مقاصد سور القرآن

مقاصد سور القرآن – سورة النحل

مقاصد السور

د. محمد عبد العزيز الخضيري

تفريغ موقع إسلاميات حصريًا

سورة النحل

سورة النحل، وهذه السورة الكريمة سميت بالنحل إشارة إلى نعمة عظيمة من نعم الله على عباده وأثر من آثار قدرته يُستدل به على توحيده سبحانه وتعالى، فمن الذي سخّر هذه النحلة وهي حشرة لطيفة لتعمل بجدّ وذكاء وطرق عجيبة لكي تنتج هذا العسل الذي جعله الله عز وجلّ لذة وغذاء وحلوى وسلوى وشفاء للناس؟ ألا تعتبرون! من الذي سخّر هذه النحلة كي تجري في أودية طويلة جدا ثم تعود إلى مكانها ومن الذي يهديها؟ هل هناك أحد سوى الله؟ ما الذي يجعلكم تعبدون مع الله أحد سواه؟!

السورة جاءت لترسيخ العقيدة من خلال التذكير بنعم الله تعالى على عباده ولذلك سماها كثير من السلف سورة النعم. وهي سورة جاءت لترسخ الاعتقاد في قلوب المؤمنين تدعوهم إلى الله وإلى توحيده والخوف منه وإفراده بالعبادة والإيمان باليوم الآخر وخشية لقاء الله سبحانه وتعالى والدعوة إلى الإيمان بهذا الكتاب وبهذا النبي وبيان اتحاد منهج الرسل وأنهم جميعًا جاؤوا بدعوة واحدة (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴿٣٦﴾). هذه السورة مناسبة للسورة التي قبلها فإن السورة التي قبلها أيضا جاءت للدعوة إلى عبادة الله وتوحيده لكن ذكر فيها التهديد والوعيد وبيان عقوبة الله للمكذبين في الدنيا والآخرة وختمت سورة الحجر بقول الله (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴿٩٩﴾ الحجر) واليقين الموت فكانت مقدمة سورة النحل (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) مناسبة لخاتمة سورة الحجر لأن هذه في ذكر الآخرة كما أن تلك في ذكر الآخرة.

(أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿١﴾ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ) أي بالوحي (مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) ماذا يراد منهم؟ (أ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) ثم بيّن قدرته ونعمته على عباده (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿٣﴾) ثم بدأ بالنعم.

أول ما بدأ بالنعم الأصلية التي لا يمكن تصور الحياة من دونها (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ﴿٤﴾) يجادل الله ويجادل رسل الله ويأبى عن الإيمان ويجادل بغير علم بل بجهل مركّب يأتي بالعظم ويفته أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول يا محمد هل يستطيع ربك أن يعيد هذا حيّا بعد أن صار رميمًا؟! ولذلك قال في سورة يس (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴿٧٨﴾ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴿٧٩﴾ يس) عجيب! تثبتون أن الذي خلق الإنسان هو الله وخلقه من عدم وتنفون عنه القدرة في أن يعيده مرة أخرى (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَن عَلَيْهِ) [الروم: 27] وهذا من خصومة الإنسان فالإنسان فيه طبيعة اللدد والجدل والخصومة من غير حاجة إلى ذلك بينما الحق واضح أبلج لا يمكن أن يقابل بمثل هذه التفاهات.

(وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا) الله سبحانه وتعالى خلقها لنا وسخّرها لنا من أجل أن نعرف فضل الله علينا ونسخّر هذه النعم في طاعة ربنا (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿٥﴾ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴿٦﴾ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴿٧﴾) وبعدما ذكر الأنعام التي هي الماعز والبقر والإبل ذكر ما سواها مما سُخّر للإنسان فقال (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿٨﴾ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٩﴾).

بعد ما انتهى من نعمة الأنعام انتقل إلى نعمة المطر الذي لا يمكن أن تتصور الحياة من دونه فهو نعمة أصلية عظيمة ولذلك قال (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴿١٠﴾ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿١١﴾) يستدلون بهذه النعم على الله وعلى أنه هو وحده الذي يجب أن يُعبد دون سواه (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿١٢﴾ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴿١٣﴾ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿١٤﴾ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) الجبال نعمة من نعم الله لو كانت غير موجودة لأصبحنا في أرض تهتز بنا طيلة الوقت لا نستطيع أن نعمُر ولا نستطيع أن نمشي ولا نستطيع أن نسير عليها ولا أن نصنع فيها شيئا لأنها تميد وتهتز فجعل الله فيها هذه الجبال فترسّيها فلا نشعر بشيء، الأرض كرة سابحة في الفضاء انظروا إلى ثباتها ولو أذن الله عز وجلّ لها أن تهتز تسقط بيوتها على رؤوس أهلها فيموتون عن بكرة أبيهم. (وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿١٥﴾ وَعَلَامَاتٍ) جعلها الله في كل شيء، تجد جبلا أسود، أرض بيضاء، هذه علامات (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ). ثم يأتي بالاستدلال بهذا كله على شيء واحد (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿١٧﴾ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿١٨﴾ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴿١٩﴾ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴿٢٠﴾ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴿٢١﴾) وتستمر الآيات في ذكر قضايا الاعتقاد التي قُدّم لها بهذه المقدمة العظيمة وهي ذكر نعم الله على العباد. استمرت الآيات في هذا إلى أن جاء التهديد في نهاية الثُمن الثاني قال الله عز وجلّ (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿٤٣﴾ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴿٤٤﴾ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ﴿٤٥﴾ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴿٤٦﴾ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) على تنقّص شيئا فشيئا (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)

ثم تعود مرة ثانية إلى التذكير بالنعم قال الله عز وجلّ (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) ولكنكم مع الأسف لا توحّدون إلا في حال الشدة قال (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴿٥٣﴾ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴿٥٤﴾ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿٥٥﴾) ثم يذكّرهم الله بشيء من افترائهم عليه (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا) يقولون هذا لآلهتنا وهذا لربنا (مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ﴿٥٦﴾ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ) يقولون الملائكة بنات الله (سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ) هم يكرهون البنات ومع ذلك يجعلونهنّ لله (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ﴿٥٨﴾ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ) ومع ذلك يدّعون أن الملائكة بنات الله تعالى الله عنما يقولون علوا كبيرا! قال الله عز وجلّ (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ﴿٦٢﴾)

ثم تستمر الآيات وتعود مرة أخرى إلى النعم وهذه السورة كلها سورة النعم من أولها لآخرها (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴿٦٥﴾ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) هذا اللبن الذي يخرج أبيض صافيًا نقيًا لذيذًا يخرج من بين فرث ودم، كل العالم ما كانوا يعلمون أن هذا اللبن الأبيض الصافي النقي الطيب يخرج من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين، ألا تستدلون بهذا على فضل الله عليكم وعلى نعمته وعلى قدرته فتعبدونه وحده دون من سواه! كيف تقابلون الله بمثل هذا وهو يسخّر لكم مثل هذا التسخير؟! قال العلماء لا يمكن أن يشرق الإنسان باللبن لأن الله قال (لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ) قد تجد الإنسان يشرق بالماء لكنه لا يشرق باللبن. قال (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) تتخذون من ثمر النخيل والأعناب ما يكون به السكر أي الخمر كما كانت العرب تفعل وهذه أول آية أشير فيها إلى الخمر ولكن لما أشار إليها جعلها قسيمة للرزق الحسن (سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) فدلّ على أنها ليس من الرزق الحسن (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴿٦٨﴾) ثلاثة مواقع تتخذ النحل منها النحل بيوتها إما في الجبال وإما في الشجر وإما في العروش التي يصنع الناس لها وأعلى وأزكى وأطيب العسل ما كان جبليًا ثم ما كان شجريًا ثم ما كان عرشيًا جاءت مرتبة على ترتيب الآية. قال الله عز وجلّ (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) يقولون النحلة قد تمشي 6 كيلومتر مبتعدة عن بيتها ثم تعود إليه لا تخطئه ولو كان في المكان مئة ألف بيت للنحل ما رجعت إلا إلى بيتها، من الذي يهديها؟ من الذي يدلّها؟ من الذي هداها لكي تفعل هذا الفعل وتُخرج هذا العسل الصافي الحلو الرائع الشفاء. قال الله عز وجلّ  (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴿٧٠﴾ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴿٧١﴾ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ).

ثم ذكر الله عز وجلّ مثلين لهؤلاء الذين يشركون مع الله غيره فقال (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٧٥﴾) هذا مثل لله ولهذه الأصنام فالأصنام لا  تتصرف ولا تصنع شيئا ولا تنفع ولا تدفع ولا ترفع ولا تضر والله عز وجلّ يخلق ويدبر ويأمر وينهى ويفعل كل شيء فكيف تسوون الله القادر على كل شيء المنعم المتفضل بهذه الأصنام التي لا تصنع شيئا؟! (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿٧٦﴾).

ثم يعود مرة ثانية إلى النعم فيقول (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿٧٨﴾) ثم يعود أيضًا إلى النعم (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿٧٩﴾) ثم يذكر أيضًا أشياء من النعم (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ﴿٨٠﴾ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ) أي ألبسة (تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) حاجة الإنسان للباس في الوقاية من الحرّ أكثر أو في الوقاية من البرد أكثر؟ البرد، فلماذا قال (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ولم يقل سرابيل تقيكم البرد علما أن حاجة الإنسان للوقاية من البرد أشد وأعظم؟ ذكر البرد لما كان أصليًا ذكره مع النعم الأصلية في أول السورة (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ) وهنا يذكر النعم المكمّلة فهنا ذكر الحر ولم يذكر البرد لأنه تقدم في أول السورة (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ) فذكر الدفء وليس هنا حاجة أن يذكره في هذا الموطن. (كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴿٨١﴾ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿٨٢﴾ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ﴿٨٣﴾). وتستمر الآيات في ذكر النعم وفي عتاب هؤلاء على كفرهم بنعم الله عز وجلّ إلى أن تصل إلى قول الله عز وجلّ في الآية 112 (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴿١١٢﴾) ما من أمة أنعم الله عليها فلم تستعمل نعمة الله في طاعته إلا بدّل الله عز وجلّ تلك النعمة عليها عذابًا وبؤسًا وبلاء آية من آيات الله وقانون من قوانين الكون وسنّة من سنن الله التي لا تتخلف لذلك قال الله عز وجلّ (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴿١١٤﴾) وحذّرنا من أن نقول على الله بغير علم (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ).

ثم لما ذكر إبراهيم مذكرا إياهم بأصل العقيدة وأصل الملة، قال: هذا إبراهيم الذي تنتسبون إليه يا مشركي مكة (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) جامعًا لخصال الخير (قَانِتًا لِلَّهِ) وليس لغيره (حَنِيفًا) مائلًا عن الشرك (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ما أشرك مع الله غيره ولا لحظة واحدة من حياته ومن صفاته: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ) وجاءت هذه الصفة في هذه السورة لأن هذه السورة جاءت في شكر النعم (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿١٢١﴾ وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴿١٢٢﴾ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿١٢٣﴾) قبل قليل (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) للتأكيد أن إبراهيم لم يشرك ولا لحظة حتى قبل النبوة (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ) [الأنبياء: 51] من قبل أن نوحي إليه فإبراهيم لم يتلوث بشيء من الشرك في ذرة من ذرات عمره عليه الصلاة والسلام ولذلك فاستحق مرتبة الخُلّة من الرحمن.

ثم قال (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) جاءت (ادع) أن يا محمد تذكير العباد بالنعم ودعوتهم من خلال النعم إلى التوحيد يعتبر نوعًا من أنواع الحكمة فاسلك هذا الطريق الذي سلكناه في إقناع قومك بالتوحيد وردّهم إلى الله عز وجلّ ولذلك يا محمد إذا قرأت هذه السورة فاعلم أنها دعوة من الله لعباده بالحكمة فاسلك أنت الطريق ذاته (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿١٢٥﴾ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴿١٢٦﴾ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) من سورة هود ونحن في موضوع الصبر، كل سورة تؤكد وتبين أهمية الصبر لأن هذه السور نزلت في وقت اشتد فيه البلاء على محمد صلى الله عليه وسلم لكن إياك أن يكون صبرك تجلّدًا أو لإظهار القوة أو لئلا يشمت بك الأعداء، لا، اِجعله لله واجعله من الله أيضًا استعن بالله في ثباتك على الصبر (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴿١٢٧﴾ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴿١٢٨﴾).

 

https://soundcloud.com/nasser-alusfoor/onu7du7l1cld