سورة الشعراء
(إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)) إذا نظرت إلى الأفعال (نشأ) (ننزّل) و (فظلّت) ترى أن الله تعالى عبّر عن المشيئة والتنزيل بالمضارع فقال (إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ) بينما جاء العطف على (نُنَزِّلْ) بالماضي حيث قال (فَظَلَّتْ) ولم يقل “فتظل” فهل من خصوصية لهذا الاختلاف؟ هذا العطف المغاير بين المضارع (نُنَزِّلْ) والماضي (فَظَلَّتْ) فيه من البلاغة والاعجاز ما يعجز عنه البيان البشري. فالفعل الماضي (ظلّت) نقلك من مستقبل نزول هذه الآية من السماء إلى ما مضى وكأن الآية قد نزلت ووقع خضوع المشركين لها. وفي هذا تهديد وتهويل لهم لتفزع قلوبهم ويعودوا إلى رشدهم. وقريب من هذ المجال ولكن للتشويق والترغيب قول المؤذّن “قد قامت الصلاة” مع أن الصلاة لم تبدأ بعد ولكن إقامة الصلاة نزلت منزلة ما مضى لأهميتها وعظمتها في القلوب.
(وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)) تقدّم مثيل هذه الآية في سورة الأنبياء مع اختلاف طفيف. قال ربنا سبحانه وتعالى هناك (مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)) فقال (من ربهم) بينما قال هنا في آية الشعراء (من الرحمن). فهل من خصوصية وراء ذكر (الرحمن) في الشعراء دون كلمة (ربهم)؟ خصّ ربنا صفة الرحمن في آية الشعراء فقال (مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ) دون وصف الرب كما في آية الأنبياء (مَّن رَّبِّهِم) لأن السياق في الشعراء كان لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن إعراض قومه. فكان في وصف الرحمن تشنيع لحال المعرضين وتعريض بغباوتهم بأن أعرضوا عما هو رحمة لهم. فإذا كانوا لا يُدركون صلاحهم فلا تذهب نفسك يا محمد حسرات عليهم. فهم قوم أضاعوا نفعهم بعد أن أرشدتهم إليه وذكّرتهم به. كما قيل في المثل “لا يُحزِنك دمٌ هراقه أهله”.
(وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)) انظر إلى هذا الوصف الرباني ف يتبيان إعراض المشركين حيث قال تعالى (إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) ليبيّن سبحانه أن إعراضهم راسخ فيهم وأنه قديم مستمر. فإذا ما أتاهم ذِكرُ بعد الذِكر الذي لم يؤمنوا به وجدتهم على إعراضهم القديم. وهذا المعنى لا يفيده غير هذا التعبير (إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) ولذلك آثره دون غيره كأن يقول “إلا أعرضوا عنه”.
(فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (6)) في هذه الآية عبّر الله سبحانه وتعالى عن استهزاء المشركين بالفعل المضارع فقال (يَسْتَهْزِئُون) دون الإسم مستهزئين. بينما قال في إعراضهم (إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) فعبّر عن الإعراض بالإسم. ذلك لأن الاستهزاء يتجدد عند تجدد وعيدهم بالعذاب. وهذا ناسبه الفعل المضارع الذي يدل على التجدد. وأما الإعراض فمتمكنٌ فيهم وهذا يناسبه (مُعْرِضِينَ) الذي يدل على الرسوخ والاستمرار.
(قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)) إن كلمة (إذاً) حرف جزاء وحواب وحقّها أن تتقدم على جملة الجواب التي يود القائل أن يطرحها. أي الأصل في الجملة أن تكون “إذاً فعلتها” فلِمَ تأخرت (إذاً) في الآية عن الفعل (فَعَلْتُهَا إِذًا)؟ في تقديم (فَعَلْتُهَا) على (إذاً) نكتة لطيفة وهي إظهار رباطة جأش موسى وتوكله على ربه. ولذلك ابتدأ بالإقرار بفعلته ليعلم فرعون بأنه لم يجد لكلامه أي تأثير في نفسه. وهذا دليل على عدم خشيته عليه السلام من هذا الإقرار.
(قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)) تأمل هذا التعبير الذي سلكه فرعون في مجابهة دعوى موسى عليه السلام. إذ قال لحاشيته (أَلَا تَسْتَمِعُونَ) ولم يقل لهم “أتسمعون” مع أنهم سمعوا ما قال. فما فائدة هذا الاستفهام المنفي بـ (ألا)؟ إن فرعون أراد أن يستثير نفوس الملأ من حوله وهم أهل مجلسه. فسألهم سؤال استنكار وتعجب من حالهم. وأنزلهم منزلة من لم يسمع تهييجاً لنفوسهم كي لا تتمكن منهم حجة موسى. وباعث هذا التعجب في نفس فرعون هو حال سماعهم وسكوتهم. ولذلك نفى عنهم الاستماع فقال (أَلَا تَسْتَمِعُونَ).
(قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)) انظر كيف أكد فرعون كلامه بحرفي التأكيد (إنّ) واللام الداخلة على الخبر (لَمَجْنُونٌ) مع أنه كان يستطيع أن يحذفهما فيقول “رسولكم الذي أُرسل إليكم مجنون” ولكنه أكّد كلامه لأنهم يعلم أن حالة موسى لا تؤذِن بجنونه فكان وصفه بالمجنون معرّضاً للشكّ ولذلك أكّد فرعون جنونه بـ (إنّ واللام) (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) ليوحي لحاشيته بأنه عَلِمَ من حال موسى ما لا يعلمه السامعون.
(قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)) لِمَ قال فرعون لموسى (إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ولم يقل “إذا كنت من الصادقين”؟ في اختيار (إن) دون (إذا) إيماء إلى أن كلام موسى من وجهة نظر فرعون هو افتراض ضعيف. ولذلك اختار (إن) التي تدل على الشك دون (إذا) التي تدل على القطع.
(إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)) انظر إلى هذا التأدب مع حضرة الباري سبحانه. فقد قال المؤمنون بموسى وما جاء به (إِنَّا نَطْمَعُ) مع أن الطمع يُطلق على الظنّ الضعيف وطلب ما فيه عُسْر وصعوبة. فاختيار هذا اللفظ (نَطْمَعُ) تأدب مع الله وفيه إيماء بأن الله يفعل ما يريد وهم يرجون أن يريد بهم الخير والقبول.
(فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)) لو تأملت في الآية لرأيت أن قوم موسى يخشون من وقوعهم بين أحد مهلكين. فإما أن يغرقوا وإما أن يقعوا تحت سياط فرعون الذي أدركهم. فكان على موسى من حيث الظاهر أن يشملهم برعاية الله وعنايته بهم بأن يقول (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ). فلِمَ خصّ نفسه دون أتباعه فقال (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)؟ إن إسناد المعية إلى الرب في (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي) يدل على معنى مصاحبة لطف الله به وعنايته بتقدير أسباب نجاته من عدوه. وإنما اقتصر موسى على نفسه لأن طريق نجاتهم بعد أن أدركهم فرعون وجنده لا يحصل إلا بفعل يقطع دابر العدو. وهذا الفعل خارق للعادة فلا يقع إلا على يد رسول.
(إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)) إذا سألك أحد “ماذا حفظت”؟ تقول: صفحة من القرآن، فلا تكرر الفعل “حفظت” استغناءً بذكره في السؤال. ومن ذلك قوله تعالى (مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا (30) النحل) فلم يقل: قالوا أنزل خيراً. فلِمَ قال قوم إبراهيم (قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا) ولم يقولوا “قالوا أصناماً” استغناءً بصيغة السؤال (مَا تَعْبُدُونَ)؟ أتى قوم إبراهيم في جوابهم بفعل (نعبد) مع أن الشأت الاستغناء عن التصريح وكرروا الفعل الواقع في السؤال ابتهاجاً بهذا الفعل وافتخاراً به وتأكيداً على فعلتهم وقناعتهم به.
(وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)) انظر إلى هذا التأدّب مع الله. فقد أسند إبراهيم الخليل فعل المرض إلى نفسه تأدباً مع الله عز وجل فقال (وَإِذَا مَرِضْتُ) فراعى فيه الإسناد إلى الأسباب الظاهرة. بينما أسند الإطعام والشراب إلى الله فقال (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ)
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)) انظر إلى هذا اللطف الإلهي بك أيها المؤمن وانظر إلى هذا التشويق لمرأى الجنة ودخولها. فالجنة قريبة منك سهلوة الولوج والدخول ولذلك عبّر عنها بقوله (وَأُزْلِفَتِ) إشارة إلى أن المتقين يجدون الجنة حاضرة لا يتجشمون مشقة الوصول إليها.
(وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِن دُونِ اللَّهِ (93)) تأمل هذا الاستفهام كم يحمل في طياته من التحقير والتهكم والتوبيخ لمن كان يرجو غير الله. فقد أنزل ربنا ما كانوا يدعون من دون الله منزلة العدم لعدم جدواها فيما كانوا يأملون منها. فقال (مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ) ولم يقل “من كنتم تعبدون” فنسأل الله تعالى أن يجعلنا نجد ما كنا نأمل من لطف الله ورجمته إنه جواد كريم.
(قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (97)) ما أصعب أن يعقد الإنسان آماله على سراب خادع ثم ينكشف له زيفه فلا يجد من نفسه إلا أن تتعجب مما اقترفت. وهذا ما حذا بالمشركين بأن يقولوا (تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) دون “والله” لأن القسم بالتاء يختص بالقسم في شيء متعجّب منه. فهم يعجبون من ضلالهم إذ أناطوا آمالهم بحجارة لا تغني عنهم شيئاً. وقد عبّروا عن شدة ضلالهم بقولهم (إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) ولم يقولوا “وإن كنا لضالين” ليعبّروا عن تمكن الضلال منهم. فهم قد توغلوا فيه ودخلوا في أعماقه وتاهوا في لججه. نسال الله أن يجعلنا في الحق على الباطل لا في الباطل على الحق.
(فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)) لِمَ جمع كلمة شافع فقال (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ) ووحّد الصديق فقال (وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ)؟ جمع الله لفظ شافع ووحّد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق. ولأن الصديق الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء وبخاصة أنه وصف الصديق بأنه حميم وذلك أندر.
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112)) إن جواب نوح عليه السلام (وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) في الرد على قول قومه (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) يحتاج إلى تمعن في لفظه ومعناه. ألا ترى أن الجواب ابتدأ بالواو فقال (وَمَا عِلْمِي)؟ مع أن هذه الواو كان يمكن الاستغناء عنها. إقترن أول الجواب بالواو تنبيهاً على إتصال جواب نوح عليه السلام بكلام قومه. وهذا يدل على شدة استنكاره لما أتوا به. فلم يجد لقولهم في صدره أي قبول أو مناقشة. ولذلك أسرع في الاستفهام الدال على الإنكار والتعجب مما أتى به السائلون.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ (132)) تأمل كيف علّق البيان الهي فعل التقوى في الآية الأولى بإسم الذات الإلهية فقال (فَاتَّقُوا اللَّهَ) للإشارة إلى استحقاقه تعالى التقوى لذاته. بينما على البيان الإلهي فعل التقوى في الآية الثانية بإسم الموصول الدال على نِعَم الله فقال (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ). للإشارة إلى إستحقاقه تعالى التقوى لاستحقاقه الشكر على ما أنعم به.
(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)) انظر إلى هذا التهويل والترويع للمعرضين عن هدى الله وتقواه. حيث قال لهم هود عليه السلام (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). فوصف اليوم بعظيم هول هذا اليوم في عقل السامع. فهو يوم عظيم بما يحصل فيه من الأهوال التي لا حصر لها ولا وصف. فحريٌّ بمن يسمع هذا التهديد أن يرعوي.
(وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)) أراد سيدنا صالح عليه السلام أن يصف نفوس المكذبين وما اشتملت عليه من حب الإفساد العريض في البلاد. فالفساد سجيّتهم التي لا يشوبها أدنى إصلاح. ولذلك لم يكتف بقوله (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بل عطف عليه (وَلَا يُصْلِحُونَ) ليؤكد وقوع الفساد منهم من خلال نفي ضد الفساد وهو الإصلاح.
(قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)) أُنظر إلى هذا الأسلوب الذي يسلكه الباطل لمواجهة الحق فهو ما إن يقف عاجزاً أمام صولة الحق حتى تراه يلجأ إلى تكذيب الحق وتسفيهه بالكلام العاري عن الحجج والبراهين. فها هم قوم صالح عليه السلام ينسبون نبيهم إلى السحر. ولم يكتفوا بأنه ساحر بل لجأوا إلى المبالغة فقالوا (قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) دون “إنما أنت مسحور” لأن كلمة المسحّرين أبلغ في الإتصاف بالسحر لأنها تدل على نمكن السحر منه.
(وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)) لو قال سيدنا لوط عليه السلام بل أنتم عادون لتم المعنى، فلمَ أخبر عتهم بقوله (بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ)؟ في جعل الخبر (قَوْمٌ عَادُونَ) دون الاقتصار على (عادون) تنبيه على أن العدوان سجيّة فيهم حتى كانت من مقومات قوميتهم وخصلة من خصالهم التي يتميزون بها عن سائر الأقوام.
(قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)) هدد قوم نوح نبيّهم بالقتل والرجم فقالوا (قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)) بينما نرى قوم لوط يهددون نبيهم بالإخراج، فلِمَ ههدوه بالإخراج من بين ظهرانيهم؟ هدد قوم لوط نبيهم لوطاً عليه السلام بالإخراج من مدينتهم لأنه كان من غير أهل المدينة بل كان مهاجراً بينهم وله صهر فيهم. فكان إخراجه من بينهم سهل المنال لعدم وجود النصير له من عشيرته.
(كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177)) إن القرآن الكريم كان يصف في سورة الشعراء كل نبي بأنه أخٌ للقوم المرسل إليهم فقال تعالى (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)) (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124)) وغير أولئك من الرسل إلا شعيباً فإنه لم يقل فيه أخوهم. فهلاّ قيل أخوهم شعيب كما في سائر المواضع؟ لم يقل الباري”إذ قال لهم أخوهم شعيب” وإنما قال (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) لأن شعيباً ليس من أصحاب الأيكة ولم يكن لهم صهراً ولا نسيباً. وإنما هو أخو مدين ولذا قال تعالى في سورة الأعراف (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا (85)) فهو إذن مرسلٌ إلى مدين وإلى أصحاب الأيكة معاً.
(قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)) في هذه الآية جاء رد قوم شعيب (وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) وفي سورة الأعراف كان رد قوم عاد أشد وآكد فقالوا عن هود عليه السلام (وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)) فأكّدوا تكذيبهم بـ (إنّا) فلِمَ كان تكذيب عاد أشد من تكذيب قوم شعيب؟ إذا عدنا إلى سياق القصتين رأينا ثمة فرقاً بين القائلين فقوم عاد كان القول للملأ الذين كفروا منهم قال تعالى (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)) بينما القائلون في قوم شعيب مختلطون فيهم شديد التكذيب والقليل والإمّعة والخائف. فهو تكذيب مختلِط لا يصل إلى تكذيب الذين كفروا خصوصاً ولذلك عقّب الله تكذيبهم بقوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (190)).
(وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)) في كلمة (نَزَلَ بِهِ) قراءتان: الأولى بالتخفيف (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) لأن جبريل عليه السلام قد نزل بالوحي إلى قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم. والقرآءة الثانية بتشديد الزاي (نزّل به الروح الأمين) أي نزّله الله به لأن الله تعالى هو الذي أرسل جبريل بآيات الذكر الحكيم إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم.
(كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)) لِمَ عبّر الله سبحانه وتعالى عن المشركين بـ (المجرمين)؟ عبّر الله تعالى عن المشركين الكافرين بالمجرمين لأن كفرهم بعد نزول القرآن وتوضيحه للأدلة والبراهين هو إجرامٌ بحق أنفسهم أولاً وبحق النبي صلى الله عليه وسلم ثانياً.
(أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)) ذكر أن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)) ثم يبكي ويقول:
نهارك يا مغرور سهوٌ وغفلة وليلك نومٌ والردى لك لازم
فلا أنت في الإيقاظ يقظان حازم ولا أنت في النوام ناجٍ فسالِمُ
تُسرُّ بما يفنى وتفرح بالمُنى كما سُر باللذات في النوم حالم
وتسعى إلى ما سوف تكره غبّه كذلك في الدنيا تعيش البهائم
(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)) الإلقاء هو رمي شيء في اليد كالحجر فتقول ألقيت الحجر على الأرض. فكيف يُلقى السمع أو يُرمى إلى الأرض؟ استعمل البيان الإلهي إلقاء السمع للتعبير عن شدة السمع حتى كان الأفّاك الأثيم يُلقي السمع ويوجهه إلى المسموع الخفي ليبلغ أقصى غاية في السمع والإصغاء ليعي ما يقال له. فالأفّاك الأثيم لا يكتفي بمجرد السماع بل يبالغ باستقصاء ما يُلقى إليه. ولذلك قال عنهم عز من قائل (تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223))
(وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)) تأمل هذا التصوير والتمثيل لحال الشعراء فقد صورهم القرآن بمظهر الهائمين في أودية كثيرة مختلفة. لأن الشعراء يقولون في فنون من الشعر من هجاء واعتداء على أعراض الناس وفن نسيب وغزل بالنساء ومدح من لا يستحق المدح رغبة في عطائه وذم من يمنعهم وإن كان من أهل الفضل وربما ذموا من كانوا يمدحونه.
قصة طريفة: اندسّ أحد الظرفاء في زمرة الشعراء عند خليفة فعرّف الحاجِب الشعراء وأنكر الذي اندسّ فيهم فقال له هؤلاء الشعراء وأنت من تكون؟ هل أنت من الشعراء أيضاً؟ إن كنت منهم فأسمعنا، قال لست منهم بل أنا من الغاوين. فاستطرفها الخليفة. وقوله من الغاوين إشارة إلى قوله تعالى (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ).