قبسات من روائع البيان

قبسات من روائع البيان – سورة القصص

اسلاميات

سورة القصص

(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)) جلّ جلالك يا رب وتعالت عزّتك وعظم بيانك من أن يجاريه أديب أريب بليغ، وأنّى له ذلك ولو امتلك عنان البلاغة وتربه على عرش النظم والتأليف. هذه الآية مثال من أمثلة دقائق الإعجاز القرآني. فقد ذكر القاضي عياض عن الأصمعي أنه سمع جارية أعرابية تُنشد:

أستغفر الله لأمري كلّه قتلتُ إنساناً بغير حِلّه

مثل غزالٍ ناعم في دلّه إنتصف الليل ولم أصلّه

وهي تريد التورية فقال لها الأصمعي: قاتلك الله ما أفصحك! أي ما أبلغك، فقالت له: أوبعد هذا فصاحة مع قوله تعالى (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فجمع في آية واحدة خبرين وأمرين ونهيين وبشارتين. فالخبران هما (وأحينا إلى أم موسى) وقوله (فإذا خفت عليه) لأنه يشعر بأنها ستخاف عليه. والأمران (أرضعيه، ألقيه)، والنهيان (لا تخافي ولا تحزني)، والبشارتان (إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين).

(وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)) أُنظر إلى قوله تعالى (وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) فقد عَدَل ربنا عن الجملة الفعلية إلى الجملة الإسمية وذلك لتأكيد أن النصح بالنسبة لأم موسى وابنتها هو من سجاياهم ومما ثبت لهم. ولذلك لم يقل ربنا “وينصحون له” كما قال (يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) لأن الكفالة أمر سهل يستطيع أن يقوم به أي امرئ منهم بحفظ وكفالة ما يعول. وأما النصح والعناية فهو أمر أعقد وأشد يحتاج إلى دراية ودقة وحنكة.

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ (18)) إن الجملة تتكون من ألفاظ وكلمات تنقل لك صورة وفكرة. وهذا أمر واضح جليّ ولكن أن تؤدي الكلمة صورة شاخصة فهذه تحتاج إلى قوة بيان وبلاغة. فانظر إلى قوله تعالى (خَائِفًا يَتَرَقَّبُ) فكلمة يترقب ترسم في هذا الموضع بظلّها صورة فنية وهي هيئة الحذر المتلفت والقلق المتوجس خيفة المتوقع للشر في كل لحظة. وتضعك أمام حركة الإقتفاء المتخيّلة بالجسم والأقدام، حركة إنسان يقفو خطى آخر، فتعالى بيانك يا رباه.

(فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ (19)) كان موسى عليه السلام يريد أن يضرب القبطي ليتنصر للمظلوم من بني إسرائيل. فمعاداة القبطي للإسرائيلي واضحة جداً ولكن لم يكن بين موسى وذاك القبطي أي عداوة، فلِمَ قال ربنا (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا)؟ جعل الله عداوة القبطي الظالم شاملة للإسرائيلي المظلوم ولموسى عليه السلام مع أنه لم يكن معادياً لموسى وظالماً له. ومردّ ذلك أن عداوة الأقباط للإسرائيليين وظلمهم لهم معروفة متفشية في ذلك العهد. وأما ظلم القبطي لموسى عليه السلام وعداوته له فلأنه أراد أن يظلم رجلاً والظلم عدو لنفس موسى التي نشأت على الطهارة والنقاء لتكون متهيئة لحمل رسالة الله. ولذلك فقد عدّ الله ظلم القبطي للآخرين ظلماً لموسى عليه السلام.

(فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)) تأمل في حال النفس المؤمنة الأوابة فهي تحيل كل خير أتاها إلى ربها. فها هو موسى عليه السلام يبدأ بدعاء ربه بصيغة استرحام واستعطاف واعتراف بالجميل (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ). فما أن استراح من مشقة السقي لماشية المرأتين وما إن ركن إلى الظل ووجد برده يسري في عروقه حتى تذكر صاحب الفضل عليه وجالت في خاطره نِعَم الله السابقة التي أسداها له. فجاء عليه السلام بجملة جامعة للشكر والثناء والدعاء (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ).

(فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء (25)) لو قال الله تعالى “فجاءت إحداهما مستحية” لحصل المراد ولكن الله تعالى عبّّر عن ذلك بقوله (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء) ليبين أنها كانت تمشي الهوينا برفق وأدب جمّ. وأكّد ذلك بقوله (عَلَى اسْتِحْيَاء) دون مستحية لأن (على) تفيد الاستعلاء والتمكن من الوصف. فالاستحياء أصيل فيها وقوي مكين.

(فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ (31)) لِمَ قدّم ربنا تبيان صفته واسمه العليّ على أمره فقال (يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ (31)) ولم يقل “أن ألق عصاك إني أنا الله رب العالمين”؟ إن تقديم صفة الله تعالى قبل إصدار أمره لموسى عليه السلام وإلقاء العصا كان لأن وصف ذاته بـ (رب العالمين) يدل على أن جميع الخلائق مسخّرة له. وفي ذلك تثبيت لقلب موسى عليه السلام من هول تلقي الرسالة.

(وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (34)) هل كان طلب موسى عليه السلام من ربه إرسال هارون في قوله (فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي) ليكون هارون مصدقاً على كلام موسى؟ أي كلما قال شيئاً يقول بأنه صادق أو صدقت حتى قال (يُصَدِّقُنِي)؟ عبّر موسى عليه السلام عن فصاحة هارون وتكليمه للناس بقوله (يُصَدِّقُنِي) للإشارة إلى أن هارون سيكون في هذا الإرسال سبباً في تصديق فرعون وملئه. وذاك من خلال إبانته الأدلة التي يلقيها موسى في مقام مجادلة فرعون فهو ليس مبلِّغاً وحسب بل سيكون ذا دور في تصديق القوم برسالة موسى عليه السلام.

(قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ (35)) الشد هو الربط. ومن شأن المرء إذا أراد أن يُجهد أحد أعضائه بالعمل ربط عليه لئلا يعتريه فك أو كسر. وقد جعل الله تعالى هارون أخا موسى بمنزلة الرباط الذي يشد به. لأن تأييد هارون لأخيه موسى إنما هو في الفصاحة والكلام. فكأنه الرباط الذي يحميه فالرباط يحمي العضو من الزلل والكسر. وهارون يقوي موسى في إيضاح حجته ويعينه على ذلك.

(وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)) العاقبة هي الحالة العاقبة التي تجيء عقب غيرها. ولفظ عاقبة يؤذن بتبدل حال إلى ما هو خير منه ولذلك لا يُطلق إلا على العاقبة المحمودة. ولعلك تلمح ما في عبارة (عَاقِبَةُ الدَّارِ) من التمثيل والتصوير حتى جرت هذه العبارة مجرى المثل في خاتمة الخير بعد المشقة. وكأنها تشبيه من يقوم بعمل خير بحالة سائر على طريق ممتد إلى أن يبلغ دار الخصب والاستقرار فتكون الدار التي بلغها دار خير حسنت عاقبتها.

(فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ (40)) تأمل هذا التصوير المهين لمن عصى أمر الله وتجرأ على أنبيائه. ألا ترى كيف انتقص الله من حجم فرعون وحاشيته إلى أقصى الدرجات. فما هم إلا حصيات طرحت في البحر لا قيمة لها ولا وزن. وكذلك قال ربنا (فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) ولم يقل “فأغرقناهم”

(وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)) تأمل هذا التفنن البلاغي والأسلوب البياني الدقيق في رصد شأن آل فرعون. فاللعنة عليهم عبّر عنها القرآن بالفعل فقال (وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً). وأما قبح مآلهم في الآخرة فقد عبّر عنه بالإسم فقال (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ). فما الحكمة وراء هذا التخالف والتنويع بين الجملة الفعلية (وَأَتْبَعْنَاهُمْ) والإسمية (هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ)؟ ما ذاك إلا لأن اللعنة قد انتهى أمرها بإغراق آل فرعون فهي لا تقتضي الدوام ولذلك جيء معها بالجملة الفعلية (وَأَتْبَعْنَاهُمْ). وأما تقبيح حالهم يوم القيامة فهو دائم معهم ملازم لهم فجيء في جانبه بالجملة الإسمية المقتضية الدوام والثبات.

(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)) تأمل هذا المشهد الذي يثير في نفس السامع العجب والغرابة. فالآية تخبرنا عن فرعون وكبراء قومه. هم كانوا في الدنيا أئمة قومهم في الضلال وهذا معلوم لنا ولكن الغرابة أن إمامتهم مستمرة في اليوم الآخر. فقد صورهم البيان الإلهي على هيئة إمامة غريبة ودعوة عجيبة (أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) وهذه الإمامة ترسم صورة في الخيال لأغرب الدعوات حين يقول الإمام لتابعيه “هيا بنا إلى النار”. فأنت تُنَصِّب عليك إماماً ليرشدك إلى طريق الهدى وأولئك نصّبوا عليهم إماماً ليرشدهم ولكنه أضله الطريق فكان إمامهم وقائدهم ولكن إلى أين؟ إلى النار التي ينبغي أن يبعدهم عن لظاها.

(وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)) لعلك لحظت الآية التي تنفي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون زمن بعثة موسى عليه السلام وتنفي عنه أن يكون ممن تلقى أخبار موسى من كتب بني إسرائيل. وهذا يؤدي إلى أنه تلقى هذه الأخبار عبر وحي من الله تعالى. فلِمَ عدل عن قوله “ولكنا أوحينا إليك بذلك” إلى قوله (وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)؟ كان ذلك لأن المقصد الأهم هو إثبات وقوع الرسالة من الله للرد على المشركين في قولهم وقول أمثالهم (وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) القصص).

(قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (49)) تأمل هذا التحدي السافر والتعجيز القاهر الذي يخاطب به القرآن المعاندين المشركين. فقد طالبهم بالإتيان بكتاب هو أهدى من القرآن لا ليثبت قوتهم بل ليكون كتاباً يدين به محمد صلى الله عليه وسلم ويؤمن به. وكان النبي يقول “إن تأتوا به أتّبعه”. وهذا مبالغة في التعجيز لأن وعده بأن يتّبع ما يأتون به إن كان أبلغ وأهدى من القرآن يقتضي بأن يحق عليهم الحق ويقعوا تحت سطوة برهانه ويقروا بالهزيمة إن لم يفعلوا ذلك. وهذا الضعف والعجز ناسب الإتيان بحرف الشرط (إن) الدال على الشك في قوله في ختام التحدي (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).

(وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)) أُنظر إلى هذه المعاذير التي تعلل بها المشركون، فهم يخشون على أنفسهم من الهلاك. وقد روي عن إبن عباس أن الحارث بن عثمان بن نوفل بن مناف وناساً من قريش جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحارث: إنا لنعلم أن قولك حق ولكنا نخاف إن تبعنا الهدى معك وآمنا بك أن يتخطفنا العرب من أرضنا ولا طاقة لنا بهم وإنما نحن أكلة رأس (أي إن جمعنا يشبعه الرأس الواحد من الإبل وهذه الكلمة كناية عن القلّة). فهؤلاء اعترفوا في ظاهر الأمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الهدى. وقد عبّروا عن شدة خشيتهم من الأسر والأخذ بالقوة بقولهم (نُتَخَطَّفْ) ولم يقولوا نُخطَف لأن التخطف فيه مبالغة في الخطف والأخذ ويدل على الإنتزاع بسرعة. وهذه المبالغة في الخشية من الخطف ناسبها الاستفهام الإنكاري. فقد أعقب قولهم (نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) الاستفهام بقوله (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا) لأن إنكارهم الأمن إقتضى توبيخاً على هذه الحالة التي تلبّسوا بها وهي حالة المُنكِر للأمن الذي كانوا يعيشون به وهو الحَرَم الذي مكّنهم الله داخله.

(وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا (58)) إن البَطَر هو التكبّر وفعله لازم لا يتعدّى إلى المفعول به بل يقتصر على الفاعل. فكيف انتصبت كلمة (مَعِيشَتَهَا) بعد الفعل (بَطِرَتْ)؟ إن نصب (مَعِيشَتَهَا) جاء على تضمين الفعل (بَطِرَتْ) معنى كفرت. ألا ترى أن البَطَر وهو التكبر يستلزم أن يُنكر الإنسان الخير الذي يُسدى إليه؟ وإنكار النعمة هو كفر بها ولذلك ضُمِّن الفعل (بطرت) معنى كفرت ومن ثم نصبت كلمة (مَعِيشَتَهَا) على أنها مفعول به.

(وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)) تأمل في هذا الاستفهام (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) ألم يكن أولئك المخاطبون بهذا القول عاقلين حتى يُسألوا عن عودتهم إلى رُشدهم وعقلهم؟ إن جهل الإنسان لنعيم الآخرة الأبدي وتفضيل النعيم الدنيوي الزائل على الأخروي الدائم دليل على الجهالة وخفة العقل. ولما كان المشركون قد تعجلوا النعيم الدنيوي وآثروه وفضّلوه على الأخروي فإنهم بذلك قد نزلوا إلى درجة من فقد عقله ولذلك قال لهم (أَفَلَا تَعْقِلُونَ).

(وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (62)) أُنظر إلى هذا الموقف الرهيب، موقف الظالمين وهم يمثلون أمام الله عز وجل فيسألهم ذلك السؤال المحيّر المُخزي (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ). وهنا تعرض صورتهم فهاهم المتبوعون يتنصلون من التابعين ويتبرؤون إلى الله من تبعة إغواء الغاوين (رَبَّنَا هَؤُلَاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)) وهذه الإجابة لغو منهم وليست إجابة عما سُئلوا عنه. ولذلك يعيدهم إلى جو السؤال المُحرج بأسلوب أشد وأخزى (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ (64)).

(وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)) أُنظر إلى هذا السؤال كم يحمل في ثناياه من التهويل والترويع للمسؤولين. فالسائل سبحانه وتعالى يعلم ماذا أجابوا ولكنهم مذهولون (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ (66)) وندّت عنهم الإجابات ووقفوا صامتين ذاهلين لا ينبسون ببنت شفة. فلتحرص على أن تكون إجابتك يوم السؤال عن موقفك من دعوة نبيك إجابة تعتزّ بها لتكون من الناجين.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)) ألم يسترع إنتباهك وصف الليل بـ (تَسْكُنُونَ فِيهِ) بينما أطلق ربنا نعمة الضياء دون قيد أو وصف فقال (يَأْتِيكُم بِضِيَاء (71)) فلِمَ هذا الإطلاق للضياء والتقييد لليل؟ وصف البيان الإلهي الليل بـ (تَسْكُنُونَ فِيه) للإشارة إلى أعظن نعمة يجنيها الإنسان من الليل إذا أرخى سدوله، وهي لذة الراحة ولذة الخلاص من التعب والحرّ يعد أن يلملم النهار ذيوله فيُسلِم الإنسان جسده إلى فراشه ليستعيد نشاطه العصبي. وأما الضياء فلم يقيّد بصفة محدودة لكثرة منافعه التي لا يعلم عددها ولا أنواعها المختلفة إلا الله سبحانه وتعالى.

(إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ (76)) لِمَ نسب الله تعالى قارون إلى موسى عليه السلام فقال (كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى) ولم يقل “كان من بني إسرائيل”؟ عدَل البيان الإلهي عن القول “كان من بني إسرائيل” إلى قوله (كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى) إيماءً إلى أن لقارون إتصالاً خاصاً بموسى. فقد قال ابن عباس عن قارون: إنه ابن عم موسى عليه السلام. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن إضافة قارون إلى موسى فيه إشارة إلى أنه كان من قومه ثم انقلب فصار عدواً له ولأتباعه. فأمره أغرب من أمر فرعون.

(فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ (79)) تقول خرجت إلى ضيوفي وخرجت إلى المسجد، فتُعدّي الفعل خرجت بحرف الجر (إلى). ولكن القرآن جعل خروج قارون إلى قومه متعدياً بحرف الجر (على) (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِه). فما المعنى الذي أفاده حرف الجر (على)؟ عد الفعل (خرج) بحرف الجر (على) ليصور لك هيئة خروج قارون. فقد خرج على هيئة متكبِّرِ متعالٍ. وهذا المعنى أفاده حرف الجر (على) الذي يدل على الاستعلاء.

(وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا (80)) انظر إلى هذا المنطق الحكيم الذي خاطب به الذين أوتوا العلم أولئك الذيت تطلعت قلوبهم إلى مال قارون. فقد ذكروا لهم الثواب الأعظم وقدموا لهم الأجر على الطلب. فلم يقولوا لهم “ويلكم من آمن وعمل صالحاً فإن له ثواباً عظيماً” بل قدّموا الثواب فقالوا (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) وهذا التقديم للأجر غايته تمكين هذا الأمر في ذهن السامعين. فهذا الثواب مطمع للنفس تستشرف إليه وتتشوق لمرآه.

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)) قرأ الفُضيل بن عياض هذه الآية ثم قال “ذهبت الأماني هاهنا” أي أماني الذين يزعمون أنه لا يضر مع الإيمان شيء وأن المؤمنين كلهم ناجون من العقاب كما قال أحد المُرجئة:

كُن مسلماً ومن الذنوب لا تخف

حاشا المهيمن أن يري تنكيدا

لو شاء أن يصليك نار جهنم

ما كان ألهم قلبك التوحيدا

فلا تطمع برحمة الله وتنسى عقابه. فكما أن الله رحيم بعباده رؤوف فهو أيضاً منتقم شديد العقاب.

(مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)) إذا أمعنت النظر بين شطري الصورتين: صورة مكتسب الحسنة وصورة مقترف السيئة لرأيت أن البيان القرآني إختار فعل (عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ) بعد قوله (وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ) لما في هذا التعبير (عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ) من التنبيه على أن عملهم هو عِلّة جزائهم ولما في هذا التعبير من استهجان لهذا العمل الذميم. ولما فيه من تبغيض السيئة إلى قلوب السامعين من المؤمنين.

(قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (85)) تأمل هذا السياق المعجز والتعبير البديع. فقد عبّر الله عن المختدين بالجملة الفعلية فقال (مَن جَاء بِالْهُدَى) ولم يقل “قل ربي أعلم بالمهتدين”. بينما عبّر عن الضالّين بالجملة الإسمية فقال (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ). فهل من خلاف معنوي بين الأسلوبين أم هو خلاف في أسلوب التعبير للتنويع وحسب؟ عبّر القرآن عن جانب المهتدي بفعل (مَن جَاء) للإشارة إلى أن المهتدي هو الذي جاء بهديٍ لم يكن معروفاً من قبل ولذلك قال (مَن جَاء بِالْهُدَى) ولم يقل “من اهتدى”. وعبّر عن جانب الضالين بالجملة الإسمية للإشارة إلى ثبات ضلال المشركين وإظهار قِدَم ضلالهم ورسوخه في أفئدتهم. وإمعاناً في إظهار شدة ضلالهم قال (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) ولم يقل “من هو من الضالين” لأن حرف الجر (في) يفيد إنغماسهم في الضلال وإحاطته بهم من كل جانب.