برنامج بينات

برنامج بينات – آل عمران 35

اسلاميات

الحلقة 35

الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)

 

لقد ختمنا كلامنا في الحلقة السابقة ببيان بعض الفوائد في قوله تعالى (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (182)) لماذا جيء بصيغة “ظلام” ولم يقل “ظالم” للعبيد. وقلنا فائدة أخرى في قوله تعالى “العبيد” ولم يقل “العباد” وذلك ليشمل الناس كلهم البر والفاجر فهؤلاء لا يضافون إلى الله عز وجل لأنه لا يضاف منهم لله عز وجل من لا يتمثل العبودية الإختيارية. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) الكهف} إضافة إليه لأنه قام بحق العبودية . وأيضا {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) الزمر}. ونضيف أن الآية فيها تنزيه الله سبحانه وتعالى عن الظلم بالإضافة إلى أن صيغة المبالغة (ظلام) جيء بها لتتناسب مع صيغة الجمع في “العبيد”. فيها إشارة أيضا أن الله سبحانه وتعالى وبالرغم أنهم عبيد له منقادون ليس لهم من الأمر شيء إلا أنه سبحانه وتعالى منزّه عن ظلمهم. والأصل أن السيد لا يُسأل عن ظلم عبيده وعن تصرفه معهم فهم لا يستطيعون أن يشتكوا لغيره لأنه هو سيدهم والمتصرف بأمرهم والله صاحب القدرة المطلقة الذي يخاف من الظلم هو الذي يخاف من عاقبة الأمر. السيد عندما يتورع عن ظلم عبيده فإنما هو خوفاً من العاقبة والله سبحانه لا يخاف العاقبة وبالرغم من ذلك أنه من كمال عدله أنه لا يظلم مقدار ذرة مع أنه لا يسأل عما يفعل وهذا من صفات كماله سبحانه وتعالى وعلوه وينبغي عندما نقرأ هذه الآيات نلاحظ وأنت تقرأ في سورة آل عمران والقرآن كله هل تجد شخصية النبي صلى الله عليه وسلم تظهر لك في هذه السورة؟ هذه الآيات التي نزلت الآن فيها وعظ وتهديد وبيان وتسلية كلها لا تدل على أن المتكلِّم بالقرآن هو النبي صلى الله عليه وسلم وهو في هذه المعركة وبعد هذه الجراح وإنما هي إشارة فيها دلالة إلى أن المتحدث هو من يملك الدنيا والآخرة ويعرف الغيب ويثيب ويعاقب ويتوعد ويتهدد وهو سبحانه وتعالى حتى يقول {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) آل عمران} ويقول {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) آل عمران }وأيضا {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) آل عمران }. كما ذكر د. محمد بن موسى في كتابه القيم الإعجاز القرآني أنك عندما تقرأ كتب البشر تستطيع أن تستخلص شخصية المؤلف ولما تقرأ قصيدة تستخلص شخصية الشاعر وفي القرآن لا تستطيع أن تجد وراءه شخصية بشرية لا تجد فيها ما في البشر من الغضب والنوازع البشرية لا تجد إلا علم وقدرة وإحاطة. وهذا كان سبب إيمان بعض المشركين والمعاصرين من النصارى. هذه اللفتة كانت سببا لإيمان بعضهم منهم من قال أنه كان يتوقع أن الكتاب لمحمد فراح يبحث عن شخصية محمد فلم يجد وجد أن المتكلم إنسان آخر وأن محمد مجرد مبلِّغ. وعلى العكس من ذلك الذي يقرأ في التوراة لا يجد فيها إشارة أو دلالة على أنها من عند الله ولا حتى من عند موسى ولا عيسى وفيه إشارة أن الذي كتب هذه التوراة والإنجيل أنه شخص ثالث لا هو الله ولا هو النبي الذي يزعمون أنه جاء بهذا الكتاب. ولذلك يقولون أن أقدم النسخ التي عثر عليها من التوراة بينها وبين موسى 300 سنة. والأناجيل أيضا التي كتبت بينها وبين عيسى مفاوز ومن كتبوها ليسوا من تلاميذه ولا من حواريه ولذلك فيها من التحريف الشىء العجيب، الله تعالى تكفّل بحفظ هذا القرآن. ولذلك عندما نتحدث في مجالسنا هذه الآية تدل على كذا وانظر إلى قوله تعالى كذا فنحن مطمئنون أن هذا حق وأنه كلام الله ونحن مطمئنون أن لم يدخله أي تحريف. وإن كان دخله تحريف لوجدنا في أنفسنا شيء في الإستنباط. ولكن عندهم في التوراة والإنجيل لا يوجد هذه الطمأنينة والشعور بالنعمة والفضل الذي امتن الله به على أهل القرآن.

وقلنا أن صيغة ظلام جيء بها من أجل الجمع ولهذا شاهد في سورة غافر قال تعالى {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) غافر} فلما جاء بالذنب جاء بغافر ولما جاء إلى قوله تعالى {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) طه} لما جاء للجماعة , لكل من تاب هو غفار مهما كثر ومهما كثرت ذنوبهم جاء بـ”غفار” صيغة مبالغة.

 

{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}

 

هذا تابع لما قبله {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } (من 181 آل عمران ). هذا من جدل القرآن فهو يذكر شيئا من جدلهم ويرد عليهم ردا مفحما فيقول إن هؤلاء قالوا إن الله عهد إلينا على لسان الرسول الذي جاء إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار .يعني أنت يا محمد ليس لديك هذه الميزة أو الخصلة فنحن لا نؤمن لك حتى تكون كذلك. الله يرد عليهم { قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. الذي قلتم أي بالقربان تأكله النار. وهذا يدل على أنكم كاذبون في دعواكم وأن هذه الدعوة مجرد مماحلة ومماحكة لا طائل من ورائها. في الأمم السابقة كما في قوله سبحانه وتعالى { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) المائدة} كيف تُقُبِل؟ قالوا أن الله إذا قرّب أحدهم شيئاً يرسل نارا فتحرق القربان فتكون هذه علامة على قبوله وسار ذلك في الأنبياء. ولذلك قصة طريفة يقولون بنى عبد الملك بن مروان دارا وبنى الحجاج بن يوسف دارا فجاءت صاعقة فأحرقت دار عبد الملك فتشاءم بذلك فجاءه الحجاج فقال يا أمير المؤمنين قد تقبل الله قربانك ولم يتقبل قرباني فسُريّ عن عبد الملك. لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما خص به الله عن بقية الأنبياء قال {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحلت لي الغنائم . الراوي: جابر بن عبدالله المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم: 3122. خلاصة الدرجة: [صحيح]} فنحن الأمة الوحيدة التي أحل الله لها الغنائم. هذه أراد اليهود أن يستغلوا هذه الثغرة ضد النبى صلى الله عليه وسلم ولكن جاءت على رؤوسهم. هناك أنبياء تقبل الله قرابينهم ونزلت النار على ما تقربوا به إلى الله ومع ذلك ما آمنتم بهم!. يا كذبة إذاً أنتم تريدون المماحكة!..

فائدة في المناظرة انظر كيف يلقن الله الحجة للنبي { قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} هذا ما كان يعرفه النبي ولكن الله يلقنه ويعطيه الحجة. ولما قال (بالبينات) دلالة على أن البينة التي يعرف بها أنه رسول أم لا أن هذه الأشياء ليست هي البينات. هذا الكتاب الذي جاء به محمد هو البينة الدالة على أنه رسول من عند الله كما قال تعالى { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) العنكبوت} إن كنتم تطلبون آيات فقد جاءت هذه الآية العظمى أليست كافية بأن تؤمنوا بأنه رسول الله وأنه جاء بالبينة الحقة من الله. بعض الناس ربما يقول في نفسه أنا أرى أن دلالة معجزة موسى على نبوته أقوى من معجزة القرآن على نبوة محمد. معجزة موسى عصا يلقيها فتنقلب ثعبان وتأكل الثعابين يرى بعض الناس أن هذه دلالة أقوى والله يقول .{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) العنكبوت}. في هذا إشارة أن دلالة القرآن على نبوة محمد أشد من دلالة معجزات الأنبياء السابقين على نبوتهم ولكن نحن فينا نقص وضعف في إدراك هذه الحقيقة من إدراك أعجاز القرآن بما فيه من الأسرار والحجج الجازمة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا ضعف فينا وخلل يجب علينا جميعا تداركه وأن نحيي في الأمة العناية بالقرآن ولغة القرآن حتى يتذوقوا هذه الأسرار التي جعلت القرآن حجة أبلغ من الحجج السابقة ولذلك تسمى الآية الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم على نبوته. فكما أن موسى كانت معجزته العصا فإن القرآن هو الآية الكبرى للنبي على نبوته.

 

يقول { قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. فيها دلالة على أهمية معرفة التاريخ وأن من يناظر أمثال اليهود والنصارى وغيرهم ينبغي أن يكون عارفا بالتاريخ حتى يستطيع أن يحتج عليهم..قد جاءت رسل بهذه القرابين وما آمنتم بهم. وهذه مسألة تاريخية فيها الدلالة على أهمية معرفة التاريخ عموما وتاريخ من تناظرهم خصوصا.

 

في قوله { فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} هذه تكرر معناها في القرآن وفيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أنت لست بدعا في هذا الطريق إن كنت كُذبت وأنت تضيق ذرعا بتكذيبهم لك فهناك رسل قد كذبوا قبلك جاءوا (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) بمعنى أنهم جاءوا بالشيء الواضح التام الذي تقوم به الحجة أنه مرسل من الله ومع ذلك كذبوا. فما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً فليس بدعا أن يكذبوا رسول الله خاصة من هذه الأمة التى بلغت من البعد عن الحق الشيء الكثير جداً. ما آمنت بما رأت وهي تراه أمامها فكيف بشيء غيبي بما يخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بما عنده وهم يعلمون ان ما أخبرهم به هو الحق ولكن هذا هو الحسد.

 

لما قال بالبينات ثم قال والزبر والزبر جمع زبور ومادة زبر بمعنى كتب. ما الكتاب المنير هنا؟ الزبور إشارة لما سبق من الكتب والكتاب المنير إشارة إلى ما نزل على الرسول. أو أن تكون كلمة الكتاب اسم جنس بأنه الكتاب المنير الواضح إشارة إلى أنه ينير الطريق . البينات واضحة في نفسها والكتاب المنير فيه إشارة أنه ينير الطريق. وممكن ان نقول أن الزبر إما يراد به ما أنزل على الأنبياء السابقين أو الزبر ما أنزل على الأنبياء والكتاب يكون الجنس وهي الكتب التي أنزلت بما فيها كتاب النبي. ومعروف أن الزبور هو ما نزل و { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) الأنبياء} فسرها كثير من السلف بأنها التوراة.

 

أظن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطمع في أن اليهود تسلم لأن ما عنده من الحق يوافق ما هو مزبور في كتبهم. كان يتطلع إلى ذلك أنه لما تأتيهم أدنى بينة من عندي توافق ما عندهم فيؤمنون لي، الله يقول له انتبه { فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ }صار عندهم أوضح بينة وأعظم معجزة فكذبوا، فإطمئن يا محمد ولا تحزن ولا تجزع إن كُذبت من قبل هؤلاء. وكان صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه يحب أن يوافقهم فيما ليس عنده فيه وحي حباً بالخير ولأنهم أصحاب كتاب حتى أمر بمخالفتهم فيما يفعلون. هو جاء من مكة وكان أهل مكة مشركين فكان يتوقع من أهل الكتاب أن يؤمنوا به وقد أسلم منهم كثير مثل عبد الله بن سلام وكان لإسلامه صدى فقد كان حبرا من أحبار اليهود. وقد سعد النبي بإسلامه { لو آمن بي عشرة من أحبار اليهود لآمن بي كل يهودي على الأرض ، أو على ظهر الأرض .الراوي: أبو هريرة المحدث: ابن القيسراني – المصدر: ذخيرة الحفاظ – الصفحة أو الرقم: 4/1994 – خلاصة الدرجة: [فيه] محمد بن سليم ليس بالقوي}. ولكن الذين أسلموا من اليهود هم من غير الأحبار.

 

{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}. هذه الآية لما جاءت في هذا الموطن هل لها مناسبة؟ كأنها والله أعلم أن هذه إشارة إلى أنها سنة إلهية . بعد المعركة هناك من قتلوا واستشهدوا وناس نجوا هل معنى هذا أنهم سلموا سلامة لا موت بعدها؟ لا. وانما هي آجال، هي مسألة آجال مكتوبة ومحددة، وجاءت عاقبة القصة كلها أن الله محاسب الذين كذبوا والذين خذلوا وأيضا الذين صبروا . فقال تعالى { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} وهذه قاعدة قرآنية لا يتخلف عنها أحد. ولاحظ أنه عبر بـ(ذائقة) التذوق باللسان لكنه عبر هنا بالموت كأن فيه شىء يذاق. ثم قال { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فالحساب والعقاب والثواب الحقيقي هو ما يكون يوم القيامة يوم الحساب والفوز والنصر الحقيقي هو أيضاً هناك. فكأنها مناسبة لختام الحديث عن المعركة والدروس التي أخذت منها والحديث عن اليهود وما تقدم.جاءت الآية كأنها تذييل لهذه القصة. لاحظ (زحزح) معنى مكرر يدل على معنى التدافع كأنه يُدفع شيئاً فشيئاً عن النار كما في كبكبوا . كرر زح زح ويسمونها الرباعي المضعف مثل زلزل وزحزح وكبكب وجلجل. وفي الغالب تجد الدلالة المعنوية موافقة للنطق اللفظي وهذا من أسرار العربية أن مطابقة اللفظ للمعنى. عندما تقول جرجر تلاحظ فيه جر شيئاً فشيئاً، زحزح كأنه زح زح قليلا قليلا. لاحظ أن الأصل أن الإنسان في نار جهنم { وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) العصر} وقال في سورة مريم { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) مريم}.ونلاحط كلمة “نذر” هنا. (من زحزح عن النار وأدخل الجنة) والإدخال لا يكون إلا برحمة الله نسأل الله أن يزحزحنا عن النار وأن يدخلنا الجنة بعظيم فضله ورحمته.

 

ويدلك على أن النجاة من النار تحتاج إلى بذل وإلى العمل والجهد والبذل, هذه الزحزحة لا تأتي بمجرد التمني وإنما لا بد من العمل. ابتلاءات أُحد كأنها من أجل هذه الزحزحة. وكذلك قال { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)} العقبة هي العمل الصالح . ما هو؟  فَكُّ رَقَبَةٍ (13) البلد} العقبة هي العمل الصالح،. من يقتحم هذا العمل الصالح؟ فأعطى المثال فقال {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} مسغبة أي جوع شديد ثم قال {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)}. إذا نحن عندما نريد أن نقي أنفسنا من نار جهنم نحتاج إلى كثير من الجهد والعمل والبذل حتى ننقذ أنفسنا ولذلك قال تعالى { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) الأعلى}. تزكى أي تفعل والتفعل يحتاج إلى بذل وتكلف والنبي صلى الله عليه وسلم قال {اتقوا النار ثم أعرض وأشاح ثم قال : اتقوا النار ثم أعرض وأشاح ثلاثا حتى ظننا أنه ينظر إليها . ثم قال : اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة .الراوي: عدي بن حاتم الطائي المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم: 6540.خلاصة الدرجة: [صحيح]}. كأن النار فيك فيك ولكن إتقي الله بشق تمرة. في ختام سورة آل عمران قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) آل عمران } أي اصبروا فإذا صبر عدوكم تحتاجون أن تغالبونهم في الصبر، مصابرة ، صابرنا ثم قال رابطوا { وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

 

لاحظ في قوله زُحزح وأُدخل مبني للمجهول للعناية بالحدث وترك المحدِث. كما أنه قدم الزحزحة عن النار من باب التخلية على إدخال الجنة من باب التحلية وهو ترتيب واقعي فكما يقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة أحد إلا وقد صُفّي. وكأن من زحزح عن النار أنه قد لامسها ثم بعد عنها شيئا فشيئا حتى يخلص منها ثم يدخل الجنة ولهذا قال (فقد فاز) إذن بداية الفوز دخول الجنة. قيل للإمام أحمد متى تجد الراحة يا إمام؟ قال عند أول قدم أطؤها في الجنة. حتى بعد الخروج من النار وقبل دخول الجنة هناك قنطرة يقف عليها المؤمنون فيُصفى ما بينهم لأنه لا يدخل الجنة أحد وفي قلبه شيء على أخيه. سنجد أهوالاً عظيمة نسأل الله أن يقينا شرها ويدفع عنا ضرها برحمته.

 

هذا التفصيل الموجود عندنا عن اليوم الآخر غير موجود لا عند النصارى ولا عند اليهود. ولذلك يموت منهم ميت فيدعون أنه صعد إلى السماء عند إلههم المزعوم وأنه ينظر إليهم وغيره من هذا الكلام العجيب. الحمد لله المسلم عنده تفاصيل عن إذا مات كيف يغسل ويكفن وكيف يحاسب والأسئلة في القبر معروفة عندنا قبل الاختبار وعرصات يوم القيامة كذلك {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) إبراهيم}. كأنه ينقل لنا نقلاً حياً ولكن نجد فينا الغفلة والتساهل.

 

أيضا فائدة في هذه الآية { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} الزمخشري له كلمة في كتابه الكشاف في التفسير عندما فسّر هذه الآية فعلق على “قد فاز” قال فأي فوز أعظم من ذلك!؟ البلقيني يقول استخرجت من كشاف الزمخشري اعتزاليات بالمناقيش لأن الزمخشري من المعتزلة وهم ينفون رؤية الله في الدنيا والآخرة ويستدلون بقول موسى { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي (من 143 الأعراف)}. لن تراني يعني مطلقا. يقول البلقيني أن هذا من الزمخشري “وأي فوز أعظم من ذلك” هذا نفي لرؤية الله في الآخرة ورؤية المؤمنين لله في الجنة هي أعظم فوز وهو أعظم من دخول الجنة. ولكن أقول أن هناك نوع من التكلّف في قول البلقيني وليس بالضرورة أن الزمخشري قصد هذا القول ولكن لما عهد فيه أنه يدس اعتزالياته ذهب الناس لكشف تلك المدسوسات. ومن أشدهم على الزمخشري أبو حيان الأندلسي ورأيت السمين الحلبي ينتصر للزمخشري على شيخه ماذا يقصد؟ يقول هذه دسيسة اعتزالية ويأتي تلميذه فيقول هذا من الشيخ تكلف أو تحامل.

مرت قصة في هذه الآية في رمضان قبل ثلاث سنوات كنت قادماً لصلاة التراويح في المسجد فسمعت جلبة على غير العادة فاستغربت وسالت قالوا امرأة سقطت في الداخل والنساء يستنجدون فأمرت النساء أن يستتروا فإذا بالمرأة قد جاءت وصلت النافلة قبل الصلاة وهي في التحيات اضطجعت على شقها الأيسر والنساء ما يدرون ماذا يصنعون فلما دخلنا إذا بالمرأة مستلقية لا ندري ماذا بها، ومن توفيق الله أنه كان معي في ذلك اليوم أحد الأطباء وفقه الله فناديته وعمل فحصاً مبدئياً للمرأة فقال يجب حملها الآن للمستشفى ونقلها في سيارته ودخلت للصلاة وهو قال لي يظهر أنها ماتت فقرأت في الصلاة وكنا وصلنا إلى هذه الآية (كل نفس ذائقة الموت) فكنت كلما قرأت تذكرت هذه الآية وهذا الموقف وفعلاً المرأة ماتت في الليلة الرابعة من رمضان في المسجد فاتصلت بأبنائها وذهبت إليهم أعزيهم وقلت والله لو خُيرت لكنت مكانها، ميتة في رمضان بعد صيام وفي بيت من بيوت الله وهي في صلاة، الملائكة تصلي عليها ما أجمل هذه الميتة. وهذا فضل واصطفاء ونحن نتحدث عن الإصطفاء في سورة آل عمران.