سورة ابراهيم
(الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ (3)) نحن نعلم أن أي زيادة في المبنى تتطلب زيادة في المعنى. فما الذي أراده الله من الزيادة في (يَسْتَحِبُّونَ)؟ إن زيادة السين والتاء تفيد التأكيد على حب الدنيا فهم يحبونها حبًا جمًا لكنهم لم يكتفوا بهذا الحد بل فضلوا حبها على الآخرة وهذا ما أفاده الفعل (يَسْتَحِبُّونَ) وهو الحب مع الإيثار لذلك عُدي بـ (على) أي يؤثرون حب الدنيا على حب الآخرة. ولو جاء الفعل يحبون دون زيادة للزم أن يقال يحبون الحياة الدنيا أكثر من حب الآخرة فاختصر هذا التفاضل بهذه الزيادة البسيطة.
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ (6)) إذا تأملت في هذه الآية لتساءلت لِمَ قال (اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ) ولم يقل (تذكروا نعمة الله عليكم)؟ ذلك لأن فعل التذكير يتطلب استرجاعًا للحالة واستحضارًا لمجرياتها. أما الفعل (اذْكُرُواْ) فيفيد هذا الاسترجاع والاستحضار مع دوام ذلك في كل وقت وحين وتكرار التذكر لتحصل منه الموعظة والعبرة.
(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ (6)) إن هذه التراكيب قد ورد نظيرها في سورة البقرة وكذلك في سورة الأعراف بلفظ (يُقتِّلون) بدل (يُذَبِّحُونَ) وفي السورتين السابقتين لم يؤت بحرف العطف فقال (يذبِّحون أبناءكم) (يقتِّلون أبناءكم) أما هنا فقال (وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ) وذلك لخطورته وبيان أهميته في كونه يختلف عن سوء العذاب. أما الملفت للنظر أن جملة (وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ) لم ترد دون حرف عطف في السور الثلاث وذلك لأنه نوع جديد يختلف عن سوء العذاب لم تألفه البشرية من قبل فالاستحياء في أصله خير ونعمة أي جعلهن يستحين ويخجلن لكنه عندما على عطف على ألوان من العذاب تبين أنه نمط جديد وممارسة قذرة تجعل النساء يستحيين لما في تعذيبهن من كشف لعوراتهن وهتك لأعراضهن وغير ذلك.
(فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ (9)) تأمل هذا التصوير العجيب الذي لم يسبق مثله في كلام العرب فقال (فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ) ولم يقل فجعلوا أو فوضعوا وذلك لأن فعل الرد أفاد التكرار في جعل الأيدي على الأفواه فقال وضعوها على أفواههم ثم أزالوها ثم وضعوها ثم أزالوها وهكذا. وهذه هي الحال التي أراد الله تصويرها وهي استهزاؤهم وسخريتهم من البينات التي جاء بها الرسل فهم يضعون أيديهم على أفواههم مما تغشاهم من الضحك والسخرية ثم يزيلونها مشيرين إلى المتحدث ثم يعيدون الكرة مرارًا كالذي نراه من فعل بعض الناس في هذه الأيام.
يقول تعالى على لسان الرسل (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا (12)) تأمل هذا الإيجاز البديع فقد أقسم الرسل على أنهم سيصبرون مستقبلًا على أذى مضى فقالوا (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا) ولم يقولوا (ولقد صبرنا على ما آذيتمونا). ومعنى ذلك أننا سنستمر بالصبر على أي أذى متوقع كما صبرنا في السابق على أذى مضى وفي ذلك زيادة في تيئيس قومهم من تأثرهم بالأذى.
(ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)) لِمَ قال ربنا (خَافَ مَقَامِي) ولم يقل خافني؟ ذكر ربنا خاف مقامي للمبالغة في تعلق الفعل بمفعوله ولإظهار أهميته فالمقام يدل على مكان القيام والله لا يحده زمان أو مكان أي أنه له مطلق الوجود وبما أن الخوف متعلق بالمقام فهذا يعني أنه أبلغ وأشد لأنه سيكون خوفًأ من الله عز وجل في كل زمان ومكان.
(مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ (18)) تأمل كيف شبه ربنا أعمال الكفار بالرماد ولم يشبهها بغير ذلك؟ وذلك أن صورة الرماد معروفة لدى عرب الجزيرة ممن نزل فيهم القرآن الكريم. ثم إن كثرة الرماد كناية عن خلق نبيل ألا وهو الكرم فيأتي كفرهم كريح عاصف فيتشتت هذا الرماد فتذهب أعمالهم سدى دون أن ينتفعوا منها بشيء.
(إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)) إنه خطاب عام وشامل إلى كل الناس، فلم يقل الله (إن يشأ يذهبكم أيها المشركون، أيها الكفار) وذلك لإظهار عظيم قدرته عز وجل في إهلاك أهل الأرض جميعًا متى ما شاء وكيفما شاء. وفي ذلك وعيد للمعاندين والملحدين وتهديد للمؤمنين المتقاعسين في الدعوة إلى الحق الساكتين عن الباطل والضلال لأنهم لم يتناهوا عن منكر فعله غيرهم على مسمع منهم ومرأى لذلك أعقب بقوله (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) فلم يحدد ماهية هذا الخلق أهو مؤمن أو كافر لأن جيل من الخلق ليسوا على درجة واحدة من الإيمان أو الإشراك لكن إهلاك قوم والإتيان بآخرين يومئ إلى أفضلية ما اختزنها الله في علمه.
(وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا (21)) هذا أحد مشاهد القيامة ومع ذلك لم يقل تعالى (ويبرزون) أو (سيبرزون لله جميعًا) بل قال (وَبَرَزُواْ) وذلك للتنبيه على أن هذا الفعل هو بحكم الواقع فهو أمر مفروغ منه وسيكون فيه النقاش المرتقب بين الضعفاء والمستكبرين لتبادل الاتهامات بشأن كفرهم وضلالهم.
يقول تعالى حاكيًا كلام إبليس لأوليائه (إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ (22)) تأمل هذا الإيجاز وهذه البلاغة. فلم يقل (إن الله وعدكم وعد الحق فوفى بعهده ووعدتكم وعد الكذب فأخلفتكم) وذلك لأن إضافة الوعد إلى الحق فيه مبالغة وتخصيص بهذه الصفة وإشارة إلى أن هذا الوعد لا رجعة عنه ولا نكول ما دام وعدًا حقًا، أما وعد الشيطان فلا حاجة لذكر أنه وعد كاذب بل اكتفى بذكر نتائجه (فَأَخْلَفْتُكُمْ) ليدل على أنه وعد كذب وضلال وفساد.
(وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً (31)) إن الله قد أجمل في هذه الآية حالات الإنفاق بين السر والعلن والتطوع والواجب والصدقة والزكاة لكن ما الدافع لذكر السر قبل العلانية؟ تلك حكمة ربانية يرفع الله بها منازل من ينفق في سبيله ولا تعلم شماله ما أنفقت يمينه لما في ذلك من بعد عن خواطر الرياء واستبقاء لكرامة المنفَق عليهم.
(اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ (32)) تأمل تلك الحكمة من هذه الافتتاحية حيث قال تعالى (اللّهُ الَّذِي خَلَقَ) ولم يقل (ربكم الذي خلق) مع أن في ذلك مزيدًا من التشريف لنا. ذلك لأن الأهمية تكمن في تعيين الخالق سبحانه وتعالى وهو الله عز وجل وهو ربكم ورب غيركم ورب كل شيء ومليكه. إضافة إلى أن المشركين مسلِّمون بأن الله خالقهم لقوله تعالى (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (87) الزخرف) مما يعني أنهم يمكن أن يتقبلوا ما يذكره رب العزة من خلق السموات والأرض وما تبعه من ذكر للنعم والمنافع. ولو أنه قال ربكم الذي خلق السموات والأرض لم يكن عند المشركين أدنى قبول به لأنهم لم يعترفوا بهذه الربوبية أصلًا.
يقول تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36)) أخي المؤمن انظر إلى أدب الأنبياء مع ربهم عز وجل فسيدنا إبراهيم عليه السلام يُصرِّحُ بأن مَنْ تَبِعَهُ مِن المؤمنين فهو كَفِيلُه وسَيُحاجّ له عند الله سبحانه لأن إتّباع إبراهيم عليه السلام يعني إيماناً بالله عز وجل ولذلك قال إبراهيم (فَإِنَّهُ مِنِّي) ولم يقل: فإنه من جماعتي
ثم أتْبَعَ سيدنا إبراهيم بقوله (وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وكان من المفترض أن يقول: ومن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنه ليس مني .ولكن هذا من رفيع الأدب مع الله عزً وجلُ فلم يسمح إبراهيم لنفسه أن يُطلِق حكماً في حق هؤلاء العُصاة بل جعل أمرهم مُفَوضًا إلى الله سبحانه مُطلِقًا صفات الرحمة والغفران أملاً في أن يكون ذلك فرصة لهدايتهم، لأن تبرؤه منهم يُمْكِن أن يكون مَدْعاةً لاستئصالهم
يقول سبحانه وتعالى على لسان إبراهيم أيضاً (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ (37)) نتأمل كيف أُضيف الرب إلى ضمير الجمع هنا (ربنا) بينما أُضيف في الآيتين السابقتين إلى ضمير المفرد (رب) وذلك لأن في هذه الآية ذِكرٌ لزوج إبراهيم وابنه اللذين أسكنهما في واد مكة المكرمة عند بيت الله المحرم والظاهر أنه دعا بِحَضْرَتهما لذلك يكون العدد قد صار جمعاً لذلك قال (ربنا) ولم يقل رب
ويقول إبراهيم أيضا كما في كتاب الله (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)) نلاحظ كيف ذكر الله دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام لوالديه مع إنه لم يثبت لهما إيمان، بل على العكس تمامًا حيث ذكر القرآن الكريم في موضع آخرمن سورة التوبة ان أباه كان عدوًا له وما ذلك إلا ليعلمنا أدب الدعاء لأنفسنا ثم لوالدينا اللذين كان لهما عظيم الأثر في تربيتنا الجسدية والروحية ثم لإخواننا من المؤمنين إضافة إلى أن هذا الدعاء كان في بداية نبوءة إبراهيم لأنه لما تبين له أنه عدوٌ لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم .
يقول تعالى (لا يَرْتَدّ إليهِم طَرْفُهُم وأفئِدَتُهم هَوَاءٌ (43)) انظر أخي المؤمن إلى هذه الصورة العجيبة التي صَوّر بها حال المشركين من الدهشة والعَجَب ممّا شاهدوا من أهوال يوم القيامة فعُيُونهم لا تَطرُف، وقلوبُهم خالية من إمكانية إدراك ما حولها تكادُ تنخَلِع من أَمْكِنَتِها مِن شِدَّةِ الهَول، ولكن لِمَ قال اللهُ سبحانهُ وتعالى (أفئدتهم هواء) فجاء بهذا التشبيه البليغ العجيب ولم يقل (أفئدتهم خالية)؟ ذَكَرَ ذلك كَيَّلا يُتَوَهَّم خُلوها مِمَّا تَمْتلئُ بها عادة ولِيكون ذلك دليلا ًعلى خُلوُها المادي والمعنوي مِمّا مِن شأنه الإدراك والفهم لمواقف الهول والفزع .
ويقول تعالى (فلا تَحسبنَّ اللهَ مُخْلِفَ وعدِهِ رُسُلَهُ (47)) لاحظ كيف أُضِيف إسم الفاعل (مُخْلِفَ)إلى مفعوله الثاني (وَعْدِهِ)، والأصل أن يُضاف إلى مفعوله الأول (رُسُلَهُ)، فيُفترض أن يُقال (فلا تحسبنَّ اللهَ مُخلِفَ رُسُلَهُ وَعْدِه)؟ أُضيفَ إسم الفاعل (مُخْلِفَ)إلى مفعوله الثاني لأهمية ذِكْر إِخْلاف الوَعد الذي يَصْدُرُ مِن اللهِ تِجَاه أيّ عبدٍ مِن عبادِه، ومنهم رُسُله وأنبياؤه، فعندما قال (فلا تَحسبنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعدِهِ) جعله عامّاً ثمَّ خَصَّ رُسلَهُ لِأنَّهم بِحاجَةٍ إلى نَصْرِهِ وانتِقامِه. لكن لو قال (فلا تحسبنَّ اللهَ مُخلِفَ رسلَهُ وعدَه) لَأَصبح ذلك مجالاً لِتَنَطُّع المشركين بأَنّ اللهَ لا يُخْلِفَ رُسُلَهُ الوَعد ولكن يُمكِن أَن يُخلِفَ غيرَهم وحاشاه ذلك سبحانه وتعالى .
ويقول تعالى (هذا بلاغٌ للنّاسِ وَلِيُنذَروا بهِ ولِيَعلَموا أنما هو إِلهٌ واحدٌ ولِيّذكَّرَ أولوا الألباب (52)) نعلم جميعاً أن خاتمة الموضوع تشمل موجزاً لِمَا جاء في العرض، فهل تحقّقَ ذلك في هذه الآية الكريمة التي خُتِمَت بها سُورة إبراهيم؟ نعم إِنها بلاغةٌ نادرةٌ وَسَبْكٌ بليغٌ قام على ترتيب عقلي فقد بدأت الآية بالصفة العامة للكُتب السَّماوية وهي التيليغ ثم ما يَعْقُبُهُ من إنذارٍ للمخالفين وما يَتْبَعُهُ من العلم بوحدانيةِ الله سبحانهُ للدلائل التي مرت في ثنايا السورة ثم ما يجب من حصول التّذْكِرَة والمَوعِظة بمكان لِمَن يَعْقِلُ مِمَّن أَسلَمَ وآمَن.