مقاصد السور
د. محمد عبد العزيز الخضيري
تفريغ موقع إسلاميات حصريًا
سورة القصص والعنكبوت
إطلالة على هذه السورة الكريمة سورة القصص. وهذه السورة سورة القصص هي الأخيرة من سور الطواسين والطواسين هي ثلاث سور الشعراء والنمل والقصص وقد ذكر المفسرون أنها نزلت متوالية يعني الشعراء ثم النمل ثم القصص. وفي سورة القصص واضح جدًا أن فيها بيان نصرة الله للمستضعفين ومكر الله بالمتكبرين وكيف أن الله عز وجلّ يديل هؤلاء المستضعفين إذا كانوا من المؤمنين على أولئك المستكبرين إذا كانوا من الكافرين. في أولها (طسم ﴿١﴾ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿٢﴾ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿٣﴾ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴿٤﴾) بهذا العمل الذي عمله كان من المفسدين في الأرض. ما الذي دعا فرعون إلى التذبيح؟ يقال إن كاهنًا قال له إنه سيخرج من أمة بني إسرائيل المقيمة عندكم والذين كانوا يستعملون في السخرة والأعمال التي يحتاجها القبط في مصر سيخرج من بينهم رجل يكون ذهاب ملكك على يديه فأمر فرعون بأن يقتل الأبناء، ما يأتي ابن إلا ويقتل، فاستحرّ القتل في بني إسرائيل فاشتكى القبط قالوا إذا قتلتهم من ليل الخدمة فيما بعد فتدبر الأمر مع وزرائه واهتدى أن يقتل في سنة ويبقي في سنة فكان هارون ممن ولد في السنة التي يبقي فيها الأولاد وكان موسى ولد في السنة التي يذبح فيها الأولاد ولذلك خشيت أم موسى على موسى خشية عظيمة خصوصًا وأن الله عز وجلّ جعل لموسى مزية (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه: 39] ما رآه أحد إلا أحبه فكانت أمه قد تعلقت تعلق الأم بوليدها إضافة إلى محبة زائدة جعلها الله عز وجلّ لموسى لم يجعلها لغيره فكانت تخفيه من الذباحين وكان من حيلها في إخفائه أنها جعلته في تابوت وجعلته في اليم فإذا جاء الذباحون يبحثون عن الصبيان الذين ولدوا وضعته في التابوت ومدته في اليمّ من خلف البيت وكانت تفعل هذا مرارًا حتى إذا جاءت إحدى المرات انطلق التابوت في البحر وانفلت من الحبل ويذهب للبيت الذي كان يبحث عنه ليقتله، إذا جاء أمر الله لا راد له لا غالب لأمره ولا معقّب لحكمه، يريد الله أن ينقض ملكك سينقضه، فيأتي موسى يتهادى في تابوته حتى وصل إلى قصر فرعون وكان قصر فرعون على شفير النيل فأخذته الجواري ونظروا فإذا طفل في تابوت فجاؤوا به إلى امرأة فرعون فألقى الله محبته في قلبها فقالت إني أريد أن أتخذه ابنا ولذلك قال الله عز وجلّ (وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) ويقال أنه قال أما لك فنعم وأما لي فلا، (لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) انظر كيف إذا أراد الله أمرا وقدّره هيأ له أسبابًا لا تدخل ضمن تصورات البشر، كيف هذا الابن الصغير ينفلت ويذهب إلى العدو الذي كان يذبح الناس كلهم لأجله وكأن الله عز وجلّ يقول له: لن يربى هذا الإبن إلا في بيتك وتحت عينك ومن مالك ثم يكون هلاكك على يده، طبعًا هذا قول في قصة الذبح هل هي بسبب كاهن، قيل بسبب رؤيا وقيل أنه سمع بها من بني إسرائيل عن إبراهيم عليه السلام مما نقلوه من صحف إبراهيم أن بني إسرائيل سيكون لهم هذا الأمر إذا ذهبوا إلى مصر، والله أعلم ما السبب الذي دعا فرعون لذبح الناس بهذه الطريقة لكنه طغى وبغى وفعل شيئا لم يفعله أحد قبله وهو ذبح الأطفال الصغار بحجة أنه يخشى منهم إذا كبروا. فالله عز وجلّ يقول معقبا (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴿٥﴾ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴿٦﴾) الله أكبر! كأن هذه رسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستضعف بمكة يا محمد أنت الآن في حال من الضعف والضيق والاضطهاد والقلة والذلة لكن التمكين قادم ويؤكد هذا المعنى أنه في آخر السورة قال (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) قوله لرادك إلى معاد قال المفسرون لرادك إلى مكة التي خرجت منها كما أن الله مكن لموسى سيحصل أن الله يمكن لك حتى إن هؤلاء الذين سيخرجونك ستعود إليهم فاتحا قويا منتصرا فاثبت على دينك ولا يغرنك هؤلاء ويدعونك إلى شيء مما يريدونه منك. وقصة موسى في هذه السورة جاءت بشيء لم تأتي به أي سورة أخرى من مشاهد قصة موسى عليه السلام فقضية ماذا فعلت أمه وكيف وصل إلى بيت فرعون وكيف رجع إلى بيت أم موسى هذه لم ترد إلا في هذه القصة، وردت إشارة يسيرة لها في سورة طه وهنا جاءت التفاصيل ومن عجائب هذه التفاصيل أن الله قال (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي) لا تتخوفي من أمر المستقبل ولا تحزني على أمر فائت، لا تقلقي فإنه في معية الله (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) سنرده إليك ونجعله رسولا (فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴿٨﴾) وليسوا مخطيئن لأن المخطئ من يفعل الذنب عن غير قصد. (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١٠﴾ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) فارغا أي قد خلا من كل شيء إلا من ذكر موسى ما تفكر في شيء في هذه الدنيا كلها إلا في موسى: ماذا حصل له؟ اين هو؟ ماذا صنع الله به؟ قال الله عز وجلّ (إن كادت) من شدة تعلقها وتفكيرها به (لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١٠﴾ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) قالت لأخته تتبعي أثره (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) أي عن بعد (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) هم لا يرون أنها تبحث عنه. ومن عجيب صنع الله أنه حرّم عليه المراضع جاؤوا له بالمراضع وهو يبكي يريد الحليب قالوا اعرضوه على الناس ذهبوا به إلى السوق من عنده مرضع فليأت بها جاء الناس يريدون القرب من فرعون وخدمته، عشرين من المراضع أغلق الله فمه عنهن جميعا (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) فجاءت أخت موسى فقالت (فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) قالوا ما يدريك عن هذا؟ قالت إنهم يرغبون في خدمة الملك، فتخلصت منهم بحيلة فقالوا هات هذه المرضع فنادت أمها فجاءت فلما لقمته ثديها أخذ يرضع فقالوا انتقلي معنا إلى قصر فرعون فقالت عندي صبيان وزوج لا أستطيع أن أترك بيتي فلو أنكم جعلتم الصبي عندي لرعيته لكم وقمت بحقه وهذا من حق الملك علينا فقالوا يبقى عندك ويجري الأجر لك وأنت في بيتك. قبل ساعات كانت في أشد الخوف وما تدري ماذا سيكون مصير ابنها وفي هذه اللحظة أمان، ابنها عندها ورزق وجاه، الآن هي مرضعة ابن الملك كل من عنده مشكلة جاءها وقال يا فلانة توسطي لنا عند فرعون يصنعون لنا كذا. انظر تدبير المرأة أنها وضعته في تابوت تمده قليلا وترده وترضعه وهي خائفة عليها وتدبير الله مختلف تماما ينطلق إلى الخوف الذي يظن أنه هلاك يعود سالما ناجيا غانما مباركا على أهله وقد حصل له الأمن ولأهله المال والجاه، أيّ تدبير هذا؟! هذا ما يكون إلا عند الله سبحانه وتعالى جل في علاه. قال الله عز وجلّ (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿١٣﴾ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿١٤﴾) اكتمل. قال الله (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) هو أصلا يعيش في بيت فرعون وكان بيت فرعون على عادة الملوك في ناحية المدينة فدخل موسى وهو صاحب الجاه والمنزلة يتمشى في الشوارع فوجد رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من القبط (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) موسى كان قويًا جلدًا أضف إلى ما في قلبه من العداوة والبغض لهؤلاء القبط الذين كانوا كفارا بالله عز وجلّ (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ﴿١٥﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿١٦﴾) استغفر في نفس اللحظة وهذا ما يجب على الإنسان إذا وقع في الذنب والمعصية أن لا يؤجل الاستغفار إلى وقت آخر. (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ﴿١٧﴾) لن أعين مجرمًا وهذا العهد أُكد في آخر السورة لكن على لسان النبي صلى الله عليه وسلم (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ﴿٨٦﴾ القصص) لا تكن معينا لهم. (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ) لأنه قتل قبطيا (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) الذي استعان به بالأمس استعان يقول يا موسى هذا آخر يريد أن يؤذيني (قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) قال القبطي يا موسى أتريد أن تقتلني أو قال الإسرائيلي الذي لما جاء موسى وهو غاضب عليه يقول ما لك أنت تريد أن تفتح علينا باب شر ظن الإسرائيلي أنه سيقتله كما قتلت القبطي بالأمس فهو الذي أفشى الشر وكشف المستور (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴿١٩﴾) بعد ذلك علم موسى أن القوم يخططون لقتله فخرج فارًّا من غير أن يكون مستعدا إلى جزيرة العرب فخرج من مصر ومشى وصل رأس العقبة سيناء إلى أرض مدين وهي منطقة حقل وما حولها وفيها بعث النبي شعيب وكان متقدما جدا وليس في عهد موسى عليه السلام. (عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) انظروا الاستعانة بالله أول ما خرج قال (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ولما توجه تلقاء مدين قال (عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ).
(وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) جماعة من الناس (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ) تذودان أغنامهما لئلا تختلط بأغنام الناس قال ما شأنكما تنحيتما بعيدا؟ (قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) حتى يذهب الناس والرعاة لأنه لا طاقة لنا بمزاحمتهما كوننا ضعيفتين وكوننا امرأتين (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) الذي حملنا على أن نتولى هذه المهمة أن أبانا شيخ كبير وإلا فالأصل أننا لا نقوم بهذا الدور الذي يقوم به الرجال. ومن دون مقدمات قدم موسى الخير لهما مباشرة (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) وسأل الله ولم يسأل الفتاتين (فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) فجاءت الإجابة من الله مباشرة (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) كأنها من شدة الاستحياء قد ركبت عليه. (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هذه المنطقة لا تقع تحت حكم فرعون. (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴿٢٦﴾) يقال أنه قيل لها كيف عرفت أنه القوي الأمين؟ قالت أما قوته فكونه كشف غطاء البئر وحده وسقى لهما وأما أمانته فلما ذهبت إليه وأردت أن أدله على البيت قال امشِ ورائي ولا تمشي أمامي فإني رجل عبراني لا أنظر إلى أدبار النساء فكانت تدله على بيت أهلها بالصوت (لف يمين، لف يسار) وما تقدمت عليه من أجل أن تدله على البيت، هو الآن في حال معذور لو لم يفعل شيئا من ذلك لكن هذه هي التقوى التي تلازم الإنسان وتصاحبه في كل أحواله. قال (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) يقول هذا الشيخ الكبير، من هو هذا الشيخ؟ كثير من الناس يقول هذا شعيب ، هذا غير صحيح ولا يمكن لأن شعيب متقدم جدا، شعيب جاء بعد لوط بعد إبراهيم عليه السلام والآن زمن موسى يعني بعد مئات السنين، لا يمكن أن يكون شعيب، إنما هو رجل صالح في مدين والذي جعل الناس يقولون أنه شعيب أنه من مدين لكن ليس كل صالح في مدين هو شعيب! مدين فيها أناس آخرين صالحين ولو كان شعيب لصرّح الله به لأن هذا شرف له وشرف لموسى أن يكون صهرا لنبي ولم يذكر أن موسى تزوج ابنة نبي وإنما تزوج ابنة هذا الرجل الصالح الذي قال ابن عباس أن اسمه يثرون وقيل يثرى ولم يروى أنه شعيب إلا عن الحسن ثم اشتهر عند المتأخرين والصحيح أنه ليس شعيبا ولا ينبغي أن يكون شعيبا. المهر ثمان سنوات قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿٢٧﴾) البعض قد يقول هذا مهر غالي يشتغل ثماني عشر سنوات فقط لأجل أن يتزوج ابنته! هذا ليس زواجًا فقط، هذا سكن، كفالة كاملة وموسى في خفارة شعيب وذمته فهو لا يستطيع البقاء في مدين وهو غريب عنهم، فقد يؤسر وقد يُسترق ولكن كونه في حمى هذا الرجل الصالح جعل هذا المهر أضف إلى ذلك أن النساء ترتفع مهورهن وتنخفض بحسب كثرتهن وقلتهن بحسب العرض والطلب، إذا قل عددهن ارتفعت مهورهن وإذا كثر النساء صار الناس يريدون تزويج بناتهن بأي ثمن. (قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴿٢٨﴾ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ) لا يليق بموسى إلا أن يقضي عشر سنوات لأنه كامل الأخلاق عظيم المروءة فلا يليق به إلا الفعل الطيب والإحسان الذي يحبه الله من عباده المحسنين.
ثم جاءت قصة تكليف موسى بالرسالة وما وراء ذلك إلى آخر السورة حيث ذكر الله فيها قصة أخرى في نفس الموضوع العلو في الأرض وذهاب هؤلاء المستكبرين (إِنَّ قَارُونَ) أولئك من القبط وقارون من بي إسرائيل ليس من القبط، وقارون آتاه الله مالًا عظيما حتى ذكر الله (وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) لو هناك عصبة من الرجال أصحاب قوة يثقل عليهم حمل مفاتيح خزائن قارون، المفاتيح فقط حملها يثقل على العصبة أولو القوة من كثرة ماله. هذا المال الكثير أصابه بالطغيان والجبروت حتى إنه قال (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) هذا بذكائي وتخطيطي وحسن تدبري (أ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴿٧٨﴾ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿٧٩﴾) يا أيها المسلمون المستضعفون في مكة لا يغرنّكم ما عليه الكفار من ملك ونعيم وتمكن وملك وسلطان فالله عز وجلّ قريبا ما يعذبهم ويسلبهم النعمة قال الله عز وجلّ (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴿٨٠﴾ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ﴿٨١﴾ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴿٨٢﴾ تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿٨٣﴾). السورة تدور حول تمكين المستضعفين من المؤمنين وإهلاك المستكبرين حتى ولو كانت أصولهم إسلامية يهلكهم الله، هذا ما تدور حوله سورة القصص ولذلك هي سورة عظيمة ومعبرة عن هذا المعنى بوضوح.
سورة العنكبوت
ننتقل إلى سورة العنكبوت. سورة العنكبوت سميت بذلك لأن الله عز وجلّ ذكر فيها هذه الحشرة وهي العنكبوت وافتتحت بقوله (الم ﴿١﴾ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ﴿٢﴾) هذه الافتتاحية مغايرة لافتتاحيات كل السور الـ 29 التي افتتحها الله بالحروف المقطعة، الغالب أنه إذا افتتحت سورة بالحروف المقطعة أن يُذكر بعدها القرآن (الم ذلك الكتاب) (ص والقرآن ذي الذكر) هنا ما جاء ذكر القرآن لا في هذه السورة ولا في سورة الروم فهما مستثنيتان من السور الـ 29 التي افتتحت بالحروف المقطعة من سور القرآن.
تتحدث هذه السورة أن هذا الدين بعقائده وشرائعه لا يأخذه إنسان إلا ولا بد أن يبتلى لينظر الله من هو الصادق في أخذه ومن هو الكاذب وأن المسألة ليست هينة لن يكون تمكين إلا بصبر ولا يكون صبر إلا أن يكون ببلاء. قال الله عز وجلّ (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ﴿٢﴾) وذكر الله عز وجلّ أن (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) يرى أن العذاب الذي يأتيه أو الطرد والإبعاد أو الهجرة من بلده أو أخذ ماله أو حبسه مثل عذاب الله لذلك مستعد أن يضحي بهذا الدين قال الله عز وجلّ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴿١٠﴾ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ﴿١١﴾).
ثم ذكر قصة نوح وقصة إبراهيم وقصة لوط ثم عرّج على بعض الأمم التي ذكرت كيف أن الله ابتلاهم وفتنهم، في قصة نوح (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴿١٤﴾) وهو صابر يدعو ويجاهد ويرابط، اصبر أنت يا عبد الله، مهما صبرت لن تبلغ عشر معشار ما حصل لنوح من الأذى والشدّة وطول الزمان.
ثم ختمت السورة ببيان أن من صبر وصابر فإن الله لا بد أن يمكّنه ويهديه قال الله عز وجلّ (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴿٥٦﴾ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴿٥٧﴾ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴿٥٨﴾ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿٥٩﴾) ثم في آخر السورة قال الله عز وجلّ (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴿٦٩﴾) فعلينا أن نجاهد ونثبت ونصبر ليهدينا الله عز وجلّ الطريق الأقوم والسبيل الهادي وإن الله لمع المحسنين.