الضد – اللِّد – الخصم – العدو –
ننتقل الآن من حرف الصاد بعد أن تكلمنا عن كلمة الصمت وأخواتها وبيّنا جرائم اللسان وبقيت كلمة صغى نؤجلها لوقت آخر. ننتقل إلى حرف الضاد والكلمة التي تطالعنا هي كلمة ضد (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ﴿81﴾ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ﴿82﴾ مريم).
الضد نوع من أنواع العداوة فإذن حلقتنا هذه عن منظومة المواجهة. والمواجهة أشكال عديدة وأنواع مختلفة من العداوات. والعداوة كما نعلم قانون من قوانين البشر هكذا شاء الله عز وجل عندما أهبط آدم وحواء من الجنة (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴿36﴾ البقرة). فبنو البشر وبنو آدم برغم كونهم من أب وأم واحدة إلا أنهم متعادون، متخاصمون كما هو واقع الحال منذ آدم إلى أن تقوم الساعة. ما أن هبط آدم وحواء وجاءهم هابيل وقابيل حتى قتل أحدهما الآخر واستمر الحال على هذا إلى يوم القيامة. إذن حلقتنا هذه عن أربع كلمات قرآنية تبين لنا أنواعاً من أنواع المواجهة العدائية بين بني آدم، وهي كلمة الضد كما ذكرنا قبل قليل وكلمة الخصم (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴿21﴾ ص) وكلمة العدو (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) وكلمة الألد (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ﴿97﴾ مريم). إذن الضد واللد والخصم والعدو هذه الكلمات التي جاءت في كتاب الله عز وجل تدل على المواجهة وهناك كلمات أخرى ليست مستقلة وإنما هي أوصاف للخصم: يقال خصم عصيّ (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ﴿44﴾ مريم) (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴿14﴾ مريم)، وهنالك وصف مشاكس (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ (29) الزمر) هذه أوصاف للخصومة.
الضد: كلمة ضد كأن نقول ضد فلان أي لم يكن ضده أو لم يكن عدوه بل كان صديقاً له فانقلب حتى صار ضده حينئذٍ (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴿67﴾ الزخرف) وسوف نرى يوم القيامة أن كثيراً من الذين كانوا في الدنيا متوافقين بعضهم ينقلب على بعض انقلاباً كاملاً. وفي كتاب الله عز وجل صور كثيرة لهذا الانقلاب يوم القيامة. الضد إذن عدواً كان موافقاً لك كان حميماً ثم انقلب عليك لأمر ما فصار ضداً.
الخصم: عدو أساسه تبادل التهمة فيما بينكما للتمسك بالرأي. فأنا لدي رأي أتمسك فيه سواء كان رأيي سليماً أو أدعي ملكية شيء ما أو أدعي أن لي عليك ديناً أو أدعي أنك سرقتني فأنا أحاججك كثيراً وأنت تفعل هذا. فإذا كان هنالك اثنان بينهما خلاف على شيء سواء كان مادياً أو فكرياً أو معنوياً وكلٌ منهما متمسك برأيه ويسوق الأدلة لنفسه والتهم لصاحبه تسمى هذه خصومة (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴿21﴾ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ﴿22﴾ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴿23﴾ ص). إذن هناك قضية متخاصمان عليها وكل واحد يتهم الآخر ويسوق الأدلة على رأيه تسمى هذه خصومة.
الألَدّ: خصم لا أمل مطلقاً في إصلاحه. هناك خصومات من المستحيل أن تنتهي إلى يوم القيامة كهذه الآية (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ﴿97﴾ مريم) قوم لا يمكن أن يؤمنوا بك ولا أن يصافوك ولا أن يصبحوا مهادنين ناهيك أن يكونوا أتباعاً وهذه من عجائب هذا الكون، أقدار لا تفهم سرّها كما قال تعالى في كتابه العزيز أن جميع أهل الديانات سوف يحاربون الإسلام والمسلمين بشكل غير موضوعي ولا أمل في أن يتغير ذلك كما قال تعالى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ (120) البقرة) (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ﴿2﴾ الممتحنة) وهذا هو الذي وقع منذ أن جاء الإسلام وسوف يبقى ليوم القيامة ولا أمل في تغييره بأي حال (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا (186) آل عمران) رغم أن الدين الوحيد الذي يؤمن بجميع الديانات السماوية إيماناً عميقاً وقوياً وحساساً هو الإسلام وجميع الديانات التي في.القرآن أرضيّها وسماويها تتآلف مع اليهود والنصارى والبوذيين والوثنيين والملحدين إلا مع المسلم هذا المسلم الموحد الذي يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا يفرق بين أحد من رسله فلا يوجد فرق شعرة بين محمد وموسى ومحمد وعيسى عليهم السلام (قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴿84﴾ آل عمران) وفي آخر كلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت (أوصيكم بذمة محمد.خيرا) وهم اليهود والنصارى فهؤلاء أمانة عندي، ذمتي فأوصيكم بهم خيراً والأحكام الفقهية في هذا الدين تحذر من أن يمس المسلم يهودياً أو مسيحياً بأي كلمة، بأي أداة (لعن الله من آذى ذمياً). وليس للمسلم حماية في أرض الإسلام كالحماية التي أوجبها الله تعالى لليهود والنصارى ولغير المسلمين عموماً في ديار الإسلام ومع هذا كله هذا العداء الذي لا أمل في زواله وكلما تمكنت قبضتهم من المسلمين كلما أشبعوهم قتلاً وذلاً وإبادةً وأذى. فهذا هو القدر الذي لا تفهمه فلماذا المسلمون وحدهم؟ هكذا أراد الله عز وجل حتى تتبع ملتهم. هذا الألد (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا) لا أمل في أن يهادنوكم يوماً رغم هذا أمر الله سبحانه وتعالى بإنذارهم لكي يقيم عليهم الحجة مثل فرعون (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴿17﴾ النازعات) والله يعلم أنه لن يؤمن ولكن (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (165) النساء)، فعليك أن تعمل حسابك أن الأمر على هذا الحال ومع هذا الوصايا للمسلمين بحسن الرعاية وبالإيمان بموسى وعيسى وبإكرام اليهود والنصارى وأهل الكتاب بل أن الله يقول إن الله تبارك وتعالى نقل لكم كثير من أحكام أهل الكتاب وأن القرآن ما هو إلا مكمل للتوراة والإنجيل وقال (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ (44) المائدة) (وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ46 المائدة) لكن لا أمل رغم كل هذا لكي يكون وعد الله حقا ً(وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴿122﴾ النساء) هذا الألد.
العدو: من العد والعد تجاوز الحد التجاوز ومنافاة الالتئام كل شيء تتجاوزه فقد عدوت عنه إذا كان في المشي فهو عدوٌ (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ (108) الأنعام) إذا كان في القلب فهو عداوة (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ (91) المائدة) في القلب، إذا تجاوزت الحق فهو اعتداء(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ (194) البقرة) هناك حق لك عندي لكن تجاوزته كالاعتداء في الدعاء (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴿190﴾ البقرة) في الدعاء والدعاء طبعاً مشروع فلك الحق أن تدعوا الله لكن أن تصرخ في الدعاء هذا فيه اعتداء على الله. فأنت لك بعض الحق ولكنك تجاوزته يسمى اعتداء، وإذا لم يكن لك حق نهائياً وباطل بطلاناً كاملاً فهذا يسمى العدوان- يا لها من دقة من لغة دقيقة- ولا عدوان إلا على الظالمين (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ (2) المائدة) وكل شيء نحن مأمورون بالعفو عنه إلا العدوان. والعدوان يعني احتلال، استعمار، هجوم، انتهاك أعراض، سرقة أموال، قطاع طرق، فهذه الجرائم الرهيبة سواء كانت جرائم دولية كما يجري على المسلمين في كل مكان أو جرائم في ديار المسلمين من قطع طريق إلى انتهاك الأعراض إلى ما شاكل ذلك هذا الذي لا ينبغي أن يعفى عنه. فماذا تقول لمن يعفو عن محتل بلاده أو محتل بيته أو منتهك عرضه إلا جبان وخسيس فالعفو في مثل هذه الحالات يرتب انحطاطاً إنسانياً بإجماع البشرية كلها الذي يرضى عمن يحتل بيتك أو ينتهك عرضك أو يسرق مالك فأنت تبذل نفسك في الدفاع عن مالك (من مات دون ماله فهو شهيد ومن مات دون عرضه فهو شهيد) وكذلك من مات دون وطنه ونفسه هذه التي يدافع عنها الإنسان هذا هو الغضب.المقدس وبدونه أنت لست إنساناً، أنت ذليل، أنت يبصق عليك، حتى البصاق زائد عنك لأنك أنت تمالئ المحتل بل قد تتجسس له وقد ترضى به وقد تعينه، هذا انحطاط إنساني مرفوض بكل الدول والذي يفعل ذلك إما يحرق وإما يلقى من شاهق وإما ينفى فيصبح إنساناً تالفاً. في ما عدا ذلك العدو والاعتداء وغيره وأنواع الخصومات نحن مأمورون بالعفو عنها كما هو معروف وكم تكلمنا عنها في حلقات سابقة.
إذن هذا هو الفرق بين هذه الكلمات التي هي كلمات المواجهة بين اثنين والمواجهة بين بني آدم قدر وقانون لا فكاك منه ولا سلام في هذه الأرض إلا يوم القيامة (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ ﴿46﴾ الحجر) فرب العالمين من ساعة أن ندخل الجنة يقول حققت لكم فيها أمرين السلام والأمن وهما أمران لم يكونا متاحين لكم في الدنيا (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴿82﴾ الأنعام) أعظم النعم يوم القيامة أنك أنت آمن (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿62﴾ البقرة) وأنك خالد وأنك تُلقّى بالسلام الملائكة ورب العالمين وبعضكم بعض (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ﴿23﴾ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴿24﴾ الرعد) السلام الحقيقي فلا خوف عليكم بعد اليوم (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
هذه هي المنظومة، طبعاً قلنا أن كل هؤلاء العدو أو الخصم لهم صفات: عدو عنيد وعدو عصي وعدو مشاكس المشاكس الذي لا خلاق له فأنت قد يكون لك خصم وهذا الخصم عنه دين يردعه، عنده أخلاق، عنده أصل، من أصل طيب، العرف الاجتماعي، احترامه لنفسه لكونه متعلماً أو كونه من العائلة الفلانية يستحي، عنده دين، يخاف من الله فهناك روادع تردعه فهو منضبط بضوابط أخلاقية أو قانونية أو من أصل من عشيرة أو من تربية أو من ثقافة هذا خصم لكن له قيم فإذا تجرد هذا الإنسان الذي هو خصمك من كل قيمة فهو حيوان كاسر فليس لديه دين ولا أخلاق ولا أصل ولا مروءة ولا يخاف من الله وليس لديه عرف ولا ثقافة ولا أي شيء ولو التفت بك كوبرا أرحم عليك من هذا الخصم وهذا يسمى المتشاكس (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ).
العنيد هو الذي لا يلين بالحجة فتريه الحجة وتقول له هذه آية ولكنه لا يقبل (إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا ﴿16﴾ المدثر) إعجاباً برأيه فهو معتز برأيه بجاهلية وحمق وغباء. والفرق بين العنيد والعنود: أن العنيد الذي يعدِل عن الطريق الحكم فهو يعاند الشراع والأديان والمذاهب والعنود بالأشياء المادية الحسية.
هكذا هي هذه المنظومة التي جاءت في كتاب الله العزيز وكيف ترى أن الله سبحانه وتعالى وظفها توظيفاً عجيباً لا يفعله إلا رب العالمين. يقول المولى عز وجل (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ﴿166﴾ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴿167﴾ البقرة) وعندما يخاطب رب العالمين الملائكة (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴿40﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ﴿41﴾ سبأ) (فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا (21) إبراهيم) هؤلاء كلهم ضد كان صديقاً موالياً حميماً ثم أصبح عدواً فهذا هو الضد. (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿97﴾ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿98﴾ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ﴿99﴾ الشعراء) أي كيف قمنا بعبادتك واتبعنكم كما لو كنتم أرباباً؟!.
نتكلم الآن عن أسباب الخصومات والعداوات: قلنا قبل قليل أن العداوة بين بني البشر قانون فطرة (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ (30) الروم) ولكن جاء بعد هذا الرسالات والنبوات والمصلحون والتعليم والتهذيب والصالحين والعلماء لكي يخففوا من وطأة الشر في بني آدم وإلا فإن الشر في بني آدم مستحكم كما قال الشاعر-المعري أو البحتري:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوّت إنسان فكدت أطير
الذئب لا يأكل إلا إذا كان جائعاً والإنسان يأكلك سواء كان جائعاً أو شبعاناً والعياذ بالله. إذن تتطور الخصومة على مال أو أرض أو شراكة أو رأي أو ما شاكل ذلك إلى نزاع. الخصومات وما شاكلها تكون خصومات على شيء لا يصل إلى حد إراقة الدماء أو استعمال السلاح متى ما استعمل السلاح أصبح عدواناً وعداوة واعتداء ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام (ما يزال المؤمن ما لم يُصِب دماً حراماً).
أسباب العداوات كثيرة:
أولاً الاعتداء ونحن قلنا الاعتداء ما جاوز الحق فهنالك حق بيني وبينك ولكنك تجاوزت الحق فهذا نوع من الاعتداء كأن يكون لك عندي 100 درهم فتجاوزت أنت الحق وطالبتني 150 درهم وهذا يعتبر اعتداء لأنك أضفت إلى الحق باطلاً ولكن الحق أصلاً موجود. بينما العدوان فهو أصلاً باطل أنا أدعي عليك دعوة وأحتل بيتك بالقوة كما يجري في العالم العربي والإسلامي الآن من احتراب طائفي وفي العالم كله بين النصارى وبين مذاهبهم وبين المسلمين في كل مكان، هذا الاحتراب الطائفي أو المذهبي أو الفئوي، هذا العدوان الرهيب المهلك والذي لا أمل في النجاة منه يوم القيامة. فالقتل على هذا الفكر الطائفي أو المذهبي أو الفئوي أو الحزبي مخلدٌ في النار على خلاف قتل النفس على خلاف معين له القصاص (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ (178) البقرة) وهذا كفارة لذنبه فهو قتل على خلاف معين. أما القتل على الطائفة أو الفكر بين المسلمين فانه مخلد في النار كما قال تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴿93﴾ النساء) والمؤمن هو من يقول لا إله إلا الله محمداً رسول الله حتى ولو قالها بلسانه دون قلبه قال: (أشققت عن قلبه؟) قال صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم إلا بحقها) وحينئذٍ من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن ويوم القيامة إذا كان على صواب أو خطأ رب العالمين يحاسبه، أنت تتعامل معه على النطق باللسان فإذا رأيته يقول لا إله إلا الله انتهى، حصن دمه، فإذا قتلته أنت خالدٌ في النار تقتله لاعتقادك أنه كافر أنت خالد في النار، هو يصلي خمس أوقات ويصوم رمضان ومن أهل الدين فتقتله لاختلافه في طائفتك أو في حزبك أو في فئتك فأنت بذلك خالد في النار (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) لأنك أنت كفّرته فبذلك تكون قد كفرت والكافر خالد في النار كما قال صلى الله عليه وسلم (من كفر مسلماً فقد كفر) والمسلم من قال لا إله إلا الله في الدنيا، فقط قالها، في الآخرة لا بد أن يكون مصدقاً بها قلبه أما في الدنيا فقط قالها أصبح مسلماً وقد عصم دمه وعرضه وماله. إذن هذا الذي يجري هو عدوان وأيضاً العدوان الخارجي على أرضك وبلادك الذي يسمى استعماراً أو احتلالاً أو قطع طريق أو حرابة (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿33﴾ المائدة) تأمل إذا كان إنسان واحد وأنت في الطريق العام هجم عليك وسرق مالك هذا تقطع أيديه وأرجله إذن كم هي جريمة كبيرة جريمة العدوان الباطل المطلق؟ لو كان لي عليك دين ولا تعطيني إياه وتعاركنا وقتلتك هذا شيء آخر هذا اعتداء لكن لا قطع طريق أو احتلال أو استعمار أو استحواذ أو استيلاء فأي جريمة هذه يوم القيامة؟! هي جريمة في الدنيا قبل أن تكون جريمة في الآخرة ولهذا دفعها من أوجب الواجبات وكل من يموت وليس في نيته أن يدفع عن عرضه أو نفسه أو وطنه غازياً أو مستعمراً أو محتلاً يموت ميتة الجاهلية كما قال عليه الصلاة والسلام. وهذا الذي تراه في البشرية فجميع البشرية تعتبر من يهاجم من يحتله إنسان ساقط وتنزع عنه الدية والحقوق المدنية والاحترام وهنالك كثير من الجرائم من بشاعتها ورخصها تُسقِط الأهلية مثلاً اتهام المرأة بالقذف (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿23﴾ النور) كأن يأتي شخص لا له ولا عليه اتهم فلانة بعرضها وهي بريئة أو حتى غير بريئة ولكن ليس لديه شهود أو دليل هذا لم يعد إنسان ذا أهلية ولا تقبل له شهادة أبداً فلا يشهد على عقد زواج ولا على بيع أو شراء ولا احترام له فقد أصبح إنساناً ساقطاً فقد لأنه اتهم امرأة وطعن في عرض امرأة، فما بالك بمن يسقط عرض شعب كامل؟! إذن هذه الجرائم الدولية التي تحاربها كل قوانين الأرض وكل ديانات السماوات والأرض وكل القيم والثقافات والمفاهيم تحارب هذا، حينئذٍ هذا الذي هو عدوان كما عبر عنه القرآن الكريم بالعدوان الذي لا بد من إزالته (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) وحينئذٍ هذا العدوان لا بد من إزالته وكل من يتهاون في إزالته أو لا يساهم في إزالته حتى ولو بالنية، افترض أنا رجل كسيح، رجل مقعد على كرسي، يا ليتني كنت أستطيع أن أمشي لكي أساهم في دفع المحتل أو دفع المستعمر أو دفع قاطع الطريق أو ما شاكل ذلك حتى ولو بالنية وبدون أن تحاسب وتسأل يوم القيامة. حينئذ هذا السقوط الإنساني بين شعب وشعب في مدى عزمه وحزمه في دفع العدو والعدوان وشعب متخاذل جبان أو عميل انبطح تحت أحذية المحتل أو المستعمر هذا هو الفرق.
الاحتراب الطائفي والحزبي والفئوي هذا القاتل والمقتول في النار كما قال صلى الله عليه وسلم (إذا التقى مسلمان بسيفهما) على شرط أن يريد كلُ منهما أن يقتل الآخر أما إذا كان أحدهما كما قال صلى الله عليه وسلم (وإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فضع ثوبك على رأسك يبؤ بإثمك وإثمه) هذا من أهل الجنة من الأبرار. من قتلك طائفياً ولم تحاول أن تقتله كأن يأتي شخص ويهجم عليك في بيتك كما يحدث الآن في معظم العالم الإسلامي هكذا هي الخطة أن الذي يجري في العراق ويجري في كل مكان في العالم الإسلامي لا بد أن يجري في الكل بالتسلسل، في الشيشان وفي أفغانستان وفي العراق وفي لبنان والبقية تأتي. هذا الاحتراب الطائفي أو المذهبي أو الفئوي أو الحزبي (إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار فقالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) أما إذا قلت اللهم إني أبرأ إليك من هذا ولا تنوي أن تقتل هذا الذي يريد قتلك فأنت بذلك من الأبرار الشهداء يوم القيامة وهذا- الذي قتلك- من الخالدين في النار لا يخرج منها إلا إذا خرج منها فرعون ويبدو أن النار في عصرنا هذا لها زبائن كثيرة (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ﴿30﴾ ق) والمزيد قادم، (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴿28﴾ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴿29﴾فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿30﴾ المائدة). هنالك خصومات لا تمحى كالتي بين المسلمين وبقية الديانات السماوية وغير السماوية الأخرى ولدينا أيضاً داخل الإسلام خصومات لا تمحى ولا ندري أسبابها كأنها قدر.
في نطاق العائلة مثلاً لدينا خصومات في المصاهرة لا تُمحى أو الزوجة الأولى مع الزوجة الثانية يكونون في مخاصمة دائمة، أيضاً أُمّ الزوجة مع الزوج أو أم الزوج مع الزوجة كأنها قدر مع أن المفروض العكس المفروض أن يكونون أحباباً لكن الذي يجري غير هذا. وكذلك الأبوين إذا كبر الأبوين لم يعد يرضيهما شيء يصبح صعب إرضاءهما وهذا من ابتلاءات الله وتمحيص الإيمان (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ﴿2﴾ العنكبوت) أنت لا بد أن يمحص إيمانك في كل حال وحينئذٍ عندما يكبر أبواك لا يرضيهم شيء مهما تفعل لهم، يظلون غير راضين عنك وأحياناً قد تضجر منهم وقد ترميهم وقد حصل هذا. هنالك من يرميهم ومن يتركهم وهذا هو الهلاك الذي ما بعده هلاك. وكل خصومات الأسرة التقليدية التي ترتب البغضاء لها حالتان: إذا كان بغضاء بدون فعل فلا بأس وهذا مما عمت به البلوى ويقول رب العالمين في هذا (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴿5﴾ الفلق) فليس كل حاسد يحسد فهنالك حاسد يحسد وآخر لا يحسد لأن الحسد قانون فأنا عندما أرى صديق لي أصبح في مكانة عالية أُصاب بالغيرة وأصبح لدي حسد ولكني لم أدعُ عليه ولا فعلت له شيئاً سيئاً بالعكس دعوت له بالتوفيق رغم أن قلبي يغلي، غيران، فأنا حاسد ولكن لم أحسد لأن هذا ليس بيدي هذا قانون ومن قوانيني كبشر أني أغار وأني أحسد ولكني لم أفعل شيئاً ضاراً فإذا فعلت شيئاً ضاراً كأن أتكلم عنه بالسوء وأنه لا يستحق ما حصل عليه وأنني أفضل منه بهذا أكون حاسداً قد حسد. هكذا أيضاً الضرائر، الكنّات، أُمّ الزوجة، هذه الكراهية قانون لا يحاسب عليه ولكن إن صدر منك موقف من مكر وكيد وسباب وشتام وسحر وما إلى ذلك أصبح هنالك جريمة كبيرة ويوم القيامة قد يكون الحساب حساباً قوياً لأنهما يموتان وهما خصمان. إذن هذه الخصومات وخاصة الخصومات التي مع الوالدين عند الكِبَر كما قال تعالى (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴿23﴾ الإسراء) لأن كثيراً من الناس يضجر لأنهم عند الكبر لا يرضيهم شيء فإياك، إنهما جنتك ونارك (رغم أنف عبدٍ أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر ولم يدخل الجنة) إن لم تدخل الجنة بهما فبمَ؟ كيف تدخل الجنة؟ ونحن نسمع قصصاً- ولو قليلة في هذه الأمة على خلاف دول العالم رأساً الأب والأم يضعونهم في دور العجزة- أن بعض الأبناء يتأفف ويضجر ويمكن يرفع صوته عليهم فإياك وهذا (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (23) الإسراء). إذن هذه الخلافات وخاصة مع الأبوين عند الكبر مزلقةٌ إياك أن تنزلق منها إلى نار جهنم. وتستطيع أن تنزلق منها إلى الجنة، ما عليك إلا أن تحتمل وتصبر ونحن نسمع ونرى بعض الناس ونشاهدهم بأعيننا عن برِّهم بآباء كبار أو معوقين أو بأمهات كم بلغوا من الكبر عتياً تحسدهم على هذا الخلق الرضيّ، على هذا الصبر فهؤلاء هم ملوك الجنة. هذا الأب الذي في بيتك وهذه الأم وسيلتك إلى الجنة هم أقرب طرقك إلى النار أو إلى الجنة فهذه فرصتك فاصبر على لهوائهم وكلا نعرف قصة الشاب الذي كان في الغار وتوسل إلى الله ببره بأمه وأبيه ففتح الله عليه فتحة وهم في الكهف.
من مواقع الخصومات عادة في الحياة كما ذكر القرآن الكريم: المال. وعندنا التجاوز (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴿78﴾ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا (79) الأنبياء) إذن قضية خلاف على مزرعة وعلى بعض الأمور وهذا أيضاً من باب مواطن الخلاف التي ينبغي للمسلم أن يحذر التجاوز والاعتداء والغضب وما شاكل ذلك. ونادراً ما يشترك صديقان في مشرع أو في مال إلا في النهاية يختصمان في الغالب فالمال عزيز والخلافات فيه والريبة فيه كثيرة فتهلك فالمال من أسباب الخصومات. ومن ضمنها أيضاً الحسد (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴿27﴾ المائدة) فتصوّر حسده على موضوع معين فقتله، والحسد من بين كل ما قد ذكر من أسباب الخصومات التي قد تجدها عند ضعاف النفوس إلا أن الحسد تجده حتى عند العلماء لأنه قانون كالجوع والشبع والعطش أنت لابد أن تحسد لكن أنت حاسد تحسد أو لا تحسد هذا هو الفرق فشعورك بالغبن وأن فلاناً أصبح ذا مكانة وأنت لم يحصل لك شيء في قلبك هذا شيء ولكن أنت تدعو له بالتوفيق والخير رغم أن خاطرك مكسور لكن أن تدعو عليه وتشتمه وتنقص من شأنه أصبح حاسداً إذا حسد وليس لأنه حاسد فقط لأن الحسد ليس بيده ولكن لأنه حسد. كذلك التنافس (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴿44﴾ آل عمران). وكذلك الجدال والمراء وهذا من أبشع أنواع الخصومة: اثنان يتناقشان على قضية فيتحول النقاش إلى معركة ومصيبة وعداوة والنبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وكان صحابيان عظيمان جليلان يتماريان في آية قال: (مه يا أمة محمد أبهذا بُعثت؟ أم بهذا أُمِرتم؟ إن المماري لا أشفع له) لأن هذا يسبب عداوات وفعلاً هناك من بقوا طوال عمرهم لا يتكلمون مع بعضهم لأنهم تناقشوا في قضية وتخاصموا والاثنان الذين يتخاصموا لا تُرفع لهم صلاة! تصور هذه المأساة العظيمة! وبعد هذه الخصومات والعداوات النتيجة تكون مرعبة أنك أنت وصاحبك إذا كان أحدكما لا يسلم على الثاني لا ترتفع صلاتكما فوق رأسيكما شبراً ولا يغفر لكما في كل مواطن المغفرة: في النصف من شعبان وليلة القدر ورمضان وعند نزول المطر ولا في عرفة ولا في ليلة القدر، فيا لها من خسارة كبيرة! وكل هذا من آفة الغضب (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ) هذا الغضب مشكلة. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أوصني قال: لا تغضب، فقال الرجل: أوصني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تغضب، فقال:أوصني فقال النبي:لا تغضب) قال الراوي وهو حميد بن عبد الرحمن: تفكرت حين قال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك فإذا الغضب يجمع الشر كله. قال رجل: يا رسول الله ما يمنعني من غضب الله؟ قال:ألا تغضب. لأنك إذا لم تغضب لن ترتكب هذه الذنوب العظام التي تؤدي إلى المهاجرة، عن أبي الدرداء قال: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم (دلني على عمل يدخلني الجنة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تغضب ولك الجنة) ويقول صلى الله عليه وسلم (ليس الشديد بالصُرعة ولكن الشديد من غلب نفسه وفي رواية من يملك نفسه عند الغضب) هذه الشدة والرجولة (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ (134) آل عمران) (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿35﴾ فصلت). يقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن بني آدم خُلِقوا على طبقات ألا وإن منهم البطيء الغضب السريع الفيء) شخص لا يغضب إلا بصعوبة شديدة، إلا إذا كان أمراً شديد جداً وبسرعة يرضى (ومنهم سريع الغضب سريع الفيء فتلك بتلك ألا وإن منهم سريع الغضب بطيء الفيء ألا وخيرهم بطيء الغضب سريع الفيء) أكرم الناس، أكرم عباد الله، أحب عباد الله إلى الله عز وجل الذي لا يغضب إلا ببطء وإذا غضب بسرعة يرضى هذا الإنسان المثالي الذي يحبه الله ورسوله (وشرّهم سريع الغضب بطيء الفيء).
ومن الأسباب التي تساعد على الرضا بسرعة أن تستذكر محاسن هذا الإنسان، ولو أن كل إنسان وضع نفسه في مقابل الآخر لأدرك أن كل إنسان فيه نقائص
وعينك إن أهدت إليك معايباً لقومٍ فقل يا عين للناس أعين
وكان هنالك شخص جالساً مع المسلمين فخرج منه ريح بصوت فضحك بعض الناس فقال: مم يضحك أحدكم مما يفعله كل يوم؟! فكلامه منطقي ومسكت. فإذا كنت تنقم علي شيئاً أنت فيك مثله، الغضب وهو من الشيطان هو اعتزاز بالباطل أنك أنت لا تخطيء وهذا غير صحيح لأننا كلنا مشتركون في الخطأ وكل ابن آدم خطّّاء. وعن بن عباس رضي الله عنه قال في قوله تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ (96) المؤمنون) قال: الصبر عند الغضب والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا عصمهم الله وخضع لهم عدوهم) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه آواه الله في كنفه وستر عليه برحمته وأدخل في محبته من إذا أُعطي شكر وإذا قدر غفر وإذا غضب فتر). ويقول: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع) معنى ذلك لو تغيّر حالتك يزول عنك الغضب. استبّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهم يغضب ويحمرّ وجهه وتنتفخ أوداجه فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه قال: ما هو؟ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم كما أنه يدفع الغضب يدفع كل هذه الأسباب التي ذكرناها مما تؤدي إلى العداوات وهذا هو بداية النجاة.
بُثّت الحلقة بتاريخ 27/8/2006م وطبعتها الأخت نوال من السعودية جزاها الله خيراً وتم تنقيحها