منظومة إضطراب الحركة (ذبّ)
ذبذب – تحيّر – تردد – تاه
الكلمة الوحيدة في كتاب الله عز وجل التي تدخل في هذا التكوين كلمة ذبذب (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) النساء). والذبذبة هي إضطراب الحركة. لما تأملنا في كتاب الله عز وجل وأردنا أن نبحث فيه إضطراب الحركة وهذه حركة مضطربة ليس لها وجهة محددة. الكون كله يقوم على التذبذب والتردد. الكون موجي وجميع الحركة في الكون تقوم على التذبذب والتردد وكلنا نسمع في الفضائيات أن إرسالها يتم على ذبذبة قدرها كذا ميجاهيرتز. هذا التردد في الكون هو التسبيح كما يقول بعض العارفين (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) وربما يكون صحيحاً. كل حركة ابقى تتردد في الفضاء وهذا شأن الفيزيائيين الذين يعرفون معنى هذه الكلمات وأين مبدأها ومنتهاها وهم أقدر الناس على تلمّس قدرة الله تعالى في الكون. نحن نتكلم عن حركة الإنسان على خلاف حركة الكون. إذا كانت حركة الكون تقوم على الذبذبة والتردد فإن حركة الإنسان تقوم على الثبات والإستقامة: الثبات على مبدأ والإستقامة بإتجاهه. والثبلت في هذاه الأمة بل في كل المخلوقات البشرية تقوم على لا إله إلا الله (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) إبراهيم) فلا إله إلا الله القول الثابت الذي لا يمكن تحريفه ولا الزيادة عليه ولا نقصه وهي قضية هذه المخلوقات البشرية الحيّة وهي لا إله إلا الله وهي رسالة الأنبياء جميعاً وإذا ثبتت لهم هذا القول الثابت أدت إلى هذه الإستقامة (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألأ تخافوا ولا تحزنوا) إذن الثبات أولً على مبدأ وهو لا إله إلا الله ثم الإستقامة بإتجاهه. فحركة المسلم أينما كان وكل من يؤمن بالله رباً وإلهاً تقوم على الثبات على لا إله إلا الله والتوحيد المطلق ثم الإستقامة بإتجاه هذا التوحيد ولكل دين إستقامة (ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) هذا الثبات قد يختل ابتداء وقد يختل انتهاءً. وعندما يكون الإنسان مختل الحركة فهو إما متردد أو متذبذب أو متحيّر أو تائه وهذه تعبر عن شيء إصطلاحي في كتاب الله إسمه النفاق. فالمنافق هو الذي يكون إما متردداً أو متذبذباً أو متحيراً أو تائهاً.
منظومة إضطراب حركة الإنسان فيما يُراد لهذا الإنسان أن تكون حركة ثابتة بإتجاه الإستقامة أو إستقامة دائمة بإتجاه الثبات. الكون موزون كما أن هذا الدين موزون بموازين ثابتة لا تتغير وما يتغير فيها متروك للناس وهذا عمل الفقهاء. لا إله إلا الله تقوم على ميزان دقيق إذا إختل منه جزء يفسده. هذا الشعار الخالد لا بد أن يُصان بصيانة مطلقة تبعده وتنزهه عن كل ما يشينه.
التردد: عقلي. تريد أن تعمل مشروعاً، أن تسافر، أن تنتمي إلى دين فإما أن تكون في البداية ثابتاً ثم تستقيم على هذا الثبات أو لست واثقاً أو يقينك مهزوز. أول مرحلة تبدأ التردد والتردد عقلي. تريد أن تتوجه إلى الحج مثلاً: إن كنت ثابتاً تعلم أن الحج ركن من أركان الدين والذهاب إليه هذا ثبات على إعتقادك أن الحج ركن والإستقامة أنك تعلم ماذا ينبغي لهذا الركن. هذه الصيغة الوحيدة الصحيحة (قل هذه سبيلي أدعو الله على بصيرة). الصواب واحد والخطأ متعدد. إذا كنت ثابتاً ومستقيماً. قد تقول ما الحج؟ طواف وسعي ؟ في عقلك لم يعد ثابتاً، أول بداية الخلل العقلي يسمى تردداً (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) التوبة) القضية عقلانية عقائدية. ذهب الناس للجهاد فقال أحدهم وهو جالس في بيته أين أذهب؟ كيف أترك عيالي؟ ثم يبدأ بالفلسفة ثم يبدأ يقول مَنْ محمد؟ بدأ الخلل في تصوره وعقله. بداية الحركة تفكير تسمى في المصطلح الديني نيّة. نيّته هنا اختلّت فهذا تردد. وقد ذكرنا في حلقات سابقة الفرق بين الشك والريبة: الشك هو تساوي الطرفين مع تقدم في المعرفة والريبة هي تساوي الطرفين مع هروب من المعرفة. فالتردد شك مع تهمة أنا أشك هل أنت مريض أو متمارض؟ هل أنت ناجح أو راسب؟. الريبة أنا مرتاب فيك هل أنت لص أو أنت أمين؟ هذه فيها تهمة. فهؤلاء ما شكّوا بالنبي r وإنما ارتابوا فيه إذن هذا تردد. كل من يبدأ بعدم الوصول إلى تصور ثابت محدد ومستقيم يسمى تردداً. هذه أول خطوة في الضلال أو الإضطراب.
التحيّر: لما يستحكم منك التردد يؤدي بك إلى التحير. أين أتوجه ؟ مع محمد أو مع المنافقين الخوالف؟ بعد أن إختل عقلك في موضوع المبدأ إختلت نيتك في التوجه. ليس عندك مرجّح أو خطة أو غيره لهذا فأنت بينهما وهذا يسمى تحيّراً (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) الأنعام). هذا كان مسلماً ثم إرتدّ فيقول تعالى لمحمد r : قل لهم (كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران) هذا حيران، الشيطان يقول له تعال. وسبق أن ذكرنا كلمة هوى واشتقاقاتها العجيبة: هوا من الريح، وهوى من الرغبة والشهوة، وهوي السقوط (أو تهوي به الريح في مكان سحيق). بعدما تردد أراد أن يتحرك فتحيّر في الحركة أين وجهته؟ بعد أن شك في المبدأ تحيّر في الوجهة التي يتحرك إليها. نحن مسلمون (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ (آل عمران)) إستقامة كاملة ليس فيها شك (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) الأنعام) إستقامة كاملة نحو الثبات الكامل.
التيه: بعدما تحرك ولا يدري أين يسمى تيهاً. عندما تفقد الهدف أو الوجهة يسمى تيهاً (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) المائدة) بني إسرائيل أربعين عاماً تحركوا حركة دائمة وليس لهم وجهة يذهبون من النهار إلى الليل ثم في الليل يجدون أنفسهم في المكان الذي إنطلقوا منه في النهار.
الذبذبة: لو صارت لهم وجهة وليست واحدة وإنما اثنتين مرة هنا ومرة هنا بلا هدف فقط حركة آلية تدل على ضياع وتفاهة وإنعدام وزن مثل بندول الساعة ليس عنده غرض لا مع اليمين ولا مع اليسار وإنما وظيفته أن يتحرك إلى المين واليسار. ذبذبة الكون كبندول الساعة لكن في الكون هي محمودة لكن في الإنسان مذمومة. الذبذبة حركة الشيء المعلّق. كل حركة لها صوت، حكاية هذه الحركة للشيء المعلق بشيء رتيب بلا معنى كما يقول الشاعر:
يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحاً كعاشق خطّ سطراً في الهوا ومحى
حركة لا مردود لها. هذا الإضطراب في النهاية كما قال تعالى (مذبذبين بين ذلك).
هذا الفرق بين التردد (عقلي وذهني) ثم التحيّر (أين تتحرك؟) ثم تحركت بلا وجهة (تيه) ثم اهتديت إلى عدة وجهات فمرة أنت هنا ومرة هنا ومرة هنا (ذبذبة).
هذه المنظومة كان يُعاب أصحابها لأنهم قِلّة. في كل المجتمعات وعلى كل المستويات في حركة اليوم الليلة للبشرية كانت هذه المنظومة في غاية القبح: تقول فلان متردد، تائه، متحيّر، مذبذب أو متذبذب، لقبحها لا يتصف بها إلا قلة من الناس وهذه القلة مذمومة وغير متزنة وغير واضحة المعالم في الحركة وعندها كثير من الإختلاطات والإختلافات والخلل. هذه المنظومة تفرع منها : فلان جبان ، خوّان، منافق، ذو وجهين… كلها بدأت بأن يكون الإنسان متردداً في ذهنه، متحيراً في وجهة حركته، تائهاً في حركته الفعلية، مذبذباً في عدة وجهات ليس له إلتزام بشيء. المتذبذب هو ليس ملتزماً بشيء. هكذا كل حركة الكون الإنسانية تخضع لهذه المعايير. الشيء المحزن الذي أخبرنا به الرسول r : “لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس” وحديث الغرباء ” سيأتي يوم يكون المسلم فيه غريباً” وتُرفع الأمانة حتى يقال إن في بين فلان أميناً. الخلل بإضطراب الحركة. اضطربت حركة البشرية جمعاء. كنا سابقاً بإتجاه الأمانة عقيدة أولاً ثم إستقامة هكذا كان 90% من الناس في كل مراحل الكون البشرية عندما فقدت الثبات والإستقامة واليوم أصبح هذا سياسة. النبي r يخبرنا بحديث عجيب طُبّق في 11 سبتمبر. بدأ العالم في مرحلة جديدة. منذ خلق آدم إلى ما يسمى بأحداث 11 سبتمبر على وتيرة. كانت الأمم عندها موازين، كل الأجيال كان الناس متفقون على الأمين والخائن والسارق والشريف والصح والخطأ وكان هناك إتفاق على موازين الصواب والخطأ. ومن ذلك التاريخ إختل الميزان بالكامل بحيث أصبح الصواب خطأ والخطأ صواباً. يقول r:” كيف أنتم إذا لم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ قالوا: أوكائن ذلك يا رسول الله؟ قال” وأشد منه كائن. كيف أنتم إذا رأيتم المنكر معروفاً والمعروف منكراً؟ قالوا: أوكائن ذلك يا رسول الله؟ قال: وأشد منه كائن. كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟. هذا كائن الآن. دول، حكومات، إعلام، مِهن عامة، علاقات إنسانية، كل حركة هذا الكون بكل أصنافها هل هي قائمة على الثبات والإستقامة كما كان سابقاً على زمن أجدادنا وآبائنا؟؟ كلا. لأول مرة يختل هذا النظام العالمي كله. هل المنظمات الدولية لها إلتزام بميثاقها التي وضعته أو أنها متذبذبة بين مصالح الأمم والقوى العظمى؟! هذه ذبذبة ليس لهم موقف. منظمة الأمم المتحدة، الجامعة العربية، منظمة حقوق الإنسان وغيرها المحتل أصبح رجل السلام والمدافع عن أرضه أصبح إرهابياً، المعروف والمنكر نسبي من دولة لدولة ومن شعب لشعب ومن أمة لأمة.
قِس على ذلك كل شيء وكل المهن: التاجر سابقاً كان مهيباً ومتخصصاً وكان للتجار كبير يحكم بينهم أما اليوم فأصبح التاجر يشتغل بكل شيء وذهبت قيم وثبات وإستقرار التجارة. عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول السوق دولة له قيمته وقوانينه. وكانت الأسواق متخصصة: سوق الورّاقين، سوق القماش، سوق الإبل، سوق الخيول والإسلام لا يقبل بالإخلال بقوانين السوق وإستقراره.
كل رؤوساء العالم أصابهم التردد أولاً ثم التحير ثم التيه ثم الذبذبة التي أصبحت سمت السياسة في العالم كله وإجماع الدول على هذا الخلل لم يسبق إن حدث في الكون. وهذا إجماع خطير على مستقبل الكرة الأرضية لأن لها قواني وضعها الله عز وجل. ليس في وسع قوة خارقة أن تستبد بالضعفاء الذين لا يستطيعون ردّها وإلا فإن الله تعالى سيتدخل مباشرة بأسباب لا أحد يستطيع دفعها. الله تعالى أغرق فرعون ودولته والنمرود الذي ظلم الناس تدخل الله عز وجل ببعوضة تدخل في إذن الجندي فتصرعه. قوم عاد طغوا وقالوا من أشد منا قوة؟ هذه العبارة بداية النهاية المطلقة. لهذا الكون بهذه الذبذبة المعاصرة إن لم تقم قوة عالمية لإنهاء هذا العار فإن كارثة لا بد أن تقع.
من عصى الله بعد أن عرفه سلّط الله عليه من لا يعرفه. وقال تعالى (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) الأنعام). بأس الكل طاقة وليس أذى. والبأس أن تفرّغ طاقتك وكل ما تستطيع.
(ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) الأنعام) (القرى أي المجتمع) والمصلحون الذين يحققون العدل فيما بينهم. هذه القرى التي تشرك بالله لا يعبها الله تعالى في الدنيا لأنه تحقق العدل قيما بينها.
يقول ابن خلدون : إن الله لا يُديم دولة الكفر مع العدل ويسقط دولة الإسلام مع الظلم.
بثت الحلقة بتاريخ 13/1/2006 م