سورة العنكبوت
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)) إن وعد الله للمؤمنين في هذه الآية وقع عقب آية تحض المؤمنين على الإحسان للوالدين مع عدم طاعتهما فيما يُغضِب الله. ولا شك بأن اختلاف الدين بين الولد وأهله يستدعي المناوأة والمغاضبة. فكان وعد الله للمؤمن الذي عصى والديه إذا أمراه بالشِرك وعداً مناسباً في هذا المقام وكان لطيفة كريمة. لأن الإعراض عن طلب الوالدين بالعصيان بالشرك يثير بين الإين ووالديه جفاء وتفرقة. فجعل الله الجزاء عن وحشة تلك التفرقة أُنساً يُدخله في عِداد الصالحين ليأنس بهم.
(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)) تأمل في هذا الموقف العجيب والمشهد الرهيب. مشهد الإنسان الذي أنهكت كاهله الأثقال والأحمال حتى غدا عاجزاً عن النهوض. ورقم ذلك يطلب أحمالاً وأثقالاً من الناس فوق ما يحمل. هذا المنظر هو صورة أولئك الذي أضلوا الناس ولم يكتفوا بأوزارهم وهم يأتون يوم القيامة وقد حملوا أوزارهم وأوزاراً مثل أوزارهم. مع أن أوزار الواحد منهم تنوء عن حمله الجبال. فكيف به وقد حمل أوزار من أضلَّهم؟! فلتكن خفيف الحمل يوم القيامة حتى تجتاز الصراط وأنت فرِحٌ مسرور.
(فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)) إن إنجاء الله لإبراهيم عليه السلام هو آية لمن عاين هذه المعجزة وشاهدها لكي يُذعن ويؤوب إلى رشده فيُقِرّ ويؤمن. وإن قوم إبراهيم هم الذين شهدوا هذه المعجزة فلِمَ قال الله سبحانه وتعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ولم يقل “إن في ذلك لآيات لقوم إبراهيم”؟ إن نسبة الآيات للقوم المؤمنين خاصة فيه تعريض بقوم إبراهيم لأنهم لم يصدقوا بتلك الآيات لشدة مكابرتهم. وفيه تعريض بأن الإيمان لم يخالط عقولهم ولم يمس شغاف قلوبهم.
(وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (25)) تأمل هذا القصر (إنما) فقد قصر الله تعالى إتخاذ القوم للأوثان من أجل مودة بعضهم بعضاً، فما وجه هذا الحصر والقصر؟ إن قصر إتخاذ الأوثان من أجل المودة وحسب بين قوم إبراهيم هو لإظهار سخف عقولهم وسفاهة أحلامهم حيث لم تبق لهم شهية في عبادة الأوثان بعد مشاهدة دلالة صدق الرسول الذي جاء بإبطالها. فتمحض أن يكون سبب بقائهم على عبادة الأوثان هو مودة بعضهم بعضاً وهذا ضرب من السخف والمكابرة على قبول الحق.
(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)) تأمل كيف جعل سيدنا إبراهيم عليه السلام مغادرته دار الكفر هجرة إلى الله. فهل كان إبراهيم سينتقل إلى الله على وجه الحقيقة؟ جعل إبراهيم عليه السلام هجرته من المكان الذي لا يعبد أهله الله هجرة إلى الله. وفي هذا إشارة لك بأنك إذا أردت لقاء الله فاقصد مكان طاعته وجالِس أهله واهجر مكان العصيان واترك أهله تكن مهاجراً إلى الله وأعظِم بها من هجرة.
(وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)) تأمل كيف ساق الله تعالى البشرى لإبراهيم عليه السلام قبل إخباره بإهلاك قوم لوط. وذلك من لطف الله تعالى بإبراهيم عليه السلام. فقد قدّم له البشرى قبل إعلامه بإهلاك قوم لوط لما يتمتع به عليه السلام من حلم ورِقّة.
(قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا (32)) أُنظر إلى دقة التعبير في القرآن وبراعة استعماله للأحرف فضلاً عن الجُمَل. فسيدنا إبراهيم عليه السلام عقّب على إهلاك قوم لوط بقوله (قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا) ولم يقل “إن منها لوطاً” وذلك لأن لوطاً عليه السلام لم يكن من أهل القرية بالأصالة بل كان مهاجراً فيها.
(إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)) إن الله سبحانه وتعالى جعل تدمير قرية قوم لوط آية بينة واضحة فقال (وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً) وعندما أخبرنا عن تدمير قوم نوح قال سفينته عليه السلام (وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (15) العنكبوت) ولم يقل “وجعلناها آية بينة للعالمين” فلِمَ خصّ قرية لوط بالوضوح (بينة) دون سفينة نوح عليه السلام؟ إن آية تدمير قوم لوط هي آية واضحة دائمة على طول الزمان إلى الآن ولذلك وصفه بـ (بينة). بينما سفينة نوح عليه السلام لم توصف بـ (بينة) لأن السفينة قد بليت ألواحها وحديدها. وربما بقي منها ما لا يظهر إلا بعد تفتيش إن كان.
(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)) تأمل هذا المثل الذي ساقه الله تعالى لمن يتخذ وليّاً من دونه. فولاية غير الله أمر معنوي يجسّده الله عز وجل بصورة وضيعة منفِّرة محسوسة مجسّمة هي بيت عنكبوت ضئيل هزيل واهن إتخذته العنكبوت ظنّاً منها أنها تعتصم به من المعتدي عليها فإذا هو لا يصمد ولا يثبت لأضعف تحريك فيسقط ويتمزق. وهذا حال المشركين الذين أشبهوا العنكبوت في الغرور بما أعدّوه وأولياءهم. أشبهوا بيت العنكبوت في عدم الفناء فإذا بهم وبأوليائهم ينزلون عند أقل ابتلاء.
(وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)) جلّت قدرتك يا رباه وتعالى بيانك عن المشابهة والمحاكاة. فأنّى لمن ملك ناصية البلاغة من البشر أن يبلغ شأو الثرآن، بل وأنّى له أن يملك رُبعه أو عُشره؟! اُنظر إلى هذا الأسلوب الذي يخاطب الله عز وجل به المشركين. فبعد أن بيّن لهم فساد معتقدهم في الأصنام نعى إليهم في هذه الاية أنهم ليسوا بأهل لتفهُّهم تلك الدلالات التي قُرِّبت إليهم بطريقة التمثيل. ولهذا ختم الآية بقوله (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) أي لا يعلم مغزاها إلا من كمُل عقله فكان عالماً غير سفيه العقل. وفي هذا من التعريض بالمشركين الشيء الكثير. ففي إعراضهم عن الهدي القرآني وصمة جهل وقصر نظر طُبِع على قلبهم وجبينهم.
(وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)) أُنظر إلى قوله تعالى (فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) فقدعبّر الله تعالى عن اليهود والنصارى بالإسم الموصول والصلة ولم يعبِّر عنهم بالإسم “أهل الكتاب” فلم يقل “فأهل الكتاب يؤمنون به” لأن التعبير بالفعل (آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) فيه تذكير لهم بأنهم أُمناء على الكتاب وهذا يقتضي أن ينزلوا عند حدوده ويطبقوا أوامره دون تحريف أو تغيير ودون زيادة أو نقص.
(وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50)) لِمَ خصّ الله تعالى في قوله (وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ) وصف النبي بالتذير دون غيره من صفاته عليه الصلاة والسلام مثل “إنما عليّ البلاغ” أو “إنما أنا بشير”؟ خصّ ربنا وصف النبي بالنذير دون غيرها من الصفات للتعريض بالمشركين وليبين لهم بأن شأنهم يقتضي الإنذار وهو توقّع الشرّ فإن لم يتوبوا فليس غريباً وبعيداً لأن يستأصلهم الله بعذاب بئيس شديد.
(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)) تأمل في هذه اللوحة الفنية الأدبية الساحرة للألباب وهي تجسد لك حالة طريفة وفريدة. فهؤلاء الكافرون يستعجلون النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب في الوقت الذي تحيط بهم جهنم وكأنما ننظر فنرى هذا المنظر من حيث لا يرونه فنعجب لغفلتهم وهم واقفون يستعجلون العذاب وجهنم محيطة بهم من كل جانب كما يحيط السوار بالمعصم.
(يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (55)) أتستطيع أن تتخيل هذا المشهد المرعب والمفزع. مشهد العذاب الذي يلتف حول أعناق المسيئين ويحوطهم إحاطة تامة لا مفر منها. ثم يغطيهم من فوقهم ومن أسفل منهم. وإمعاناً في إذلالهم وإهانتهم وتسليط العذاب الشديد عليهم يخاطبون بالقول الغليظ (ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) فقد جعل الله عملهم السيء في الدنيا زاداً أَضرموا به النار التي أنزلوا بها. ومن ثم تكون زاداً يأكلونه، أغلِظ به من طعام وأتعِس به من زاد!.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)) أُنظر إلى هذه المفاضلة والموازنة بين منزلين، منزل أهل الجنة ومنزل أهل النار. فمنزل أهل النار هو عذاب يغشى أهله من فوقهم ومن أسفل منهم (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ (55)) ومثل أهل الجنة غُرَفٌ تضمهم وتحتويهم في مقابل إحاطة جهنم بالكافرين. ولكن ستان بين احتواء واحتواء! وشتان بين غشيان وغشيان! فالكافرون يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم وأهل الجنة يغشاهم النعيم من فوقهم بالغُرَف ومن تحتهم بالأنهار.