الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين امام البلغاء سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين
لمسات بيانية في سورة الضحى للأستاذ الدكتور فاضل صالح السامرائي استاذ الأدب في كلية اللغة العربية في جامعة الشارقة
َوالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
ما هي دلالة القسم في قوله تعالى (والضحى)
r r r الكريم وجزع لانقطاع الوحي مع ما يلقاه في سبيل الوحي من العنت والجهد؟ في الحقيقة انه اختبار من الله تعالى للرسول الكريم: هل هو حريص على الوحي وما فيه من مشقة ام انه سيرتاح من هذا الوحي الثقيل؟ وهذا فيه توجيه الى الدعاة أنه عليهم ان يصبروا ويثبتوا في الدعوة مهما لاقوا من مشقة وعنت في سبيل الدعوة الى الله.
الضحى في اللغة هو وقت ارتفاع الشمس بعد الشروق
سجى في اللغة لها ثلاث معاني. فهي بمعنى سكن، او اشتد ظلامه او غطى مثل تسجية الميت.
ما اللمسة البيانية في كلمة (سجى) وليست في كلمتي غشي او يسر ؟ كما في قوله (والليل اذا يغشى) (والليل اذا يسر) سبق القول ان من معاني سجى: سكن وهذا يمثل سكون الوحي وانقطاعه وهذا هو السكون، والانقطاع ظلمة وهذا المعنى الثاني لسجى فكلمة سجى جمعت المعاني كلها التي تدل على انقطاع الوحي وسكونه. اما كلمة يغشى او يسر فهما تدلان على الحركة وهذا يناقض المعنى للقسم في هذه السورة. وعليه فان القسم (والضحى والليل اذا سجى) هو انسب قسم للحالة التي هو فيها من نور الوحي وانقطاعه وكل قسم في القرآن له علاقة بالمقسم به.
ما الحكم البياني في استخدام كلمة (والضحى) بدل والفجر او النهار؟ الضحى هو وقت اشراق الشمس اما النهار فهو كل الوقت من اول النهار الى آخره. والضحى يمثل وقت ابتداء حركة الناس يقابله الليل اذا سجى وهو وقت السكون والراحة. والفجر هو اول دخول وقت الفجر (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر) ولا يكون هناك ضوء بعد او نور كوقت الضحى بعد شروق الشمس.
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى
قلى؟
r (الضحى، سجى، قلى، الاولى،…) لكن القرآن العظيم لا يفعل ذلك لفواصل الآيات وحدها على حساب المعنى ابداً ولا يتعارض المعنى مع الفاصلة والمقام في القرآن كله. فلماذا اذن هذا الحذف والذكر؟
r فلا يقال للذي نحب ونجل ما اهنتك ولا شتمتك انما من باب ادب المخاطبة يقال ما اهنت وما شتمت فيحذف المفعول به اكراما للشخص المخاطب وتقديرا لمنزلته وترفع عن ذكر ما يشينه ولو كان بالنفي.
ربك ولم يقل الله؟ هنا تكريم آخر من الله تعالى لرسوله الكريم. فالرب هو المربي والموجه والقيم. وذكر الفاعل وهو الرب اكرام آخر فلم يقل لم تودع ولم تقلى. والرب هو القيم على الامر فكيف يودعك وهو ربك لا يمكن ان يودع الرب عبده كما لا يمكن لرب البيت ان يودعه ويتركه ورب الشئ لا يودعه ولا يتركه وانما يرعاه ويحرص عليه. واختيار كلمة الرب بدل كلمة الله لأن لفظ الجلالة الله كلمة عامة للناس جميعا ولكن كلمة الرب لها خصوصية وهذا يحمل التطمين للرسول الكريم من ربه الذي يرعاه ولا يمكن ان يودعه او يتركه ابداً.
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى
الآخرة فمنهم من قال انها ما هو غير الدنيا بمعنى الدار الآخرة. وقسم قال انها كل ما يستقبل من الحياة على العموم كما جاء في قوله تعالى (فاذا جاء وعد الآخرة …) الآخرة هنا ليست في القيامة
الآخرة في سورة الضحى جاءت مقابل الاولى ولم تأت مقابل الدنيا فلم يقل وللآخرة خير لك من الدنيا. ومعنى الآية ان ما يأتي خير لك ايها الرسول r مما مضى اي من الآن فصاعداً فيما يستقبل من عمرك هو خير لك من الاولى وأكد ذلك باللام في كلمة وللآخرة. وقد حصل هذا بالفعل فكل ما استقبل من حياته r خير له مما حصل .
لأنه لو قالها لما صحت إلا في الآخرة فكأنما حصر الخير في الآخرة فقط ونفى حصول الخير فيما يستقبل من حياته r وهذه الآية توكيد لما سبقها في قوله تعالى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى(لك) ولم يقل وللآخرة خير من الاولى؟ هذه السورة وسورة الشرح هما خاصتان بالرسول r وهو المخاطب المباشر بهما ولو قال تعالى وللآخرة خير من الاولى لما صح هذا القول لانه سيكون عاما للناس جميعا وهذا ما لا يحصل وعندها ستفيد الاطلاق ولا يصح على عمومه لان بعض الناس آخرتهم شر لهم من اولاهم ولا يصح هذا الكلام على اطلاقه انما لا بد من ان يخصص المعنى وهو للرسول الكريم r بالذات ولهذا قال تعالى (وللآخرة خير لك من الاولى)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى
(ولسوف) واكده بنفس التوكيد باللام في (وللآخرة)
ولسوف يعطيك ربك فترضى؟ لقد اطلق سبحانه العطاء ولم يحدده انما شمل هذا العطاء كل شيء ولم يخصصه بشيء معين اكراماً للرسول الكريم r وتوسيعاً للعطاء وكذلك اطلق فعل الرضى كما اطلق العطاء فجعل العطاء عاماً وجعل الرضى عاماً وذكر المعطي ايضاً وهو الرب وعلينا ان نتخيل كيف يكون عطاء الرب؟ والعطاء على قدر المعطي وهذا كله فيه تكريم للرسول كذلك في اضافة ضمير الخطاب (الكاف في ربك) تكريم آخر للرسول r
(فترضى) اختيار هذه الكلمة بالذات في غاية الاهمية فالرضى هو من اجل النعم على الانسان وهو اساساً الاستقرار والطمأنينة وراحة البال فإن فقد الرضى حلت الهموم والشقاء ودواعي النكد على الانسان. وان فقد في جانب من جوانب الحياة فقد استقراره بقدر ذلك الجانب ولذا جعل الله تعالى الرضى صفة أهل الجنة (فهو في عيشة راضية) (فارجعي الى ربك راضية مرضية). وعدم الرضى يؤدي الى الضغط النفسي واليأس وقد يؤدي الى الانتحار. والتعب مع الرضى راحة والراحة من دونه نكد وتعب، والفقر مع الرضى غنى والغنى من دونه فقر، والحرمان معه عطاء والعطاء من دونه حرمان. لذا فان اختيار الرضى هو اختيار نعمة من اجل النعم ولها دلالتها في الحياة عامة وليست خاصة بالرسول r الكريم r فاذا رضي الانسان ارتاح وهدأ باله وسكن وان لم يرض حل معه التعب والنكد والهموم والقلق مع كل ما أوتي من وسائل الراحة والاستقرار.
يعطيك ولم يقل يؤتيك؟
r u (هذا عطاؤنا فامنن او امسك بغير حساب) اي له الحق بالتصرف فيه كما يشاء.
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8)
(ما ودعك ربك وما قلى) (وللآخرة خير لك من الاولى) ومرتبطة ايضاً بالقسم في اول السورة (والضحى والليل اذا سجى) والآية (الم يجدك يتيماً فآوى) تؤكد ان ربه لم يودعه ولم يقله وكذلك في وجدك ضالاً فهدى وهي كلها تصب في ( وللآخرة خير لك من الاولى) فالإيواء خير من اليتم والهداية خير من الضلالة والاغناء خير من العيلة فكلها مرتبطة بالآية (ما ودعك ربك وما قلى) وتؤكد معناها.
وللآخرة خير لك من الاولىr ليتمه او لحاجته او للضلال هذا من ناحية ومن ناحية اخرى هي مرتبطة بالقسم فقد اقسم الله تعالى بالضحى والليل وما سجى واليتم ظلمة والايواء هو النور وكذلك الضلال ظلمة والهدى نور (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور والذين كفروا اوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات) سورة البقرة، والحاجة والعيلة ظلمة ايضاً والغنى نور وبهجة.
ربك في هذه السورة؟ الرب معناه انه هو المعلم والمربي والمرشد والقيم وكل آيات السورة مرتبطة بكلمة الرب (الم يجدك يتيماً فآوى….) اليتيم يحتاج لمن يقوم بامره ويرعاه ويعلمه ويوجهه ويصلح حاله وهذه من مهام الرب واليتيم يحتاج هذه الصفات في الرب اولاً ثم ان الضال يحتاج لمن يهديه والرب هو الهادي والعائل ايضاً يحتاج لمن يقوم على امره ويصلحه ويرزقه فكلمة الرب تناسب كل هذه الاشياء وترتبط بها ارتباطاً اساسياً.
مثلما حذف في فعل قلى؟ ذكر المفسرون هنا عدة آراء منها ان الحذف هو لظهور المراد لانه تعالى كان يخاطب الرسول r والمعنى واضح. وقسم قال انها مراعاة لفواصل الآيات حتى لا يقال آواك وأغناك وهداك فتختلف عن فواصل باقي الآيات ولكن كما سبق آنفاً قلنا ان القرآن الكريم لا يراعي الفاصلة على حساب المعنى مطلقاً وهي قاعدة عامة في القرآن: المعنى اولا ثم الفاصلة القرآنية ومثال ذلك الآية في سورة طه (الهكم واله موسى فنسي) وكانت الفاصلة في باقي السورة مختلفة وعليه فان الحذف هنا جاء للإطلاق والدلالة على سعة الكرم. فآوى بمعنى فآواك وآوى لك وآوى بك وأغناك واغنى لك واغنى بك وهداك وهدى لك وهدى بك. فلو قال سبحانه وتعالى فوجدك عائلا فاغناك لكان الغنى محصوراً بالرسول r فقط لكن عندما افاد الاطلاق دل ذلك على انه سبحانه اغنى رسوله واغنى به وبتعليماته فيما خص الانفاق وغيره خلقاً كثيراً واغنى له خلقاً كثيراً وكذلك آوى الرسول r وآوى به خلقا كثيراً بتعاليمه الكثيرين وتعاليمه كانت تحض على رعاية اليتامى وحسن معاملتهم واللطف بهم وآوى لاجله الكثير من الناس لان من الناس من يؤوى اليتامى حبا برسول الله وطمعا في صحبة الرسول r (ولسوف يعطيك ربك فترضى). فالحذف هنا جاء للعموم والاطلاق في المعنى.
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
القهر في اللغة هو التسلط بما يؤذي ولا تقهره بمعنى لا تظلمه بتضييع حقه ولا تتسلط عليه او لا تحتقره او تغلب على ماله.كل هذه المعاني تدخل تحت كلمة القهر.
السائل اختلف المفسرون فيها فقال بعضهم هو سائل المال والمعروف والصدقة ومنهم من قال انه سائل العلم والدين والمعرفة وقسم قال انه مطلق ويشمل المعنيين. فسواء كان السائل سائل مال وصدقة او سائل علم ومعرفة يجب ان لا ينهر مهما كان سؤاله. لا يصح ان يزجز او ينهر سائل المال او سائل العلم والدين. اذا كان سائل مال اعطيناه او رددناه بالحسنى وسائل العلم علينا ان نجيبه ونعلمه امور الدين.
النعمة فقال بعض المفسرين انها النبوة وتعاليمها وقال آخرون انها كل ما اصاب الانسان من خير سواء كان في الدنيا او الآخرة. وقال آخرون انها نعمة الدين (اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) (ما انت بنعمة ربك بمجنون) والواقع ان النعمة هنا ايضاً تشمل كل هذه المعاني فهي نعمة الدين يجب ان يتحدث بها ويبلغ عنها وهي نعمة الدنيا والله سبحانه يحب ان يرى اثر نعمته على عباده وان يتحدث الانسان بنعم الله عليه وان يظهرها والنعمة عامة في الدنيا والدين وعلى الانسان ان يحدث بهذه النعمة. (النعمة بفتح النون وردت في القرآن بمعنى العقوبات والسوء كما في قوله (ونعمة كانوا فيها فاكهين) (الكافرين اولي النعمة)
(فحدث) ولم يقل (فأخبر)؟
r فالرسول r الكريم يخبر بالحديث ثم يتناقله الصحابة فيما بينهم ويستمر تناقل الحديث حتى يعم وينتشر.
فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث.
(الم يجدك يتيما فآوى، ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلاً فأغنى).
(ألم يجدك يتيما فآوى) نفس النسق.
(ووجدك عائلا فأغنى) لكنها جاءت في مقابل الآية (ووجدك ضالاً فهدى)
واما بنعمة ربك فحدث(ووجدك ضالاً فهدى)
(واما السائل فلا تنهر) قلنا سابقا ان السائل يشمل سائل العلم والمال وهنا اخذ بعين الاعتبار السائل عن المال والسائل عن العلم فهي اذن تكون مقابل (ووجدك ضالاً فهدى) وايضاً (ووجدك عائلا فاغنى) لان السائل عن المال يجب ان لا ينهر والسائل عن العلم يجب ان لا ينهر ايضاً وعليه فان الآية جاءت في المكان المناسب لتشمل الحالتين ومرتبطة بالاثنين تماما.
واما بنعمة ربك فحدثr فاقتضى السياق ان يكون التحدث بالنعمة آخراً اي بعد حدوث كل النعم على الرسول r(واما بنعمة ربك فحدث) جاءت بعد ( واما السائل فلا تنهر) لان كل داعية يتعرض لاسئلة محرجة احيانا تكون لغاية الفهم وقد تكون لنوايا مختلفة فعليه ان يتسع صدره للسائل مهما كانت نية السائل او قصده من السؤال وعلى الداعية ان لا يستثار والا فشل في دعوته وقد يكون هذا هو قصد السائل اصلاً
BBBBBBBBBBB