برنامج بينات

برنامج بينات – آل عمران 14

اسلاميات


الحلقة 14

(لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴿١١٣﴾ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿١١٤﴾ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴿١١٥﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿١١٦﴾ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿١١٧﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴿١١٨﴾ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿١١٩﴾ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴿١٢٠﴾)

د. عبد الرحمن: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. حياكم الله أيها الأخوة المشاهدون في حلقة جديدة من برنامجكم بينات، حياكم الله مشايخنا الفضلاء. كنا وقفنا في اللقاء الماضي عند قوله تعالى في سورة آل عمران (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴿١١٣﴾) وكنا أشرنا خلال حديثنا إلى العدل في هذه الاية العظيمة وأن الله سبحانه وتعالى عندما يتحدث عن هؤلاء المشركين من أهل الكتاب أنه لم يعمم الحكم على كل أهل الكتاب بل قال (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴿١١٣﴾) وذكر من صفاتهم وكنا ذكرنا أن أهل الكتاب الذي مُدحوا في هذه الآية هم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنه ليس المقصود بها الذين بقوا على كفرهم وعلى شركهم وعلى نصرانيتهم التي جاء الإسلام بردّها وبتكفير من يعتقد تلك المعتقدات (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ (17) المائدة) لأن البعض يظن أن المقصود (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) المقصود بهم الذين بقوا على نصرانيتهم وهذا غير صحيح فكل من بقي على ديانته السابقة بعد مجيء النبي صلى الله عليه وسلم فلا شك أنه كافر وأنه لا يُمدح.

د. مساعد: وهذا ما يُحمل فيه المتشابه على المحكم، المحكم (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ (19) آل عمران) لأن بعضهم يلبس أحياناً بمثل هذا فيقول أن الله تعالى قال كذا ويترك الآيات الأخرى.

د. عبد الرحمن: الآيات التالية في قوله سبحانه وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)) ثم ضرب مثلاً سبحانه وتعالى بـ (مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)) الأمثال في القرآن الكريم موضوع سبق أن طرحناه أكثر من مرة وما فيها من البلاغة وما فيها من الدلالة على المعنى المقصود بأقرب طريق وبأيسر طريق وأيضاً أنها من المواطن التي ظهر فيها إعجاز القرآن بشكل كبير، ضرب الأمثال في القرآن الكريم. هذا المثل الذي يذكره الله سبحانه وتعالى عن الكفار الذين ينفقون بعض النفقات في وجوه الخير  وهذا حتى في زماننا هذا هناك منظمات كافرة أو اصحابها ليسوا من المسلمين أو ليسوا ممن يؤمنون بالله واليوم الآخر أم ممن لا يحتسبون الأجر عند الله سبحانه وتعالى وينفقون نفقات عظيمة بالمليارات بل هناك بعض التنظيمات التنصيرية الخيرية رأسمالها بالمليارات. والله سبحانه وتعالى ضرب في هذه الآية مثلاً لمثل هذا الإنفاق الذي ينفق في موجوه الخير لكنه لا يراد به الله ولا اليوم الآخر ولا هناك إيمان فقال (مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ) ما المقصود بالصرّ يا شيخ محمد؟

د. محمد: الصرّ يعني البرد الشديد الذي تصرّ منه الأسنان.

د. عبد الرحمن: وهو يهلك الزرع. قال (مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فكأن المشبه به أعمال هؤلاء، هم أنفقوا وهذه أعمال بِرّ وكانوا يتوقعون أنهم سيجدون ثمرتها في الآخرة ولكنهم فوجئوا أنها مُحقت كما محق البرد الشديد هذه المزروعات وهذه الثمار.

د. محمد: ولم يجعل للريح أي ثمرة على تلك الزروع.

د. عبد الرحمن: ومثلها كما في قوله تعالى في سورة الفرقان (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23)) هم عملوا أعمالاً وأذكر في بعض الأحاديث أنها كجبال تهامة يجعلها الله هباء منثوراً لأنه لم تكن لوجه الله سبحانه وتعالى.

د. مساعد: ولذلك عائشة لما سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان أنه كان كريماً ولكنه مات على الكفر فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لها إنه لم يقل يوماً “رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين” معناه أنه لم يكن مؤمناً. وفي سورة البلد ذكرت أنه لا تقبل الأعمال إلا من أهل الإيمان (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)) وكل الأعمال التي ذكرها في السورة في الآيات السابقة لا تنفع العبد إلا إذا كان مؤمناً، هذا شرط القبول، الإيمان.

د. محمد: وقال أيضاً في آية أخرى في سورة الإسراء (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19)) وفي قول الله عز وجل لما وعد بالحياة الطيبة (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97) النحل) نلاحظ أن شرط الإيمان هو الشرط الذي يتحقق به وعد الله في الدنيا والآخرة. ففي الدنيا بالحياة الطيبة وفي الآخرة بالجزاء الأخروي.

د. عبد الرحمن: ثم انتقلت الايات بعد ذلك إلى الحديث عن البطانة، بطانة السوء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118)) وهذا حديث ذو شجون إتخذا الحاكم بطانة وأنه ينبغي على الحاكم السملم والحاكم العادل بل الحاكم الذي يريد مصلحة شعبه سواء كان مسلماً أو غير مسلم أن لا يتخذ إلا البطانة الصالحة التي تعينه على الخير والعدل وتدله عليه. فهنا يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ)، بطانة من دونكم أي من سواكم (لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً). ونلاحظ حتى في تسميته لهذه الحاشية للحاكم سماها بطانة تشبيهاً لها ببطانة الثوب وهي التي تلي الجسد وأنها هي القريبة المقربة فينبغي أن تتخذ شيئاً فيه مصلحتك وفيه نُصحك. ولذلك أكثر هلاك الدول من البطانة الفاسدة. بل أكثر ما تجد في التاريخ عندما يتكلمون عن حاكم ظالم قالوا البلاء من بطانته.

د. محمد: وإلا هو في معدنه قد تجده صالحاً أو خيراً أو قريباً من الخير لكنه يتخذ هذه البطانة ويؤثرها فيصيبه شيء من شرها نسال الله السلامة والعافية.

د. عبد الرحمن: ولذلك لو تتأمل في خطبة ابي بكر الصديق رضي الله عنه أول ما تولى الخلافة فقال إن أصبت فأعينوني وإن أخطأت فقوّموني وهذا هو عمل البطانة الناصحة التي لا تحابي أحداً.

د. محمد: وبالمناسبة ينبغي أن لا يُقصر معنى الآية على الحاكم وبطانته ولكن حتى الشخص ومن يكونون حوله سواء كان مديراً لمدرسة أو مؤسسة أو غير ذلك ينبغي أن لا يتخذ بطانة من غير المسلمين لا يألونه خبالاً.

د. عبد الرحمن: اذكر قصة تذكرها كتب الأدب والتاريخ أن أحد حكام الأندلس في مدينة أظنها إشبيلية فاتخذ الملك وزيراً يهودياً ضجّ المسلمون من ظلمه حال بينهم وبين الملك فصار يقرّب اليهود ويُطلق أيديهم في أسواق المسلمين فجاء أهل إشبيلية وحاولوا بطريقة أو أخرى أن يشتكوا إلى الملك ولكن دون جدوى، باءت كل محاولاتهم للوصول إلى الملك بالفشل فثاروا بعد قصيدة ألقاها عليهم الشاعر المعروف أبو إسحق البيري وهي قصيدة مشهورة:

تفتّ فؤادك الأيام فتّا               وتنحت جسمك الساعات نحتاً

فقال قصيدة يقول:

ألا قل لصنهاجة أجمعين           بذور الندى وأسود العرين

لقد زلّ صاحبكم زلّة            تقر بها أعين الشامتين

تخيّر كاتبه كافره        ولو شاء كان من المؤمنين

فتاه اليهود به وانتخوا               وعزّوا وكانوا من الأرذلين

قالوا فثار أهل إشبيلية وقتلوا اليهود في الأسوار وصار ذلك الوزير نكبة على اليهود. فيقول التاريخ كله أن إتخاذ بطانة من غير المسلمين أو من الخونة فإنها وبال على المُلْك ووبال على المسلمين.

د. محمد: الدولة العباسية لما أراد الله سبحانه وتعالى أن تذهب وأن تسقط كان من أعظم أسباب ذلك إتخاذ أمراء المؤمنين في ذلك الوقت الطوائف الضالة وزراء ومتنفذين في البلد ولذلك تمادوا مع التتار وما دخل التتار بلاد المسلمين ولا أسقطوا بغداد إلا بتواطئهم، ما دلّ هؤلاء على عيوب المسلمين وعوراتهم إلا هم، وكانوا يطمئنون أمير المؤمنين ويقولون إطمئن لن يكون هناك شيء ولن يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً، لقد عقدنا معهم عهوداً.

د. عبد الرحمن: لاحظوا في قوله تعالى (لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً)

د. محمد: لا يقصّرون في إيصال الخبال إليكم.

د. عبد الرحمن: الخبال هو الضعف والفساد. (وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ) ودوا المشقة لكم. ما أجمل الإعجاز في هذا التعبير على قِصره (وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ). أقول لنفسي لو تتأمل هذه الآيات هل سيسارع أهل الإسلام إلى الكفار الآن يطلبون منهم الصلح والوساطات؟!

د. محمد: بعض الناس بالمناسبة يشككون في هذه القاعدة الربانية والوصايا الإلهية فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق وهو أعلم بمن خلق، ويقول لا، هذه لها ظروفها الزمانية ولها ملابساتها ولكن لا تتخذ في كل زمان ومكان، نحن جربنا هؤلاء المستعمرين أو غيرهم ممن جالوا بلاد المسلمين ووجدنا فيهم الصدوق ووجدنا فيهم الناصح فيقال كذبت وصدق الله والله إن هذه قاعدة لا تكاد تنخرم ولو انخرمت في جزء معين لا يعود بإبطال على القاعدة.

د. عبد الرحمن: والعجيب أنها جاءت بهذا التعميم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ) جاءت بعد الآيات التي فيها العدل والاحتراز في قوله (لَيْسُواْ سَوَاء) يدل هذا على أن هذا التعميم هو الأصل أنه لا ينبغي على الحاكم المسلم ولا على من يتولى أمر المسلمين أن يتخذ بطانة إلا من المسلمين الصادقين وأن هذا لا يتعارض مع العدل مع الآخرين فقد يكون فيهم الصادق.

د. محمد: يحتج بعض الناس بقضية هي الحقيقة حجة لمن أراد أن يتغاضى أو يتهاون في أمر الله عز وجل فيقول أنا لا أجد إلا هذا الرجل وهو متخصص في شأنه وهو الذي يستطيع أن يدير هذا الأمر ويقوم به ولا أجد سواه من المسلمين حتى أعينه في هذا المنصب، سبحان الله! عمر بن الخطاب أجاب على هذا جواباً شافياً عندما علم أن أبا موسى الأشعري في العراق قد اتخذ كاتباً نصرانياً سمع به عمر فكتب له هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) فاشتكى أبو موسى وقال يا أمير المؤمنين ما أجد أحسن منه يكتب فردّ عليه عمر برسالة ليس فيها إلا كلمتين قال “مات النصراني” والسلام، افترض أن النصراني مات ماذا ستفعل؟ تصرّف لماذا تحد نفسك وتوقف القضية أنه لا يوجد أحد إلا هذا الرجل ولا يستطيع أحد أن يقوم بالأمر إلا هذا الرجل؟ هذا غير صحيح، إذا مات ماذا تصنع؟

د. عبد الرحمن: أنا أذكر بمناسبة هذه الآية في التاريخ نفسه المفترض أنه لا يتولى الأمور خاصة الأشياء الحساسة في الوزارات وفي الإدارات أو في الجيش أو في الحكومة أن لا يليها أو لا يكون قريباً منها أي البطانة والتي فيها إشارة إلى القرب إلا أن يكون ممن يخاف على هذه الأمة وعلى هذا البلد. أتذكر قصة لقيط بن يعمر الإيادي وهي مشهورة في التاريخ، لقيط بن يعمر رجل من قبيلة إياد قبيلة عربية كان يحسن الكتابة وكان يعمل عند كسرى في الديوان يكتب فكسرى كان يعد العدة لغزو العرب قبيلة إياد والكاتب هو من نفس القبيلة شعر بتعاطف شديد مع قبيلته وهذا شيء فطري فكتب قصيدة مشهورة (عينية لقيط بن يعمر الإيادي) قصيدة مشهورة في الأدب العربي فكتب في الصحيفة هذه القصيدة وكتب معها ثلاثة أبيات:

سلام في الصحيفة من لقيط    إلى من بالجزيرة من إياد

بأن الليث كسرى قد أتاكم  فلا يشغلكم سوق النقاد

الرسالة تحريرية ثم كتب العينية المشهورة يقول فيها:

يا دار عمرة من محتلها الجرع

هاجت لي الهم والأوصاب والجزع

ويقول فيها

فقلّدوا أمركم لله درّكم          رحب الذراع بأمر الحرب مطلعا

لا مترفاً إن رخيّ العيش ساعده               ولا إذن همّ مكروه به خشعا

ينصح قومه يقول اجتمعوا وولوا عليكم رجلاً قوياً. لما بلغ هذا كسرى قبض على لقيط بن يعمر وقتله. قلت في نفسي هذه حاجة فطرية عندما تأتي إلى رجل من الأعداء وتقربه من مواطن القرار فلا تستغرب منه أن يسرب المعلومات والآن لم يعد هناك داعياً لأن يكتب قصيدة وإنما صارت عبر الإيميل ممكن أن تكشف الأسرار.

د. محمد: حتى هذا وقع في هذا الزمان، بعض الدول الإسلامية وكلت في بناء قواعدها العسكرية لشركات أجنبية وبعد أن انتهت هذه الشركات وسافرت إذا بخرائط تلك المواقع العسكرية ,اسرارها موجودة لدى الأعداء يعرفونها ويستطيعون ضربها في أية ساعة ويهددون تلك الدول بذلك، تصور!

د. عبد الرحمن: ولا تستغرب من هذا. ولذلك القاعدة مضطردة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)

د. محمد: العجيب أنه يقول (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) يعني لو كانت الصدور تنشق ويظهر ما فيها حقيقة لظهر لكم شيء أعظم مما بدى لكم. ثم يقول (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) الإنسان بعقله يدرك بديهة هذا الأمر فإياكم أن تخالفوا ذلك فتكونوا مجانين. مخالفة هذا الأمر جنون وهذا حقز

د. عبد الرحمن: ولا يلام العدو عندما يسرّب أو يتعاون

د. محمد: بل الملام أنت

د. مساعد: أنت الملوم، هو هذا شغله. هناك من القضايا ما دمتم حمتم حولها لكن لعلنا نختم بهذا أنه يجب علينا أن نعرف أن القضية مرتبطة بالطبائع بمعنى أنا لما يأتيني مجموعة من بلاد الفليبين شغلّتهم عندي في شركة بعض الناس ما يدرك أن حضور هؤلاء عندك في شركتك أنهم ياتون بقافتهم وأنت لم تنزعهم من ثقافتهم فمن الطبيعي جداً أن يمارس ثقافته كما عهدها عندك أقصد أنه حتى لو لم يرد الإضرار بك فهو في طبيعته يتعامل مع نفسه كما خبر نفسه منذ أن عاش في بلاده فلا تتصور أنه يتغير، فهذا جزء أيضاً من تداخل الثقافات.

د. عبد الرحمن: لكن الآية تقول (لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً) البطانة أخص من أن تستعمل أحداً.

د. مساعد: نعم أخص لكن أنا اقول حتى في استعمال أحد ما ننتبه إلى أن المسألة ما زال فيها هذا الخطر المتوقع. ولاحظوا أهل الإسلام لما ذهبوا إلى بلاد الغرب وبقوا على الإيمان استطاعوا أن يؤثروا.

د. عبد الرحمن: لكن ما ذكرت من استعمال غير المسلمين سواء في مهن بعيدة تذكرون حادثة أبو لؤلؤة المجوسي، كان حداداً وكما يقولون في كتب التاريخ أنه شعر بحقد شديد بعد أن تم الانتصار في القادسية على الفرس وذهبت حضارة كسرى فشعر بحقد شديد ولذلك بدأ يحضر ويعد لقتل عمر رضي الله عنه واستطاع أن ينفذ هاذ الأمر.

د. محمد: في قوله عز وجل (هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)) هذه الآية تأكيد أيضاً على ما ورد في الآية السابقة من معاداة هؤلاء الكفار وعدم موالاتهم ويبين الله سبحانه وتعالى عما تكن صدورهم فيقول أنتم بطيبتكم وحسن دخيلتكم وما في صدوركم تحبونهم وهذا يحصل الآن بين المؤمنين والمنافقين الآن مثلاً في داخل بلاد المسلمين لأنه لا انفكاك للمنافقين فالناس يبتلون بهم في كل مكان وما يخلو بلد من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم من وجود منافق أو منافقين كثروا أو قلّوا، فالمؤمنون بطبيعتهم وحبهم للخير يحبون من يرون أنه يُظهر الإسلام لكن هؤلاء المنافقين لا يحبون المؤمنين ولو خُلّيَ بينهم وبين المؤمنين لحصدوهم حصداً. أريد أن اقرأ كلمة لقتادة رضي الله عنه ذكرها الطبري رحمه الله يقول “فوالله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوي له ويرحمه ولو أن المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن لأباد خضراءه”. تذكرت هذا يا أبا عبد الملك ما بعد سقوط الخلافة العثمانية وبدء تكوّن الدويلات الإسلامية واستيلاء العلمانيين على سدة الحكم في كثير من الدول الإسلامية هؤلاء لما استولوا على البلاد وصارت لهم الولاية نكلوا بالعلماء والمصلحين وزجوا بهم في السجون وآذوهم، أين الوطنية التي ينادون بها؟! أين الشعارات البراقة التي يتحدثون عنها كالديموقراطية وغيرها؟! كل هذه تزال عندما يكون الذي يقابلهم رجلاً من أهل الإسلام رجلاً يحمل في نفسه الحب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولذلك قال هنا (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)

د. عبد الرحمن: العجيب أنه لا يمكن أن يكشف لك النوايا إلا الله سبحانه وتعالى ولكننا لا نقبل هذا النصح. كنت أتساءل في التاريخ كله تجد أهل السنة و المؤمنون ينخدعون لليهود والنصارى والمنافقون وتجدهم إلى اليوم يظهرون حسن النوايا لكن المخالفين يبطنون ما ذكره الله سبحانه وتعالى (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ) يعني أنتم صادقون لكن المشكلة (وَلَا يُحِبُّونَكُمْ)

د. محمد: ما في قلوبهم مثقال ذرة من حب لكم، هم يحسنون أن يمثلوا فيقولون نحن نريد المصالح العامة والمصالح المشتركة وحسن الجوار والآن ظهر ذلك في حربنا الأخيرة مع اليهود بدا ذلك واضحاً، انظروا ماذا فعلوا بإخواننا في غزة أنزلزا هذه القنابل الفسفورية المحرمة دولياً وتفعل أشياء عظيمة ما يستطيع أحد من أهل الإسلام أن يفعل ذلك تأبى عليه شيمته وكرامته أن يفعل ذلك مع الأطفال والصبيان والصغار وقد يجرؤ أن يفعله مه المقاتلين ولكن لا يمكن أن تحدث المسلم نفسه أن يفعل ذلك مع الأطفال والصبيان والصغار.

د. مساعد: قوله  (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)) إن تمسسكم حسنة يعني أي حسنة ولو كانت قليلة وإن أصابتكم سيئة تجدهم أهل فرح يفرحون بما حصل لكم والعجيب أن هذا ما زال موجوداً إلى اليوم.

د. عبد الرحمن: وهذا يؤكد أنها آيات عامة لكل زمان ومكان.

د. مساعد: الآية ذكرت أوصافاً وأفعالاً عامة تنطبق على كل من جاء بعد نزول هذه الآيات ولذلك ما يُذكر عن بعضهم أنه يقول إن الله أخطأ في جعل البترول في جزيرة العرب أعوذ بالله هذا لا شك أنه يدخل في هذا أنه استاء من موجود هذه النعمة في بلاد المسلمين ولهذا قال بعدها تعالى (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ) ربط الصبر بالتقوى وقال (لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) وهذه نعمة يجب أن يتأملها العبد إذا هو صبر واتقى فإن الله سبحانه وتعالى ينزل عليه من رحمته ما يجعله يتحمل مثل هذه المشقة التي تقع ويكف شر هؤلاء ولذلك قال (لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) وهذا معناه أنهم يكيدون لك مرة بعد أخرى ولكن بالصبر والتقوى ترد كيدهم وليس بالإنحناء لهم لأنه كلما انحنيت لهم ازدادوا طغياناً وإنما يكون ذلك بالصبر والتقوى كما قال تعالى (إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) وهذا مطمئن للعبد المؤمن أنه لازم هذا الخبر أن الله سبحانه وتعالى ما دام محيطاً فأنه قادر على ردّه وصرفه. وأنبه الإخوة القراء بمسألة مهمة جداً وهي ما نقول عنه لازم الخبر، لاحظ (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) ثم قال (إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) كأن المعنى لأن الله بما يعملون محيط. هل المراد فقط الإخبار عن إحاطة الله بما يعملون أو المراد التنبيه إلى لازمها؟

د. عبد الرحمن: لا شك أنه لن يضركم كيدهم شيئاً لأن الله بما يعملون محيط

د. مساعد: محيط معناه قادر على رده وصرفه ولو وقع على انتصاركم بعدها. فلازم الخبر لو تأمل القارئ للقرآن سيجد أنه في كثير من الأحيان يجب أن ينتبه إلى لازم الخبر، الله سبحانه وتعالى يذكر صفة من صفاته أو إسماً من أسمائه والمراد التنبيه على ما وراء هذا الإسم من معنى.

د. محمد: (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ) هذا المعنى بالذات ورد في هذه السورة مما يدل على أنه يجب على المسلمين أن يراعوا هاتين الخصلتين صبر وتقوى

د. عبد الرحمن: تكرر هنا وتكرر في آخر السورة أيضاً.

د. محمد: وأيضاً قبلها (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)) وختم السورة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)) أقول أحياناُ قد يصبر الإنسان وهذا هو حال عامة المسلمين أنهم صابرين على البلاء الذي حلّ بهم من أعدائهم لكنهم ما اتقوا الله في أن يخرجوا من كبوتهم ما اتقوا الله في أن يعدوا العدة لمكافحة عدوهم ما اتوقا الله عز وجل في اتخاذهم الأسباب التي يستطيعون بها إعادة المجد لهذه الأمة نحن الآن صابرين وننظر العدو وهو يقتل ويبيد ويفعل ما يشاء ويعيث في أرض المسلمين فساداً دون أن نتقي الله أين التقوى التي تدفع للعمل؟ فالصبر كأنه هنا ليس صبراً سلبياً بمعنى أن يكون الإنسان ساكناً خاضعاً مستكيناً بما ينزل عليه من الأقدار ما يسمونه الآن ضبط النفس إمسك أعصابك لكن إلى متى؟ أنا أمسك أعصابي وأتخذ من ذلك سلاحي من أجل أن افعل شيئاً  أقدمه لنفسي ولأمتي وأتقرب به إلى ربي سبحانه وتعالى. وأقول لعل هذا من أسرار ذكر هذا وهذا. أيضاً شيء آخر والله أعلم وهو أن الصبر قد ينفذ فإذا علم الإنسان أنه أُمر بتقوى الله تعالى يتجدد له الصبر ويعلم أن هذا من دين الله عز وجل وأنه أمر يتقرب به العبد إلى الله جل وعلا.

د. مساعد: أيضاً يوسف لما قال (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) يوسف) لو تأمل القارئ وهو يقرأ القرآن إلى هاتين الصفتين وتلازمهما مما يدل على أنه كما ذكرتم شيخ محمد أن الصبر قد يعتوره نقص فيما بعد فلا بد من التقوى التي تكون كالوقود لهذا الصبر.

د. محمد: شيء آخر وهم يهم بعض الشباب لعلهم يسمعون من خلال هذه الشاشة أنه أحياناً قد يكثر البلاء على الأمة ويهيمن الأعداء على الأمة فما ندري ماذا نفعل ما نجد نصيراً ولا نجد أسباباً نستطيع مدافعة هؤلاء الأعداء فتجده يتخذ أسباباً لا يتقي الله بها في مدافعة العدو مثل أن يقتل أبناء الكفار أو يقتل المعاهدين وأبناء الذمة أين التقوى يا أخي؟ نحن حربنا أخلاقية حتى لو حاربنا عدونا قتل فينا من قتل هذا هو الفرق عندما نقاتله نقتله بخُلُق ما نقتل شيخاً كبيراً ولا امرأة ولا طفلاً صغيراً ولا عابداً في صومعته عندنا مبادئ العدو لا يطبق شيئاً منها متى تمكن منا أبادنا وفعل الأفاعيل بنا نحن لا نقابله بشيء من ذلك أبداً، شرفاء عندما نقاتل كما أننا شرفاء عندما ننتصر وهذه قضية تذهب عن ذهن بعض الشباب فهو يريد أن ينتقم. ما الذي حصل؟ ذهب الصبر وذهبت التقوى! إتق الله حتى في صبرك.

د. عبد الرحمن: وتأكيداً على هذا حتى لا يظن البعض أن الأعداء لما نكلوا بالمسلمين قتلوا الأطفال وقتلوا النساء والأيتام والأرامل ويجهزون على القتلى هم أنفسهم يشعرون بالعار في كتب التاريخ عندهم والذي يقرأ كتبهم يقولون إننا نشعر بالعار أمام أجيالنا لأن أعداءنا كانوا أشرف منا، المسلمون عندما انتصروا علينا في معركة كذا ومعركة كذا ما قتلوا الأسرى ولا قتلوا النساء ولا الأطفال بل منّوا علينا. أما نحن فقلنا وفعلنا وإلى اليوم فماذا نصنع بهذه الحقائق وكيف نخفيها عن أجيالنا؟ فإنهم عندما يقرأون هذه الحقائق فإنهم ينجذبون شعرنا أو لم نشعر إلى دين أعدائنا من المسلمين. يقول الشاعر في عهد صلاح الدين لما انتصر صلاح الدين فمنّ على الأسرى وهم كانوا يتوقعون مائة في المائة أنه سيبيدهم لأنهم قد أسرفوا في قتل المسلمين فقال الشاعر أبياتاً جميلة ما زالت محفوظة:

حكمنا فكان العدل منا سجية فلما حكمتم سال بالدم أبطح

وحللتم قتل الأسارى وطالما     غدونا على الأسرى نمن ونصفح

ولا عجب ذاك التفاوت بيننا   فكل إناء بالذي فيه ينضح

هي حرب المسلمين وجهادهم هي أخلاقهم ليست المسألة أن تنتقم وتقتل وإنما تقدم دينك من خلال العرض.

د. محمد: وأيضاً يا دكتور وهذه قضية عامة حتى في الحياة العادية من دون حرب ولا قتال وحتى مع المسلمين لا تجعل الناس يملون عليك الخُلُق لا تتصرف بما يريدون منك وإنما تصرف من مبادئك من قناعاتك من دينك من خلقك الطبيعي الذي جبلت عليه لا تجعل الآخر هو الذي يحركك فتغضب أو تصبر أو تفعل شيئاً آخر فهذه قضية مهمة. قبل فترة يسيرة كنت في الأردن فزرنا معالم حضارة المسلمين السابقة القديمة وكنا مع أحد كبار العلماء في هذا الجانب وهو رجل متخصص ويكاد يعرف ذرات هذه الآثار من كثرة ما اطلع عليها وزارها وتعلم فيها فقال لي تأمل في كل ما نمر عليه ستجد أن المسلمين قوم شرفاء إذا جاؤوا إلى حضارات الأمم السابقة لا يفسدونها وأخذ يضرب لنا من الأمثلة الواقعية الحية يقول انظر هذه قلعة نبطية هذه قلعة يونانية ما فعل بها المسلمون شيئاً لكن هذه قلعة إسلامية انظر ماذا فعلوا بها الرومان، هذه طريقة الرومان، هذا أسلوبهم في البناء حولوها إلى كنيسة وأفسدوها في الجانب الفلاني عدا شيء واحد رأيته رأيت أعمدة طويلة وفي أعلاها صور تماثيل وإذا برأس التمثال مكسور فقلت ما هذا؟ قال سبحان الله هذا عمر بن عبد العزيز هو الذي كسر رؤوس هذه التماثيل في عهده ولا تجد من المسلمين شيئاً غير ذلك.

د. عبد الرحمن: لأن النص ورد بطمس الصور

د. محمد: ولأنه قد تتخذ والعياذ بالله للعبادة، هذا من منطلق شرعي. العجيب في الأمر أنه قال أن العلماء الغربيين وعلماء الآثار والتاريخ أشادوا بهذه القضية عندما زاروا كل هذه الآثار الموجودة قبل المسلمين قال يقول “لوبون” أنه ما عرف التاريخ قوماً أشرف من المسلمين في حفظ حضارات الذين قبلهم فهم ليسوا قوماً عنجهيون أو عندهم من الحقد حتى إنهم يتلفون المدينة ويحرقونها أبداً بل يبقون عليها وإذا كان البناء لا يناسبهم تجدهم أقاموا بجوارها مدينة فتجد مدينة قديمة وبجانبها مدينة جديدة.

د. عبد الرحمن: هذه ملاحظة تدل على ذائقة عن المسلمين. المسألة ما كانت مسألة عدم رغبة في الهدم لمجرد شيء وإنما هي تقدير لهذا الشيء. أذكر كلمة قرأتها في كتاب حضارات العرب غوستاف لوبون كلمة جميلة وهذا يؤكد ما ذكرناه الآن قضية أن التاريخ خير شاهد أنك الآن عندما ترى ما يصنعه اليهود بالمسلمين الآن تثور غضباً وتريد أن تنتقم وتنتقم بحق وبباطل أحياناً والإسلام يقول لا، المسالة مضبوطة شرعاً أنه ينبغي عليك أن تقاتل بناء على ما أمرك الله به ولذلك يذكرون في التاريخ أنه عندما دخل جيش من الجيوش الإسلامية إلى مدينة من المدن في سمرقند وغيرها دون أن يؤذنوا أهل سمرقند ويخبروهم ويدعوهم إلى الإسلام فإن أبوا إما الجزية قالوافلما دخلوا قال لهم أهل سمرقند أنتم يجب عليكم أن تؤذنونا قبل أن تأتوا فإن رفضنا تأمرونا بالجزية لكن ما رأينا شيئاً من هذا فلما ثبت هذا خرج الجيش من المدينة، أين تجد هذا جيش يدخل مدينة  ثم ينسحب منها؟! هذا لا يعرف إلا في التاريخ الإسلامي فقط. وهذه النماذج ينبغي علينا أن نظهرها والقرآن يؤكد هذه الحقائق.

د. مساعد: أعود إلى قوله (إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) الله سبحانه وتعالى في كثير من الآيات يمد إلى علمه العلم المحيط (بكل شيء عليم) وهنا قال (إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) هذه الإحاطة تدل سبحان الله على أنه ما من شيء فعلوه سواء حتى لو كان ما تخفي صدورهم فإن الله سبحانه وتعالى يعلمه وهو محيط به سبحانه وتعالى. ولعل هذا سر الإتيان بـ (محيط) هنا وذكرت الايات قبلها شيئاً مما يتعلق بأمر خفي (وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) ثم قال سبحانه وتعالى (إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) ولهذا نقول دائماً (إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)) فهي متناسبة (وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) وهنا لما قال (لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أيضاً أعاد قضية العلم ولكن كما قلنا معها لازمها وهو أنه قادر سبحانه وتعالى عليكم.

د. محمد: في قوله (لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) يقولون في قواعد الأصول والتفسير أنها نكرة في سياق النفي تدل على العموم فلا يضرنا ذلك الكيد اي شيء ويبشر المسلم بأنه إذا صبر واتقى فأن كيد الكفار حابط وأنه سوف يرتد.

د. عبد الرحمن: لعلنا نتوقف عند هذه الآية ونبدأ في اللقاء القادم في ىيات غزور بدر. هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

بُثّت الحلقة بتاريخ 5/8/2009م