** قال تعالى في سورة الشورى “وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ 32 إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ 33”
ما علاقة الفاصلة بصدر الآية؟ وما دلالة استعمال الصيغتين وما الفارق بينهما؟ ولماذا قدمت صفة (صبار) على صفة (الشكور)؟
ج ـ صبّار: الصبر إما أن يكون على طاعة الله، أو على ما بصيب الإنسان من الشدائد. فالصلاة تحتاج إلى صبر وكذلك سائر العبادات كالجهاد والصوم. والشدائد تحتاج للصبر أيضا.
أما الشكر فإنه إما أن يكون على النعم “وَاشْكُرُوا نِعْمَة اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون” النحل ـ114 ، أو على النجاة من الشّدّة “لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ” يونس ـ22 فالشكر إذن يكون على ما يصيب الإنسان من النِّعَم، أو فيما يُنجيه الله تعالى من الشِّدّة والكرب.
والآن نعود للسؤال لماذا قدّم الصبر على الشكر؟ ولننظر في الآيات التي وردت قبل الآية موضع السؤال وبعدها في سورة الشورى. قال تعالى في الآيات التي قبلها”وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ 28″
والآية فيها قنوط أولاً ثم إنزال الغيث، والأول (القنوط) يحتاج إلى صبر، والثاني (إنزال الغيث) يحتاج إلى الشكر لأن إنزال الغيث هو رحمة تحتاج إلى الشكر، أما القنوط فكان عند حبس المطر، وهو أمر يحتاج إلى الصبر.
أما في الآية التي بعدها فقد قال تعالى “وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)” يوبقهن أي يهلكهن
وهذه الآيات فيها أمران أيضاً الأول وهو أن عدم جريان السفن (فيظللن رواكد على ظهر)، وهذا أمر يحتاج إلى الصبر والثاني إهلاكهن (أو يوبقهن) وهو من المصائب.
و(يوبقهن) لها احتمالان:
ـ احتمال إرادة إهلاك من فيها، على المجاز المرسل ، فأطلق المحل وأراد الحالّ ، فقال (السفن)، والمُراد: من فيها، وهذا ما يُسمّى بالمجاز المُرسل وعلاقته محلية.
ـ أو احتمال إرادة البضائع التي فيها.
فهذه مصيبة سواء كانت في الأموال (أي السفن نفسها والبضائع) أو في الأنفس (من في السفن) وكلمة يوبقهن تحتمل الإهلاك في النفس وفي المال وكلاهما يحتاج إلى صبر ، فإذا أصيب الإنسان في المال احتاج إلى صبر على الشدة، أو إذا أصيب في النفس احتاج أيضا إلى صبر
أما قوله تعالى (ويعفو عن كثير) فهي تحتاج إلى شكر.
إذن ما تقدّم الآية موضع السؤال وما جاء بعدها كله يحتاج لصبر وشكر، والصبر تقدّم على الشكر فيهما ـ ما قبلها وما بعدها ـ وعليه فإن نهاية الآية (صبّار شكور) جاءت واضحة ومتلائمة مع السياق.
إضافة إلى هذا فإنه إذا نظرنا في القرآن كله نجد أنه تعالى إذا كان السياق في تهديد البحر يستعمل الصفتين (صبّار + شكور)، وإذا كان في غيره يستعمل الشكر فقط.
ففي سورة لقمان مثلاً قال تعالى في سياق تهديد البحر: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)” وفي سورة الشورى: “(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)”
أما في سورة الروم فقد قال تعالى: “وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)” فجاء بالشكر فقط وكذلك في سورة النحل: “وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)”
وفي سورة فاطر: “َمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 12″
وفي سورة يونس: “هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ 22″ وفي سورة الجاثية: “اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 12″.
وهناك أمر آخر وهو أن كلمة صبّار لم تأت وحدها في القرآن كله وإنما تأتي دائماً مع كلمة شكور وهذا لأن الدين نصفه صبر ونصفه الآخر شكر كما في قوله تعالى في سورة ابراهيم: “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ 5” وفي سورة سبأ: “فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ 19”
والآن نسأل لماذا استعمل صيغة صبّار على وزن (فعّال) وهذا السؤال يدخل في باب صيغ المبالغة وهو موضوع واسع لكننا نوجزه هنا فيما يخصّ السؤال.
أشهر صيغ المبالغة : مِفعال وفعّال وفعول، وكل منها لها دلالة خاصة.
مِفعال: مثل (معطاء ومنحار ومعطار) هذه الصيغة منقولة من الآلة كـ (مفتاح ومنشار) فنقلوها إلى المبالغة، فعندما يقولون هو معطاء فكأنه صار آلة للعطاء، وقولنا امرأة معطار بمعنى زجاجة عطر أي أنها آلة لذلك.
والدليل على ذلك أن صيغة المبالغة هذه (مِفعال) تُجمع جمع الآلة ولا تُجمع جمع المذكر السالم ولا جمع المؤنث السالم، فنقول مثلاً مفتاح مفاتيح، ومنشار مناشير، ومحراث محاريث، هذا في جمع اسم الآلة، ونقول في جمع صيغة مفعال: رجل مهذار ورجال مهاذير، فيجمع جمع الآلة، ولذلك لا يؤنث كالآلة
يا موقد النار بالهندي والغار *** هيجتني حزناً يا موقد النار
بين الرصافة والميدان أرقبها *** شُبّت لغانية بيضاء معطار
وهذه الصيغة لا تؤنث إفرادا ولا جمعا، فلا نقول معطارات وإنما نجمع معطار على معاطير، فنقول نساء معاطير ورجال معاطير، وامرأة مهذار رجال مهاذير..فهي من الصيغ التي يستوي فيها المذكر والمؤنث، ولا تجمع جمعا سالما، فلا نقول امرأة معطارة ولكن نقول امرأة معطار ورجل معطار ، ونجمعها جمع الآلة (معاطير) للرجال والنساء. هذه هي القاعدة
صيغة فعّال: منقولة من الحِرفة. والعرب أكثر ما تصوغ الحِرَف على وزن فعّال مثل نجّار وحدّاد وبزّاز وعطّار ونجّار. فإذا جئنا بالصفة على وزن الصيغة (فعال) فكأنما حرفتُه هذا الشيء. فإذا قلنا عن إنسان أنه كذّاب فكأنما يحترف الكذب كالنجّار الذي حرفته النجارة. إذن هذه الصيغة هي من الحِرفة والصنعة، والصنعة تحتاج إلى المزاولة. وعليه فإن كلمة صبّار تعني الذي حرفته الصبر. وقد وردت هذه الصيغة في القرآن الكريم في صفات الله تعالى فقال تعالى “فعّال لما يريد”، ويقول الله تعالى (غفّار) بعدما يقول (كفّار) ليدلّ على أن الناس كلما أحدثوا كفراً أحدث الله له مغفرة إذا استغفروا “فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا 10” نوح،
صيغة فعول: مأخوذة من (المادة والمواد) مثل الوَقود وهو الحطب الذي يوقد ويُستهلك في الاتّقاد، والوَضوء الماء الذي يُستهلك في الوضوء، والسَّحور ما يُؤكل في السحر، والسفوف وهو ما يُسفّ، والبَخور وهو ما يُستهلك في التبخر. والعَيون والأنوف وهي أدوية، فصيغة فعول إذن تدل على المادة التي تُستعمل في الشيء خاصة به.
وصيغة فعول يستوي فيها المؤنّث والمذكر فنقول رجل شكور وامرأة شكور. ولا نقول شكورة ولا بخورة ولا وقودةً. وصيغة فعول أيضا لا تُجمع جمع مذكر سالما ولا جمع مؤنّث سالما فلا نقول رجال صبورون أو نساء صبورات، وإنما نقول (صُبُر وشُكُر وغُفُر). وعليه فإن كلمة شكور التي هي على وزن صيغة فعول منقولة من المادة وهي الصبر، وتعني أن من نصفه بالصبور فهو كله صَبُْر، وهو يفنى ويُستنفد في الصبر كما يُستنفد الوقود في النار. وكذلك كلمة غفور بمعنى كله مغفرة، ولذلك قالوا أن أرجى آية في القرآن هي ما جاء في سورة الزُمر في قوله تعالى: “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 53″.
وهنا نسأل: أيهما أكثر مبالغة فعول أو فعّال؟ فعول بالتأكيد أكثر مبالغة من فعّال، ولذلك فكلمة صبور هي أكثر مبالغة وتعني أنه كله يفنى في الصبر، أما كلمة صبّار فهي بمعنى الحِرفة.
ونسأل أيضاً أيهما ينبغي أكثر في الحياة الصبر أو الشكر؟
الشكر يكون أكثر بالتأكيد؛ لأن الشكر يكون على نعم الله تعالى علينا، وهي نعم كثيرة، وينبغي علينا أن نشكر الله تعالى عليها في كل لحظة لأننا في نعمة من الله تعالى في كل لحظة. وقد امتدح الله تعالى إبراهيم عليه السلام بقوله: “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 120 شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ 121” النحل
واستعمل كلمة (أنعُم) لأنها تدل على جمع القِلّة لأن نِعم الله تعالى لا تُحصى فلا يمكن أن يكون إنسان شاكرا لنعم الله، وهو في نعمة في كل أحواله، هو في نعمة في قيامه وقعوده ونومه .. الخ، كما جاء في قوله تعالى: “وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ 18” النحل.
وعليه فإن الشكر يجب أن يكون أكثر من الصبر لأن الصبر يكون كما أسلفنا إما عند الطاعات وهي لها أوقات محددة وليست مستمرة كل لحظة كالصلاة والصيام، أو الصبر على الشدائد وهي لا تقع دائماً وكل لحظة على عكس النِّعم التي تكون مستمرة في كل لحظة ولا تنقطع لحظة من لحظات الليل أو النهار، وتستوجب الشكر عليها في كل لحظة لأن الإنسان يتقلب في نعم الله تعالى
ومما تقدّم نقول أنه تعالى جاء بصيغة صبّار على الحِرفة فيكفي أن يكون الإنسان صبّاراً ولا يحتاج لأن يكون صبوراً. وجاء بصيغة شكور لأن الإنسان ينبغي أن يشكر الله تعالى على الدوام وحتى لو فعل فلن يوفّي الله تعالى على نِعَمه.
2009-02-04 17:34:45الدكتور فاضل السامرائي>برنامج لمسات بيانيةpost