سورة البقرة:
(الم (1) البقرة) تأمل هذه البداية التي تبهر الأنظار وتدفع الإنسان للتساؤل ماذا تعني (ألم)؟ أتت هذه الحروف لتتحدى صناديد العرب وفصحاءهم وشعراءهم هذه حروفكم التي طالما نسجتم بها ألواناً من القول ورسمتم بها لوحات من الأدب والفن ومع ذلك ستقفون عاجزين عن محاكاة القرآن في أسلوبه.
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ (2) البقرة) ألا ترى أن المرء يقول للقريب هذا وللبعيد ذلك فلِمَ قال تعالى عن كتابه (ذلك) مع أنه قريب؟ قال الله تعالى (ذلك) أنه أراد أن يُظهر لنا رفعة شأن هذا القرآن فهو بعيد في منزلته ومكانته. ألا ترى أن الشيء النفيس العزيز على نفوسنا نجعله في موتفع صوناً له فكان قوله تعالى (ذلك الكتاب) بعد قوله (ألم) كالشيء العزيز المنال بالنسبة للمخلوقات على أن تعارضه.
(هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) البقرة) الهدى هو الدلالة التي توصلك إلى مبتغاك والقرآن هو الذي يوصلك إلى التقوى والنعيم.
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ (3) البقرة) لِمَ قال يؤمنون ولم يقل آمنوا بالغيب مع أن إيمان المتقين بالعيب مؤكد في الآية (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)؟ قال تعالى يؤمنون بصيغة المضارع ولم يقل آمنوا بصيغة الماضي لأن الإيمان منا مستمر متجدد لا يطرأ عليه شك ولا ريبة.
(خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ (7) البقرة) تأمل الآية وانظر كيف جعل الله تعالى القلوب والأبصار جمعاً بينما أفرد السمع وأنت تعلم أن الإنسان يملك قلباً واحداً بينما يملك عينين وأذنين فكان الأوْلى من حيث الظاهر أن يُفرِد القلب فيقول ختم على قلبهم، فلِمَ أفرد السمع دون القلوب والأبصار؟ إن السمع يتعلق بما تسمع وما يُلقى إليك فكل الناس يسمعون الخبر متساوياً لا تفاوت فيه ولا تفاضل وإنما نختلف أنا وأنت والناس جميعاً بتحليل المسموع وتدبره وهذا يتم عبر القلوب.
(فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ (10) البقرة) المرض هو الضعف والفتور فهل كل كافر مصاب بمرض في قلبه؟ تخيل شخصاً مريضاً ما الذي يبدو عليه؟ وماذا يفعل المرض بجسده؟ إن مظهره يبدو شاحباً والمرض يقتل جسده وروحه رويداً رويداً وكذلكم الأمر بالنسبة إلى النفاق فالجهل وسوء العقيدة مرض إيماني وأخلاقي يميت نور الإيمان في قلب صاحبه.
(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) البقرة) لِمَ قال يعمهون ولم يقل يعمون؟ العمى فقد البصر وذهاب نور العين أما العَمَه فهو الخطأ في الرأي والمنافقون لم يفقدوا بصرهم وإنما فقدوا المنطق السليم فهم في طغيانهم يعمهون.
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) البقرة): انظر إلى هذه الصورة التي رسمها لك الله تعالى لحالة المنافق فهو كهيئة موقِد النار فما وجه الشبه المشترك بينهما؟ إن بينهما اشتراكاً واضحاً جلياً. تأمل حالة ذلك الإنسان الذي أوقد ناراً في ليل دامس مظلم فاستنار بها ثم سرعان ما انطفأت هذه النار لا شك أنه سيتيه في ذلك الليل الحالك ويفقد رؤيته وهذا هو حال المنافق الذي آتاه الله نور الإيمان وضياء القرآن في أيام جهل كالليل المظلم ولكنه رفضها فانقلب نور الإيمان في قلبه إلى ظلام النفاق والكفر. ويقول تعالى أيضاً (ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ) لِمَ قال تعالى ذهب الله بنورهم؟ فإنه يعني مضى به واستصحبه وهذا يدلك أنه لم يبقى لهم مطمع في عودة النور الذي افتقدوه كما تقول عن خبر لا يعرفه إلا شخص واحد وقد مات فتقول ذهب فلان بالخبر إذا لم يعد لك أمل في معرفته.
(الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ (27) البقرة) تأمل قوله تعالى (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ) انظر كيف جعل الله تعالى التخلي عن الميثاق والوعد نقضاً. فما سبب اختيار لفظ النقض في هذه الآية؟ إن النقض يدل على فسخ ما وصله المرء وركّبه فنقض الحبل يعني حلّ ما كنت قد أبرمته وقطعك الحبل يعني جعله أجزاءً ونقض الإنسان لعهد ربّه يدلك على عظمة ما أتى به الإنسان من أخذ العهد وتوثيقه ثم حلّ هذا العهد والتخلي عنه فهو أبلغ من القطع لأن فيه إفساداً لما عمله الإنسان بنفسه من ذي قبل.
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ (28) البقرة) بدأت الآية بأسلوب استفهام فاستعملت إسم الاستفهام (كيف) الذي يدل على الحال إلا أن الاستفهام قد يخرج عن معناه إلى معان أخرى يدلك عليها الكلام فما غرض الإستفهام في الآية؟ إن الاستفهام الحقيقي يحتاج إلى جواب فإذا سألك أحد كيف حالك؟ قلت الحمد لله وهذا جواب لسؤاله أما إذا قلت لولدك وهو يضيع وقته أيام الامتحانات كيف تضيع وقتك على التلفاز هل تنتظر منه جواباً؟ وكذلك قوله تعالى (كيف تكفرون) هو استفهام ولكنه خرج إلى غرض آخر وهو التعجب والإنكار.
(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ (29) البقرة) قال تعالى (فسواهنّ) ولم يقل خلقهنّ لأن التسوية خلقٌ وبناءٌ وتزيين أما كلمة خلق فهي تدل على الإيجاد والبناء ولو تأملت السموات لرأيت بدعة الخلق ودقّته ونظاماً لا يختلُّ ولا يغيب.
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) البقرة): هل من فارق بين نقدس لك ونقدسك؟ الفعل يقدس فعل متعدي يأخذ مفعولاً به دون حرف الجر اللام فنقول نقدس الله لكن الآية أدخلت اللام على الكاف فما فائدة اللام؟ فائدتها للتخصيص أي التقديس لك لا لغيرك. الملائكة لا تعصي الله ما أمرها فهي لا تقدس إلا لله بخلاف البشر الذين قد يقدسون الله ومع تقديس الله يقدسون غيره.
(وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35) البقرة): نهي آدم وزوده عن الاقتراب من الشجرة فأكلا منها ووقعا في النهي. فلِمَ قال تعالى (ولا تقربا) ولم يقل ولا تأكلا؟ نهى الله تعالى آدم عن القرب من الشجرة حتى لا تضعف نفسه عند مشاهدة ثمارها وتتوق نفسه للأكل من ثمرها ولو نهي عن الأكل لاقترب منها وعندها سيقاوم نفسه التي تريد تناول ثمارها وإما يأكل منها وإما لا يأكل أما إن ابتعد عنها فلن تتوق نفسه إلى ثمار لم يرها.
(وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) البقرة): الآيات جمع آية وهي الشيء الذي يدل على أمر من شأنه أن يخفى. ولذلك قيل لأعلام الطريق آيات لأنها وضعت لإرشاد الناس إلى الطرق الخفية في الرمال. وسميت جُمَل القرآن آيات لأنها ترشد الضالّ في متاهة الحياة إلى الفلاح وطريق الخير.
(وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) البقرة): إختار تعالى لفظ العهد لليهود ولم يقل أوفوا وعدكم فهل لهذا بُعدٌ آخر؟. هذا من لطائف القرآن خاطبهم الله تعالى بإسم التوراة المعروف عندهم، أليست التوراة تسمى عندهم العهد لذلك الكلمة مزدوجة الدلالة لأمرين: لأنها تأمرهم بإلتزام أوامر الله وتأمرهم بالتزام وصايا الله تعالى المبثوثة في طيّات العهد القديم والتي فيها الإيمان بمحمد r.
(وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) البقرة): عندما تشتري أمراً ما من السوق تقول اشتريت هذا بمائة درهم فانظر إلى الباء في (بمائة) أي دخلت على ثمن السعر وفي الآية دخلت الباء على آياتي (بآياتي) لتعلمنا أن اليهود جعلوا آيات الله تعالى كدراهم واشتروا به عرضاً من أعراض الدنيا لا قيمة له ولذلك جاء وصفه قليلا لأنهم بذلوا أنفس شيء واشتروا به حظاً قليلاً.
(وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ (49) البقرة) الآل هم الأهل والأقراب والعشيرة. وكلمة آل لا تضاف إلا لشيء له شأن وشرف دنيوي ممن يعقل فلا تستطيع أن مثلاً أن تقول آل الجاني بل تقول أهل الجاني.
(وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) البقرة) تقدّم المفعول به وهو (أنفسهم) على الفعل وهو (يظلمون) أفكان التقديم لتناسب الفاصلة القرآنية وحسب أم كان لنكتة بلاغية ولغوية؟ إن في تقديم المفعول به على فعله تأكيداً وتنويهاً: فيه تأكيد على أن حالهم كحال الجاهل بنفسه فالجاهل يفعل بنفسه ما يفعله العدو بعدوّه، وفيه تنويه لك أيها المسلم أن الخروج من طاعة الله سبحانه وتعالى أولاً وآخراً فيه ظلم ولكنه ظلمٌ لنفسك قبل ظلمك لغيرك.
(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ (60) البقرة) لِمَ قال تعالى (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ) ولم يقل وإذ استسقى موسى ربّه؟ أليس موسى u أحد أفراد القوم؟ في هذا السؤال دلالة على عناية الله تعالى بعباده الصالحين فهذا الدعاء والاستسقاء يدلك على أن موسى u لم يصبه العطش لأن الله تعالى وقاه الجوع والظمأ كما قال r “إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني”. وانظر كيف كان الاستسقاء لموسى uوحده دون قومه فلم يقل ربنا سبحانه وتعالى : وإذا استسقى موسى ومومه ربهم وذلك ليظهر لنا ربنا كرامة موسىِu وحده ولئلا يظن القوم أن الله تعالى أجاب دعاءهم.
(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ (61) البقرة) لِمَ لم يقل ربنا سبحانه وتعالى أصابتهم الذلة والمسكنة؟ أليس هذه الصيغة تؤدي معنى ضربت عليهم الذلة والمسكنة؟ تخيل قوماً أقاموا في مكان ما فضربت عليهم قُبّة كيف تشاهد هذه الصورة؟ إنك تتخيل أفراداً ماكثين تحت قُبّة بحيث تحوطهم من كل جانب وتظلّهم وكذلك هذه الآية فقد شبّه الله تعالى الذلة والمسكنة بالقبة التي أحاطت أهلها فلازموها ولم يغادروها فكانت الذلة والمسكنة بيتهم الذي لا يغادرونه ولا يحولون عنه. والمسكنة هي الفقر وأُخِذ هذا المعنى من السكون لأن الفقر يقلل حركة صاحبه ويجعله يؤثِر السكون.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) البقرة): لِمَ عبّر تعالى هنا بالذين هادوا؟ في هذا التعبير إشارة إلى أنهم ليسوا اليهود وإنما هم الذين انتسبوا إلى اليهود ولم يكونوا من سبط يهوذا. والنصارى إسم جمع نصرى نسبة إلى الناصرة وهي قرية نشأت فيها مريم عليها السلام أم المسيح وقد خرجت مريم من الناصرة قاصدة البيت المقدس فولدت المسيح u في بيت لحم ولذا سمي عيسى يسوع الناصري ومن ثَم أُطلق على أتباعه إسم النصارى.
(قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) البقرة): لو قال تعالى بقرة صفراء لعلِم بنو إسرائيل أنه لون الصُفرة سيما أن هذا اللون نادر في البقر فلم قيّد الصفرة بصفة فاقع؟ في هذا التعبير مزيد من التعجيز والتقييد وتحديد لبقرة بعينها دون سواها وهنا تضييق على بني إسرائيل فعندما شدّدوا شدّد الله تعالى عليهم.
(إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا (70) البقرة) لم قالوا هذه الجملة في هذه الآية مع أنهم لم يقولوها في المرات السابقة؟: طلب بنو إسرائيل صفات البقرة على ثلاث مراحل طلبوا تحديد ماهيتها (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ (68) البقرة) ومرة طلبوا تحديد لونها (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا (69) البقرة) ولم يعللوا سبب طلبهم فلما لجأوا للتعليل في المرة الثالثة قالوا (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) البقرة) لأن فعل الشيء ثلاث مرات يكون له في المرة الأخيرة وقع في النفس من الضجر والملل فلا بد من إضافة جديد أو تعليل في المرة الثالثة. ولذلك إنتشر في حياتنا التوكيد في الرقم 3.