قبسات من روائع البيان

سورة الأعراف 1

اسلاميات

سورة الأعراف

(كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ (2)) الحرج في حقيقته المكان الضيق من الغابات الكثيرة الأشجار بحيث يعثر السلوك فيه فأغمض عينيك أيها المتدبر لكتاب الله واعمل خيالك في هذه الصورة القرآنية لحال الآسف الحزين الذي امتلأ صدره حزناً فإنه يعسر منه التنفس من انقباض أعصاب مجاري التنفس فتخيل هذا الضيق النفسي بضيق مكان مليء أشجاراً كيف تستطيع تجاوزها. فها هي صورة القرآن التي ترسم بألفاظها المحكمة ما تعجز ريشة الفنان عن الإتيان به. 

(وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ (4)) انظر كيف رسم القرآن مشاهده بأبدع رسم فهنا يعرض القرآن حقيقة الهلاك للقرية دون أن يأتي على ذكر أهلها لقصد الإحاطة والشمول. فتخيل مشهد القرية وهي تتدمر بأكلمها، ستجد نفسك أمام هذه الصورة الفظيعة وتتساءل بدهشة إذا كان هذا ما حل بالقرية وهي ثابتة مستقرة فكيف بأهلها؟ وستزداد دهشة إذا علمت أن ساعة الهلاك هي ساعة نومهم قال تعالى (بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ) 

(قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ (12)) لعل سائلاًً يقول إذا كان المنع يعني الكف والصد فلم جاءت الآية بحرف النفي (لا) في قوله (ألا تسجد) فيكون مقتضى الظاهر أن يقول ما منعك أن تسجد؟ إن (لا) هنا لا تفيد نفياً وإنما جيء بها للتأكيد و (لا) من جملة الحروف التي يؤكد بها الكلام تماماً كما في قوله تعالى (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) البلد) أي أقسم بهذا البلد قسماً محققاً. 

(قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15)) هل نال إبليس تكرمة في استجابة طلبه بأن يكون من الكائنات الباقية؟ هذا ما تشير إليه الآية لكن في الحقيقة خاب فهو أهون على الله من أن يجيب له طلبه وقد نفى هذا التصوير للسامع قوله (قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ) فانظر كيف أفاد التأكيد بـ (إنك) والإخبار بصيغة (من المنظرين) أن إنظاره أمر قد قضاه الله وقدّره من قبل سؤاله وهذه هي النكتة في العدول عن أن يكون الجواب أنظرتك أو أجبت لك مما يدل على كرامته بعد الإجابة ولكنه أعلمه أن ما سأله أمر حاصل فسؤاله تحصيل حاصل.  

(ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ (17)) انظر كيف يحرص إبليس على إغواء بني آدم فالآية ضرب من المجاز التمثيلي وليست الجهات الأربع المذكورة بحقيقة إذا علمت أنه ليس للشيطان مسلك للإنسان إلا من نفسه وعقله بإلقاء الوسوسة. فكما شبّه هيئة الحرص على الإغواء بالقعود على الطريق كذلك مُثّلت هيئة التوسل إلى الإغواء بكل وسيلة بهيئة الباحث الحريص على أخذ العدو إذ يأتيه من كل جهة حتى يصادف الجهة التي يتمكن فيها من أخذه أعاذنا الله من شرّه وغوايته. 

(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ (26)) تأمل هذا التصوير الرائع لمعنى التقوى (وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ) إنه تشبيه لملازمة تقوى الله بملازمة اللابس لثيابه وحسبك قليل من التحول لتشهد كيف تتحول تقوى الله وخشيته إلى لباس يستر عورات النفس ويزين صاحبها بكمالات الأخلاق الرفيعة كما أن بعض الجسد يستر عوراته. ولا شك أن عورات النفس أشد فظاظة ولذلك لا بد من ستر يمحو أثرها فكانت التقوى خير لباس لها.  

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ (29)) الآية مبنية على تمثيل لكمال الإقبال على عبادة الله في موضاع عبادته، كيف ذلك؟ تخيل حال المتهيء لمشاهدة أمر عظيم حين يوجه وجهه إلى صوبه لا يلتفت يمنة ولا يسرة فذلك التوجه المحض يطلق عليه إقامة لأنه جعل الوجه قائماً لا متغاض ولا متوان في التوجّه. فتكون بذلك إقامة الوجوده تمثيلاً لكمال الإقبال على الله كأنه يراه أمامه. 

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ (32)) تخرج الأساليب في نظم القرآن عن حقيقتها فتأمل الاستفهام في الآية كيف خرج من معناه الحقيقي إلى الإنكار بغرض التهكم إذ جعل من حرم زينة الله على العباد جهلاً منه بمنزلة أهل علم يطلب منهم البيان والإفادة. 

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (34)) لقد عدل الله عز وجل عن ذكر العذاب أو الاستئصال مع إرادته لذلك وذكر الأجل فقال (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) وما ذاك إلا إيقاظاً لعقولهم من أن يغرهم الإمهال فيحسبوا أن الله غير مؤاخذهم على تكذيبهم كما أنه ذكر عموم الأمم في هذا الوعيد مع أن المقصود هم المشركون من العرب الذين لم يؤمنوا إنما هي مبالغة في الإنذار والوعيد بتقريب حصوله كما حصل لغيرهم من الأمم. 

(لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (34)) ألا ترى أن (وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) لا تعلق له بغرض التهديد فمنتظر الوعيد يسأل التأخير لا التقديم وهذه السورة من روائع البيان القرآني. فكل ذلك مبني على تمثيل حالة الذي لا يستطيع التخلص من وعيد أو نحوه بهيئة من احتبس بمكان لا يستطيع تجاوزه إلى الأمام ولا إلى الوراء. 

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ (40)) تأمل هذه الصورة القرآنية التي ترسم في خيال سامعها صورة متخيلة لفتح أبواب السماء أبواب وليس باباً واحداً وصورة متخيلة أخرى لولوج الجمل في سم الخياط وهو ثقب الإبرة. وتدب الحركة في هذه الصورة التخيلية بتخيل محاولات الجمل اليائسة المتكررة دخول ثقب الإبرة. إنها صورة جامعة لمعنى الحرمان من الخيرات الإلهية المحضة واستحالة دخولهم الجنة بعدها.  

(لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)) صورة جديدة متخيلة لألوان العذاب في نار جهنم فانظر كيف تنقلب الألفاظ عن حقيقتها فالمهاد والغواشي ما يفرشه الإنسان ويتغطى به عند اضطجاعه للنوم. وفي الآية تتحول هذه الوسائل المريحة إلى أدوات للعذاب فشبّه البيان الإلهي ما هو تحتهم من النار بالمهاد وما هو فوقهم منها بالغواشي كناية عن إنتفاء الراحة لهم في جهنم أعاذنا الله من حسيسها. ولا يخفى ما في هذه الآية من التهكم والسخرية بأولئك الذين اتخذوا فراشاً وثيراً في الدنيا فأُبدِلوا هذا الفراش بفراش آخر ولكنه في نار جهنم. 

(وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)) الخطاب في الآخرة بين أصحاب النار وأصحاب الجنة وعبَّر عنه بالنداء فلِمَ اختير النداء دون القول أي عندما قال تعالى (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ)؟ إن في خطاب أصحاب الجنة لأصحاب النار بالنداء دون القول كناية عن بلوغه أسماع أصحاب النار من مسافة سحيقة البعد فإن سعة الجنة وسعة النار تقتضيان ذلك لا سيما مع قوله (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ (46) الأعراف). 

(فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)) انظر في الآية وتدبر ألفاظها. فالنسيان في الموضعين نسيان ترك وإهمال لاحظ الآية (فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ) ولا حاجة لذكر اليوم لتمام المعنى دونه ولكن الله آثر ذكر (اليوم) لما فيه من إثارة تحسرهم وندامتهم وذلك لون من ألوان العذاب النفسي. ودلّ معنى كاف التشبيه في قوله (كَمَا نَسُواْ) على أن حرمانهم من رحمة الله كان مماثلاً لإهمالهم التصديق باللقاء وهذه المماثلة مماثلة اعتبارية مماثلة جزاء العمل للعمل. 

(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ (53)) هل سمعت بالاستعاذة التهكمية؟ إنها لون من تفنن القرآن في تعبيره فالآية هنا تتحدث عن انتظار الكفار لوعيدهم فشبّه حال تمهلهم إلى الوقت الذي سيحل عليهم فيه ما أوعدهم به القرآن بحال المنتظرين وهم ليسوا بمنتظرين ذلك إذ هم جاحدون وقوعه. فهذه الصورة جرياً على الاستعارة التي أريد بها التهكم بحالهم فأنّى لهم أن يترقبوا عذاب الله. أوينتظر الإنسان العذاب أو يفر منه؟! لكنه تهكم من جانب وإظهار لما اختبأ في صدورهم من جانب آخر. 

(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا (54)) انظر كيف يخلع القرآن الحياة على المواد الجامدة والظواهر الطبيعية لترقى فتصبح حياة إنسانية ففي هذه الآية يجعل البيان القرآني الليل والنهار شخصان يفيضان حياة وحركة. وقد صور لنا الليل هنا في سمت الشخص الواعي له إرادة وقصد فها هو يطلب النهار مسرعاً مستمراً دائماً لا ينقطع حتى قيام الساعة ولكنه محال أن يلحق به فقد قال تعالى (وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ (40) يس). 

(فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا (64)) تأمل كيف يختصر البيان الإلهي الزمن فمع وجود الفاء في قوله (فَأَنجَيْنَاهُ) الدالة على التعقيب فأنت تعلم بأن التكذيب كان من القادة ثم العامة ثم أعقب الوحي وصناعة الفلك ثم بعد ذلك يرتب الوقائع بحسب الأهمية. إن الله أسرع في هذا الإخبار بالإنجاء وجعله مقدماً على الإخبار بالإغراق مع أن مقتضى العبرة تقديم إغراق المكذبين (فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا). قدّم الإنجاء للاهتمام بإنجاء المؤمنين وتعجيلاً لمسرّة السامعين من المؤمنين.