مقاصد سور القرآن

مقاصد السور – من سورة الممتحنة إلى سورة التحريم – د. محمد بن عبد العزيز الخضيري

مقاصد السور

د. محمد عبد العزيز الخضيري

سورة الممتحنة إلى التحريم

تفريغ الأخ الفاضل هيثم العريان جزاه الله خيرا لموقع إسلاميات حصريًا

سورة الممتحنة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله واله وصحبه ومن والاه أما بعد، فمعنا في هذا المجلس سورة الممتحنة هذه السورة يقال لها سورة الممتحِنة ويقال لها سورة المُمتحَنَة ، المُمتحِنة يعني التي امتحنت أو فيها امتحان لأولئك النساء اللواتي كن يأتين مهاجرات إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يُدرى الذي جاء بهن هو الهجرة أو الذي جاء بهن الهرب من الأزواج والرغبة في أزواج آخرين، فسميت سورة الممتحنة لأن الله أمر بامتحان النساء فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ) فيُقال لهن في الامتحان: آالله ما جاء بك إلا الرغبة في ما عند الله؟ أو الدار لآخرة؟ أو نحو ذلك فإذا حلفت على ذلك صُدِّقت وقُبِلَت كامرأة مسلمة جاءت من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام وأنها ما هاجرت من أجل رغبة في أمر من أمور الدنيا. ويقال الممتحنَة يعني المرأة الممتحَنة.

هذه السورة من سور الولاء والبراء أو سورة أظهرت جانب البراء من المشركين. وسبب نزولها هو أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذهب لفتح مكة عمّى الأخبار عن الناس في مسيره بحيث لا يكتشف أحد من المشركين أنه قد جاء غازيًا مكة وكان من بين الصحابة رجلُ يقال له حاطب بن أبي بلتعة – رضي الله تعالى عنه وأرضاه – وهو من أهل بدر فحاطب كان يتوقع أن تحدث ملحمة عظيمة في مكة ويقتل بسببها خلق كثير وكان له أهل في مكة ولم يكن له عشيرة فأراد أن يتقرب لأهل مكة بشيء وهو أن يدلي لهم بمعلومات تنفعهم تكون سببًا في حماية أهل مكة لأهله وقيامهم بحق أهل حاطب. فكتب رسالة لأهل مكة وأعطاها امرأة وقال لها اذهبي بهذه الرسالة حتى يعلم أهل مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاءهم بجيش لا قِبَل لهم به وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد سار بجيش عشرة آلآف مقاتل فأوحى الله إلى نبيه مما حصل من حاطب فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليًا والزبير وقال اذهبوا إلى روضة خاخ وهي روضة بين مكة والمدينة قال تجدون فيها ضعينة فخذوا منها هذه الرسالة واتوا بالمرآة. وبالفعل ذهبوا إليها ووجدوها كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا أعطينا الكتاب الذي معك فأنكرت، فقالوا لتؤدِّنّ الكتاب أو نخلع الثياب يهددونها بخلع ثيابها فحلت عقيستها وأخرجت الرسالة وسلمتهم إياها فجاءوا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال لحاطب: ما حملك على ما صنعت؟ فقال والله يا رسول الله ما حملني الرغبة في الكفر أو الرضا بالسوءة لله أو رسوله أو شيئًا من هذا القبيل لكني عذري هو كذا وكذا هو أن أهلي ليس لهم أنصار وعشيرة فأحببت أن أتقربب الى أهل مكة بهذا الخبر حتى يحموا أهلي وعشيرتي فقال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول دعني أضرب عنقه فانه قد نافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعه يا عمر فإن الله اطّلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم. وأنزل الله هذه الآيات في ما صنع حاطب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) يعني يخرجونكم أنتم والرسول (أَنْ تُؤْمِنُوا) أي بسبب إيمانكم بالله ربكم (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي) أي كيف توالونهم وتلقون إليهم بالمودة وأنتم قد خرجتم مجاهدين في سبيل الله ومهاجرين إلى الله؟! قال الله (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ ۚ) ثم بيّن الله عز وجل أنه لا تجوز ولاية الكافر وأنها أمر عظيم عند الله وبيّن أن الأنبياء مجتمعين على هذه فقال جلّ من قائل (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ) يعني قول إبراهيم لأبيه لا تتخذوه فيه قدوة لأن الله قال (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ) إلا في قوله لأبيه لأستغفرنّ لك، لا تتخذوه قدوة، لا تقتدوا بإبراهيم في استغفاره لأبيه لأنه لم يكن يعلم أن أباه من أهل النار. قال الله عز وجل بعد ذلك (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ۚ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).

ثم بيّن الله الفرق بين الكفار، الكفار نوعان: نوع يظهر عداوتنا ويظاهر علينا ونوع لا يبدي لنا عداوة ولا يؤذينا، فالصنف الأول لا يجوز لنا أن نقسط إليهم ولا أن نحسن إليهم بل يجب علينا أن نعاديهم ظاهرًا وباطنًا. والصنف الثاني وهو الذين قال الله فيهم (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) يعني من لم يكن من الكفار مظهرًا العداوة ولم يبدي لنا ما يسوء فإنه يجوز لنا أن نحسن إليه وأن نعامله بالحسنى قال (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ۚ).

ثم ذكر الله امتحان المهاجرات لأنه بعد صلح الحديبية ما يحق للنبي صلى الله عليه وسلم أن يستقبل أحدًا من المسلمين المستضعفين بمكة، فهاجرت بعض النساء فأنزل الله عز وجل فيهنّ هذه الآية وهو أن تُمتحن المرأة فإذا ثبت أنها هاجرت لله وخوفًا على دينها فإنها تقبل ولا يجوز أن تُردّ إلى المشركين فيفتنوها في دينها.

ثم خُتمت السورة بذكر بيعة النساء (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ) وذكر على أي شيء تكون البيعة (علَىٰ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) البهتان هو أن تدّعي ولدًا ليس لها أو تُلحق بزوجها ولدًا ليس له. قال (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ۙ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ولمّا ذكر الله الولاء والبراء والعداوة للكفار ناسب أن يذكر بعده الجهاد لأن الكفار ما بيننا وبينهم إلا القتال ولذلك جاءت سورة الصف.

سورة الصف

قال الله عز وجل (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ) هذه السورة سورة مدنية، كل سور الجزء هذا مدني “المجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقون والطلاق والتغابن والتحريم” كلها مدنية فسورة الصف مدنية ما الذي حصل؟؟ صحابة كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ليتنا نعلم أحب الأعمال إلى الله فنقوم بها فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحب الأعمال إلى الله الجهاد في سبيل الله فنكصوا وخافوا قال الله عز وجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) فذكر أن المقاتلين يقاتلون صفوفا منتظمة والصف لا يشرع في الإسلام إلا في موطنين: في الصلاة وفي الجهاد قال (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ).

ثم ذكر الله اليهود وهو أنهم آذوا موسى عليه الصلاة والسلام ولم يستجيبوا له وزاغوا عن طاعته فأزاغ الله قلوبهم فإياكم أيها المسلمون أن تكونوا مثلهم. ثم ذكر عيسى ابن مريم وأنه قال لأمته (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ). ثم ذكر الله أن الله سيؤيد نبيه وينصر دينه ويُعلي كلمته ويُظهر هذه الملّة على سائر الملل فقال (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ثم قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ( 10)) ما هي التجارة؟؟ الإيمان والجهاد، قال (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ۚ ) ولاحظوا قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس!! (ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إذن هذه تجارة وأعظِم بها من تجارة! ثم ذكر من جزائها أنها خير والثانية (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) سبب مغفرة الذنوب (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) دخول الجنات (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (وأخرى تحبونها) زائدة على وعد الآخرة (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) هذه فوائد التجارة العظيمة مع الله عز وجل وهي: الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله.

ثم ذكّرَنا الله بالحواريين، هذه السورة تُسمى سورة الصف وتسمّى أيضًا سورة الحواريين وذكر بعضهم أنها تٌسمى سورة عيس لأن عيسى مذكور فيها أكثر من مرة، قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ) كونوا أنصار الله وإياكم إذا قيل لكم تعالوا إلى الجهاد نكصتم وتأخرتم ولم تستجيبوا (كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) أيّدنا الذين آمنوا على عدوهم آمنوا بعيسى على عدوهم فأصبحوا ظاهرين إلى يوم القيامة فكل من آمن بعيسى إيمانًا صحيحًا سيبقى ظاهرًا فان قيل النصارى الآن يعني هذه تصدق عليهم؟ قلنا لا، هم لم يؤمنوا به الإيمان الصحيح. فأحق الناس بعيسى هم المسلمون. ولما ذكر الله عز وجل إظهار الدين والملة في الجهاد في سبيل الله ناسب أن يذكر فضل هذه الأمة ومزيتها على سائر الأمم فجاءت سورة الجمعة.

سورة الجمعة

التي افتتحها الله بقوله (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ) لعلكم تلاحظون أن صيغ التسبيح جاءت متعددة سبحان، سبحَ، يسبح، سبِّح لماذا؟ ليقال لك ينبغي أن يكون التسبيح مستوعبًا للأزمان كلها فسبحان في كل زمان، وسبّح في الزمان الماضي ويسبّح الآن وسبِّح للمستقبل ولتكن الحياة كلها تسبيحًا لله وتنزيهًا له عما لا يليق بجلاله وعظمته.

ثم ذكر الله شرف هذه الأمة بماذا شرّفها الله؟ وهو سمّاها سورة الجمعة لأن الأمة تميّزت بيوم الجمعة فقد أضل الله عنه اليهود والنصارى واختص به هذه الأمة الشريفة العظيمة المكرّمة عنده فقال مبينًا شرف هذه الأمة (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) فالله شرّفنا ببعثة هذا النبي العظيم الكريم عليه أفضل السلام وأتم التسليم. ولاحظوا هنا أن لما جاء إلى ما أنزل إلى محمد (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ) فبدأ بالتزكية قبل التعليم لأنها هي المقصودة، ليس المقصود أن نتعلم، المقصود أن هذا العلم يتحول إلى حياة وسلوك ولذلك ذكر الله اليهود فقال (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) عندهم علم اليهود إذا ما مشكلتهم؟ مشكلتهم أنهم لم يعملوا بهذا العلم فأصبحوا كالحمار الذي يحمل فوق رأسه الكتب أو الماء ويموت من العطش. الحمار إذا كان فوق ظهره ماء ولم يجد ماء في الأرض فإنه يموت من العطش يبرك ثم يلهث حتى يموت والماء فوق ظهره

كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ         والماء فوق ظهره محمول

فكذلك الذي عنده علم ولا يعمل به هذا تماما مثل هذا الحمار. ثم ذكر الله عز وجل لليهود ما يدل على كذبهم في دعواهم فقال (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) أنتم تقولون نحن أولياء الله من دون الخلق جميعا تمنوا الموت حتى تدخلوا الجنة وتنتهوا من الدنيا وأعبائها قال الله عز وجل (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) وهذه الآية تسمى آية مباهلة اليهود، آية مباهلة سورة النصارى في سورة آل عمية مباهلة اليهود في سورة الجمعة. (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ) والعجيب أنها صدقت فيهم فلم يُعلم عن أحد من اليهود أنه قال نعم نحن أولياء الله وإنني مستعد أتمنى الموت يا محمد. قال (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بسبب ما قدمت أيديهم (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ) لم يقل يلحقكم، قال ملاقيكم، مهما فررتم سيأتيكم (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

ثم ذكر الله يوم الجمعة الذي شرف الله به هذه الأمة وسُميت به هذه السورة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا) السعي هنا ليس الركض ولكن الاستعداد والتبكير والاهتمام (فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ) وهذه الآية نزلت بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب فجاءت قافلة مُحملة بالمؤن والبضائع فسمع الصحابة صوت الطبول ومجيء القافلة فخرجوا وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده ولم يبقَ معه إلا اثني عشر رجلًا فأنزل الله هذه الآية تهديدًا لهم قال لا تفعلوا ذلك مرة أخرى. (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فالرزق عند الله، ألا ترون أن الإنسان يسعى في طلب الرزق سنين طويلة ولا يعطى إلا القليل مما يدل أن بذل الأسباب في طلب الرزق ليس هو الذي يجلب الرزق، من الذي يجلب الرزق؟ الله ولكن الله عز وجل قد يُنجح لك هذا السبب وقد لا يُنجحه ألا ترى أن بعض المواليد يولدون وهم أغنياء أليس كذلك؟ يُولد ثم يرث مالًا كثيرًا من أبيه وهو لم يسعى فيه ولم يخرج منه نقطة من عرق فالرزق من عند الله عز وجل ولذلك الإنسان لولا أن الله أمره ببذل الأسباب في طلب الرزق ما طلبه، لكنا أمرنا ببذل الأسباب فنحن نبذلها مع علمنا أنه لا رزق يأتي إلا من الله قال النبي صلى الله عليه وسلم “إن الرزق ليطلب المرء أشد من طلب الموت له ” الرزق يطلبك أشد من طلب الموت لك بدليل لو كان لك رزق وأجلك قادم يجب أن يأتي رزقك قبل أن يأتي أجلك لا يمكن أنك تموت وباقي ذرة من رزقك ما وصلت إليك. واسمعوا هذه القصة، هذا رجل سقط في بئر فتنادى الناس وصاحوا فوصل الصياح إلى أهل المسجد ففزع أهل المسجد وذهبوا لينقذوه وأنقذوه، ولما خرج فرحوا جدًا بإنقاذه وحياته وقالوا يا فلان ما الذي حصل لك؟ جاؤوا بالقهوة والتمر فأكل تمرة وشرب فنجان من القهوة قال أنا كنت هنا أريد أن أفعل كذا ويشرح لهم فسقط مرة أخرى فمات، بقي له تمرة وفنجان من القهوة فجيء بالناس كلهم من أجل أن يُدرك ما بقي لهم من رزق فلما أدرك البقية الباقية من رزقه قيل له خلاص استوفيت الكتاب وحصل الأجل سبحان الله!

لما ذكر فضل هذه الأمة بالجهاد وفضلها بما ميزه الله به من هو الذي يغار من هذا الفضل ولا يحبه ويكره لأن يكون لأهل الإسلام أيّ ميزة؟ هم المنافقون أشد الناس كرهًا وبغضًا لأهل الإسلام ولذلك ناسب أن تذكر سورة المنافقون.

سورة المنافقون

فيقال سورة المنافقون وسورة إذا جاءك والسور المبدوءة بـ(إذا) سبع سور (الواقعة، المنافقون، الشمس، الانفطار، الانشراح، الزلزلة، النصر). قال (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) هذه القصة جاءت في غزوة بني المصطلق عندما اختلف اثنان واحد من الأنصار وواحد من المهاجرين فقال الأنصاري يا للأنصار! وقال المهاجري يا للمهاجرين! فثارت بين الحيّين مشكلة فهدّأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن أبيّ والله ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال القائل سمّن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذلّ، يرى أن نفسه هو العزيز وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذليل حاشاه من ذلك، فأنزل الله هذه السورة ففضحتهم أشد فضيحة وذكرت خصالهم وصفاتهم. قال الله عز وجل فيها (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) وقال (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) قال هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنْفَضُّوا ۗ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) قال (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ).

ثم حذّرت في نهاية السورة من الفتنة بالأموال والأولاد كأنه الآن بدأ سياق جديد في التحذير من فتنة الأولاد والأموال من هذه النقطة ستأتي سورة التغابن ثم الطلاق ثم التحريم. قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ) يقال أن الإنسان إذا حضره الموت لا يتمنى إلا أن يعود فيتصدّق، فتصدّق ما دمت في زمن القوة والقدرة والإمهال. يقولون هذا من أدلّ الأدلة على فضل الصدقة أن الإنسان إذا حضره الموت يتمنى أن يُمهل ليتصدق, قال (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) قال بعض الناس ان هذه السورة المنافقون رقمها 63 وهو عمر النبي صلى الله عليه وسلم وخُتمت بقوله (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ثم جاءت سورة التغابن.

سورة التغابن

سورة التغابن هي سورة مدنية على الصحيح ولكنها شبيهة بالسور المكية من حيث الثناء على الله وتسبيحه والأمر بالإيمان بالله وكتابه وإظهار التغابنفي  يوم القيامة. ما هو التغابن ؟ يعني يظهر للناس الغبن الشديد كيف كان عندهم فرص لكي ينالوا أعظم ثمن أو أعظم سلعة وهي الجنة ولما ينالوها فيظهر الغبن الشديد في يوم القيامة. وختمت هذه السورة بقول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) فيمن نزلت هذه الآية؟ نزلت في الصحابة الذين امتنعوا عن الهجرة بسبب أولادهم وأزواجهم فلما فتح الله على رسوله وفاتهم الهجرة مع من هاجر غضبوا على أولادهم وأهليهم وعاتبوهم وكادوا أن يضربوهم فأنزل الله هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) ما هي العداوة؟ العداوة بأنهم يجرونك إلى الدنيا ويؤخرونك عن المراتب العالية والمقامات الشريفة بما يحسنونه لك من القعود ومن طلب الدنيا وإيثارها وغير ذلك فهذه هي عداوتهم وليس عداوة دين. قال (فَاحْذَرُوهُمْ ) إذن ما الحل إذا فعلوا ذلك؟؟ قال (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) احذروا وفي نفس الوقت لا تعاتبوهم لأنهم يفعلون ذلك بمقتضى الطبيعة والجبلّة لا ينفكون عن هذا الأمر، إذن احذروا هذه العداوة وإياكم أن تقعوا في هذا الفخ وإذا حصل منهم شيء من ذلك فقابلوهم بالعفو والصفح والغفران فان الله غفور رحيم (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ ۗ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) ولاحظوا ختمت السورة بالحثّ عل الإنفاق كما ختمت سورة المنافقون وذُكر فيها قضية الزوجة والأولاد لأن أكثر ما يمنع الإنسان عن الإنفاق هو الخوف على الأولاد والأهل من الفقر والعيلة فأنت تمسك ولذلك سمى النبي صلى الله عليه وسلم” مبخلة مجبنة محزنة” ثم جاءت سورة الطلاق.

سورة الطلاق

وتسمى سورة النساء القصرى أو الصغرى والعجيب أن الرجال لم تسمى أي سورة باسمهم والنساء حظين بسورتين من القرآن: سورة النساء الطولى أو الكبرى وسورة النساء القصرى أو الصغرى وأنتم أيها الرجال ما لكم ولا اسم بالنسبة للصنف بينما بالنسبة للأفراد يوجد سورة هود ويونس وإبراهيم ويوسف ونوح ومحمد. افتتحت هذه السورة بما افتتحت به ثلاث سور “يا أيها النبي” وهي سورة الأحزاب والطلاق والتحريم وأيضًا هنالك سورتان افتتحتا بوصف النبي صلى الله عليه وسلم من غير كلمة النبي وهما ( المزمل ، المدثر) فالسور التي افتتحت بنداء النبي صلى الله عليه وسلم خمس سور. هذه السورة سورة الطلاق وتحدثت عن أحكام الطلاق وذكرت آدابه وهددت أن من تجاوز أو تعدى فإنه قد تعدى حدود الله فيوشك أن يقع عليه عذاب الله والعجيب أن الناس يتهاونون في أمر الطلاق تهاونًا شديدًا فيجرونه على أهوائهم ولا يجرونه على مراد الله! تدرون أن الذي يطلق من غير ما يراقب العدة ويُطلّق للعدة أنه يكون آثمًا؟! طلاق بدعي على غير السنة لذلك قال الله عز وجل (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ثم قال (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا) نهاهم الله أن يتعدوا حدود الله وهذا هو السر في كونه في آخر السورة قال (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا(8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ) يعني أن من يخالف أمر الله في واحد من شرائعه حقيقٌ بنزول العذاب عليه كما عذب الله قرى وأقوام سابقين. وفي هذه السورة نلاحظ أنه قد اقترن الأمر بتقوى الله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ) هذا واحد، واثنين (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ) ثلاثة قال (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ) وأربعة (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) ما هو السر في أن التقوى تُذكر مع الطلاق حتى في سورة النساء الكبرى كذلك؟ لأن الطلاق لا بد أن يُتقى فيه الله فقد يطلّق الرجل ويقال ما الذي حملك على الطلاق؟ فيذكر أمرًا في المرأة هي بريئة منه ويصدّقه الناس، أو قد تذكر المرأة في الرجل شيئًأ هو بريء منه لأنها كلها أمور خفية فذُكّر الناس بتقوى الله في الأخذ بحدود الله وإقامة الطلاق على شرع الله في بتقوى الله أيضًا بعد الطلاق (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ) وذلك من طلّق واتقى الله في طلاقه فليُبشر بأن الله سيرزقه خيرًا ممّا أخذ منه وقال في سورة النساء (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ۚ) لاحظتم! بعد ما انتهى من سورة الطلاق جاء إلى سورة التحريم .

سورة التحريم

افتتحت (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) وموضوعها احترام الحياة الزوجية قال الله عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ۚ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) هذه المرأة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أفشت سر رسول الله فعاتبها الله على ذلك كيف تفشين السر؟! هذا من عدم احترام الحياة الزوجية وغضب الله لرسوله وقال (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) تتآمرا عليه فيما فعلتما. وسبب نزول السورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب عسلًا عند زينب فغارت عائشة وحفصة من ذلك فقالتا للنبي صلى الله عليه وسلم نشمّ منك رائحة مغافير وهي رائحة مكروهة فحلَف النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يشرب العسل مرة أخرى فالله عاتبه وقال (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ). ثم عاتبهم الله عز وجل على ذلك فقال (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ثم ذكر الله عز وجل الأمر برعاية الأولاد وتربيتهم فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) وأمر بالتوبة فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا).

وختمت السورة بضرب مثلين للمؤمنات ومثلين للكافرات، امرأة نوح وامرأة لوط للكافرات ومريم بنت عمران وامرأة فرعون للمؤمنات ونسأل الله أن يوفقنا للخير.

https://soundcloud.com/nasser-alusfoor/qydi22inyl4y