مقاصد السور
د. محمد عبد العزيز الخضيري
تفريغ موقع إسلاميات حصريًا
سورة مريم وطه
هذا تعريف يسير بسورة مريم. في سورة الكهف بيّنا أن هذه السورة اشتملت على قصص عجيبة ومن ضمن هذه القصص العجيبة قصة أصحاب الكهف وقصة موسى مع الخضر واستمرت هذه القصص العجيبة أيضًا في سورة حيث ذكر الله عز وجلّ قصة رزق الله عز وجلّ لزكريا بابنه يحيى كيف أن الله جاء له بيحيى بعد عقم طويل وأن الله سبحانه وتعالى أكرمه فأجاب دعاءه. ومن القصص العجيبة فيها قصة مريم حيث إن الله عز وجلّ بمنّه وكرمه رزقها عيسى من غير زوج ثم رفع عنها بلاء التهمة والفرية التي يمكن أن تُفترى عليها بأن أنطق عيسى عليه السلام وهو صبي في المهد.
سورة مريم هي السورة الوحيدة التي سميت فيها سورة باسم امرأة فهي سورة مريم. وهذا الاسم يوحي بأن السورة فيها شيء مما تتصف به النساء وهو الرحمة ولذلك تكرر ذكر الرحمة في هذه السورة ومشتقاته واسم الرحمن قريبا من 16 مرة وافتتحت بقول الله عز وجلّ (كهيعص ﴿١﴾ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ﴿٢﴾) فقال بعض العلماء أن هذه السورة يبين الله فيها كيف يدرك الإنسان رحمة الله على عبيده الذين اختصوا بالعبادة والذين حققوا العبودية لله رب العالمين. فهو يقول هنا (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) ما قال زكريا وإنما قال عبده زكريا ليبين لك أن من اتصف بالعبودية فهو حقيق بنزول الرحمة عليه، فهذا زكريا كان عابدا لله عز وجلّ وهو من أنبياء الله لما رأى ما يحدث لمريم وهي في المحراب أن الله يرزقها رزق الشتاء في الصيف ورزق الصيف في الشتاء (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿٣٧﴾ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴿٣٨﴾ آل عمران) فزكريا تنبّه لعظمة القدرة الإلهية والرحمة الربانية فدعا الله عز وجلّ قائلًا كما قال الله (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴿٣﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴿٤﴾ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ﴿٥﴾ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ) ما سأل ولدًا فقط وإنما ولدًا صالحًا زاكيًا وحاملًا للنبوة. قال الله عز وجلّ (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ﴿٧﴾) ولما أُجيب استغرب زكريا الإجابة بطبعه البشري (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ﴿٨﴾) كيف سيحدث هذا الغلام؟! فالله عز وجلّ بيّن له أن هذا الأمر هيّن عليه قال (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴿٩﴾) إذا كنت خلقتك من العدم ومن لا شيء فلأن أوجِد لك ابنًا أيسر بكثير من هذا الذي كان معك أنت. ثم ذكر الله عز وجلّ أن الابن سار على شاكلة أبيه كما قال الله عز وجلّ (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴿١٢﴾ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) رحمة (وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ﴿١٣﴾ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ) والبر من الرحمة (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) وهذا ضد الرحمة.
ثم ذكر الله مريم (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ﴿١٦﴾ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴿١٧﴾) وهو جبريل عليه السلام (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ﴿١٨﴾) ما قالت بالله كأنها تتوسل برحمة الله في أن يعصمها الله من أن يأتيها أحد في الحرام (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ﴿١٨﴾ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴿١٩﴾) واستمرت قصتها حتى أنقذها الله عز وجلّ بإنطاق ابنها وهذا من رحمة الله عز وجلّ بها لأن الله قال لها (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴿٢٦﴾) لا تتكلمي مع أحد لأن الله سيتولى بنفسه الدفاع عنك (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ﴿٢٧﴾ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴿٢٨﴾ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ﴿٢٩﴾ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ﴿٣٠﴾ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴿٣١﴾ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي) وهذا من الرحمة (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴿٣٢﴾ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴿٣٣﴾).
ثم انتقلت إلى قصة إبراهيم وبيّنت كيف أن الله عز وجلّ رحمه بقيامه بأمر الله ودعا إلى الله عز وجلّ وكان أول من وجه إليه الدعوة أباه وكان مما قال له (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ﴿٤١﴾ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴿٤٢﴾ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ﴿٤٣﴾ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ﴿٤٤﴾ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴿٤٥﴾) وبيّن الله أن الأب كان قاسيًا شديدًا وليس في قلبه شيء من الرحمة (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴿٤٦﴾) فيقول له إبراهيم (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ﴿٤٧﴾ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴿٤٨﴾ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) رحمه الله، كيف كانت الرحمة؟ وهب له اسحق ومن بعد اسحق يعقوب وكلًا منهما جعله الله نبيًا وجعل الله النبوة من بعد إبراهيم في ذرية إبراهيم وحده، ما نبي بعث بعد إبراهيم إلا وهو من ذرية إبراهيم بسبب أن إبراهيم ثبت على التوحيد ودعا إليه وهجر وهاجر من قومه بسبب التوحيد فالله عز وجلّ أخلفه بأن جعل ذريته فيهم الأنبياء.
وذكر موسى عليه السلام كيف أن الله عز وجلّ رحمه بأن جعل معه أخاه هارون نبيا. واستمرت السورة تذكر ألوانًا من رحمة الله لأولئك الخاصين من عباد الله عز وجلّ ولما انتهت منهم قال الله عز وجلّ (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ۩﴿٥٨﴾)
ثم ذكرت أولئك الذين لم يتعرضوا لرحمة الله بسبب كفرهم وسوء أعمالهم (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴿٥٩﴾)
ثم ذكرت المستجيبين لأمر الله من عموم المؤمنين (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ﴿٦٠﴾ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ﴿٦١﴾)
واستمرت السورة تتحدث عن أولئك المعرضين وحججهم وشدة إعراضهم إلى أن وصلت إلى قول الله عز وجلّ (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ﴿٨٨﴾ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ﴿٨٩﴾ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ﴿٩٠﴾ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ﴿٩١﴾ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ﴿٩٢﴾)
ثم خُتمت بقول الله (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴿٩٦﴾) فإذا أردتم أن يجعل الله لكم محبة في السماء وفي الأرض فعليكم بالإيمان والعمل الصالح.
سورة طه
ثم ننتقل بعد ذلك إلى سورة طه التي ذكرت أهم ما يجعل الإنسان شقيًا في الدنيا وأهم ما يرفع عنه الشقاء في الدنيا. فأعظم ما يجعلك شقيًا في الدنيا إعراضك عن الله وعن وجيه وعن كتابه وهذا ذُكر في آخر السورة (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴿١٢٤﴾ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ﴿١٢٥﴾ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴿١٢٦﴾ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴿١٢٧﴾) فالشقاء والنكد والضرّ والبلاء في النفس وفي مفهوم هذه الحياة يكون لأولئك الذين أعرضوا عن منهج الله وعن كتابه ووحيه ولذلك افتتحت السورة بقوله (طه ﴿١﴾ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى ﴿٢﴾) القرآن ما نزل عليك يا محمد ليشقيك بل ليسعدك وليرسم لك منهجًا واضحا تعرف به لماذا خُلقت؟ من هو خالقك؟ ما الذي يجب عليك؟ إلى أيّ شيء أنت قادم؟ ما الذي ينتظرك؟ ما هو جزاء المؤمنين؟ ما هو جزاء الكافرين؟ (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴿٣﴾ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا ﴿٤﴾ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴿٥﴾) إلى آخر هذه المقدمات.
ثم ذكرت قصة موسى عليه الصلاة والسلام، ذكرت قصتين: الأولى قصة موسى وبينت كيف أن موسى أوحى الله له بهذا الوحي العظيم وبيّن أنه يجب عليه أن يقوم بالدعوة إلى ما هداه الله إليه من النبوة ومن الوحي وأن عليه أن يكون رفيقًا في عرض دعوته حتى على أشد الناس شقاء وأعظمهم إعراضًا قال الله عز وجلّ (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ﴿٤٢﴾) لا تقصّرا في كثرة الذكر وقال لهما قبل ذلك لما دعا موسى (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴿٢٥﴾ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴿٢٦﴾ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ﴿٢٧﴾ يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴿٢٨﴾ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ﴿٢٩﴾ هَارُونَ أَخِي ﴿٣٠﴾ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ﴿٣١﴾ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴿٣٢﴾ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ﴿٣٣﴾ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ﴿٣٤﴾) فالتعلّق بالله وذكره والصلة بكتابه هو الذي يحجب الإنسان بإذن الله عز وجلّ عن الشقاء حتى لو نزل عليه البلاء لا يصيبه الشقاء.
هنا يقول الله عز وجلّ لموسى عليه الصلاة والسلام (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ﴿٤٢﴾ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴿٤٣﴾ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴿٤٤﴾) يبيّن له ربه كيف يقدّم هذا الخير لعباد الله حتى طريقة تقديم الدعوة لهؤلاء الناس تكون برفق ورحمة ولين ولا تكون بشدة ولا بعنف ولا بسوء ولا بغلظة وقدّم الدعوة (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴿٤٧﴾). ثم حصل أن فرعون اشتد في معارضة ومناكدة موسى عليه السلام (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ﴿٥٧﴾ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ﴿٥٨﴾) وحصل الاجتماع وصارت المناظرة التي أظهر الله فيها نبيه موسى إظهارًا عجيبًا حتى إن الذي كانوا يقومون بالسحر هم الذين آمنوا في ذلك اليوم (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴿٧٠﴾ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴿٧١﴾ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿٧٢﴾ إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴿٧٣﴾) يريد أن يعذبهم فلما امتلأت قلوبهم بالإيمان ما نظروا إلى تهديده ولا إلى وعيده أي نظرة ولا بالوا بها لأن قلوبهم امتلأت بالإيمان الذي إذا وقر في القلوب لم يبالي الإنسان ما وقع على الأبدان من البلاء ولن يؤثر فيها شيئا (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿٧٢﴾ إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴿٧٣﴾ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا ﴿٧٤﴾ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا ﴿٧٥﴾ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ﴿٧٦﴾) وأنا كلما جئت إلى قصة هؤلاء السحرة تعجبت كيف يؤثِر الله عز وجلّ هؤلاء بالإيمان ويختصهم به فهم في أول النهار كانوا أولياء لعدو الله وفي آخر النهار يصبحون شهداء، أصبحوا أشقياء وأمسوا بررة أتقياء وماتوا شهداء، في يوم واحد نزلت عليهم الهداية امتلأت قلوبهم بالإيمان، ثبتوا عليه مع أن العادة أن الإنسان يترقى في الإيمان شيئا فشيئا لكن هذا فضل الله وهذه رحمته إذا أرادها بعبد من عباده فإنه لا راد لفضل الله نسأل الله أن يدركنا بفضله ورحمته.
وتستمر السورة على هذا المنوال إلى أن تصل إلى قول الله عز وجلّ (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ﴿٩٩﴾ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ﴿١٠٠﴾) يذكر الإعراض عن هذا الكتاب الذي جاء ليكون رحمة وسعادة، فضلًا وخيرًا على عباد الله.
تأتي القصة الثانية وهي قصة أبينا آدم (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ﴿١١٦﴾ فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴿١١٧﴾) كلمة الشقاء حاضرة في هذه السورة قال (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ﴿١١٨﴾ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴿١١٩﴾) حتى لما يذكر ماذا في الجنة هو خلاف الشقاء فيها الراحة واللذة والطرب والروح والسعادة (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ﴿١٢٠﴾) إذن من أعظم اسباب الشقاء الشيطان فاحذروا منه يا أبناء آدم فإن الذي أخرج أباكم من الجنة هو هذا الشيطان وهو لا يريد بكم خيرًا وإنما يريد بكم شقاء. (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) حتى وإن صارت حياته مرفّهة تجده ينتحر لأن ما عنده ذكر يستنير به ولا عنده علم يعرف به الحق ويعرف به ما هو قادم عليه ولماذا جاء (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ﴿١٢٥﴾ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا) أي القرآن (فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴿١٢٦﴾ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ) هذا شقاء الدنيا (وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى).
ثم تأتي توجيهات تعين الإنسان على مكابدة ألوان شقاء الدنيا يقول الله عز وجلّ (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴿١٣٠﴾ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لا يغرّنك ما هم فيه من متاع الدنيا الزائل فإن هذا لا يمكن أن تكون به السعادة لا الدنيوة ولا الأخروية (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴿١٣١﴾ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴿١٣٢﴾).
وأن من أعرض عن ذكر الله فإن له معيشة ضنكا وسيحشر يوم القيامة أعمى، وقد ختمت سورة طه بقول الله عز وجلّ (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ﴿١٣٤﴾) يبين الله لهم أنه لو أهلكهم ولم يرسل إليهم رسولا لقالوا محتجين (رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) قال الله عز وجلّ (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا) أي فانتظروا عذاب الله عز وجلّ لأن الحجة قد قامت عليكم (فَسَتَعْلَمُونَ) إذا بُعثتم (مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) من هو الذي مشى على الصراط المستقيم ومن هو المهتدي أهو أنتم حيث تعبدون غير الله وتأبون قبول هذه الدعوة التي جاءت مع هؤلاء الأنبياء أو أنهم أولئك الأنبياء الذين يدعونكم إلى توحيد الله.