مقاصد سور القرآن

مقاصد سور القرآن – سورة الأعراف

مقاصد السور

د. محمد عبد العزيز الخضيري

تفريغ موقع إسلاميات حصريًا

سورة الأعراف

سورة الأعراف هذه السورة الكريمة التي تؤسس للعقيدة في نفس المسلم. هذه السورة هي زاوية أخرى في إقرار هذه العقيدة غير الزاوية التي طرحتها سورة الأنعام. فسورة الأنعام جاءت لتستأصل الشرك عبر الجدال والمناقشة وإبطال جميع مزاعم المشركين، أما سورة الأعراف فقد جاءت لإقرار التوحيد ومنابذة الشرك وبيان أهمية الاعتقاد من خلال العرض التاريخي فهي سورة تستعرض تاريخ البشرية كلها منذ أن خلق الله آدم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولذلك نجد أنه في أول السورة يقول ربنا سبحانه وتعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴿١١﴾ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴿١٢﴾) تُذكر قضية إبليس وكبره فإنه أبى أن يسجد وكيف أن الله سبحانه وتعالى طرده وأبعده، من هنا بدأ الضلال. ثم كيف أن إبليس أثّر على أبينا آدم ووسوس له حتى أخرجه من الجنة عندما زيّن له الأكل من الشجرة، من هنا بدأت الغواية لبني آدم واستمرت السورة تتحدث عن هذا الأمر إلى أن ذكرت الزاوية الأخرى للتاريخ، ذاك تاريخ متقدم في الأزل وهذا تاريخ سيأتي، ذاك التاريخ الأول لا نعرفه لولا أن القرآن حدثنا عنه وأيضًا ذلك التاريخ الذي سيأتي لا نعرفه لولا أن القرآن حدثنا عنه. يقول الله عز وجلّ في أول السورة بدأ بأول التاريخ وآخر التاريخ فقال جلّ وعلا (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴿٣٧﴾) يناقشهم في أمر الشرك في أول مدارج القيامة ثم يبدأ الحوار (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿٣٨﴾ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴿٣٩﴾). ثم يذكر مصير هؤلاء وهؤلاء في النار حتى يأتي إلى ذكر الفريقين وهما في النار ويذكر أن الناس سينقسمون في الجزاء إلى قسمين لا ثالث لهم، القسم الأول أهل اليمين الذين أطاعوا الله عز وجلّ واتبعوا المرسلين والقسم الثاني وهم أهل الشمال وهم الذين أعرضوا عن دعوة المرسلين ولم يؤمنوا بالله رب العالمين وذكر في هذه السورة أنه سينصب سور بين جهنم وبين الجنة وهذا السور يسمى الأعراف وأنه سيبقى عليه رجال كما قال سبحانه وتعالى (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴿٤٦﴾) أي يطمعون في دخولها ومآلهم أنهم سيؤولون إلى الجنة لكنهم قوم حصلت منهم سيئات منعت من دخولهم الجنة فيُجعلون على هذا السور حتى يقضي الله عز وجلّ فيهم (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿٤٧﴾ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴿٤٨﴾ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ﴿٤٩﴾).

إذن بدأ بالتاريخ الأول وثنّى بالتاريخ النهائي ثم بدأ بالتاريخ البشري الذي وقع على أرض الواقع على هذه البسيطة فبدأ بأبينا نوح عليه السلام أبو البشرية الثاني قال الله عز وجلّ (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿٥٩﴾) انظروا إلى هذا العرض اليسير الهادئ لهذه العقيدة بكل وضوح وبأدلة لا تقبل الرد (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) هل عندكم إله غير هذا الإله الذي خلقكم وأوجدكم من العدم؟ كيف تعبدون أحدا سواه؟! ثم يخوفهم (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) فكيف يكون الرد؟ لا يمكن أن يكون رد المشركين موضوعيًا، كان يمكن أن يقولوا لا، تعال يا نوح أنت ما عرفت الحقيقة، هذه الآلهة التي نعبدها آلهة ألا تراها تخلق، ألا تراها ترزق؟ يسكتون عن هذا كله ويلجأون إلى السباب والشتم والقذف (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿٦٠﴾ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ) كان يمكن أن يقول نوح في تلك اللحظة: أنا الضالّ؟! بل أنتم الضالون لا، (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٦١﴾ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿٦٢﴾) نوح فقط؟ لا، وإنما هود أيضًا (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿٦٥﴾ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴿٦٦﴾ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ) كان المتوقع أن هودًا يقول: أنتم السفهاء، لا، ترفَّع عن الكلمات السافلة التي لا تليق بالأنبياء ذووي الأخلاق العالي الرفيعة. ثم جاءت قصة صالح عليه السلام ثم جاءت قصة لوط ثم جاءت قصة شعيب ولما انتهت قصة شعيب عقّب الله عز وجلّ عليها بتعقيبات عظيمة تحتاج إلى وقفات طويلة لكن المقام لا يسمح بذلك. ثم بدأن قصة موسى وقصة موسى جاءت على فصلين: الأول ذكر قصة موسى مع فرعون، كيف قابل فرعون دعوة موسى بكل صلف واستكبار وأن موسى قد أقام الحجة على فرعون وجعل الله له هذه الآية العجيبة العظيمة اليد والعصى وأنه قد جُمع الناس يوم الزينة جمعًا عظيمًا وجاء فرعون بالسحرة الكثيرين جدًا من أجل أن ينصروا هذه المبادئ السافلة التي كان ينادي بها ويدعو لها وحصلت الغلبة لموسى وآمن السحرة  وأُسقط في يد فرعون، ماذا كانت النتيجة؟ هل قال فرعون الحمد لله الذي هدانا للحق وعرفنا أن موسى قد جاء بالبينات من الله، لا، قال (قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿١٢٣﴾ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿١٢٤﴾ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ﴿١٢٥﴾) الحقيقة أن إيمان السحرة هو ترغيب لأولئك الذين استنكفوا عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في أن يؤمنوا بها وهم أهل مكة، افعلوا ما فعل هؤلاء، قد بانت لكم الحجة وظهرت لكم الآية فكيف تستنكفون عن الإيمان؟! ومع أن هؤلاء السحرة قد لقوا حتفهم في نفس اليوم الذي آمنوا فيه فقُتلوا جميعًا عن بكرة أبيهم ولم يبقِ فرعون منهم أحدا إلا أنهم ثبتوا على إيمانهم (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿١٢٨﴾)

ثم تنتقل السورة إلى بني إسرائيل وتبين كيف أن الله عز وجلّ أورثهم الأرض قال الله جلّ وعلا (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ﴿١٣٧﴾) من هنا بدأ الفصل الثاني من قصة موسى وهي قصة موسى مع بني إسرائيل كيف أن الله أنقذهم وتفضل عليهم وفضّلهم على العالمين ولكنهم ما فهموا التوحيدالذي جاءت به الرسل، أول موقف حصل منهم بعد أن نجوا من فرعون (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴿١٣٨﴾ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿١٣٩﴾) وحصلت بين موسى وبين قومه أمورا كثيرة من بينها أن قومه وقعوا في الشرك وعبدوا العجل، قال الله عز وجلّ (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ﴿١٤٨﴾) ولكنهم تابوا وأراد الله سبحانه وتعالى بهم خيرًا فتاب عليهم (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿١٤٩﴾). وما زالت الآيات تتحدث عن بني إسرائيل إلى أن عادت مرة أخرى لتبين من أين يأتي الشرك؟ الشرك يأتي من إبليس. لاحظوا أن هذه القصص قد أوضحت حقيقة دعوة الأنبياء وأنهم جاؤوا لتقرير التوحيد ومنابذة الشرك ودعوة الناس إلى الله سبحانه وتعالى. هذه السورة وهي تقرر هذه الحقائق من خلال هذه القصص: قصة الخليقة منذ بدئها وقصة الخليقة بعد انتهاء الدنيا وقصة الأمم مع أنبيائهم كيف أن الله عز وجلّ يرسل لهم أنبيا يدعونهم إلى حق واضح ولكنهم يقابلون هذا الحق بصلف واستكبار فتحل بهم عقوبة الله فانتبهوا أيها المشركون، انتبهوا يا أهل مكة أن يحل بكم ما حل بأولئك الأقوام.

نلاحظ في هذه المسيرة كلها أن السورة تركز على أسباب الضلال، ما هي الأسباب التي توقع الإنسان في الإنحراف ولو عدنا إلى أول السورة لوجدنا أن السورة تكاد تكون جمعت كل أسباب الإنحراف التي تكون سببًا لخروج الإنسان عن الجادة.

أول سبب من اسباب الإنحراف الكبر وهذا في قصة إبليس (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴿١٢﴾ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا) هذا كبر! ولذلك هذه السورة مختصة بمعالجة الكبر وذمّ المتكبرين وبيان جزائهم وأنه أعظم أسباب انحراف الخلق عن الحق. نؤكد ذلك أن هذه السورة أول سورة فيها سجدة والسجود يعني القضاء على الكبر وآخرها يقول الله عز وجلّ فيه (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴿٢٠٥﴾ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) لا تكونوا كإبليس استكبر فأضلّه الله (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) السجود ضد الكبر. ولذلك إذا سجد ابن آدم انخذل إبليس يبكي ويقول يا ويله ابن آدم أمر بالسجود فسجد وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار! هذا السبب الأول.

السبب الثاني من أسباب الضلال الشيطان وهذا وقع فيه أبونا آدم، فاحذروا من الشيطان فقصة الشيطان هي أول قصة ذُكرت في القرآن وهي آخر قضية ذكرت في القرآن، أول قصة ذكرت في القرآن (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 30] ثم جاءت قصة أبينا آدم مع إبليس (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿٣٤﴾ البقرة) هذه قصة الشيطان، وما زال الشيطان بأبينا آدم حتى أوقعه في الزلّة التي بسببها أُهبط من الجنّة. وآخر سورة في القرآن (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴿١﴾ مَلِكِ النَّاسِ ﴿٢﴾ إِلَهِ النَّاسِ ﴿٣﴾ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴿٤﴾ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴿٥﴾ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴿٦﴾) فلنحذر من الشيطان فهذا من أعظم أسباب الإنحراف، ولذلك يقول تعالى (يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا).

أيضًا من أسباب الإنحراف متابعة الآباء (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) هذان سببان: الأول تقليد الآباء واتباعهم والثاني الافتراء على الله، (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) أين أمركم الله؟ في التوراة؟ في الإنجيل؟ في القرآن؟ من الذي قال لكم أن الله أمركم بالشكر أو أمركم بالفاحشة (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿٢٨﴾) ولذلك يؤكد على الافتراء على الله بقوله (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿٣٣﴾)

ومن أسباب الشرك مسايرة البيئة والمشي مع الناس كيف وجدت الناس يفعلون أفعل مثلهم، لا، كُن صاحب عقل وصاحب نظر وتقوى لله متى بان لك الحق اتّبعه وهذا يبينه الله في قوله (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿٣٨﴾ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) نحن أمرناكم وأنتم أطعتم، لو شئتم ما أطعتم ولا ما صرتم معنا في النار (فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) هذا سبب عظيم من أسباب الضلال.

وتستمر الآيات تذكر أسباب الضلال إلى أن تأتي إلى سبب عظيم من أسباب الضلال وهو حب الدنيا وهذا ذُكر في قصة بني إسرائيل أنهم أحبوا الدنيا فجعل الله حبهم  للدنيا سببًا من أسباب ضلالهم قال الله عز وجلّ (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا) جعل الله السمك يأتي يوم السبت فوق ظهر الماء شرّعًا من شدة البلاء ليبتليهم الله عز وجلّ، فماذا فعلوا؟ احتالوا على الله، نصبوا الشباك يوم الجمعة وأخذوها ملآى بالسمك يوم الأحد وقالوا ما صدنا يوم السبت اليوم الذي حُرّم عليهم أن يصطادوا فيه فأنزل الله بهم عقوبته البالغة قال الله عز وجلّ مبينًأ ما حصل لهم (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴿١٦٥﴾ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴿١٦٦﴾). وانظر إلى حب الدنيا كيف يوقع الناس في الهلاك قال الله عز وجلّ (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) هذا في حق الحُكام الذين يحيفون في الحكم ويجورون على الخلق بسبب شيء من الدنيا يأخذونه من أحد الخصمين، قال الله عز وجلّ (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ). وذكر الله نموذجًا أيضًا للذين أحبوا الدنيا فقالوا على الله يغير علم وحكموا بغير الحق وأضلوا الخلق وهذا في صنف العلماء، قال الله عز وجلّ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴿١٧٥﴾ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) اتبع الدنيا التي يهواها، قال الله عز وجلّ (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) مثّله بالكلب لأن الكلب في حالة الركض والجري يلهث وفي حالة البقاء جالسًا يلهث من شدة تعلقه باللهاث فكذلك هذا الذي آثر الدنيا تجده يلهث عليها، إن قال بالحق وإن قال بالبطل يريد الدنيا حتى لو قال كلمة الحق يريد الدنيا وإن لم يقل الحق يأتي بالدنيا فإنه يقول الباطل ولا مانع عنده، ولذلك قال الله عز وجلّ مهددًا ومتوعدًا كل أحد من هؤلاء الذين الذين يتبعون هذا الباطل وينحرفون عن الحق (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴿١٧٩﴾).

فهذه السورة متخصصة في ذكر أسباب الغواية والإنحراف عن الحق وختمت بهذا السبب قال الله عز وجلّ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴿١٨٩﴾) إلى هذه المرحلة وهما على التوحيد (فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا) جاءهما إبليس فقال سمياه عبد الحارث ولا تسمياه عبد الله فأطاعا إبليس قال (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿١٩٠﴾ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴿١٩١﴾ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ﴿١٩٢﴾ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ﴿١٩٣﴾)

ثم تلخص هذه السورة العظيمة ما هو المخرج من الشرك وما هو المخرج والمنقذ من أسباب الضلالة والغواية، المخرج من هذا كله باتباع هذا الكتاب والأخذ به وعدم ترك شيء منه والاعتصام بحبل الله الذي جعله الله بين عباده ولذلك جاء التذكير بأمر هذا الكتاب في أول السورة وفي آخرها، ففي أولها قال الله عز وجلّ (المص ﴿١﴾ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿٢﴾ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴿٣﴾) وفي آخرها قال الله عز وجلّ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴿٢٠١﴾ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ﴿٢٠٢﴾ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿٢٠٣﴾ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿٢٠٤﴾) فهو يرشدنا إلى المخرج من هذه الفتن كلها ومن هذا الضلال وأسباب الإنحراف كلها للعود إلى القرآن، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل القرآن حقًا وصدقًا وأن يجعلنا ممن ينال بركة هذا القرآن واتباعه في الدنيا وشفاعته في الآخرة.

 

https://soundcloud.com/nasser-alusfoor/gh6svi4qbkzs