مقاصد سور القرآن

مقاصد سور القرآن – سورة الإسراء والكهف

مقاصد السور

د. محمد عبد العزيز الخضيري

تفريغ موقع إسلاميات حصريًا

سورة الإسراء والكهف

حديثنا عن سورة الإسراء وسورة الكهف، أما سورة الإسراء فهي السورة السابعة عشرة من حيث ترتيب السور وهذه السورة تسمى سورة الإسراء لأن الله قال فيها (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿١﴾)، وتسمى سورة بني إسرائيل كما قال ابن مسعود: بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول وهنّ من تلادي. يعني من السور الجليلات العظيمات ومن تلادي أي من محفوظاتي القديمة كأنه يشير إلى أنها مما نزل مبكرًا في العهد المكي.

هذه السورة افتتحت بقوله (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) وهذا افتتاحية بالتسبيح التي شاركتها فيها سبع سور من القرآن، سورة الإسراء (سبحان) وسورة الحديد (سبّح لله) وسورة الحشر (سبّح لله) وسورة الصف (سبّح لله) وسورة الجمعة (يسبح لله) وسورة التغابن (يسبح لله) وسورة الأعلى (سبح اسم ربك الأعلى) فهي سبع سور افتتحت في القرآن بلفظ التسبيح مرة بالمصدر (سبحان) ومرة بالفعل الماضي في سورة الحديد والحشر والصفّ ومرة بالفعل المضارع في سورة الجمعة والتغابن ومرة بفعل الأمر في سورة الأعلى. فالله عز وجلّ افتتحت خمسًا من السور بالحمد وسبعًا من السور بالتسبيح والعجيب أن صيغة التسبيح في هذه السورة جاءت سابقة لصيغة الحمد في سورة الكهف. في هذه السورة (سُبْحَانَ الَّذِي) وفي سورة الكهف (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي) والعادة أننا نبدأ فنقول سبحان الله والحمد نبدأ بالتسبيح قبل الحمد وهذه السورة كذلك بل في آخرها ما هو أعجب حيث قال الله عز وجلّ (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴿١١١﴾) (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴿١﴾ الكهف) فآخر سورة الإسراء (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) وأول سورة الكهف (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا)

في سورة النحل كان الحديث عن نعم الله عز وجلّ المتعددة على عباده من الليل والنهار والشمس والقمر والبحار والثمار وغيرها من نعم الله على عباده، وفي هذه السورة تركيز على العقيدة الإسلامية وترسيخ لها وتأكيد على نعمة الله علينا بالقرآن ولذلك جاء في أول هذه السورة قول الله عز وجلّ (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴿٩﴾ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿١٠﴾) فالسورة كلها تتحدث عن ترسيخ وتأسيس العقيدة وتؤكد على نعمة الله على عباده بإنزال القرآن وهدايتهم إليه.

وما زالت السورة تتحدث عن مختلف القضايا حتى جاءت إلى آيات الوصايا والتي تبدأ من قول الله عز وجلّ (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ﴿٢٢﴾) بدأت بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك لأن أمر التوحيد والنهي عن الشرك أعظم شيء يكون فليس قبله شيء لا يؤمر الناس بأيّ عمل قبل التوحيد ولا ينهون عن شيء قبل النهي عن الشرك (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴿٣٦﴾ النحل)، ثم ثنّى بالتوحيد فقال (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ثم ذكر حق الوالدين (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴿٢٣﴾ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴿٢٤﴾) ثم بعد ذلك أكد على حق القرابة (وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) وهذا الحق مذكور في سورة النحل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿٩٠﴾ النحل) وهنا أكّد عليه ثم نهى عن التبذير (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ﴿٢٦﴾ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) ثم أمر بالقسط والعدل في الإنفاق (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴿٢٩﴾) لا تفعل هذا ولا هذا ولكن بين ذلك قواما، ثم نهى عن قتل الأولاد خشية الفقر ثم نهى عن قربان الزنا ولم يقل لا تزنوا لأن النهي عن قربان الزنا هو النهي الصحيح بمعنى أن الإنسان لا يصل إلى الزنا حتى يمر بمقدماته فمن مقدماته مثلًا الخلوة بالمرأة الأجنبية أو النظر إليها أو الذهاب إلى أماكن الريَب، الله ما نهانا عن الزنا نهانا عن ما هو مقدمة للزنا فإذا انتهينا عن هذه المقدمة سيكون انتهاؤنا عن الزنا أمرًا طبيعيًا ولذلك قال (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴿٣٢﴾). ثم نهانا عن قتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق ثم نهانا عن أكل مال اليتيم ثم أمرنا بالوفاء بالكيل ثم نهانا عن أن نقفو ما ليس لنا به علم يعني أن نتكلم عن شيء ليس عندنا علم به يبين لنا أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ثم نهانا أن نمشي في الأرض مرحًا ثم قال بعد ذلك (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) ولذلك يسمي العلماء هذه الآيات آيات الحكمة في سورة الإسراء من أخذ بها فهو الحكيم فعلًا والعجيب أنه ختم هذه الآيات بمثل ما ابتدأ به تلك الآيات، قال في أول الآيات (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ﴿٢٢﴾) وفي آخرها قال (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ﴿٣٩﴾) مما يؤكد على أن بداية الحكمة ونهايتها وأساسها ومحورها الأعظم وعمودها الأقوى هو التوحيد فمن وحّد فقد دخل في ميدان الحكمة ومن لم يوحد فهو أهبل مسكين، سفيه، لا عقل عنده، كيف أعظم قضية وأوضح قضية وأظهر قضية في الكون تخفى عليك؟ لا تحتاج إلى أيّ دليل من شدة ظهورها

وفي كل شيء له آية  تدل على أنه واحد

ثم عاد إلى القرآن، قال في بداية السورة (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) كأنه يقول أنزلت عليك القرآن يهديك لأقوم طريق ومنه آيات الحكمة وهنا يقول (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا) صرّفنا يعني نوّعنا لك ولوّنا لك في تعليمك وتربيتك والوحي إليك مرة بالمثل، مرة بالأمر، مرة بالنهي، مرة بالقصة، ومرة بالخبر، مرة بالتاريخ، مرة بالغيب، مرة بالجزاء ومرة بالوعد ومرة بالوعيد، تصريف، كل هذه من أجل أن تسير على هذه الجادة وتسلك هذا الطريق ولذلك قال الله عز وجلّ (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ﴿٤٥﴾) يبين من هم الذين حجبوا عن القرآن (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ﴿٤٦﴾) وما تزال الآيات تمشي على هذا المنوال إلى أن يصل إلى قول الله عز وجلّفي آيات هذه السورة مبينًا كيف أن الله كرّم بني آدم وأن الذي ينبغي منهم أن يشكروا كما حصل مع نوح عليه السلام في أول السورة (وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي ‎وَكِيلًا ﴿٢﴾ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴿٣﴾) وأنتم يا بني آدم قد كرّمكم الله وحملكم في البر والبحر ورزقكم من الطيبات وفضلكم على كثير ممن خلق الله تفضيلا، إذن الواجب عليكم أن تشكروا الله.

ولما ذكر الوحي وذكر القرآن نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يزيغ عن منهج القرآن أو يستمع لإملاءات هؤلاء المشركين في جرّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يتنازل عن شيء من مبادئ وعقائد هذا الكتاب العظيم (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ﴿٧٣﴾ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ﴿٧٤﴾ إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ﴿٧٥﴾) ثم ذكر الله أمر القرآن بقوله (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴿٧٨﴾) قرآن الفجر أي صلاة الفجر لكن سمّاها قرآنًا لأن القرآن فيها مقصود ولذلك تستحب إطالة الصلاة فيها بالقرآن وما كان صلى الله عليه وسلم يطيل في شيء من الفرائض ويطيل في القرآءة كما يفعل في الفجر أخذًا من هذه الآية (مَشْهُودًا) أي تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) أي بالقرآن (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) زيادة على أمتك فإن قيام الليل واجب على النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف أمته فإنه مستحب في حقها. قال الله عز وجلّ (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) فالمنازل العالية في الدار الآخرة تنال بكثرة تلاوة القرآن في الليل. (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ﴿٨٠﴾ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ) الحق هو هذا القرآن (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴿٨٢﴾) إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين.

ثم يعود مرة أخرى إلى القرآن فيقول (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴿٨٨﴾) والعجيب أن أمة العرب فيها غيرة وفيها أنفة لا تقبل التحدي ومع ذلك تحداهم القرآن أن يأتوا بسورة من مثله وعشر سور وحديث مثله فقال (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴿٨٨﴾) ظهيرًا ومعينًا ومشاركًا ومقويًا (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) نوّعنا لهم من كل وجوه الكلام وطرق الإبانة من أجل أن يفقهوا، قال (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا).

وما تزال الآيات تستمر على هذا المنوال إلى أن تختم بقول الله عز وجلّ (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴿١٠٥﴾) ثم يخبر الله عن حقيقة عظيمة جدا لمن أراد أن ينتفع بالقرآن (وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴿١٠٦﴾) ما أنزله الله جملة واحدة من أجل أن يُفقه ويُفهم ويُحمل على المواقع التي نزل عليها ويُقرن بالأحداث الذي نزل ملابسًا لها وكذلك أنتم إذا أردتم أن تفهموه خذوه شيئا فشيئا مثل ما تأخذ الطعام، هل هناك إنسان يأخذ الوجبة الكاملة ويدخلها في جوفه دفعة واحدة؟ كذلك نحن، نقسم الطعام في اليوم والليلة ثلاث وجبات والوجبة نقطعها ونجعلها لقمًا صغيرة كذلك آيات القرآن ما تؤخذ جملة واحدة ينبغي على الإنسان أن يتفهمها ويقرأها بتؤدة ويرتل القرآن ترتيلا أي يقرؤه بتمهل حتى ينتفع به ولذلك قال الله عز وجلّ (قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) هذا فيه ثناء على أهل العلم وأن أهل العلم هم المنتفعين بالقرآن فإذا كنت من المنتفعين بالقرآن فأنت من أهل العلم (إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ﴿١٠٧﴾ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ﴿١٠٨﴾ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴿١٠٩﴾)

ثم قال (ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) إذا تلوت القرآن في الليل فلا تجاهر جهرا تؤذي به من حولك ولا تخافت مخافتة بحيث يصيبك الوسن والوهن ولكن عليك بقرآءة بين ذلك. (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴿١١٠﴾ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) الحمد لله على ماذا؟ الحمد لله على فضله ونعمه على اتصافه بالصفات الجليلة والحمد لله على نعمة القرآن وهذه الآية تسمى آية العزّ في القرآن (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴿١١١﴾).

هذه سورة الإسراء ختمت بقوله (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) وافتتحت سورة الكهف بقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴿١﴾)

سورة الكهف أيضًا تؤكد على العقيدة وعلى التوحيد بشكل كبير بدليل أنها افتتحت بأمر التوحيد افتتحت بقوله (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ﴿٤﴾) واخنتمت بالتوحيد في قوله عز وجلّ (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴿١١٠﴾) وحذّرت هذه السورة من الوقوع في شيء من الفتن، والفتن كثيرة:

فتنة الدنيا (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴿٧﴾)

فتنة المجتمع الذي يسوقك سوقًا إلى الكفر والشرك، اقرأ قصة أصحاب الكهف لتجد كيف هدى الله هؤلاء الفتية قال الله عز وجلّ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴿١٣﴾ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ﴿١٤﴾ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴿١٥﴾) ولما رأوا أن قومهم سيمكرون بهم ويؤذوهم فرّوا بدينهم ناجين بأبدانهم وظنوا أنهم سيذهبون بعيدًا لاذوا في كهف قريب من المدينة ليرتاحوا فيه ثم يواصلوا المسير فناموا فيه ثلاثمئة سنين وازدادوا تسعا وهذه نومة عجيبة! كيف ثلاثمئة سنين وازدادوا تسعا لا يأكلون ولا يشربون والأبدان باقية تتنفس وتحيا! كيف حصل هذا؟! هذه آية عجيبة من آيات الله عز وجلّ لكنها ليست بأعجب من خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم وخلقكم أنتم أيها الناس فما الذي يعجّبكم أيها المشركون؟! ولذلك عاتبهم الله عز وجلّ بقوله (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ﴿٩﴾) تظنون أن هذا عجب! هناك ما هو أعجب، أنتم. الشمس، القمر، الليل، النهار، الشجر، الحجر، هذه أعجب فلماذا استغربتم هذا على الله؟!

الفتنة الثالثة: فتنة الجلساء، جلساء الإنسان، قد يصرفونه عن الحق قال الله عز وجلّ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ليس قلبك فقط، حتى عينيك لا تلتفت بها إلى أهل الدنيا تريد زينة الحياة الدنيا (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)

الفتنة الرابعة: فتنة الدنيا والمال والبنين وقد ضرب الله لنا مثلا بهذا الرجل (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ﴿٣٢﴾) أشرك بالله وكذّب بلقاء الله من أجل ما آتاه الله من الدنيا وجعل الله له من ينصحه ويذكّره وهو صاحبه الذي يقول له (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ﴿٣٧﴾ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ﴿٣٨﴾) ثم نزل البلاء بهذه الجنة فمحاها وبقي الرجل بلا شيء لا مآل ولا ولد ولا مزرعة!

ثم أكد الله فتنة الدنيا بقوله (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) الدنيا كلها فتنة تتزين ثم تزول. قبل أمس كنا شبابًا وكنا نرى أنفسنا سنعمّر والآن نرى أنفسنا والدنيا تولّي عنا والقوة تذهب عنا شيئًا فشيئا، قد ذهبت عمن قبلنا وستذهب عنا وعمن بعدها فلا يغتر بها إلا مسكين ضعيف العقل!

ثم ذكر بعدها فتنة الشيطان فقال (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴿٥٠﴾)

ثم ذكر بعدها فتنة عجيبة جدًا وهي فتنة العلم في قصة موسى مع الخضر، فموسى عليه السلام قام في بني إسرائيل خطيبًا فقال له رجل من بني إسرائيل: يا نبي الله من أعلم الناس؟ قال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، عاتب الله موسى أن يا موسى هل أخبرتك فيما أوحيت إليك أنك أعلم الناس؟ لماذا قلت أنا؟ المفروض أن تقول الله أعلم حتى ينزل عليك مني شيء يدلك على أنك أعلم الناس. إن لي عبدًا في مجمع البحرين عنده علم من علمي لم أعلمكه فارحل إليه، اِذهب لتجد رجلًا عنده علم ليس عندك يا موسى لتعرف أني ما جعلت العلم كله عندك. فأطاع موسى ربه ورحل في طلب العلم وهذه أول رحلة في العالم في طلب العلم ورحل موسى ومعه فتاه حتى لقوا الخضر وعرف موسى أن الخضر قد آتاه الله شيئًا من علم الغيب لم يؤته موسى، ظهرت هذه في قصة موسى مع الخضر.

ثم ذكر من بعد ذلك فتنة عظيمة جدًا لكنها ليست لكل البشر وإنما لبعض البشر ولذلك أخّرها وهي فتنة الملك في قصة ذي القرنين (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ﴿٨٣﴾) ذكر الله ذو القرنين، رجل عجيب، ملك المشرق والمغرب ولكنه كان قائمًا بالإصلاح في الأرض ونشر العدل والخير بين الخلق ولذلك ما يأتي إلى أمة إلا ويصلح فيها ويرفع أهل التوحيد ويذل أهل الشرك والكفران ومشى حتى وصل إلى قوم لا يكادون يفقهون قولًا وقال لهم: ما عندكم؟ قالوا عندنا يأجوج ومأجوج يؤذوننا دائمًا يأتوننا من هذا المنفذ فيبيدون خضراءنا ويفسدون أرضنا ونريدك أن تقيم بيننا وبينهم سدًا يمنعهم منا ومستعدون أن ندفع لك أجرة على إقامتك لهذا السد فقال لهم ذو القرنين الذي مكنه الله عز وجلّ وآتاه من كل شيء سببا (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أنا لست جمّاعًا للأموال ولست طالبًا لشيء من الدنيا (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ﴿٩٥﴾ آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) الصدفان هما جهتا الجبل المتقابلتين (قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) أي نحاسا يجمع الحديد ويثبته ويقويه حتى يكون كأنه كتلة واحدة لا يستطيع أحدًا أن يخرقه، وهذه فيها الدلالة على أن كل من مكّنه الله ينبغي أن يفعل فعل ذي القرنين وما يلزم أن يكون ملكًا في المشرق والمغرب، حتى إمام المسجد ينبغي أن يستعمل الإمامة، الموظف، رئيس الشركة، مدير المدرسة،  يستعمل ما آتاه الله من القوة والتمكين في الإصلاح وفي نفع الخلف وأن لا يتخذ على ذلك شيئًا من الأجر يطلبه من الناس.

ثم ختمت السورة ببيان فضل الله عز وجلّ لمن نجا من هذه الفتن (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ﴿١٠٧﴾ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ﴿١٠٨﴾ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴿١٠٩﴾)

ثم ختمت بما يذكّر بأعظم قضية وهي قضية التوحيد (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴿١١٠﴾).

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمع لنا بين العمل الصالح وأن لا نشرك بعبادة ربنا أحدا.

 

https://soundcloud.com/nasser-alusfoor/eymxfg0elo8l