الحلقة 19:
الحرف القرآني:
نتحدث عن قصص جرت تظهر كيف سحر القرآن من يفهم معانيه فتنقلب حياته كلها بسبب أثر هذا القرآن البياني العجيب. وذكرنا قصصاً من السلف والخلف كيف أثر بهم القرآن وتحدثنا عن إختيار بعض المواطن في القرآن وسنتحدث عن التصوير الفني والنغم في القرآن وبدأنا في الحلقة السابقة الحديث عن حروف القرآن ودقة إختيارها ونكمل في هذه الحلقة:
ألِف العزّة:
من الإعجاز الحرفي في القرآن ما يسميه العلماء ألف العزة التي وردت مائة مرة. يذكرون ذلك في كلمة عباد في معظم هذه المرات يكون الوصف للمؤمنين والعابدين وانطبقت عليهم أكثر من 90 مرة تتحدث عن هؤلاء المؤمنين لذلك لا أظن أنهم أخطأوا عندما قالوا إن غالب كلمة عباد في القرآن يراد بها المؤمنون (وعباد الرحمن) نجد أن الألف في وسطها هذه الألف توحي بالرفعة والأنفة والعزة والمنعة والعلو كأنها مرفوعة الرأس منصوبة القامة ولهذا أطلق عليها العلماء ألف العزة فالإنسان يعتز بعبادته لله تعالى ويرتفع بها.
ياء الذِلّة:
وعندنا ياء الذلة وهي مستخدمة في كلمة العبيد التي وردت خمسة مرات وتتحدث عن وصف الكفار والعصاة.وان المتأمل سيرى عدل الله سبحانه في إدخال الكفار إلى النار وجعلهم يذوقون عذاب الحريق وكلها تنفي الظلم عن الله عز وجل وردت في كل المواضع في هذه العبارة النافية (وما ربك بظلام للعبيد) أي تدل على عدل الله. عبيد فيها نزول وخِسّة واهانة وعباد فيها رفعة وسمو فتأملوا معي نأخذ حرفا آخر:
(على الأرض وفي الأرض):
عندما يستعمل الله عز وجل حرف الجر فقد يكون في أو على مع إن الاستعمال متشابه تقريبا يقول الله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) الآية 63 من سورة الفرقان، وفي آية أخرى (ولا تصعر خدك للناس ولا تمشي في الأرض إن الله لا يحب كل مختال فخور) (15) لقمان، (ولا تمشي في الأرض مرحا انك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا) (37) الإسراء
كيف نفرق بين المشي على الأرض والنهي عن المشي في الأرض؟. هنا من دقة القرآن الكريم في الآية الأولى يتكلم عن عباد الرحمن استخدم (على) التي تفيد التمكن والاستعلاء والمؤمن يشعر أن الدنيا ليست في قلبه وإنما هو عليها وهو ليس في الدنيا ولكن عليها ويعلن بأنه مفارق هذه الأرض وليس فيها فيمشي واثقاً من خطواته، في هدوء واطمئنان، متمهلاً. أما في الآية الثانية فيعيب الله تعالى على الكفار المغرورين فنهاه الله تعالى أن يمشي في الأرض. وهذه مسألة تدل على التكبر وحرف الظرفية (في) هذه تدل على ان المتكبر يمشي ويدب في الأرض كأنه يريد أن يخرق الأرض في غروره وتكبره (إنك لن تخرق الأرض) فينهى الله تعالى الإنسان عن مشية التكبر. هناك فيها عزة وهون وتمهل وهنا فيها تكبر فتأملوا معي الدقة الشديدة فامشوا على الأرض ولا تمشوا في الأرض.
من هذا الإعجاز الحروف الفاصلة: هناك حروف يظن بعض الناس إنها زائدة مثلا قوله تعالى:
(فبما رحمة من الله لنت لهم) (آية 159) آل عمران ما قال فبرحمة من الله فكأن (ما) أضيفت وبعض الناس يقولون إنها زائدة. وقوله تعالى: (فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا) 96 سورة يونس. بعض النحاة قالوا إن (ما) زائدة و(أن) زائدة فيظن بعض الذين لايعرفون البلاغة أنها زائدة في النظم ولكن لو تأملنا نجد أن زيادة كلمة أو حرف يعطينا نوع من فاصل. هذا الفاصل يدل على شيء فيه طول إما في الزمن أو نعمة. نتأمل الفصل بين الباء والرحمة (فبما رحمة) هنا يلفت النفس إلى تدبر المعنى وتنبيه الفكر إلى قيمة الرحمة وهذا من طبيعة البلاغة في الآية، يعني ما أكبر هذه الرحمة! وما أوسعها التي تمتعت بها يا محمد! فهي أطول تدل على سعة رحمة الرسول ولو قال (فبرحمة) لكانت أقصر يبنما تدل (فبما رحمة) على سعة رحمة النبي r لقومه.
في الآية الأخرى (فلما أن جاء البشير) لماذا هذه (أن) هنا؟ هنا يوجد فصل بين خروج البشير بقميص يوسف من مصر وبين مجيئه إلى فلسطين فهناك مسافة بين الحدوث ومجيئه إلى فلسطين فلبعد ما كان بين يوسف وأبوه يعقوب كان هناك مسافة وتحتاج إلى زمن وفيه أيضاً جانب نفسي فلما تصل الطائرة والناس تنتظر أحبابها تصبح الثواني طويلة فهذا يُشعر بنوع من قلق الإنتظار والاضطراب تؤكدها الآية. نجد كل هذا في غُنّة (أن) كأنه أخذ وقتاً إلى أن جاء البشير. من هنا نجد أن قوله تعالى (فلما أن جاء البشير) فيها قلق وطول مسافة وزمن لا تعكسه (فلما جاء البشير). أيُّ دقة في حروف القرآن هذه!
هذه الدقة نجدها أيضا في دقة استعمال الكلمات وليس فقط في الحروف وسبق أن أشرنا إلى استعمال الكلمات كيف أن كلمة متوقعة تستبدل بكلمة أخرى غير متوقعة. مثال ذلك في قصة يوسف نجد أن من أخلاق يوسف عليه السلام أنه حين أراد أن يضم أخاه بنيامين بعد أن خبأ في رحله صواع الملك وأرادت القافلة أن تذهب في طريقها بعث منادياً ينادي خلف القافلة ليرجعها: (أيتها العير إنكم لسارقون) يعني أيتها القافلة إنكم سارقون. استخدم كلمة سارقون، هم لم يسرقوا شيئاً ولكن قال لهم ذلك ليستحثهم وليستفزهم ويوقفهم ويأخذهم إلى العزيز ولكن المرة الثانية عندما بحث يوسف في متاعهم ثم أخرج صواع الملك من متاع أخيه ورجوه إخوته أن يأخذ أحدهم بدلاً من بنيامين إكراماً لأبيهم قال لهم يوسف عليه السلام: (قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون) (79) يوسف استبدل كلمة سارق بـ (وجدنا متاعنا عنده) وذلك لأن أخاه لم يسرق وهذا إكراماً له عن السرقة لأنه لم يكن سارقاً فانظروا إلى دقة القرآن الكريم هنا في استعمال اللفظ. ولو قال سرق لكأنه اتهمه بالسرقة ثم لم يقلها إكراماً له من السرقة فأي عظمة في دقة القرآن هذه؟!.
من دقة القرآن في استعمال الألفاظ والكلمات والأفعال شيء عجيب نجده في قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: (الذي خلقني فهو يهدين (78) والذي هو يطعمني ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80) والذي يميتني ثم يحيين (81) والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين (82)) الشعراء. الفاعل انتقل فجأة إلى إبراهيم (وإذا مرضت)، أسند إبراهيم عليه السلام الخلق والهداية والإطعام والإسقاء وغفران الخطايا إلى الله تعالى ولكن عندما تحدث عن المرض أسنده إلى نفسه وليس إلى الله فيقول (وإذا مرضت) ولم يقل وإذا أمرضني هذه دقة مقصودة ليست عبثاً وليست عشوائية.
ومثلها قوله تعالى على لسان الجن: (وأنا لا ندري أشر اُريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) 10 سورة الجن. لم يقولوا و نحن لاندري أراد الله بأهل الأرض شراً بل قالوا (أم أراد بهم ربهم رشدا). عندما يكون هناك شيء سلبي كالضلالة والمرض لا يُنسب إلى الله تعالى بل الرُشد نُسب إلى الله تعالى فنسبوا إرادة الرشد إلى الله تعالى وبنوا الفعل مع إرادة الشر للمجهول (أشرٌ أريد). وكذلك في قول إبراهيم عندما تكلم عن الإطعام والرزق والهداية نسبها إلى الله تعالى ولكن المرض نسبه إلى نفسه فهذا من أدب التعامل والحديث عن الله تعالى.
هناك بعض الناس عندهم جرأة على الله عندما يتكلم عن الله تعالى وكأنه يتكلم عن كاتب ولكن هذا هو الله تعالى العظيم لايجب أن نتكلم عنه كما نتكلم عن أي شخص فيجب أن نكون دقيقين في استخدام الكلمات واستعمالها قد يكون الكلام صحيح ولكن يجب أن يكون هناك دقة في اختيار الكلمات. وهذا مضطرد ودقيق في القرآن الكريم عندما يكون العمل فيه التشريف ينسب لله تعالى وإذا كان هناك شيء سلبي لاينسب إليه بل يُبنى للمجهول (فريقاَ هدى وفريقا َحق عليهم الضلالة) من آية (30)من سورة الأعراف، (فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة) من آية (36) من سورة النحل. فالهداية نسبها الله تعالى إلى نفسه والضلالة نسبها إليهم وإلى حمقهم.هذا المعنى يتكرر كثيراً في القرآن الكريم. كل كلمة وكل حرف في القرآن الكريم بمنتهى الدقة وفي مكانه المناسب بالضبط فهل تجد هذا في أي كتاب آخر غير القرآن الكريم وهذا من الإعجاز الذي تجده واضحاً في كتاب الله تعالى وهذا ما نسميه سحر القرآن. مزيد من سحر القرآن ومزيد من هذا الإعجاز في لقاءنا القادم إن شاء الله.