تتمة سورة الحديد
سؤال من المقدم: قال تعالى في سورة الحديد (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)) وقال في سورة سبأ (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)) اختلف ختام الآيتين وفي آية سورة سبأ لم يذكر (وهو معكم أينما كنتم) فما هي اللمسة البيانية في الآيتين؟
(يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) قال تعالى قبلها (وهو بكل شيء عليم) هذا يدل على علمه وإحاطته بكل شيء، (وهو معكم أينما كنتم) هذا مناسب للعلم ويترابط معه. وبعدها قال تعالى (وهو عليم بذات الصدور) فهذه الآية متناسبة مع السياق التي وردت فيه وهو العِلم قبلها وبعدها (وهو معكم أينما كنتم) (والله بما تعلمون بصير) متناسب مع ما قبله (وهو بكل شيء عليم) ومتناسب مع ما بعده (وهو عليم بذات الصدور). هذا الموقع غير موجود في سورة سبأ، هذا أمر.
(وهو معكم أينما كنتم) في سورة الحديد وهذا يدل على المراقبة ولذا جاء بعدها بما يدل على معرفته بعَمَلنا قال (والله بما تعملون بصير). وفي سورة سبأ قال في ختام الآية (وهو الرحيم الغفور) وفي الحديد قال (والله بما تعملون بصير) هذا متناسب مع المراقبة (وهو معكم أينما كنتم). إذن في سبأ ختمها (وهو الرحيم الغفور) فأراد تعالى أن يرحم الناس بالرحمة والمغفرة فرفع ذِكر المراقبة، أليس من رحمته أن يرفع ذكر المراقبة؟ عدم ذكر المراقبة أنسب مع الرحمة والمغفرة، أن تراقب الإنسان في كل شيء هذا ليس من الرحمة إذن ختام الآية (وهو الرحيم الغفور) أراد الله تعالى أن يرحم الناس فرفع ذِكر المراقبة في آية سبأ بخلاف آية سورة الحديد التي فيها العِلم (وهو معكم أينما كنتم)، هذا أمر.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)) الآخرة ليست وقت عمل ولا مراقبة وإنما وقت جزاء. الآية التي بعدها في الساعة (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (3)) قبلها وبعدها الكلام في الساعة والساعة ليست لا وقت مراقبة ولا وقت عمل. آية الحديد (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)) إذن آية الحديد في بداية خلق السموات والأرض وهو زمان بداية الأعمال واستمرارها، وفي سورة سبأ زمان طيّ صفحة الأعمال، الآخرة هي طيّ صفحة الأعمال، فما قال (وهو معكم أينما كنتم) في آية سبأ لأنه ليس وقتها وانطوت صفحة الأعمال في الآخرة وانتهت فلذلك لم يذكرها بينما في سورة الحديد فهو زمان بداية الأعمال وزمان المراقبة (هو الذي خلق السموات والأرض) فإذن السياق مختلف: في سبأ في الآخرة وهو في طيّ صفحة الأعمال وفي الحديد في بداية صفحة الأعمال ولذلك وضع المراقبة مع السياق الذي يقتضي وضعها فيه ورفعها من السياق الذي لا يقتضي سواء كان في الآخرة أو في وقوعها ما يتعلق بالآخرة.
(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)) (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)) (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)) (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)) (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)) (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ (25)) كلها عِلم، جو السورة يتردد فيه العلم. في سورة سبأ الذي شاع في جو السورة ذِكر الآخرة (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ (1)) (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ (3)) (أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)) (أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (5)) (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)) (بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)) (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)) (وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ (23)) (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)) (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (29)) (قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)) (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)) (فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)) (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)) (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)) (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ (51)) إلى آخر السورة سورة سبأ شاع فيها ذِكر الآخرة، وفتحت بذكر الآخرة وختمت بذكر الآخرة وهذا لا يتناسب مع جو المراقبة. ذاك جو العِلم يتناسب مع (وهو معكم أينما كنتم). إذن في كل الأمور: ما قبل الآية وما بعدها، ختام كل آية من الآيات يتناسب، السياق، بداية الأعمال وطيّ صفحة الأعمال، كل هذا يتناسب مع وضع كل تعبير في مكانه. ثم ختمها بقوله (والله بما تعملون بصير) قدّم العمل على البصر لأنه ورد بعدها (وهم معكم أينما كنتم) قدّم عملهم لأن الكلام عليهم أنفسهم (وهو معكم أينما كنتم) ما قال بصير بما تعملون.
سؤال من المقدم: ما الحكمة من التكرار في القرآن؟
(كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) الأعراف) يأتي بها بصور شتى حتى تتردد في النفس وحتى تثبت في الذهن وحتى تثبت في القلب يردد معاني هنا وهناك إضافة إلى الإعجاز في التعبير، إختيار العبارات كل واحدة مناسبة في مكانها. خذ الرسل لما أتوا إلى أقوامهم أمروهم بأمر واحد (فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ) فهذا المعنى وهو يتعلق بدواعي الإيمان يثبتها بصور شتى، بأمور شتى وتصاريف شتى لأن القصد هو تثبيت العقيدة في النفس. تصريف الآيات هو ترتيبها وتغييرها من حالة إلى حالة حتى يثبتها في النفس فيأتي بمثال ويركز في كل مسألة على ما يريد أن يتحدث عنه. وقد يكون التكرار هو من أعذب الكلام في البلاغة حتى في الشعر وفي غير الشعر لما يقول الشاعر:
(بما تعملون بصير) في آية الحديد يتناسب مع ذكر المراقبة (وهو معكم أينما كنتم) وفي آية سبأ السياق في الآخرة ذكر الرحمة (وهو الرحيم الغفور) فرفع ذِكر المراقبة لأنه أنسب مع الرحمة.
سؤال من المقدم: يقول تعالى (بما تعملون بصير) وفي آية أخرى يقول (بصير بما تعملون) فهل للتقديم والتأخير لمسة بيانية؟
(وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) البقرة) بهذا العمل بصير، إذا كان السياق عن العمل يقدم العمل على البصر وإذا كان الكلام ليس في السياق عن العمل أو الكلام على الله تعالى وصفاته يقدم صفته. (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) البقرة) هذا إنفاق، (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) البقرة) (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) البقرة) (وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) هود) (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) هود) الكلام على العمل فقدم العمل (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) سبأ) قدم العمل، (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) فصلت) هذا في القرآن كله إذا كان الكلام ليس على العمل أو على الله تعالى (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) البقرة) ليس فيها عمل، (وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) المائدة) لا يوجد عمل، (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) الحجرات) يتكلم عن الله تعالى فيقدم صفة من صفات الله تعالى.
(إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) البقرة) هذا عمل فقدم العمل على الخبرة، (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) الحديد) الإنفاق عمل فقدم العمل، (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) البقرة) هذا عمل فقدم العمل. بصير وخبير تستعمل بحسب السياق. (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) النمل) ليس في الآية عمل فقدم الخبرة لأن الكلام ليس على عمل الإنسان ولكن على صنع الله الذي أتقن كل شيء.
(لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (5)):
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) الصانع قد لا يكون ملكاً، خلق السموات والأرض هو خلقها، هو صنعها. الخلق قد يكون ابتداء أي سوّاها وقد يكون صنعها (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ (88) النمل) الصناعة لا تقتضي أن يكون ملِكاً، صانع الشيء ليس بالضرورة أن يكون ملكاً حاكماً. الآية الأولى قال (هو الذي خلق السموات والأرض) فعلها وسوّاها، الصانع قد لا يكون ملكاً. هذه الآية قال (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ) يعني هو الملك وليس فقط الصانع، هو الصانع وهو الملك وقلنا أن المُلك هو من الحُكم والملِك من التملك. هذه الآية قال (له ملك السموات والأرض) تدل على المُلك وقبلها يدل على الملكية (هو الذي خلق السموات والأرض). كلمة خلق يصح نسبتها للإنسان (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) المؤمنون) هذا ممكن لأن عيسى u قال (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ (49) آل عمران). هل بالضرورة أن يكون الخالق ملكاً؟ ليس بالضرورة أن يكون ملكاً فأناس كثيرون يصنعون أشياء لكنهم ليسوا ملوكاً. قبلها قال (خلق السموات) هو صنعها (صنع الله الذي أتقن كل شيء) هذه واحدة. والآية بعدها هو ليس صانعاً فقط وإنما هو ملك أيضاً (له ملك السموات والأرض) هو الذي خلق تحديداً وله الملك تحديداً فإذن هو الملك وهو الصانع الذي صنع وهو الملك فلا ملِك سواه لأنه قدّم (له ملك) ليس هناك ملك سواه وإن ملكه ممتد بعد انقضاء الدنيا (له ملك السموات والأرض).
(وإلى الله ترجع الأمور) المفسرون يذكرون فيها أمرين: الأمور كلها ترجع إليه وهو الذي يقطع في الأمور ويبتّ فيها والمعنى الآخر إثبات المعاد أي الآخرة (فإذن هو الذي يقطع ويبتّ فيها وليس هنالك ذاتٌ إلا الله حصراً وليس هناك جهة أخرى تقطع في الأمور وتبتّ فيها كل أمور السموات والأرض ترجع إلى الله حصراً هو يقطع فيها. وإثبات المعاد الآخرة. وتقديم الجار والمجرور تفيد الحصر (وإلى الله) لله فقط سواء المقصود المعاد (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) السجدة) (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) القيامة) إلى الله حصراً لا إلى جهة أخرى. لو قال: ترجع الأمور إلى الله ليس فيها حصر وقد يحتمل أن ترجع إلى شيء آخر. (له ملك السموات والأرض) ملك السموات والأرض له حصراً. التقديم والتأخير إذا كان التقديم على العامل (نقدم الفاعل على الفعل مثلاً صار مبتدأ، نقدم المفعول به على الفعل: أكرمت محمداً، محمداً أكرمت)، نعبدك – إياك نعبد، نستعينك – إياك نستعين، أي حصراً. إياك نعبد أصلها نعبدك فلما قدم الكاف (إياك) صارت العبادة حصراً لله تعالى لذا لم يقل إيانا إهدِ وإنما قال إهدنا الصراط المستقيم لأنه لا يصح ولا يجوز لأنها تعني اهدنا ولا تهدي أحداً غيرنا، خُصّنا بالهداية ولا تهدي أحداً سوانا، إهدنا أي خُصّنا بالهداية مثلما قال الأعرابي لرسول الله r(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6))(يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) ارتبطت بقوله (وهو على كل شيء قدير) في أوائل السورة. إذن هذه (يولج الليل في النهار) دالة على القدرة. يولج بمعنى يُدخل.
سؤال من المقدم: ألا يدل يولج الليل في النهار على أنه يولج النهار في الليل أيضاً؟
(يعلم ما يلج) الفعل في الأصل من دون زيادة: ولج يلِج ويلج بمعنى يدخل.
يدخل أوسع وتستعمل في أشياء كثيرة (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) الفجر) كأنما الولوج في شيء يحتاج إلى ضيق والدخول أوسع.
هذه دلالة على القدرة (وهو عليم بذات الصدور) والآية فيها أمران: فيها القدرة وفيها العِلم. القدرة هي ما ارتبط بما قبلها (وهو على كل شيء قدير) والعِلم مرتبط أيضاً بما قبلها وما بعدها، قبلها قال (بكل شيء عليم) (وهو عليم بذات الصدور) ذات الصدور أي مكنوناتها وخفاياها. المكنونات والخفايا التي تلزم الصدور ولا تريد أن تطلع عليها أحداً. (ذات) مؤنث ذو، ذو للمذكر أي صاحب وذات للمؤنث أي صاحبة، نقول هو ذو مال أي صاحب مال، ذات الصدور أي الأشياء الخفية المختصة بالصدور، التي تملكها الصدور، المكنونات الخفية الملازمة لها.
(آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7))سؤال من المقدم: ختمت هذه السورة بقوله تعالى (لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) وفي سورة الإسراء قال تعالى (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)) بالتأكيد فما دلالة هذا التأكيد؟
: أولاً: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) أمرهم بشيئين: الإيمان بالله والرسول r والإنفاق. هذا الأمران يطبعان السورة إلى حد كبير الإيمان بالله والرسول r وليس الإيمان على العموم، الإيمان بالله والرسول r يشيع ذكرهما في السورة كلها لم يذكر أركان الإيمان الأخرى (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ (7)) ذكر قسماً من أركان الإيمان وهو الإيمان بالله ورسوله، (وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ (8)) (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء (19)) (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ (21)) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ (28)) صبغة عامة تطبع السورة في عمومها، والإنفاق (وأنفقوا).
r لم يذكر أركان الإيمان، والانفاق يطبعان السورة إلى حد كبير (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ (7)) (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ (10)) (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا (11)) (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)) (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ (24)) السورة مطبوعة بهذين الطابعين، لم يذكر جميع أركان الإيمان ولا عموم العمل الصالح وإنما ذكر جانباً من العمل الصالح وهو ما يتعلق بالانفاق. ومع أنه ذكر القتال لكنه لم يأمر به (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا (10)) ما قال قاتلوا ولكن قال أنفقوا، جاء فيها ذكر للشهداء (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ (25)) من مظنّة الجهاد لكن الانفاق هو الطابع العام في السورة وليس عموم العمل الصالح. جزء من العمل الصالح وقسم من أركان الإيمان، السورة لها منهج هذين الأمرين.
(وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) رغّبنا في الانفاق أكبر ترغيب فقال تعالى (وأنفقوا مما جعلكم) جاء بـ (مما) للتبعيض لو قال وأنفقوا ما جعلكم مستخلفين لأنفقوا الكل. (جعلكم مستخلفين فيه) هو ربنا تعالى جعلكم واستخلفكم وهو الذي يطلب الانفاق، ما قال (وأنفقوا مما أنتم مستخلفين فيه) هو سبحانه أعطانا المال وهو يأمرنا بالانفاق، (جعلكم) يعني هو الذي أعطانا إياه، (مستخلفين فيه) فالأموال هي أموال الله تعالى استخلفكم فيها ثم كانت لغيركم ثم نقلها إليكم وستنتقل إلى غيرنا سواء في حياتنا أو بعد موتنا. فإذن كل هذه الأمور هو الله تعالى استخلفنا فيها، المال ماله وهو استخلفنا فيه ولن يبقى، كان لغيرنا ثم نقله إلينا وهو بين أيدينا وقد ينتقل إلى غيرنا في محيانا أو بعد مماتنا فلم لا تنفقون؟ هو أعطانا الأموال فلماذا لا تنفق ولك أجر كبير؟ إذن دواعي الانفاق متكاثرة والمال هو مال الله تعالى هو استخلفنا فيه، كان لغيرنا ثم وصل إلينا ثم ينتقل منا إلى غيرنا وهو أعطانا إياه فلماذا لا ننفق ولنا أجر؟ فإذن الترغيب في الإنفاق إلى حد كبير فأنفق ولك أجر.