(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ (101) آل عمران) انظر هنا كيف استطاع الاستفهام أن يُلقي ظلاله البلاغية فالاستفهام هنا ليس حقيقياً بل خرج إلى معنى الاستبعاد، إستبعاد كفر المؤمنين ونفيه.
(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ (103) آل عمران) الحبل في الأصل ما يُشدّ به للإرتقاء أو النجاة أو نحوه. فانظر بلاغة القرآن العظيمة في تصويره لهيئة اجتماعهم على دين الله كاستمساك جماعة بحبل أُلقي إليهم من منقذ لهم من غرق أو سقوط ليرتقوا به إلى القمم. فما أعظم هذه الاستعارة التمثيلية البليغة التي جُعلت الآية فيه على أقوى وجه لتمام البلاغة لكثرة ما فيها من المعاني.
(وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا (103) آل عمران) تدبر هذا التمثيل الرائع لهذه النعمة التي حظيت بها الأمة. ألا ترى كيف نقلك قوله تعالى (شفا حفرة) إلى عالم التخيل وكيف استطاع هذا القول أن يقرِّب لك المعقول باستعارة المحسوس إليه. فالنار حقيقة وتصويرها بحفرة تمثيل وتصوير لكنك ما كنت لتتخيل شناعة هذا الموقف وحال إنقاذك منها دون هذه الصورة الرائعة فما أكمل بيان الله عز وجل!
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ (110) آل عمران) إذا علمت أن الاهتمام غالباً هو سبب التقديم في الكلام دون غيره فهل لقائل أن يقول إن الإيمان بالله يأتي في المرتبة الثانية بعد فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ الجواب طبعاً لا وإنما قدّم ما هو الأهم في هذا المقام للتنويه بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتأخر الكلام عن الإيمان دليلاً على أن إيمانهم ثابت محقق من قبل وتأخير ما هو أقوى في التربة لا يضعف من أهميته وإنما يزيد من أهمية ما سبقه.
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ (112) آل عمران) معنى ضرب الذلة إتصالها بهم وإحاطتها ففيه إستعارة مكنية إذ شُبِّهت الذلة وهي أمر معقول غير محسوس يقُبّة أو خيمة شملتهم وأحاطت بهم وشُبِّه اتصالها وثباتها بضرب القُبّة وشدّ أطنابها بحيث يصعب أن يتنزعوا هذه المذلة عنهم فهل يمكن أن تؤدي صورة أخرى ما أفادته هذه الصورة القرآنية الفريدة؟
(وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ (114) آل عمران) المسارعة في الخير الرغبة في الاستكثار منه والمبادرة إليه. وفيه إستعارة لطيفة تُدرّك بالتأمل والتدبر. فحرف (في) هنا استعارة تخيلية تؤذن بتشبيه الخيرات بطريق يسير فيه السائرون أما إذا قلت يسارعون إلى الخيرات فالمرء لم يبلغ بعدُ الخيرات بل يسعى لبلوغها.
(مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ (117) آل عمران) تدبر هذا التمثيل القرآني ستجد أنك أمام صورة في غاية في الدقة والإحاطة بالأمور. فقوله تعالى (ظلموا أنفسهم) ليس جزءاً من الصورة لو سقط الكلام لكان المعنى تاماً لا لبس فيه لكنه صار إدماجاً في التمثيل ليُكسبه تفظيعاً وتشويهاً ولينفي ما يمكن أن يتحصل للسامع من الشفقة والرحمة على حال أصحاب الحرث الهالك.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ (118) آل عمران) البِطانة بكسر الباء في الأصل داخل الثوب لكن البيان الإلهي يتخذها لتصوير حالة صديق الرجل وخصيصه الذي يطّلع على شؤونه فيكون كبطانة الثياب في شدة القرب من صديقه. (إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) آل عمران) قال تعالى (تعقلون) ولم يقل تعلمون أو تفقهون؟ ألا تؤدي ذات المعنى؟ إن هذه الآيات آيات فراسة وتوسّم في اختيار من يثق به الإنسان ويتخذه صديقاً لذلك عبّر عنها بالعقل لأنه أعمّ من العلم والفقه اللذين لا يكشفان حقيقة هذه الفئة.
(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) آل عمران) المقاعد جمع مقعد وهو مكان القعود أي الجلوس على الأرض. وأنت تعلم أن الحرب والقتال ليسا مكان قعود ولا جلوس بل وقوف وقيام فلِمَ لم يأت البيان بأن يقول: وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مواقف للقتال؟ لأن الوقوف أولى؟ إعلم أن إضافة مقاعد لإسم القتال قرينة على أنه أطلق المواضع اللائقة بالقتال التي يثبت فيها المقاتل ولا ينتقل عنها فعبّر عن الثبات والتمكن في المقاعد دون الوقوف لأن الوقوف عرضة الحركة وعدم الثبات.
(بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) آل عمران) تحمل هذه الآية في كياتها لفتات بلاغية رائعة. ألا ترى أن حق السياق أن يكون كالتالي: إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربكم بخمسة آلآف من الملائكة ويأتوكم من فورهم؟ فلِمَ قدَّم (ويأتوكم من فورهم) على الإمداد؟ إن تقدم المعطوف يوحي بتعجيل الطمأنينة إلى نفوس المؤمنين وسرعة النصر قبل تحقق جزاء الشرط وهو قوله تعالى (ويمددكم).
(وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ (126) آل عمران) الطمأنة والطمأنينة السكون وعدم والاضطراب فلِمَ عبّر الله تعالى عن الثقة والأمان بقوله (ولتطمئن قلوبكم)؟ في هذه الكلمة من الدلالة ما يقصر غيرها من الكلمات عن التعبير. فسكون القلب يعني عدم اضطراب نبضات القلب الناجم عن الخوف والهلع وإذا كان القلب طبيعياً بنبضاته فهذا يعني أن الإنسان في حال أمن وكأنه خارج إطار الحرب بل هو في دار سلام وأمن.
(وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) آل عمران) ترى لو قلت وأسرعوا إلى مغفرة أتُحقق ذات الغرض والفائدة التي تحققها صيغة (وسارعوا)؟ بالطبع لا فالبيان القرآني جاء بصيغة سارعوا للمبالغة في طلب الإسراع. وتنكير (مغفرة) ووصلها بقوله (من ربكم) مع استطاعة الإضافة مباشرة بأن يقول: وسارعوا إلى مغفرة ربكم غرضه التضخيم والتعظيم. ثم لسائل أن يسأل لِمَ جاء البيان الإلهي بقوله جنة عرضها ولم يقل جنة طولها؟ سيأتي الجواب أن الكلام هنا على طريقة التشبيه البليغ والأصل: وجنة عرضها كعرض السماء والأرض كما جاء في سورة الحديد والغرض هنا أريد به تمثيل شدة الإتساع ليُطلق العنان لخيال السامع فإذا كان عرض الجنة بهذا الإتساع صعب التخيّل فكيف يكون طولها؟!
(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ (134) آل عمران) الكظم لغة الإخفاء والإمساك وهو مأخوذ من كظم القِربة إذا ملأها وأمسك فمها وعلى هذا تكون الآية تمثيلاً رائعاً بحق الخُلُق العظيم من جهتين: أولاً إخفاء الغضب من جهة وثانياً إمساكه عند وصوله حد الإمتلاء تماماً كالماء إذا خيف أن يظهر من القربة وهي هنا النفس الغاضبة.
(إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ (140) آل عمران) انظر كيف استطاعت ابلاغة القرآنية أن تنقص من قدر المصيبة على المؤمنين. فأين تكمن البلاغة في هذه الآية التصويرية؟ لقد عبّر الله تعالى عن المصيبة بقوله (يمسسكم) ولم يقل يصبكم لأن المسّ أصله اللمس باليد فيكون أمراً سطحياً لا يخترق الجسد خلاف الفعل يصبكم الذي يفيد اختراق القرح إلى داخل الجسد وهذا مؤذن بالتخفيف. ثم صور الهزيمة بالقرح أي الجرح وهو هنا مستعمل في غير حقيقته فيكون بذلك إستعارة للهزيمة إذ لا يصح أن يراد بها الحقيقة لأن الجراح التي تصيب الجيش لا يُعبأ بها إذا كان معها النصر ناهيك عن أن تصوير الهزيمة بالقرح مؤذن بالشفاء منه.
(إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ (140) آل عمران) لعل سائلاً يسأل لِمَ اختار البيان الإلهي صيغة المضارع في (يمسسكم) والماضي في (مسّ) ولم يكونا في زمن واحد؟ إنها دقة التعبير في إيراد الحقائق الواقعية فالتعبير عما أصاب المسلمين بصيغة المضارع في (يمسسكم) لقربه من زمن يوم أحد وعما أصاب المشركين بصيغة الماضي (مسّ القوم) لبُعدِه لأنه حصل يوم بدر.
(وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (143) آل عمران) إنك تعلم أن موت المؤمن في المعركة هو الشهادة فلِمَ عدل الله تعالى في الآية إلى ذكر الموت دون الشهادة فلم يقل: ولقد كنتم تمنون الشهادة أو قيّده فقال: تمنون الموت في سبيل الله؟ إن هذه الآية جاءت في معرض اللوم للمسلمين الذين أظهروا الشجاعة وحُبَ اللقاء ولو كان فيه الموت ولم يرضوا التحصن في المدينة والدفاع دون الحرب كما أشار به الرسول r فلذلك نزع الله تعالى صفة التشريف عن الموت في سبيل الله وهي الشهادة وعدل عنها وصرّح بلفظ الموت فقط.
(وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) آل عمران) لقد جمعت الآية بين الضعف والوهن وهما متقاربتان تقارباً يبلغ حد الترادف فهل يمكن الاستغناء عن أحدهما دون الآخر؟ الواقع أن كل واحد منهما أفاد معنى أراده البيان القرآني وهما هنا مجازان فالوهن أقرب إلى خَوَر العزيمة والياس في النفوس والضعف أقرب إلى الإستسلام والفشل في المقاومة. ثم بعد ذلك تجيء الإستكانة لتعبر عن الخضوع والمذلة للعدو بعد الوهن والضعف ومن لطائف النظم القرآني ترتيبها في الذكر بحسب ترتيبها في الحصول فإنه إذا خارت العزيمة فشلت الأعضاء واستسلمات ورضخت للمذلة من العدو.
(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ (151) آل عمران) حقيقة الإلقاء هو رمي الشيء على الأرض كقوله تعالى (فألقوا حبالهم وعصيّهم). فهو هنا إذن مجاز على طريقة الإستعارة فالإلقاء مؤذِن بتمكّن الرعب من قلوبهم.
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ (152) آل عمران) انظر إلى دقة النظم القرآني بترتيب الأفعال الدالّة على الحدث: الفشل، التنازع والعصيان. فقد رتبها على حسب ترتيبها في الحصول وهو ضجر بعض الرُماة من ملازمة مواقعهم ثم التنازع في ملازمة الموقف وفي اللحاق بالجيش في الغنيمة. ونشأ عن التنازع تصميم معظمهم على مفارقة الموقع وفيه عصيان لأمر النبي r بالملازمة.
(وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ (152) آل عمران) لقد كان عصيان الصحابة في معركة أُحُد مخالفة لأمر النبي r وسميت هذه المخالفة عصياناً مع أن تلك المخالفة كانت عن اجتهاد لا عن استخفاف والعصيان من الاستخفاف فلِمَ عبّر الله تعالى عن مخالفتهم بالعصيان ولم يقل وخالفتم؟ سُميت عصياناً لأن المقام ليس مقام اجتهاد فإن شأن الحرب الطاعة المطلقة للقائد من دون تأويل لذلك جاءت بصيغة العصيان زيادة عليهم في التقريع.
(ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ (154) آل عمران) الأمنة من الأمن والنعاس أول النوم وكان مقتضى الظاهر أن يقدّم النعاس ويؤخر الأمنة لأن (أمنة) بمنزلة النتيجة والغاية للنعاس تماماً كما جاء في آية الأنفال (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه) ولكنه قدّم الأمنة هنا تشريفاً لشأنها حيث جُعِلت كالمنزَّل من الله تعالى لنصرهم ولأن الأمن فيه سكينة واطمئنان للنفس أكثر من النعاس. فالنعاس يُخشى منه أن يكون نوماً ثقيلاً وعندها يؤخَذون على حين غرّة.ولِمَ قال عن الطائفة الأولة (منكم) ولم يقيّد الثانية بهذا الوصف فقال تعالى (يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) ولم يقل طائفة منكم وطائفة منك قد أهمتهم أنفسهم؟ انظر إلى ما يفيده الوصف (منكم) في كِلا الطائفتين: فعبّر عن الأولى التي يغشاها النعاس بقوله (طائفة منكم) أما الثانية فهي فئة منافقة لذلك ترك الله تعالى وصفها بـ (منكم) لأنه ليست من المؤمنين الذين أمّنهم الله تعالى بالنعاس.
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ (155) آل عمران) إستزلال الشيطان إياهم هو الهزيمة واستزلهم بمعنى أزلّهم فما فائدة السين والتاء؟ إعلم أن زلة الهزيمة هي من أعظم الزلاّت لذلك جاءت على صيغة إستزل لتأكيد وتفظيع هذا الفعل.
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ (159) آل عمران) ما فائدة تقديم الجار والمجرور (فبما رحمة) على الفعل (لِنت) مع أن الأصل: لنت لهم برحمة من الله؟ هذه الآية من رحمة الله تعالى على المؤمنين وقد عبّر عن هذه الرحمة بأسلوب جميل فقد استطاع التقديم في الآية أن يُغني المعنى بشيء من الحصر أي برحمة الله لا بغير ذلك لن النبي r لأمّته. كما أفاد القصر في هذا الموضع التعريض بأن أحوالهم كانت مستوجبة غِلظة ولكن الله تعالى ألآن خُلُق رسوله r رحمة بهم لحكمة في سياسة الأمة والذي قوّى القصر وأكّده زيادة (ما) بعد باء الجرّ.
(قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (168) آل عمران) لِمَ قال ربنا (فادرؤوا عن أنفسكم الموت) ولم يقل فاحموا أنفسكم من الموت؟ آثر ربنا تعالى أن يعبِّر بـ (فادرؤوا عن أنفسكم الموت) لأن الدرء يعني الدفع وفي هذا إيماء إلى أن الموت يأتي بشكل مفاجئ وقوي لا قِبَل للمرء على مقاومته ودفعه. أما الحماية فهي تدل على أن المرء يرى الخطر المدلهِّم به ويريد أن يحمي نفسه بينما الموت ليس بمرئي ومشاهد حتى يصون الإنسان نفسه منه.
(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) آل عمران) تبصّر في هذه الصورة الرائعة التي ترسلها الريشة القرآنية بدقة متناهية تسلب الألباب، إنها صورة هؤلاء المؤمنين الذين استعلوا على جراحهم في غزوة أحد واستعلوا على آلآمهم ولم يفقدوا شجاعتهم وتبتلهم ويقينهم بالله عز وجل فلما خوّفهم الناس بجموع المشركين التي تجمعت لاستئصالهم ما زادهم هذا التخويف إلا إيماناً ويقيناً وثباتاً وعزيمة وقالوا (حسبنا الله ونعم الوكيل).
(وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) آل عمران) انظر إلى هذه الاستعارة التمثيلية لحال أهل الكفر والنفاق والتي قوّاها تعدية المسارعة بـ (في) عوضاً عن (إلى) فقال تعالى (يسارعون في الكفر) ولم يقل إلى الكفر. وبيان ذلك أنه شبّه حال حرصهم وجدّهم في تكفير الناس وإدخال الشك على المؤمنين بحال الطالب المسارع إلى تحصيل شيء يخشى أن يفوته. فأفادت يسارعون في الكرف أنهم لم يكتفوا بالكفر بل توغلوا في أعماقه.
(وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (180) آل عمران) يطوقون مشتقّ من الطوق وهو ما يُلبس تحت الرقبة فوق الصدر وفي هذا الكلام تصوير جميل بحيث جعل أموال الذين يبخلون أطواقاً يوم القيامة يعذّبون بحملها. والطوق في الدنيا يُتّخذ للزينة ولكنه يتحول مع البُخل إلى زِنة لا يمكت حملها وقد اختار الله تعالى الطوق دون غيره لأنه أظهر للعيان بقصد التشهير بهم يوم الحشر.
(لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ (181) آل عمران) ألا تجزم أخي المؤمن بأن سمع الله تعالى دليل عِلمه ما قالوا؟ فلِمَ جاء بالفعل (سمع) وعدل عن الفعل علِم؟ إنما أريد بهذا الفعل التهديد والإيذان بأن ما يقولونه فيه جرأة عظيمة وأن الاستخفاف بالرسول r وبالقرآن إثم عظيم وكفر على كفر. ولذلك قال تعالى (لقد سمع) المستعمل في لازم معناه وهو التهديد على كلام فاحش. فليس المقصود إعلامهم بأن الله تعالى علِم بذلك بل التهديد كما يقول أحدنا لولده: إني أسمع ما تقول، فهو لا يريد إبلاغه بأنه يسمعه بل يريد أن يهدده.
(وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ (187) آل عمران) بهذه الألفاظ البسيطة استطاع القرآن أن يوضح سوء عمل اليهود مع ميثاق الله فكيف ذلك؟ انظر تفصيل الآية: أولاً عطف بالفاء فقال (فنبذوه) إشارة إلى سرعة نبذهم وعدم احترامهم لميثاق الله فالفاء تفيد الترتيب والتعقيب. ثانياً إستعار الفعل (نبذ) لعدم العمل بالعهد تشبيهاً للعهد بالشيء المنبوذ في عدم الانتفاع به إذ أصل النبذ الطرح والإلقاء. ثالثاً مثّل بقوله (وراء ظهورهم) عن الإضاعة والإهمال لأن شأن المهتم به المتنافَس عليه أن يُجعل نصب العين ويُحرَس ويُشاهَد.
(رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا (193) آل عمران) إعلم أن حقيقة النداء هو الصوت المرتفع والمنادي هو الذي يرفع صوته بالكلام ويبالغ في الصياح به ومن المعلوم أن دعوة النبي r لم تكن بالصياح ورفع الصوت فلِمَ آثر القرآن تصوير الدعوة بالنداء؟ ما ذاك إلا ليبيّن حرص النبي r على المبالغة في الإسماع بالدعوة هذا من جهة. ومن جهة أخرى لما دعاهم كانوا في حالة الكفر وهي بعيدة عن الإيمان فكان النداء مجازياً لدلالة بُعدِهم وأن النبي r كان في موضع عالٍ يناديهم وهو موضع الإيمان.
(رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ (195) آل عمران) تأمل هذا التعبير بالدعاء (ربنا) دون إسم الجلالة فلم يقولوا يا الله وما ذاك إلا لما في وصف الربوبية من الدلالة على الشفقة بالمربوب ومحبة الخير له ومن الاعتراف بأنهم عبيده. ولِردّ حُسن دعائهم بمثله قال الله تعالى (فاستجاب لهم ربهم).
(فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ (195) آل عمران) قد يظن السامع لهذه الآية الكريمة أن قوله تعالى (من ذكر أو أنثى) زيادة كان الأولى الإستغناء عنها ولكن هذا القول جاء لحكمة بليغة فلو استعرضت الأعمال التي أتى بها أولو الألباب المذكورون في الآية لوجدت أن أكبرها الإيمان ثم الهجرة ثم الجهاد. ولما كان الجهاد أكثر تكراراً خيف أن يُتوهَم أن النساء لا حظّ لهن في تحقيق الوعد على لسان الرسل فأتى بالتفصيل (من ذكر وأنثى).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ (200) آل عمران) هذه دعوة الله المؤمنين إلى الصبر لكن ألا يُغني واحد منهما عن الآخر الصبر أو المصابرة؟ الحقيقة أن الدعوة إلى الصبر دون المصابرة مدعاة للتزلزل والفشل وإذا لم يقترن الصبر بالمصابرة والمجاهدة على الصبر حتى يلين الخصم فإنه لا يجني منه شيئاً لأن نتيجة الصبر تكون لأطول الصابرين صبراً كقول الشاعر:سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ولكنهم كانوا على الموت أصبَرافالمصابرة هي سبب النصر على الخصوم في ساحات الوغى.