ليس عند غيرهم، لا، تراهم خلق ضعيف من خلق الله عز وجلّ ليس بأيديهم شيء، وإلا كيف لبثوا في العذاب المهين وسليمان ميت كان يفترض أن يتوقفوا من أول لحظة مات فيها سليمان.

انتهت صفحة الشاكرين، الآن خذوا صفحة أخرى صفحة الكافرين أنعم الله عليهم فقابلوا نعمة الله بالكفران والجحود والملل، حتى نعمة الله ضجروا منها، (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ) أمة كانت في اليمن (فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ) على شفير الوادي (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) هذا المطلوب (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) حتى لو عصيتم ثم أقبلتم غفر الله لكم (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) كان عندهم سد يقال له سد مأرب وهذا السد كان مليئا بالماء فالله عز وجلّ نقضه عليهم بحكمه وعدله جزاء لهم على مفرهم فجاء على جنانهم فأعدمها وأهلكها كلها قال (وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) أشجار لا تغني ولا تثمر، الجنات والغابات بدلت كلها بالأصل والسدر المليء بالشوك والأشجار التي لا تنفع (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا) ليس جزاء بدون مقدمات وأسباب (بما كفروا) (وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) ثم يقول الله تعالى مبينا نعمته عليهم (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ) قرى الشام، كان الرجل من أهل سبأ يخرج راجلا في ظل الأشجار ويأكل الثمار إلى أن يصل إلى الشام، تصوروا مسافة أكثر من ألفي كيلومتر من اليمن إلى أن يصل إلى القرى التي باركنا فيها وهي الشام يمشي الإنسان في ظل الشجر ويأكل من الثمر لا يحمل زادا ولا يركب بعيرا، (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ) حتى السير فيها مقدر له محطات يستطيع الإنسان أن يعرف متى يصل الأرض المباركة، وكل ليلة يعرف أين يصل حتى  يصل إلى بلاد الشام وهذه من النعم العظيمة التي أنعمها الله عليهم، (سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ) لا يخافون شيئا (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) يريدون سفرا فيه تعب وتصيبنا المشقة من شدة مللهم من نعمة الله عليهم وعدم تصورهم للمشقة التي ستحدث لهم لو أزال الله عنهم النعمة. (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) خرج هؤلاء اليمنيون من بلادهم فانتشروا في جزيرة العرب حتى وصلوا حدود فارس وحدود الروم وكثير من قبائل العرب ما خرجت إلا بعد ما حصل في سد مأرب (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) آية عظيمة.

ثم تعود السورة مرة أخرى إلى ذكر العقائد التي يجب الإيمان بها منها بيان توحيد الله عز وجلّ (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ﴿٢٢﴾ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴿٢٣﴾۞ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿٢٤﴾ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿٢٥﴾ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ﴿٢٦﴾ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿٢٧﴾ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٢٨﴾ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿٢٩﴾) يوم القيامة أو العذاب (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿٢٩﴾ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ﴿٣٠﴾ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ) يذكر الله عقائدهم ومواقفهم مما جاءهم من كتاب الله ومن رسل الله كيف مفروا بها ثم يذكر الله عز وجلّ ما يحدث بينهم من حوارات حينما يتبرأ الأتباع من المتبوعين كل واحد يلقي اللائمة على الآخر (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴿٣٤﴾) غالب الذين يقفون موقفًا معاديا لدعوات الرسل هم المترفون لأن الشيطان يوحي إليهم أن اتباع الرسل سيزيل هذا الذي بين أيديهم، يقفون منها موقفا  ولأن النعم على الإنسان الضعيف يكسبه الطغيان فلا يستمع إلى الحق لأنه قد وجد كل ما يحتاجه في هذه الحياة، عنده المال عنده زوجة، قصر فاره وأولاد وعشيرة وقوة فهو ليس بحاجة إلى أحد ولا إلى الله يصيبه شدة الطغيان (أن رآه استغنى) رأى نفسه استغنى وإذا لم يرى نفسه لم يطغى، ترى العابد شديد الثراء ولا يطغي يعيش عيشة بسيطة ويرى المال أمانة في يده  لم يصبه الطغيان لأنه لا يرى نفسه قد استغنى يرى أن هذا من فضل الله عليه وأنه ابتلاه به وأنه يرى ماذا يصنع بهذا المال ولذلك لا يطغى فالعاصم من الطغيان هو أن لا ترى هذا المال منك ولك وإنما هو من الله سبحانه وتعالى.

(وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴿٣٥﴾ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٣٦﴾) لا تقيسوا محبة الله وإنعامه على عباده بما ينزل عليهم من الرزق فالله يبسط الرزق لمن يشاء من مؤمن وكافر وبرّ وفاجر ويضيق على المؤمن وعلى الكافر لأن الدنيا ليست محل جزاء ولذلك يعطي الله الكافر ويحرم الله المؤمن ويعطي المؤمن ويحرم الكافر بحكمة من عنده لكن ليست مقياسا أو دليلا على محبة الله أو إيثاره بعضهم على بعض (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ ﴿٣٧﴾ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴿٣٨﴾)

ثم قال الله آية عجيبة (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٣٦﴾) يضيق له، كيف يضيق له؟ يضيق عليه لمصلحته لأنه لو وسع له في الرزق لطغى وبغى فالتضييق الذي تراه على بعض العباد لمصلحته لأنه لو وسع له في الرزق لكفر وأعرض عن دين الله ولصد عن دين الله لكن الله من رحمته يبتليه بالفقر (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿٣٩﴾) هذا وعد الله. وقد نظرت في حوادث كثيرة جدا مرت بي تدل على أن الله يخلف بعشرة أضعاف، إذا أخرج الإنسان المال طيبة بها نفسه موقنا بما عند الله من الأجر والثواب والخَلَف يأتيه الخلف عشر مرات وزيادة، حصلت قصص يخرج الإنسان ألفا فتأتيه عشرة آلآف، يخرج عشرة آلآف فيأتية مائة ألف، يخرج مائة ألف فيأتيه مليون، الخلف يتم ولو بضعف واحد، ثبت الأجر فكيف والله يكرمك بأكثر مما توقعت وأكثر مما فعلت؟!.

تعود الآيات إلى ذكر بعض عقائد هؤلاء وشركهم (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴿٤٠﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ﴿٤١﴾) وتستمر إلى أن قال اللهم لنبيه صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء المشركين إنما أعظكم بواحدة فقط من أعظم الأسباب التي تفتح للإنسان آفاق الخير والوصول للحق: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) أحيانا العقل الجمعي يسوق الإنسان سوقا إلى الضلال ما تستطيع أن تفكر ما دمت في مجموع الناس الذين يعتقدون عقيدة معنة مثل مشركي مكة هذه الأصنام تدفع وترفع وتجلب لنا الخير فأنت في ظل هذا الفكر السائد لا تستطيع أن تخرج عن هذا الإطار قل لهم يا محمد (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) قوموا إما اثنين أو واحد تريدون الحق ثم تتفكروا بهذا الذي يدعوكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم (مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) تقوموا إما اثنين أو واحد، تفكروا في محمد هل هو مجنون كما يقول المشركون؟ هذا الرجل الذي كان مشهورًا بينكم بالصادق والأمين؟ أعقل شباب مكة، أكرم شباب مكة، أطيب شاب عرفته أرض مكة هل يمكن أن يصدق عليه شيء من وصف الجنون الذي يتهم به من قبل الصحافة ووسائل الإعلام المكية؟ لا يمكن، فكر وحدك ستجد أن التفكير وحده يدلك على الحق فلو ما استطعت فأنت وصاحب لك اجلسا وهذا ليس فقط في هذه وإنما في كل المسائل التي تلاحظ أن هناك من يغريك لكي تفكر بطريقة مخالفة للواقع مباينة للهدى ولذلك قال الله عز وجلّ مبينًا برآءة النبي صلى الله عليه وسلم مما يوصم به، هل لما ادّعى النبوة طلب شيئا مما يطلبه الناس إذا ادّعوا شيئا؟؟ طلب ملك، طلب مال؟! أبدا، هو يقول لكم هذا هو الهدى قل لهم يا محمد (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) ما طلبت منكم شيئا (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) وكل الأنبياء صرّحوا بهذا (قل لا أسألكم عليه مالا) (ما أسألكم عليه أجرا) القضية أنهم ليسوا طلاب دنيا ولا يطلبون من وراء دعوتهم شيئا فما الذي تنكرونه عليهم؟ إلى أن تختم هذه السورة العظيمة.

 

https://soundcloud.com/nasser-alusfoor/na4moitvybvh