تابع سورة لقمان
(يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16))
تك وتكن: ذكرنا في الحلقة الماضية قال (إنها إن تك) ثم قال (فتكن) وذكرنا في حينها أنه لما قال (تك) لم تكن في مكان معين وإنما ذكرها هباء تائهة في الوجود (إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) ثم ذكر مكانها فلما ذكر مكانها أنها استقرت ذكر النون (فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ). وقلنا أنه قال في صخرة ولم يقل على صخرة وقلنا أنها مثل المحفظة التي يكون في باطنها شيء ثم يستخرجها ربنا تعالى بدون أن يفتحها بلطفه وخبرته من غير مفتاح. ثم قال في الأرض ولم يقل على الأرض (أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) يعني هي في باطن الأرض (في ظرفية هنا). يقولون الخفاء يكون بطرق، طرق الخفاء استوفاها هنا إما أنها تكون في غاية الصغر (مثقال حبة) أو يكون بعيداً في السموات مثلاً أو في مكان مظلم (في الأرض) لأنه لا يوجد نور أو من وراء حجاب (في صخرة) هذه طرق الخفاء استوفاها كلها، تكون بعيدة صغيرة في ظلمة من وراء حجاب كلها استوفاها (صغيرة مثقال حبة من خردل، البعد في السموات، الظلمة في الأرض، الحجاب في صخرة استوفاها كلها. ثم قال يأتي بها الله ولم يقل يعلمها لأن العلم لا يدل على القدرة، الفعل يأتي يدل على طلاقة القدرة لله تعالى لأنه يعلمها ويأتي بها فأنت قد تعلم شيئاً في مكان لكن لا تستطيع أن تأتي به، الإتيان علم وقدرة علم مكانها وجاء بها صار علماً وقدرة ولو قال يعلمها الله لدل على العلم لكن لا يدل على القدرة هناك أكمور كثيرة نعلم مكانها لكن لا نستطيع أن نأتي بها، يأتي بها الله إن الله لطيف خبير. لذلك قال تعالى تحديداً الصخرة. ثم ترتيب الآيات وذكر هذه الأشياء فيها، هذا الترتيب له دلالة محددة فالصخرة مشتركة قد تكون في السماء وقد تكون في الأرض، السماء يعني الأجرام السماوية كثير منها فيها صخور وقد تكون هناك صخور سابحة في الفضاء. هو ما قال في السموات ولكن قال في صخرة أو في السموات ولم يقل الصخرة في السموات، نكّر كلمة صخرة ولم يذكر لها مكان جعلها جزءاً من الأمكنة، صخرة سموات، أرض، ذكر ثلاثة أمكان صخرة، السموات، الأرض ولم يقل في الأرض لأنها عامة والصخرة قد تكون في السماء وقد تكون في الأرض قد تكون في الأجرام السماوية وقد تكون صخور سابحة في الفضاء إذن الصخرة وجودها مشترك لهذا لم يقيدها تعالى بمكان قد تكون في السموات وقد تكون في الأرض. لم يقيدها بمكان ولم يقل الصخرة في الأرض، لِمَ لم تقيد؟ لو قيدها وقال صخرة في الأرض تصير في الأرض لكنه قال صخرة وقد تكون في الأرض وقد تكون في غير الأرض وقد تكون سابحة في الفضاء زقد تكون في أحد الأجرام السماوية، في المشتري صخور أو المريخ صخور. إذن تنكير كلمة صخرة له دلالة وعدم تقييدها له دلالة، قال في صخرة وليس على صخرة وهو بدأ بالمشترك (صخرة) ثم قال في السموات، في السموات هو الخط الجاري في السورة أنه في كل السورة إذا ذكر السموات والأرض قدّم السموات في كل السورة (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ) (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) حيث جرى ذكر السموات والأرض قدّم السموات وأخّر الأرض وهذا التأخير أيضاً له غرض وهو أنه عندما يؤخرها يذكر بجانب الأرض أمور تتعلق بالأرض أو بأهل الأرض مثل: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ) (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ) هذا ترتيب متناسق مع كل السورة حيث اجتمعت السموات والأرض قدّم السموات وأخر الأرض وذكر بجانب الأرض ما يتعلق بالأرض وسكان الأرض إذن الترتيب مقصود ويتناسب مع سياق السورة عموماً وجو السورة عموماً.
سؤال من المقدم: هل للتكرار (في) دلالة محددة؟ هل يجوز أن أقول في السموات أو في الأرض؟ هذا آكد وهو موطن توكيد وهذا من إحاطة علم الله بالأشياء.
سؤال من المقدم: في سورة الأنبياء قال تعالى (وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)) مقارنة بين الآيتين؟ فعل الشرط وجوابه في لقمان مضارعان وفي الأنبياء ماضيان فلماذا؟
(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)) يتضح الجواب. آية لقمان في الدنيا يخاطب ابنه (يا بني إنها) (إنها) إما ضمير القصة أو ضمير الشأن إذا كان للمؤنث يسمى ضمير القصة وللمذكر ضمير الشأن (إنه). ضمير الشأن العائد فيه يكون بعده لا يكون قبله وهذه قاعدة (قل هو الله أحد) (هو) ضمير الشأن، الله أحد هو المقصود، ضمير الشأن هناك ضمائر تعود على ما بعدها وليس على ما قبلها وهي سبعة مواطن منها ضمير الشأن (هي الدنيا تغرر تابعيها) (هي) تعود على الدنيا والدنيا بعد هي لما كانت الدنيا مؤنث قال هي (هي مبتدأ والدنيا خبر) ضمير الشأن يكون ما بعده جملة ولا يكون مفرداً ويُخبر عنه بجملة. (يا بني إنها إن تك) (إنها) ضمير الشأن، (فإنها لا تعمى الأبصار) إنها أي الشأن أو المسألة أو الأمر أو القصة أنها لا تعمى الأبصار. في لقمان المسألة يا بني أنها إن تك مثقال حبة من خردل. ضمير الشأن يعود على ما بعده لا على ما قبله ويُخبر عنه بجملة هذه قاعدة. قسم قالوا يقصد بـ (إنها) أي الفعلة أو الخصلة.
(يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) تلك في يوم القيامة الأعمال انتهت والوقت وقت حساب وإن كان العمل مثقال حبة جئنا به وكفى بنا حاسبين (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)) هذه قطعاً ماضية وليست مضارعة لذلك قال (وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) بالماضي لأن الآن الموقف موقف حساب بينما تلك لقمان يخبر ابنه ويعلمه بقدرة الله (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) متى ما شاءت، متى ما وقعت، متى ما تكون فهذه يأتي بها مضارع وهذه يأتي بها ماضي.
سؤال من المقدم: فعل الكينونة في لقمان مؤنث (إن تك) وفي الأنبياء مذكر (كان) لماذا؟
(إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) قال قريب ولم يقل قريبة. (إنارة العقل مكسوفٌ بطوع هوى) ما قال مكسوفة. مثقال حبة من خردل مثقال مذكر وحبة مؤنث يجوز أن يكتسب هذه كقاعدة نحوية (وما حب الديار شغفن قلبي) حب مذكر وشغفن مؤنثة جاءت من الديار من المضاف إليه. في التركيب الإضافي يجوز التذكير والتأنيث لكن بشرط في مواطن، بشرط أن يكون المضاف جزء أو كالجزء في الاستغناء عنه (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا (111) النحل) كلّ مذكر ونفس مؤنث فقال تأتي. بشرط أن يكون المضاف جزء أو كالجزء في الإستغناء عنه يعني ممكن تستغني عنه ويُفهم مثل (قُطعت بعض أصابعي) يمكن أن يقال قُطعت أصابعي، مثقال حبة يعني حبة. (لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخُشّع) سور مذكر وتواضعت مؤنثة. إذن من حيث الحكم النحوي ليس فيه إشكال يبقى طبيعة الاستخدام هنا: أصلاً قال في الأنبياء (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) شيئاً مذكر (وإن كان مثقال حبة ) وإن كان الشيء مثقال حبة فذكّر أي إن كان الشيء مع أنه يجوز التأنيث أما في لقمان (مثقال حبة) قد يكون الحبة أو الفِعلة أو قد يكون العمل. إذن (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) وإن كان هذا الشيء مثقال حبة إذن ذكّر مع أنه يجوز التأنيث. في الأنبياء قال بصيغة فعل الكيونة بالماضي لأنه يدل على حالة محددة وهي حالة الحساب يوم القيامة للدلالة على عمل كان في الدنيا وانتهى وأتى به مذكراً لمناسبته مع ما قبله وهو مذكر.
سؤال من المقدم: في لقمان ذكر تعالى أماكن وجود المتحدث عنه (فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) في الأنبياء لم يذكر مكان وجودها فلماذا؟
سؤال من المقدم: ختام الآية في لقمان (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) وفي الأنبياء (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) فما الفرق؟
(ونضع الموازين القسط) فقال (وكفى بنا حاسبين) لأنه مقام حساب وليس في مقام اسخلاص المثقال من مكانه أما في لقمان ففي مكان استخلاص الحبة ومكان الحبة فقال (لطيف خبير).
سؤال من المقدم: في سورة لقمان عندما يوصي ابنه قال (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) لم يقل مثلاً عليم لأنه يعلم أماكن وجود ضمير الشأن فما دلالة اللطف؟
(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ (19) الشورى) بمعنى آخر أنه يلطف بهم ويرأف بهم. اللطيف هو الذي يأتي بأمور بخفاء يستخلصها بخبرته وبطريق الخفاء ويأتي بها من دون أن يحطم الصخرة بلطف وخفاء تمتد قدرته إليها فيستخلصها. ذكر هذا الأمر من لقمان لابنه أولاً يعلمه أنه إذا كان رب العالمين سحانه وتعالى يأتي بمثقال حبة من خردل من هذه الأماكن فلماذا الشرك؟ ماذا يفعل الشريك؟ لا شيء إذن لماذا الشرك؟ الشريك لا يستطيع أن يمنع هذه الحبة الصعيرة من أن يأتي بها الله فلماذا الشرك. ثم هناك أمر آخر أن لقمان يبين المسألة ويوضح قدرة الله لابنه وفي هذا يعلمنا لقمان بحكمته أن ليست المسألة فقط في الأوامر والنواهي لا تفعل كذا لا تفعل كذا وإنما يضرب له الأمثال ويبين له بالحجج حتى يقتنع ويستوعب المسألة وهذا فيه توجيه للآباء والوعاظ والمرشدين بأن لا يكثروا فقط من الأوامر والنواهي هكذا وإنما ينبغي أن يعلّلوا ويبينوا حتى يقتنع السامع بعقله ويقبل هذ الشيء أما أن تذكر فقط أوامر ونواهي هكذا فلا. هذا التعليم من حسن التربية أولاً الرفق دائماً يردد قول (يا بني) وعندما يذكر الأمر يعلل له العلة حتى يقتنع بما يقول وحتى يستوعب المسألة وحتى تتضح له المسألة وليس مجرد أوامر وهذا توجيه للآباء والمرشدين عموماً أولاً أن يحسنوا في القول ويلطفوا في القول لا يكونوا أشداء، اللطف واللين في القول والأمر الآخر أن الأمر ليس مجرد أمور ونواهي وإنما عليهم أن يوضحوا ويبينوا ويأتوا بالحجج المبينة حتى يقبل العقل ما يقولون.
(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17))
(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)). بعد أن نهاه عن الشرك وأمره بالتوحيد بعد ذلك بدأ بأهم العبادات. أول مرة أقام العقيدة السليمة وهو التوحيد لأنه لا تصح عبادة مع الشرك فبعد أن جاءه بأهم الأمور وأعمها وأيسرها نفي الشرك بالله وترسيخ عقيدة التوحيد الآن أمره بالعبادات فقال له وبدأ بأهم العبادات وأوجبها هي الصلاة وهي التي لا تسقط بحال من الأحوال وهي أول ما يُسأل عنه المرء يوم القيامة. الصلاة اسماعيل u كان يأمر أهله بالصلاه وموسى u (وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ (87) يونس) الصلاة هي عبادة أوجبها الله تعالى منذ البدء وهي آخر ما يُرفع من الأعمال قبل يوم القيامة هي الصلاة، فبدأ بأهم العبادات وأوجبها وهي العبادة التي لا تسقط في حال من الأحوال في المرض أو غيره وأول ما يسأل عنه المرء يوم القيامة. ولم يقل له صلي وإنما قال أقم الصلاة أي الإتيان بها على أتم حالاتها بكل سكناتها وحركاتها وخشوعها. نلاحظ أنه بعد الأمر بإقامة الصلاة ما قال أموراً أخرى وإنما قال (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ) إذن هو أمره بنوعين من العبادات عبادة فردية شخصية (الصلاة) وعبادة عامة اجتماعية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) هذه علاقته بالمجتمع، بالآخرين، عبادة اجتماعية. الصلاة عبادة فردية والثانية عبادة اجتماعية كما قال القدامى إحداهما تكميل للنفس (الصلاة) والثانية تكميل للمجتمع (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إذن عبادتين إحداهما للنفس وتكميلها والثانية للمجتمع لأن من حق المجتمع على الفرد أن يحفظه ويرسي قواعد الخير فيه ويجتث أمور الشر فيه، الأمر بالمعروف يرسي قواعد الخير والنهي عن المنكر يجتث قواعد التخريب وقواعد الهدم. (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) الذي يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدركه الأذى من الآخرين وهكذا قال القدامى لأنك تتعرض للآخرين تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر فقد تسمع منهم كلاماً يؤذيك وقد يكونوا أذوك بأشد الأذى ولقمان أدرك بحكمته أن ابنه إذا فعل هذا سيتعرض للأذى لأنه من أمر بالمعروف عليه أن يتوقع أن يصيبه أذى. والغريب أنه من حكمة لقمان أنه أمر ابنه بذلك – مع أنه يدرك أن ابنه سيصيبه أذى – أن الآباء عادة يقولون لأبنائهم اتركوا الناس بشأنهم لا عليكم منهم، يخشون على أبنائهم من الأذى فيقولون لهم اتركوا الناس أما لقمان بحكمته الثاقبة مع أنه يعلم أن ابنه سيصيبه الأذى لكن علم أن هذا الأمر أولى من راحة ابنه أن إرساء قواعد الخير في المجتمع واجتثاث عوامل الشر منه أولى من راحة ابنه لأنه المجتمع إذا انهار ينهار عليه وعلى ابنه وأسرته الإنهيار لا يختص بواحد وإنما يعم الجميع إذن هو أولى من راحة الإبن فليتعب ابنه لأنه قد يؤذى فرداً فلا بأس لكن هو يرسي قواعد الخير فلو كان كل الآباء يوجهون أبناءهم هذا التوجيه لصاروا كلهم مثل ابن لقمان فالمجتمع يصير يثبت فيه قواعد الخير وينجو من عوامل التفكك والتخريب وفي ذلك سلامته وسلامة المجتمع وراحته وراحة المجتمع بخلاف لو تُرِك المجتمع على عواهنه فإنه هو أيضاً سيدمر الإبن والعائلة ستدمر. ولذلك هو مع معرفته بذلك أوصاه بفعل ذلك وهذا من حكمة لقمان الثاقبة فهم كم يحب ابنه ويتمنى له الخير وهو يعلم أنه سيصيبه أذى لكن هذا الأذى أهون من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(إن ذلك) أي الصبر على إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلها من الأمور الواجبة المقطوعة التي لا ينبغي التخلي عنها لا الصلاة (تكميل للنفس) ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذه كلها تحتاج عزم وعزيمة وقوة وإن كانت الثانية أكثر لأنها مواجهة (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ذلك تعود على البعيد. إن ذلك من عزم الأمور أي الأمور التي لا ينبغي التخلي عنها مهما أوذي في ذلك.
سؤال من المقدم: ختمت الآية في سورة لقمان (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وفي سورة الشورى (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)) فما اللمسة البيانية في الاختلاف بينها؟
(وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) في الشورى قال (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)) أيّ الأشد أن تصبر وتغفر أو أن تصبر فقط؟ أن تصبر وتغفر لأنها أشق على النفس. يطالبنا ربنا بالصبر والمغفرة لأن هذا أسدى إلى الخير وأكمل للمعروف ويؤلف قلوب الآخرين ولا يثير فيهم الضغائن وإذا فعلت لهم الحسنة فقد جمعت قلوبهم (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) فصلت) حميم أي قريب فأنت تعامل بالصبر والمغفرة مع أنها شاقة على النفس الصبر وحده شاق فكيف الصبر والمغفرة وما هو أعلى وهو الإحسان. لذلك فيما فيه مشقة قال (لمن عزم الأمور) فيه صبر ومغفرة فأكد باللام وإنّ. زيادة حرف في اللغة للتوكيد له وقع خاص من الناحية البيانية.
(وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18))
سؤال من المقدم: قال تعالى (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) لم يقل على الأرض؟
(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا (63) الفرقان). (في) تفيد الظرفية و(على) للإستعلاء كأن هذا المختال يريد أن يخرق الأرض وهو يمشي كما قال تعالى (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ (37) الإسراء) فالمختال يمشي في الأرض هكذا. أما عباد الرحمن يمشون على الأرض هوناً بوقار وسكينة وليس في الأرض كما يفعل أولئك. (على) تفيد الإستعلاء و(في) تفيد الظرفية قال تعالى (أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ (5) لقمان) (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (24) سبأ) فالهدى استعلاء، إستعلاء على السوء وعلى الشر وعلى السفاسف. لذها قال تعالى (في الأرض) لأنه فيها تكبر وخيلاء وفخر و(على) فيها استعلاء وهذه صفة عباد الرحمن. نلاحظ أن الأبنية في الآية كلها تفيد المبالغة (ولا تمش في الأرض، مرحاً) مرحاً حال جاء بها على وزن المصدر (مرح) هذا يفيد المبالغة إذا أتيت بالحال مصدراً فهو المبالغة قطعاً عندما تقول جاء ركضاً أبلغ من جاءك راكضاً وكما قال تعالى (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا (260) البقرة) أبلغ من ساعيات لأن أخبرت عن الذات بالحدث المجرد كأنه ليس شيء يثقله من الذات أصبح حدثاً مجرداً. في الأرض مبالغة في المشي، ومرحاً مبالغة، ثم إنّ توكيد، ومختال فيه المبالغة من افتعل، وفخور مبالغة يعني كل أبنتيها وكل ترتيبها للمبالغة.
أسئلة المشاهدين خلال حلقة 10/9/2007م:
-
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) البقرة) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (69) المائدة)؟
-
(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ (23) الزمر) فهل إن القلوب تقشعر مع الجلود؟ ولماذا لم تذكر القلوب في البداية مع الجلود؟
-
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3) المائدة) المفروض أن الرسالة انتهت واكتمل الدين فلماذا جاء بعدها (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ولماذا لم ترد قبل في الترتيب؟
-
u هو أول من تحدث بالعربية؟