قبسات من روائع البيان

قبسات من روائع البيان – سورة الرعد

اسلاميات

سورة الرعد

(وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15)) من عجيب قدرة الله عز وجل أن جعل وحدانيته سارية على كل كائن في السموات والأرض فمنهم من يسجد طواعية وتقربًا إلى الله محبة وتعظيمًا له. ومنهم من يسجد مضطرًا عند نزول الشدة أو اشتداد مصيبة. ولكن الملفت للنظر أن يعطف الظلال على من يسجد ولذك لأنها انعكاس لهذه الأجسام على وجه الأرض وهي مرتبطة بسقوط أشعة الشمس عليها فتقع على الأرض وقوع الساجد وإن كان صاحبها يأبى السجود لله أو يعرض عنه منشغلًا بالسجود لغيره. ويكون سجوده دالًا على استحقاق الله جل شأنه للسجود فلو خلق الله شمسين لانعدمت الظلال لكنه جعل هذا النظام الذي تراه مهيأ للدلالة على انفراده تعالى بالألوهية والوحدانية وحاجة المخلوقات إليه شاءت أم أبت.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ (16)) لعلك تساءلت لم جمع ربنا الظلمات وأفرد النور؟ ذلك لأن النور يحتاج في مقابله ظلمات كثيرة حتى تحجب ضياءه ثم إن الظلمات رمز للضلالة وطرق الفساد وهي كثيرة إذا ما قيست بسبيل الحق والرشاد الذي يرمز إليه النور فالضلال له طرائق متعددة أما الحق فواضح بيّن واحد

(أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ (17)) انظر إلى حكمة الله عز وجل في ضرب الأمثال فذكر أن الماء الهاطل من السماء يشكل سيلًا يطفو عليه زبد زائف ثم أعقبه بمثال آخر لتقريب الصورة فقال تعالى (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ). قد يقول قائل لم ذكر المثال الثاني؟ أما كان المثال الأول كافياً؟ ذلك لأن صورة تشكيل السيول ليست مدركة عند كثير من سكان البوادي ممن أنزل عليهم القرآن من عرب شبه الجزيرة لذلك قرب إليهم الفكرة بصورة معروفة بالنسبة إليهم وهي صياغة الذهب والفضة وصهرها في بواتق وما تنفيه من الخبث الذي يماثل زبد السيل فهما مما لا ينتفع به وهذا من بديع التصوير القرآني حيث ذكر زبد الأجسام السائلة وخبث الأجسام الصلبة.

(أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى (19)) تبصَّر في هذه الصورة العجيبة فقد عقد الله عز وجل مقابلة بين من يعلم وبين الأعمى. فلِمَ لم يقل ربنا (أفمن يعمل أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن لا يعلم)؟ ذلك لأن الأعمى قد انتفى علمه بما حوله وإبصاره لما يجري هنا وهناك وهذا حال الضالّ فهو أعمى عن إدراك الحقائق لا يستوعب ما يدور حوله ولا يفهم حقيقة الأشياء ولا يدري أين تكون مصلحته. فلو قال “كمن لا يعلم” لاقتصر ذلك على عدم العلم بأحقيّة ما أنزل الله سبحانه، لكن عندما قال (كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) صار عدم علم ذلك الكافر عامًا شاملًا

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)) إذا تأملت هذه الاية الكريمة وجدت أن الله عز وجل ذكر الوفاء مضافًا إلى اسمه تبارك وتعالى قال (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ) ولما ذكر نقض إخلاف الوعد لم يضفه إلى اسمه الأعلى فقال (وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ) وذلك لأن من يفي بعهد الله لا يمكن أن ينقضه لكن يمكن أن تسول له نفسه الأمارة بالسوء نقض عهد غيره من البشر فعندما قال (وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ) شمل بذلك عهد الله عز وجل وجميع العهود والمواثيق المبرمة بين الناس

(لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ (30)) لاحظ لِمَ جاء فعل الكفر مضارعًا ولم يأت ماضيًا، فلم يقل (وقد كفروا بالرحمن)؟ ولِمَ جاء باسم الرحمن من بين أسمائه تعالى؟ ذلك ليدل على تجدد كفرهم واستمرار عنادهم ومواظبتهم على الشرك. وخص ذكر الرحمن من بين أسماء الله تعالى لأنه هو الرحمن الذي أرسل إليهم رسول رحيمًا وجعلهم رحماء فيما بينهم وأنزل عليهم القرآن هدى ورحمة وبعدها يقابلونه بالكفر والشكر وهو الذي حرص في كل ذلك على ما فيه صلاحهم ومنفعتهم.

(قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)) أنظر إلى هذه الصياغة البلاغية (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ) فلِمَ قدّم ربنا الجار والمجرور في الموضعين (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ) ولم يقل توكلت عليه ومتابي إليه؟ ذلك لإفادة الحصر والقصر فعلى الله التوكل لا على غيره وإليه الرجوع والتوبة لا إلى غيره. فهو المتوحد بالألوهية والمتفرد بالربوبية فلا يحسن التوكل على غيره ولا الرجوع إلى من سواه.

(وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ (33)) إن أمر الله سبحانه وتعالى يفيد الوجوب بإجماع أهل اللغة والفقه إلا إذا صرفه صارف إلى غير ذلك فهل أمرُ الله عز وجل بتسمية الشركاء واجب؟ ولم أمر سبحانه وتعالى بذلك؟ أولًا إن الأمر على سبيل الإباحة والمراد به التهكم والسخرية من المشركين أي سموهم شركاء فليس لهم حظ من ذلك إلا التسمية فقط. ثانيًا أمر الله بذلك تعريضًا بالمشركين وزيادة في عدم الاكتراث بما يقولون كأن تقول لمن يخطئ في حقك في كلامه قل ما شئت مظهرًا بذلك عدم مبالاتك بما يقول.

(وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ (36)) أُنظر كيف ذكر الله تعالى الفرح بما أُنزِل دون الإيمان به فقال (يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) ولم يقل يؤمنون بما أنزل إليك. ذلك لأن المعنيّ بهذا هم أهل الكتاب فقد سُرّ اليهود بنزول القرآن مصدقًا للتوراة وهم يحسبون دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مقصورة على العرب فكانوا يستظهرون بالقرآن على النصارى كما فرح النصارى بالقرآن وكان يستظهرون بالقرآن على اليهود ثم ما لبث الفريقان أن كفرا حينما علما أن دعوة الإسلام عامة لكل الناس على اختلاف أديانهم وانتماءاتهم وأطيافهم وألوانهم وقومياتهم وبذلك يكون قد صدر منهم فرحٌ بما أُنزِل ولم يصدر منهم إيمان به.

(وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا (37)) قد يتبادر لأذهان كثير منا سؤال مضمونه لِمَ أنزل الله القرآن باللغة العربية؟ ذلك لأن الله عز وجل جعل القرآن حكمة بما فيه من المعاني والمقاصد والحكمة أشرف المعقولات فيناسب شرفها أن يكون إبلاغها بأشرف اللغات وأفصحها وأصلحها للتعبير فاختار اللغة العربية لما فيها من البلاغة والفصاحة والقدرة على الإبلاغ والذي لم يتسنَّ لأي لغة أخرى.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً (43) الرعد) لِمَ جاء فعل القول مضارعًا (يقول) مع أنه صدر عن الكافرين في وقت مضى وانقضى ولم يأت ماضيًا (وقال الذين كفروا)؟ ذلك لأن صيغة المضارع تدل على تكرار هذا الفعل منهم واستمرارهم في غيِّهم وإصرارهم على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم رغم ما رأوا من دلائل على صدقه وفي ذلك استحضار لحالتهم العجيبة التي كانوا عليها واستمروا بها