الحلقة 9:
المبالغة و الإيجاز في القرآن
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله و صحبه أجمعين
لن نستطيع في هذا البرنامج أن نتحدث عن كل أنواع الإعجاز في القرآن الكريم ولكن سنأخذ الجانب البياني وهو الذي سَحَرَ العرب وإن من البيان لسحراً.
من أنواع هذا الإعجاز والبلاغة التي يستعملها العرب بحر لا ينتهي والقرآن يحتوي على كل هذه الأنواع من البلاغة ومن هذه البلاغة المبالغة والإيجاز.في هذه الحلقة سنأخذ المبالغة حين يهول الله تعالى أمراً ويستعمل ألفاظاً عجيبة والإيجاز عندما يوجز القرآن نجد في جملة واحدة قصيرة معاني كثيرة جداً.ولا يمكن أن يأتي بشر ويعطي هذه المعاني الكثيرة في جملة واحدة.أن تبلغ أقصى غاية وأبعد النهاية هذه هي المبالغة ولا ولا تقتصر في العبارة على أدنى المنازل و أقرب المراتب.
من أمثال المبالغة وصف الله تعالى ليوم القيامة فإذا أراد أديب مثلا أن يصف يوم القيامة لقال إنه يوم مرعب ومخيف…الخ ولكن أسلوب القرآن في وصف الله تعالى لأهوال يوم القيامة شيء عجيب حيث يقول عز وجل في آيته الكريمة: (يوم تذهل كل مرضعةٍ عن ما أرضعت وتضعُ كُلٌ ذاتِ حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد). يوم تذهل كل مرضعة عن ما أرضعت يقول علماء اللغة لو قال يوم تذهل كل إمرة عن ولدها لكان كافياً و بلاغة كاملة ولكن هنا فيها مبالغة لأن المرضعة أكثر شغفاً على رضيعها لأنها ترضعه فيكون ارتباطها به شديداً وهي أقرب إلى حب ولدها حال إرضاعها إياه لذلك استعمله الله تعالى كمثال.
مثال آخر على المبالغة عندما يصف الله تعالى أعمال الكفار على إنها لا شيء في الآية التالية: (كسراب ِبقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا)، يقول الله تعالى يأتي الكافر يوم القيامة ويحسب أن عنده شيء (عمل) فلا يجد شيئاً من أعماله كالإنسان الذي يمشي في الصحراء وكأنه يرى ماء من بعيد وحين يقترب لا يجد شيئاً ويقول علماء اللغة لو قال الله تعالى يحسبه الرائي لكان كافياً و لكن هنا أراد المبالغة لأن الظمآن أشد حاجة للماء وهو على الماء أحرص فمن هنا كانت المبالغة.
عكف فصحاء العرب على المبالغة فقد كانوا يستخدمون المبالغة في وصف الخمر والضأن إلى أن بلغوا مجهودهم في محاولة المجيء بمثل ما جاء من بلاغة في القرآن فلما حاولوا ذلك وبلغهم قول الله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء اقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين)، والحديث هنا عن قصة النبي نوح عليه السلام حيث يصف الله تعالى كيف بلعت الأرض الماء والسماء أقلعت وانجر الماء داخل الأرض واستوت السفينة على الجبل وهلك الكفار,كل هذا في آية واحدة. وحينما حاول أهل البلاغة أن يقولوا قولاً مشابهاً للقرآن يئسوا وتوقفوا عن المحاولة.
ومن أنواع البلاغة ما جاء عن الأصمعي وهو من علماء اللغة فقال: اجتزت بعض أحياء العرب ورأيت صبية معها قربة مليئة بالماء وفوهتها مفتوحة والماء يتدفق من الفوهة فقالت منادية الأصمعي: “يا عمي أدرك فاها غلبني فوها لا طاقة لي بفيها” فاه هو من الأسماء الخمسة التي ترفع بالواو وتنصب بالألف وتجر بالياء فقال لها الأصمعي: “ما أفصحك يا فتاة” فقالت:”يا عم وهل ترك لنا القرآن فصاحة فقد جاء في آية واحدة خبران وأمران ونهيان وبشارتان”فقال لها الأصمعي ما هي هذه الآية؟ فقالت: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) القصص). الخبران:وأوحينا إلى أم موسى وفإذا خفت عليه، الأمران: أن أرضعيه وفألقيه باليم، النهيان:لا تخافي ولا تحزني، أما البشارتان: إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين. فقال الأصمعي رجعت بفائدة و كأن هذه الآية ما مرت علي من قبل.
أنواع البلاغة في كتاب الله لاحصر لها.عندما يبدأ الشخص يقرأ هذه الوسائل يتلذذ ويتأثر بالقرآن ومن ثم يتحول هذا التأثر إلى تطبيق ما جاء في كتاب الله تعالى فالقرآن ليس كتاب تسلية ومتعة ولكن هو منهج للبشرية ففيه معاني تسمو بها الأرواح.
أما الإيجاز فهو تقليل الكلام مع ترك الإخلال باللفظ والمعنى وينقسم إلى حذف وإسقاط. الحذف يلغي بعض الكلام والإسقاط هو تخفيف.مثال عن الإيجاز قول الله تعالى: (واسأل القرية) فلم يقل واسأل أهل القرية بل قال اسأل القرية وهذا إيجاز.
في وصف القرآن حين نجد الله تعالى يتحدث عن كتابه العظيم فيقول: (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) وللوهلة الأولى يظن القارئ أن هناك كلاماً محذوفاً ولكن أهل البلاغة يقولون إن المعنى هنا لو أن هناك قرآنا بهذا الشكل لكان القرآن الكريم فالحذف هنا والإيجاز أبلغ لأن النفس تذهب كل مذهب ويذهب خيال القارئ إلى ما لا نهاية.
(ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)، يقال إن أحد حكام الفرس قال :”القتل أنفى للقتل” معناها إذا قتلنا القاتل فلن يصبح هناك قتل مرة أخرى ويمتنع الناس عن القتل وهذا معنى جميل وفيه حكمة ولكن الأجمل والأفصح والأبلغ والذي يحتوي معاني لا حصر لها ولا نهاية هو ما قاله الله تعالى في الآية آنفة الذكر لأن القتل قد يحدث ظلماً أو لبريء ولكن القصاص هو معاقبة صاحب الجريمة بمثلما فعل وفي إنزال القصاص عليه حياة للناس وليس أي قتل.
مثال آخر, قال الله تعالى في المنافقين: (يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم)، كل صيحة يسمعونها يظنوها عليهم فهم يخافون أن يفضحوا فهم قلقون فالله تعالى في هذه الآية يصف حالتهم النفسية والشعورية في كلمات محدودة: هؤلاء هم أعداء الله فاحذروهم وفيها تحذير للرسول صلى الله عليه وسلم من هؤلاء المنافقين كل هذا في عدة كلمات.
(ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله)، قارنوا هذا بالمثل القائل”من حفر حفرة لأخيه وقع فيها” ولكن هنا في القرآن شيء عجيب من الإيجاز وهو أن المكر السيء والحديث عنه وليس عن المكر الحسن الذي قد يكون للكفر ولكن المكر السيء سيعود على صاحبه بالسوء قد يكون السوء في أن يدخل النار فالمكر السيء فيه تدبير خبيث هذا كله نسميه إيجاز.
الإعجاز في الإيجاز له صورة أخرى يسميه العرب جوامع الكلم و من يريد أن يحيط ببلاغة الإشارة والإيماء في جوامع الكلم ينظر إلى كتاب الله تعالى يجد كفاية الإيجاز من معاني كثيرة وجميلة ففي الآية الكريمة: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)، استقاموا فيها كل الطاعات بأنواعها من طاعة الله تعالى فيما أراد وأمر إلى الانتهاء عما نهى فالاستقامة شملت كل أنواع الطاعات بكلمة واحدة فإذا فعل أي شيء خطأ عن نية قاصدة فقد محت منه الاستقامة.
(لا خوف عليهم و لا هم يحزنون)، هذه الآية جاءت عدة مرات في القرآن الكريم في وصف حال المؤمنين في الجنة. فيها ذكر إقبال كل محبوب عليهم وإدبار كل مكروه عنهم يذهب عنهم الحزن والخوف وليس هناك شيء في الدنيا أضر على الإنسان من الحزن والخوف. الحزن هو على شيء حاضر والخوف هو خوف من شيء سيحدث في المستقبل فهم لن يخافوا من أي شيء في المستقبل لأن رضا الله عليهم قد حلّ كما أنهم قد نسوا الهموم التي أصابتهم في الدنيا هذا مقارنة بإنسان قد نزل عليه الحزن والخوف فلن يعيش جيداً. كما قال الله تعالى (لهم الأمن وهم مهتدون) والأمن هو الخلاص من كل الشوائب فإذا سلم من الخوف والحزن فقد نال الأمن وإذا نال الأمن حصل السرور , الحزن والخوف أقوى الأمراض النفسية كما أن الأمان والسرور هو من أسباب الصحة النفسية فأي إيجاز هذا؟!.
و الإيجاز حتى في الأشياء التشريعية : (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)، كلمتين جمع الله بها كل ما عقده الله على خلقه من أوامر وكل ما تعاقد الناس عليه مع بعضهم البعض فالزواج عقد والبيع عقد فكثير من الرجال يأخذ البنت بالزواج ولا يعاملها بسنة الله ورسوله فهنا هو لم يأخذ بالعقد.
جملة تلخص نعيم الجنة: (و فيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين) كل شيء تشتهي نفسك وتسر به عينك هو في الجنة. يحكى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتحدث عن هذه الآية فيقول كان هناك رجل في الجنة يحب الزراعة فيطلبها من الله تعالى فيقول له الله أما قد كفيتك فيقول يارب أنا أحب الزراعة فيأمر الله تعالى أن يأتوه بما يزرعه فسر لذلك سروراً كبيراً .فقال أحد الأعراب من الصحابة الذي كان يسمع القصة تجد هذا من يثرب لأنهم هم عندهم زرع و ليس نحن. و لكن انظر كل هذا تضمه آية واحدة مختصرة. في الحلقة القادمة ندخل في جمال آخر من سحر القرآن وإن من البيان لسحرا.