الحلقة 17
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
هذه الآيات كانت استطرادا في ثنايا الحديث عن غزوة أحد وفي مقدمة الحديث عنها. وقد بينا في الحلقة الماضية أن الحديث عن غزوة أحد استغرق قرابة ستين آية من سورة آل عمران بدأ من {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)} ثم جاءت آيات الربا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) }إلى أن قال { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} وقد لفت انتباهنا إلى أن بعد ما جاء بالتخويف بعد آيات الربا { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)} جاء الإطماع في هذه الآية بشكل واضح في قوله سبحانه وتعالى{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133). إن لفظ “المسارعة” جاء في المسارعة في الخيرات كما في قوله {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)} وكذلك “المسابقة” في قوله تعالى {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} (الحديد) . المسارعة هنا في قوله “سارعوا” جاء من المفاعلة للدلالة على التتابع في المسارعة لأن مادة فاعل أحيانا تدل على التتابع وأحيانا على التقارب. تقول سافر الرجل لا يلزم المقابلة وإنما التتابع في العمل نفسه. فقوله سارعوا كأنه إشارة التتابع في الأعمال التي توصل إلى المغفرة من الله سبحانه وتعالى { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} وأيضا سارعوا إلى جنة عرضها السماوات والأرض. هذه الجنة عندما تكلم عن النار أعدت للكافرين {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)} جاء بالمقابل وهو الجنة التي أعدت للمتقين وكرر كما ذكرنا لفظ “التقوى” فجعلها هنا لأهل التقوى الذين من صفتهم أنهم يتقون الله سبحانه وتعالى ويتقون النار أيضا.
“جنة عرضها السماوات والأرض” تكلم عنها المفسرون وأطنبوا الحديث عنها. بعضهم يقول إذا كان هذا عرضها فما هو طولها؟! لأن المعروف أن الطول أطول من العرض. وبعضهم يقول أن هذه الجنة إذا كان عرضها السماوات والأرض فأين هي أولاً؟ ثم أين النار؟ عندنا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم {في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها درجة ، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ، ومن فوقها يكون العرش ، فإذا سألتم الله فأسالوه الفردوس . الراوي: عبادة بن الصامت المحدث: الألباني – المصدر: صحيح الترمذي – الصفحة أو الرقم: 2531. خلاصة حكم المحدث: صحيح}. مما يدل على أن إذا كان عرش الرحمن وهو أوسع المخلوقات دونه الجنة فهي أوسع من السماوات والأرض قطعا. وذلك الجواب على من قال إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ نقول وهل ليس لله إلا السماوات والأرض؟!. الله عز وجل ملكوته عظيم جدا إنما أراد سبحانه وتعالى أن يبين لنا أو يقرب لنا هذه الحقيقة وهي اتساع الجنة ولكن لا يعني ذلك أنه ليس لله إلا السماوات والأرض كما يتوهم البعض. وبعض المفسرين أشار إلى أن العرب يضرب بالسماوات والأرض مثلٌ للسعة.
في (وسارعوا) المتابعة وأيضا فيها المنافسة من المفاعلة {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} (المطففين) وأن المسارع كلما رأى أحدا قد سلك هذا الطريق يبذل جهده حتى يسبقه. فهي تتضمن هذا المعنى وهو المتابعة وتتضمن أيضا ألا يسبقك أحد إلى الله سبحانه وتعالى وجنته. وهذا هو المعنى الظاهر. { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} كأن الناس كلهم يتسابقون إليها ويتنافسون عليها فينبغي عليك إن كنت حريصا أن تسارع وتبادر والنبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة يقول بادروا بالأعمال كأنك إنتهز الفرصة. وهذه الحقيقة كثيرا ما تفتح أبواب الخير للإنسان فيتباطأ في أول الأمر ثم يندم وأيضا تفوته الفرصة ولذلك فحين يُفتح لك باب من الخير اغتنم الفرصة وابدأ يأتيك العون من الله سبحانه وتعالى . أحيانا مثلا يقال هذا يا إخواني مشروع خيري من يريد أن يساهم فيه؟ يقول أحدهم أفكر فيه. متى قال أفكر فيه انتهى الموضوع. سبحان الله ما يدري لو قد ذهب هذا الأمر عليه ونسيه ولكن لو قال في تلك اللحظة هذه خمسة أو عشرة ريالات ما يدري لو يفتح له باب آخر من الخير وتكون هذه بوابة الخير له. وهذا هو التمثيل الحقيقي والتطبيق الواقعي لقوله “سارعوا” كل ما فتح باب من الخير ضع فيه شيئاً ولو قليل. يا أخي استغفر الله تقول استغفر الله . اذكر الله , تقول لا إله إلا الله . صلي على النبي تقول اللهم صلي عليه. هذه المسارعة. أي قدموا, قربوا, افعلوا, ابدأ ولا تتوانى إلا إذا كان الأمر يحتاج إلى خيره ولا تدري هل هو من الخير أو ليس من الخير وهنا يكون التريث محمودا أما إذا ثبت لديك أنه شيء من الخير وانه مقطوع به فلا تتردد في العمل. العبد المؤمن يخاف من عدم مسارعته أن يكون فيه شئ من المنافقين عندما قال سبحانه وتعالى { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)}(التوبة). تثبيط الخيرات نسأل الله سبحانه وتعالى ألا يجعل فينا هذه الصفة فنحن نخشى ذلك. إذا فتح لك خير ثم سُد عنك إعرف أن عندك معصية. ولكن لاحظوا في نظم الآية أنه قال { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} ولم يقل وسارعوا إلى الأعمال الصالحة وإنما قال سارعوا إلى ما أنتم متحققون من أن ثمرته هي المغفرة ومن أن ثمرته هي الجنة. وأنت في الإسلام عندك وضوح تام لما هي الأعمال الصالحة التي ينبغي عليك أن تسارع إليها، مثلاً المسارعة إلى الصلاة عند النداء أو قبل النداء هذه من المسارعة إلى المغفرة فهذه لا تحتاج إلى أن تستخير أو تشاور نفسك. الله سبحانه وتعالى قال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)}(التوبة). هذا لم يسارع لأن القتال والجهاد في سبيل الله لا يحتاج إلى خيرة هذا من الأمور التي كان يتسابق فيها الصحابة. بل بعض الصحابة كان يقترع هو وابنه فمن اللازم أن يجلس أحدهما لرعاية الأهل. الأب يريد أن يخرج ويصر الابن على الخروج وأن الأب يبقى بين أهله فأقرعا بينهما مما يدل على إنهم يعرفون معنى المسارعة بمعنى بادر أنت في هذه الفرصة. بل أن بعض الصحابة خرج وهو يعرج لما سمع منادي الجهاد ومنهم من خرج وهو في عرسه مما يدل على أن الصحابة فهموا هذا الأمر فهما واضحا في حياتهم ولذلك كانوا يبادرون. انظر مثلا ما كان يحصل بين قبائل الأنصار الأوس والخزرج من المسابقة إلى نصرة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث إذا فاز هؤلاء بشيء يغارون منهم, ليس لأنهم يرون أن هؤلاء فازوا بشيء من جاه أو سمعة أو دنيا أو أن صلى الله عليه وسلم سيعطيهم أعطيات ولكن كيف ينالون هذا الخير ونحن قاعدون! فكانوا يسارعون إلى هذا الأمر. ونحن أحيانا يكون عندنا اجتماعات أو درس علمي فيؤذن للصلاة سبحان الله لا ادري ما الذي أصابنا فتجد أننا نكمل الصلاة وقد فات ركعة وأحيانا تفوتك إذا كنت محتاجاً لوضوء. مفترض أننا يكون عندنا شيء من الجد بأن قبل عشر دقائق من الصلاة ننتهي ويستعد الناس للصلاة. أما إذا استمرينا على هذا الحال فهو نوع من التقصير وعدم معرفة الأولويات. وفي الحديث { لو يعلم الناس ما في النداء و الصف الأول ، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ، و لو يعلمون ما في العتمة و الصبح لأتوهما و لو حبوا الراوي: أبو هريرة المحدث: الألباني – المصدر: صحيح الجامع – الصفحة أو الرقم: 5339خلاصة حكم المحدث: صحيح}. وهذا فضل المسارعة. ولكن الواقع الآن يؤذن ويقيم الصلاة وليس وراء الإمام إلا اثنين أو ثلاثة ثم يأتي الناس. فإذا بدأنا في الصلاة وأقيمت الصلاة نجد الصفوف على الأقل ثلاثة صفوف. للأسف تكتشف أن عندنا خطأ وخلل في هذا الجانب، فنحن نتوانى وهذا ليس مقصورا على العامة بل كثير من طلاب العلم نسأل الله أن يعافينا. سعد بن المسيب كان يفتخر ويقول أن ما فاتني تكبيرة الإحرام منذ أربعين سنة وفي قصة أخرى يقولون عنه أو غيره لما أخذه الشرطة ثم أطلقوه فجاء على خروج الناس من المسجد قالوا فبكى وقال والله ما رأيت هذه الوجوه منذ أربعين سنة. أي ما رأيت الناس يخرجون من المسجد منذ أربعين سنة لأنه كان دائماً في المسجد.
في الآية أيضا لفتة جميلة جدا أن بدأ بالمغفرة قبل الجنة (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) كأن الجنة لا تدخل إلا بالمغفرة ولذلك نلاحظ أن في كثير من آيات القرآن يبدأ بالغفور قبل الرحيم والمغفرة قبل الرحمة لأنك لا تستحق الرحمة إلا بعد أن يغفر لك وتمحص. حتى أهل الإيمان عندما يتجاوزون القنطرة أو الصراط توجد قنطرة يجلسون عليها ليتقاصوا فيما بينهم لأن الجنة لا يستحق دخولها إلا من صُفي تماما أبيض من كل سوء { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}(الأعراف). وهذه تدخل في باب التحلية بعد التخلية. وفي الآية تشويق { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) } ومن ذا الذي لا يحب الجنة؟ ومن ذا الذي لا يحب المغفرة؟! الله ما قال سارعوا إلى الأعمال الصالحة لأن الأعمال الصالحة فبها تكليف. كما تقول الآن سارعوا إلى الجائزة الكبرى وبالتأكيد الجائزة الكبرى لا تنال إلا بوجود أسئلة أو عمل ولكن لا تقول سارع إلى الأسئلة بل يضع الجائزة أمامك وهذا الذي يشوق الناس. يقول { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) } كأنها مضمونة لكن أنت أقبِل فقط وسبحان الله قال في الحديث القدسي { عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يرويه عن ربه ، قال : ( إذا تقرب العبد إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ، وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا ، وإذا أتاني مشيا أتيته هرولة ) . الراوي: أنس بن مالك المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم: 7536خلاصة حكم المحدث:[صحيح]}. الله سبحانه وتعالى كريم ويقابل فعل العبد وشكره وعبادته بالكرم. لما قال { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} قد يُسأل من هم المتقون؟ في تفسير القرآن بالقرآن جاء وصفهم هنا في هذا الموطن. { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) }. ونرجع إلى فكرة النظم والعناية بالنظم. لما جاء عند الإنفاق بدأ بالتصريح بقول “الذين” طبعا قوله “الكاظمين” فيها (الـ) تعني الذين. ولكن لا شك أن التصريح بـ”الذين” أقوى من (الـ) فلما بدأ بالإنفاق قال “الذين” ولم يقل “المنفقين” مع أن لو قال “المنفقين والكاظمين ” لكانت متناسقة. قوله “الذين ينفقون” كأنه قصد على أن ينبه على أن هذا الإنفاق متجدد وليس ذلك صفة لازمة مع أنه ورد {وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) }(آل عمران) ولكن في هذا الموطن يشار إلى أن الإنفاق تكون هذه الصفة متجددة والإنفاق خصوصا. ولما جاء للكاظمين وهو خلق مرتبط بالنفس قال (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) لأنه خُلُق أي ما يتحلى به ويجب أن يكون وصفاً لازماً . و”العافين” أيضا وصف لازم وكذلك لما قال { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} هذا إشارة إلى لازم الخبر في قوله (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وكيف أنه ما قال (والمحسنين) كأن الآية الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والمحسنين لكنه قال (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). فلو تأملنا الآية , نجدهم ينفقون في وقت الغنى والسعة والضراء غير ذلك أن يكون فقيرا لا يستطيع أن ينفق فينفق مثل ما ذكر عن عبد الله بن جعفر عندما كان ذاهبا للشام فمر بعجوز قدمت لهم ما تستطيع فقال لغلامه ما معك؟ قال معي عشرة ألف درهم, قال أعطيها إياها قال يكفيها كذا درهم فهي لا تعرف قال ولكني أعرف نفسي ولما ذهب إلى معاوية قال له ما وجد في الطريق فكافأه. المقصد من ذلك أن بعض الناس عندهم طبع الكرم في النفس والكرم في المال وقلّ أن يأتي كرم المال بدون أن يكون هناك كرم في النفس في الغالب لا يأتي كرم المال إلا مع كرم النفس. وأحيانا يكون العكس وهو قليل جداً أن الإنسان يعطي ويكون هناك بعض الانزعاج ولكن الغالب يتوافقان: كرم النفس وكرم المال. والأصل أن الكرم هو النفاسة والعلو فتسمية الإنسان الذي يعطي كريما ليس لأن معنى العطاء هو الكرم ولكن لأن هذا من أظهر الصفات التي يمتدح بها الإنسان وتكون ظاهرة عليه سميت هذه بهذه . فالكريم هو النفيس في الأشياء فيقال كريمة فلان لأنها نفيسة عنده والأحجار الكريمة لأنها عالية القدر ونفيسة.
لما بدأ بالإنفاق كان في ذلك إشارة إلى الجهاد بالمال وارتباطه بآيات الجهاد وآيات الربا . كلما جاء الربا في القرآن جاء معه آيات الإنفاق كما في سورة البقرة {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)}وسورة الروم {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) }. الربا هو أخذ أموال الناس بغير حق. قيل إذا أردتم أن تربوا ربا حقيقيا ينفعكم عند الله سبحانه وتعالى فأنفقوا فإن الله يعطيكم بالدرهم الواحد عشرة أمثال إلى سبعين ضعف إلى سبعمائة ضعف أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى وهي نسبة غير معلومة وهذا هو الربا الحقيقي. الناس يتفانون الآن ليكون عندهم نسبة 2% والله يعطيك نسبة لا تحلم بها!.
في قوله تعالى { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) } لاحظوا كيف جاء بهذه الأشياء متدرجة وهذا يذكرنا بالحديث حول سر ترتيب الأشياء في كتاب الله عز وجل. فأقول كيف جاء بالكظم ثم العفو ثم الإحسان تذكرنا بالقصة المشهورة لغلام للمأمون إذ أنكفأ الإناء الذي يحمله الغلام وكان حارا فانسكب عليه. شعر الغلام بالخوف فهو الآن في قبضة الأمير وسينتقم منه فقال يا أمير المؤمنين والكاظمين الغيظ، قال قد كظمت غيظي. قال والعافين عن الناس قال قد عفوت عنك، قال والله يحب المحسنين قال اذهب فأنت حرٌ لوجه الله . وهذا غلام فقيه إستغل الفرصة. كظم الغيظ هو مثل كظم القربة إذا امتلأت بالماء أمسك بطرفيها لكي لا يخرج منها الماء. هذا هو الكظم فكأنه قد امتلأت نفسه بحب الانتقام ولكنه أمسكها. لكن إذا كظم غيظه فلا يعني هذا أن ما بنفسه قد ذهب ولذلك جاء بعدها العفو وهو الإزالة. عفا الأثر أي ذهب أثره. وبعض الناس عنده القدرة على كظم الغيظ وليس لديه القدرة على العفو أي تبقى في نفسه وبعض الناس عندهم العفو وليس عندهم الصفح {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)}( النور). الصفح مرتبة أعلى من العفو وهو من أخلاق النفس العالية أي كأن الأمر ليس له ذكر البتة مثل ما قال يوسف عليه السلام { قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) }(يوسف). والتزم {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)}(يوسف) وما قال أخرجني من البئر لأنه التزم. لو قال وقد أحسن بي إذ أخرجني من البئر وهذه كان فيها ظلم فادح بالنسبة له ومع ذلك إلتزم وكأن الموضوع لم يكن. وقال { نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} كأنه هو المخطئ. ثم { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ}. وبعد أن قال تعالى “العافين” جاءت على اسم فاعل (ينفقون, الكاظمين, العافين) وفيه ارتباط بالفعل من جهة وليست فعلا خالص وليست في الاسم الخالص. اسم الفاعل مرتبط بالدلالة وكذلك بالإعراب. ولكن لما جاء عند الإحسان قال { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وهذه الفاصلة فيها تنبيه على العموم أن الله يحب أي محسن في أي أمر كان. حتى في الحديث {ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة . وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته ) . الراوي: شداد بن أوس المحدث: مسلم – المصدر: صحيح مسلم – الصفحة أو الرقم: 1955خلاصة حكم المحدث: صحيح}. علما بأن القتيل أو الذبيح لا يستفيد من القتل شيئا . و لما قال {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} هذا خبر وهذا من أساليب ذكر الأعمال التي يحبها الله ويحث عليها. {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) }(البقرة) وأنت لا شك تحب أن تتبع ماضي الله وأن تعمل ما يحبه الله ولهذا لما قال يصفهم (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) وصف واضح و (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) وصف واضح و(وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) وصف واضح فإن الله يحبهم ولكن لم يقل يحبهم بل قال (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) بمعنى أن هذه الصفات لا تكون إلا في المحسن. لماذا يحبهم؟ لأن هؤلاء قد بلغوا درجة الإحسان. وبالفعل لا يمكن أن الإنسان ينفق في السراء والضراء ويكظم الغيظ وكظم الغيظ ليس سهلا سهل أن يعبر عنه الإنسان بلسانه فهو من أيسر ما يكون ولكن والله في الواقع هو من أشد الأشياء . قال صلى الله عليه وسلم {ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب الراوي: أبو هريرة المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم: 6114خلاصة حكم المحدث: [صحيح]}. ويزيد على ذلك بأن يعفو عن من أغاظه وأساء إليه. بعض الناس لا يفهم المقصود بهذا الحديث عندما ينطقه (ليس الشديد بالصُرعة). يعني هو الذي يصرع صاحبه ولكن الحديث ليس الشديدُ بالصُرَعة. قال الرجل الصُرَعة هو الرجل المصارع القوي الذي يصرع غيره كأن تقول هذا الرجل طُلَعة أي واسع الاطلاع وهذا رجل رُحَلة أي كثير الترحال وهذا رجل صُرَعة أي يصارع.
(وسارعوا) في قراءة (سارعوا) وفي قراءة (وسارعوا)، سارعوا سقطت منها الواو فهل يجوز للإنسان أن يسقط حرفا من كتاب الله عز وجل؟ لا يجوز له ذلك. نقول أن هذان وجهان مقروءان من كتاب الله قرأ بهما النبي صلى الله عليه وسلم . في أحد المصاحف “سارعوا” وفي أحدها “وسارعوا” لأن الأصل هو ثبوت القراءة وصار الرسم تبعا لذلك فبدلا أن يكتبوا “سارعوا” في جميع المصاحف ولا يستدل على القراءة الأخرى فكتبوا في بعض المصاحف “سارعوا” وفي بعضها “وسارعوا” هم لما كتبوا المصحف أرادوا عند الكتابة أن تكون محتملة لجميع أوجه القراءات فإذا كانت الكتابة لا تسعف بأن يجمع فيها بين قراءتين جعلوا كل قراءة في مصحف فهذا يتلى في المصحف الكوفي وهذا في المصحف الشامي وبقيت هذه القراءات وهذا يدل على حرص الصحابة على نقل جميع ما جاء إليهم من كلام الله عز وجل دون أن يغيروا فيه. هذه طبعة نادرة ما جاء على وجهين كتب على أحدهما هذه من ظواهر ست تسمى ظواهر الرسم العثماني (سارعوا ووسارعوا) وأيضا (لا يخاف عقباها و ولا يخاف عقباها). الزيادة والحذف من هذه ثابتة لكن عادة في الكلمة مثل “الصراط” قد ترسم بوجه واحد ولكن هذه لا. (تجري من تحتها الأنهار و تجري تحتها الأنهار) (وصى , أوصى). أما النوع الآخر فهم كتبوه برسم والأمر موكول إلى القراءة ومهم أن ينتبه له من يعالج ما تعلق بالرسم حيث أن بعض الأوجه القرائية لا يمكن كتابته. مثل (اهدنا الصراط المستقيم) إشمام الصراط بالصاد أو السراط. فلا يمكن كتابتها فتكتب بوجه واحد لتدل على هذه وعلى تلك.
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) وهذا من بلاغة النظم القرآني . لما قال { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قد يقول قائل هؤلاء المحسنون طبقة عالية لا يخطؤون ولا يمر بهم شئ مما يمر ببني آدم من الذنب والمعصية والتجاوز فالله سبحانه وتعالى يقول { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}هم أيضا يذنبون. ما هو بذنب عادي بل فاحشة { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. هذه الآية غاية في فتح باب الرجاء لكل مذنب فقال (والذين) لهم هذه الصفات الرائعة للمتقين الذين أعدت لهم جنة عرضها السماوات والأرض والتي أمرك الله أن تسارع إليها مفتوحة للجميع ومع ذلك وصف هؤلاء المتقين الذين يستحقون هذه الجنة التي عرضها السماوات والأرض فقال {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} والفاحشة هي الذنب الفاحش القبيح العظيم ولذلك ذكر الله في سورة الزمر {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) } والإسراف على النفس في المعاصي كأنك مشيت فيها شوطا بعيدا، { لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} وهنا أيضا قال {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} أي لا تيأس من رحمة الله مهما ارتكبت من الفواحش ومن الذنوب ومن المعاصي. وسبحان الله العظيم في ديننا ليس بينك وبين الله أحد، اتصالك بالرب مباشرة. فأنت مهما أسرفت على نفسك من المعاصي لا تحتاج أن تذهب عند شيخ أو مفتي ولا تتصل بأحد ولا تطلب إذن من أحد وإنما تطلب من الله سبحانه وتعالى. قال { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} ثم جملة اعتراضية جميلة {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} لكي تذهب وتسأله؟ وذلك في بعض الآثار { عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما يحكي عن ربه عز وجل قال ” أذنب عبد ذنبا . فقال : اللهم ! اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنبا ، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ، ويأخذ بالذنب . ثم عاد فأذنب . فقال : أي رب ! اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى : عبدي أذنب ذنبا . فعلم أن له ربا يغفر الذنب ، ويأخذ بالذنب . ثم عاد فأذنب فقال : أي رب ! اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنبا . فعلم أن له ربا يغفر الذنب ، ويأخذ بالذنب . اعمل ما شئت فقد غفرت لك ” . قال عبد الأعلى : لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة ” اعمل ما شئت ” . الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم – المصدر: صحيح مسلم – الصفحة أو الرقم: 2758خلاصة حكم المحدث: صحيح}. أي أن الله سبحانه وتعالى عندما يرى العبد يقول استغفر الله قال {أذنب عبدي ذنبا . فعلم أن له ربا يغفر الذنب ، ويأخذ بالذنب . اعمل ما شئت فقد غفرت لك}. ولكن عند الأديان المحرفة حتى يتوب معاملة طويلة متعبة كأنها تقف بينك وبين أن تتوب. لو كان الآن من شروط أن أتوب أن أذهب إلى المفتي قد أتكاسل وأقول فيها فضيحة ولكن هنا فلا. {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فتح لباب التوبة على مصراعيه بينك وبين الله سبحانه وتعالىـ تُب إلى الله وكرر التوبة ما شئت أن تذنب ثم تذكر الله واستغفرت كأنه ما حصل شيء. وهذا الاستغفار لا يحتاج إلى موقع كأن تذهب إلى مسجد أو غيره. في الليل أو في النهار نفس اللحظة التي أذنبت فيها. وكأن هذا من معاني النظم عندما قال سبحانه وتعالى {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا} قال ذكروا الله فاستغفروا مباشرة ولم يقل ذكروا الله ثم استغفروا. يبادر إلى التوبة وهذا من معاني “سارعوا” عندما تذكر الذنب لا تقول إن شاء الله إلى الغد أتوب أو في رمضان أو بعد أن أحج أو بعد الأربعين . لا يا أخي إذا فعلت ذلك فقد يطبع على قلبك فلا توفق إلى التوبة مدى الحياة. ولذلك لما ذكرت ذنوب الأنبياء في القرآن كان من أعظم الحكم في ذكرها أن يذكر أنهم يبادرون إلى التوبة بعد الذنب مباشرة، وهذه من المزايا. انظر في قصة نوح عليه السلام قال {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)}(هود) قال نوح {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)}(هود) مباشرة. لم يقل يا ربي سأستغفرك في وقت لاحق بل قال {إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. ذنوب الأنبياء يذكر بعدها مباشرة في كل المواطن في القرآن كيف أنهم عادوا إلى الله في وقت الذنب. ولذلك في قصة داود لما حكم بين الخصمين فاستمع إلى أحد الخصمين وترك الآخر { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25) }(ص). وهذه دروس رائعة . الحسن البصري قال أن الله لم يذكر ذنوب الأنبياء ليعيبهم بها بل ذكرها لتهتدوا بهم في التوبة وهذا هو مقصد ذكرها. ولذلك أنت تطمئن كعبد مسكين تقول من أنا؟ النبي محمد صلى الله عليه وسلم والنبي داوود عليه السلام ومن أنا؟ وهؤلاء لما وقع منهم ما وقع استغفروا الله فغفر لهم فأنت إذن بادر. جعلها الله نور في حياتهم يقتدى بهم فيها. انظر {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)}(الأنبياء) فنادى مباشرة جاءت “الفاء” في جميع هذه المواضع دليل على أنهم يسارعون إلى هذا الأمر. في هذه الآية نقطة الإصرار على الذنب عندما يذكر الله تعالى أن من صفات المتقين أنهم ما يصرون على الذنب وأنه إذا ذكر الله سبحانه وتعالى يتذكر مباشرة بعض الناس يجادل وقد قال سبحانه وتعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)}(الحج) يجادل في الربا أو يجادل في شرب الخمر ويجادل في تأخير الصلاة أو في وجوب أو فرضية الصلاة ,يجادل في الله . الله ذكر هنا أن صفات المتقين أنهم لا يصرون على الذنب لم يذكر أن من صفاتهم أنهم لا يذنبون بل يذنبون وقد يقعون في فاحشة ولكنهم يتوبون. وقال {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ولذلك الإصرار والعياذ بالله قد يقع الإنسان في معصية قد تكون من الصغائر ولكن يصر عليها فتتحول بالإصرار من صغيرة إلى كبيرة. الإصرار هنا هو عدم طلب المغفرة من الله ولكن من أذنب واستغفر الله مرة بعد مرة هذا غير مُصِرّ. بعض الناس لا يفهم معنى الإصرار وقد يبتلى بعض العباد بذنب ما ولكنه كاره لهذا الذنب ويستغفر الله منه هذا لا يعتبر مُصرا. كما ذكرنا في الحديث , العبد يذنب فيستغفر فيقول سبحانه وتعالى “علم أن له ربا يغفر الذنوب”.
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136). هذا إطناب. لاحظ الآيات افتتحت بذكر التقوى والجنة وختمت بمثل ذلك كأنه إذا فعلتم ما فعلتم وحصل ما حصل فتأكدوا أن ذلك الوعد من الله سبحانه وتعالى سيتحقق. ولاحظ انها افتتحت بقول (أولئك) ما قال جزاؤهم إشارة إلى علو مكانتهم وأخلاقهم، جزاؤهم مغفرة وجنات بدأت بالمغفرة قبل الجنات.