التعريف بسور القرآن الكريم

التعريف بسور المصحف الشريف – سورة البقرة – الشيخ محمد نصيف

التعريف بسورة البقرة

http://www.youtube.com/watch?v=hXKDVXNBgII

سورة البقرة من السور التي تميزت بأمور كثيرة عن غيرها من السور ولا شك أن أعظم سورة في القرآن هي سورة الفاتحة كما مرّ معنا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولكن من أكثر السور فضائل بعد سورة الفاتحة هي سورة البقرة فضائلها كثيرة وعناية الصحابة بها شديدة يكفينا أن نعرف أن عبد الله ابن عمر رضي الله عنه وعن أبيه قد ثبت عنه بسند حسن أنه ظل يتعلم سورة البقرة أربع سنوات وهو عربي يفهم الكلام العربي وهو صحابي يعرف ملابسات النزول غالباً وهو من أشد الصحابة اتباعاً للسنة فيعرف التطبيق العملي للقرآن من النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك يحتاج إلى أربع سنوات كي يتعلم سورة البقرة ولو حسبناها وقسمناها نجد أنه تقريباً يدرس في الأسبوع ربع صفحة وهذا بمقاييس من لا يقيسون الأمور إلا بظاهرها طالب غير مجتهد، لو طالب ينهي سورة البقرة في حلقة تحفيظ في أربع سنوات يمكن أن يُطرد من الحلقة لكن بمقياس من يعرف أن القرآن ليس مجرد حروف تُحفظ وإنما هو عمل وتطبيق في الحياة بجميع أنحائها يختلف الأمر فيمضي فيها ابن عمر أربع سنوات وورد أيضاً أنه أو أباه أمضى فيها ثماني سنوات لكن الثابت أنه أمضى فيها أربع سنوات في تعلم سورة البقرة ونحن في مجلس واحد نلخص شيئاً من معانيها وإلا فأمرها كبير.

يسميها عبد الله بن مسعود سنام القرآن وسنام الشيء أعلاه كما قالوا وهذا يشعر بعظمتها. وبعض العلماء لاحظ أن السنام هو مكان تخزين عند الجمل وسنام القرآن معناه أن معاني القرآن في أكثرها موجودة في هذه السورة وثبت عن بعض السلف أنه كان يسميها فسطاط القرآن والفسطاط هو المدينة التي يجتمع فيها الناس كل مدينة تسمى فسطاطاً فسماها فسطاط القرآن لكثرة ما فيها من أحكام ولعظمها وبهائها. وبالفعل هذه السورة اشتملت على أكثر أحكام الشريعة بالإضافة إلى أنها استمرت تنزل فترة طويلة، وسور القرآن بعضها ينزل دفعة واحدة وهذا غالباً يكون في السور القصار وبعضها ينزل متفرقاً وهذا كثير من السور لكن سورة البقرة ظلت تنزل لعشر سنوات وهذه مدة طويلة جداً لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سكن المدينة المنورة بدأت تنزل عليه سورة البقرة هي أول سورة نزلت في المدينة وظلت تنزل عليه حتى كانت آخر آية من القرآن من سورة البقرة وهي قوله تعالى (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281)) هذه الآية هي آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم على الراجح من الأقوال لأن الأقوال في تحديد آخر آية متعدد. إذن عشر سنوات والقرآن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة. والسور لا يتشرط أن تنزل آياتها متتابعة مرتبة وإنما تنزل آية قد تكون في أول السورة قد تنزل بعد آية في آخر السورة والذي يحدد لهم وضع الآية هو النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم ضعوا هذه الآية في مكان كذا.

هذه السورة التي استمرت هذه الفترة اهتم بها الصحابة اهتماماً شديداً جداً لأنها عشر سنوات وهي تربيهم. وقد جاءت فيها أسباب نزول كثيرة جداً أكثر من اي سورة تقريباً وكلما حدث شيء من الصحابة أو موقف من اليهود أو نحو ذلك تنزل الآيات لتربي الصحابة. تخيل أمراً يحدث بينك وبين شخص تأتي مباشرة آية تتكلم، هذا يزيد من يقين الصحابة ويزيد من مراقبتهم لله سبحانه وتعالى هنيئاً لهم ما كانوا فيه ونسأل الله أن يحشرنا في زمرتهم. النبي صلى الله عليه وسلم كأنه لاحظ هذه العناية من الصحابة فلما كانت غزوة حنين وكانت غزوة كما وصف الله سبحانه وتعالى (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) التوبة) كانت بعد فتح مكة مباشرة والمسلمون في قوة فأعجبت المؤمنين كثرتهم ففاجاءهم العدو فتفرق الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خائفين وبقي معه عدد قليل وكان ممن بقي معه صلى الله عليه وسلم عمه العباس وكان العباس صاحب صوت قوي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا عباس نادِ وأمره بأكثر من نداء وكان مما نادى به العباس بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: يا أصحاب سورة البقرة وأنت لا تقل لأحد يا صاحب كذا إلا بعد أن يكون بينه وبين هذا الشيء علاقة، يا صاحب العلم، يا صاحب التجارة،  بحسب ما مال إليه وتعلق به ولازمه وصاحبه. فالصحابة يناديهم قائدهم ومربيهم ومعلّمهم صلى الله عليه وسلم يا أصحاب سورة البقرة وغزوة حنين متأخرة وهذا يدل على شدة عناية الصحابة بهذه السورة العظيمة.

بدأت السورة بالحروف التي بدأت بها 29 سورة الحروف التي يسمهيا العلماء الحروف المقطعة لا تصاغ منها كلمات وإنما تتهجى أل لام ميم (الم) هكذا بدأت سورة البقرة وبدأت عدة سورة بنفس هذه البداية: البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، والسجدة هذه كلها تبدأ بـ (الم) ولذلك يسميها بعض العلماء باللواميم لأنها تبدأ بـ (الم) وهذا البدء كما هو القول الأشهر خاصة عند المتأخرين من المفسرين هذا البدء تنبيه على ما تكوّن منه القرآن، القرآن معجز، القرآن تسمعه فتبكي، تسمعه فتستبشر، تسمعه فتخاف، وتقرؤه كذلك وهو يتكون من الحروف التي تتكلم بها صباحاً ومساء فلا تؤثر فيك هذا التأثير العجيب الموجود في القرآن بل إن بعض الناس من غير العرب سمعوا القرآن لا يفهمون منه شيئاً ولم يكونوا من المسلمين فاهتدوا وأسلموا بتأثير هذا القرآن وهو كلام الله سبحانه وتعالى. فبدأت سور كثيرة بهذه الحروف تنبّه أن ما ستسمعونه مكون من هذه الحروف لكنكم لا تستطيعون الإتيان بمثله مهما حاولتم ولكنه كلام الرب سبحانه وتعالى. ولذلك في الغالب في هذه السور التي تبدأ بالحروف المقطعة سواء (الم) أو غيرها أنها تثني بمدح القرآن والثناء عليه وبيان عظمته منها سورة البقرة (الم ﴿١﴾ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ﴿٢﴾) هذا الثناء غالباً يعقب ذكر الحروف المقطعة وهذا متناسب مع الهدف من ذكرها على ما رُجّح وإلا فالأقوال فيها تجاوزت العشرين قولاً في معنى (الم) وما شابهها من الحروف التي في بداية السور.

هذه السورة اسمها المشهور والمعروف سورة البقرة وجاءت هذه التسمية من القصة المعروفة في السورة وهذه القصة لا تمثل السورة كلها ولا تمثل نصفها ولا ربعها، قصة البقرة حوالي صفحة فلماذا سميت بهذه التسمية؟ هذه القصة مناسبة جداً لموضوع السورة ولغرض من أهم أغراضها لأن هذه السورة التي استمرت تنزل عشر سنوات تربي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جاءت لتكوين أول وأقوى دولة إسلامية يقودها النبي صلى الله عليه وسلم أعظم دولة ولا يمكن للتاريخ أن يتكرر فيه مثل هذا الأمر، النبي صلى الله عليه وسلم وحوله أصحابه يعملون بأمر الله يخطئ منهم من يخطئ فيسارع إلى التوبة ويعيشون حياة لا حياة مثلها. فهذه السورة جاءت تربيهم وتعلمهم وجاءت فيها كثير من الأحكام الشرعية لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان في مكان كان ينزل عليه القرآن غالباً بالعقيدة وإثبات البعث ونحو ذلك ولما سكن النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بدأت تنزل الأحكام فمعظم الأحكام كانت في المدينة وهذه الأحكام قد تأتي موافقة لما يريد الإنسان ولكنها غالباً قد تخالف أهواء بعض الناس فجاءت هذه القصة لتبين لنا حال من سبقنا ممن شرفهم الله وفضلهم على العالمين وهو بنو إسرائيل تبين حالهم مع بعض الأحكام التي وجهت إليهم (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً (67)) تخيل هذا الموقف!! يأتيهم الأمر من رسول الله أن الله يأمرهم (قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً) قال (قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) ومن الجهل ولا شك أن يقال أمر الله ثم تكون المألة هزؤ واستهزاء. الاستهزاء يختلف عن المزح قد تمازح إنساناً دون احتقار له أما الاستهزاء فمزاح فيه نوع من الاحتقار كيف يصدر هذا عن نبي ثم تأتي القصة كما هو معروف ويقولون له (ادع لنا ربك) ويطلبون التفاصيل قال الله سبحانه وتعالى في منتصف القصة (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ (71)) فهم متلكئون مترددون في تنفيذ أوامر الله فجاءت هذه القصة لتبين حالهم كما جاءت لتحذر من السير في طريقهم.

هذه السورة جاءت تقيم دولة الإسلام وفيها أمران أساسيان كما ذكر بعض أهل التفسير قال معظم أغراضها ينقسم إلى قسمين:

  • قسم يثبت سمو هذا الدين على ما سبقه
  • وقسم يبين شرائع هذا الدين لأتباعه.

فهناك قسم يبين أن هذا الدين هو أفضل دين، أفضل من كل ما سبقه وقسم يبين شرائع هذا الدين وهذا من الحكمة أن تعرف قيمة ما عندك وأنه أعظم من كل شيء وأن تعرف كل شيء ثم تأتيك الأوامر وأنت فرح بها مستبشر وهكذا سارت السورة  كما سيأتي.

إذا كانت سورة الفاتحة هي أم القرآن وفيها كل معاني القرآن بإجمال واختصار فسورة البقرة فيها تفصيل لذلك الإجمال، فسطاط القرآن، سنام القرآن، فيها التفصيل لأحكام الدين تجد كل ما سوى البقرة كما نبه بعض أهل العلم تفصيلاً لشيء في سورة البقرة أما معاني القرآن موجودة في سورة البقرة تفصيلاً بخلاف سورة الفاتحة فجاءت سورة البقرة بعد سورة الفاتحة مباشرة.

هذه السورة من فضائلها أن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وذكر صلى الله عليه وسلم أن أخذها بركة وتركها حسرة (الذي لا يقرأ ولا يتعلم ولا يحفظ سورة البقرة له نصيب من حسرة) قال وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة .أي السحرة لا يستطيعون وهذه السورة تمنعهم وهذا معروف عند من يمارس الرقى أن سورة البقرة لها تأثير على السحر.

هذه السورة تنقسم إلى خمسة أقسام: مقدمة وخاتمة وبينهما ثلاثة أقسام وهذا التقسيم للتقريب والتعليم وإلا فإن مثل هذه التقاسيم ليست مسألة قطعية وإنما هي من اجتهاد العلماء قد يقدّم بعضهم شيئاً أو يتوسع أكثر وإنما هي للتقريب والفهم.

أول سورة البقرة تجد فيها مقدمة واضحة وهذه باتفاق أهل العلم مقدمة تبين أصناف البشر:

المؤمنون المتقون قال (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ﴿٢﴾ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿٣﴾ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴿٤﴾ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٥﴾)، هذا قسم.

والقسم الثاني (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿٦﴾ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿٧﴾)، هذا القسم الثاني.

والغالب في السور أن الناس يقسمون إلى قسمين (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ (2) التغابن) هذا الغالب: الكفار والمؤمنون لكن هذه السورة نزلت عندما سكن الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة، في مكة كان الناس قسمين كفار ومؤمنون أما لما سكن المدينة صارت الأقسام ثلاثة: كفار ومؤمنون ومنافقون فذكرهم وفصّل فيهم، اختصر الكلام في صفة الكفار وصفة المتقين المؤمنين وأطال في ذكر المنافقين لأنهم عدو غير ظاهر يظهر لك الإيمان وهو يبطن غيره (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴿٨﴾ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿٩﴾) وفصّل فيهم لأنهم عدو خفي أما الكافر فعدو ظاهر يعرفه كل أحد. هذا التقسيم وكل تقسيمات القرآن عليه تقسيم لا ينبني على نوع ولا ينبني على نسب ولا ينبني على رتبة اجتماعية ولا ينبني على حالة مادية وإنما هو مبني على العقيدة قال الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) هذا تقسيم موجود لكنه تقسيم له غرض آخر (لِتَعَارَفُوا) والذي يحدد قيمة الإنسان قال بعدها مباشرة (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) الأحزاب) التقسيم الذي ينبني عليه الثواب والعقاب والتقريب والإبعاد والحب والبغض هو تقسيم العقيدة التقسيم الإلهي للبشر بناء على عقائدهم وما يستقر في قلوبهم نسأل الله أن يجعلنا من أهل التقوى.

بعد هذه المقدمة جاءت ثلاثة أقسام كلها تُبدأ بنداء، نادانا الله سبحانه وتعالى في هذه السورة بنداءات متعددة منها ثلاث نداءات تبدأ بها أقسام السورة.

النداء الأول (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿٢١﴾ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٢٢﴾) هذا أول تقسيم بعد تقسيم البشر، نداء لكل البشر (يا أيها الناس)

ثم ذكر نداء ثانياً في القسم الثاني هو قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿١٦٨﴾) نداء لكل البشر (يا أيها الناس) وأتبعه بعد آيات قليلة بقوله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴿١٧٢﴾)

والقسم الثالث والأخير من الأقسام بدأ بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿٢٠٨﴾)

ونقف وقفات يسيرة مع هذه النداءات الثلاثة:

النداء الأول (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿٢١﴾ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٢٢﴾) نلاحظ أن هذا النداء لحقه أمر ونهي وهذا الأمر هو أول أمر في القرآن وهو الأمر بعبادة الله وحده ومع هذا الأمر جاء نهي وهذا النهي يمكن أن يُفهم من الأمر ولكنه نصّ عليه قال (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا) هذا نهي عن الشرك. فأمرٌ بعبادة الله ونهي عن اتخاذ الأنداد مع الله سبحانه وتعالى (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وهذا يدل على أهمية هذين الأمرين وهما كذلك، هما أعظم شيء وهما سبب النجاة وهما اللذان من عمل بها لن يخلد في نار جهنم إن دخلها وهما من خالف فيهما أحد فإنه لا ينجو من النار بل يخلد فيها والعياذ بالله. وهذا القسم يدور حول التوحيد قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ثم قال (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ثم ذكر الله في هذا القسم نماذج لمن استجاب لأمر الله ولمن عصى أمر الله وكان النموذج الأكبر الذي كثر الكلام عنه في هذا القسم للمعرضين عن توحيد الله وعن عبادة الله هم بنو إسرائيل وهذا له عدة فوائد. بنو إسرائيل عندما سكن النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان يسكنها اليهود هم بنو إسرائيل وإسرائيل هو يعقوب جدّهم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فبنو إسرائيل جاءهم الوحي وجاءهم الدين وجاءهم الأنبياء الكُثُر وفضّلهم الله على عالم زمانهم قال في بداية ندائهم (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)) وقال قبلها (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)) وكان النداء كثيراً في الحديث معهم مع بيان مخازيهم وزللهم وسوء أفعالهم ومنه ما ذكر في قصة البقرة هذا جزء من مخازيهم ومخازيهم كثيرة وهم يساكنون الصحابة في المدينة. النبي صلى الله عليه وسلم عندما سكن في المدينة كان يتوجه في الصلاة إلى بيت المقدس وكان اليهود يفرحون بهذا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحاول موافقتهم لأنهم أهل الكتاب فهم أقرب إلى المسلمين من أهل الشرك، كان لا بد في هذه المرحلة من بيان حالهم الحقيقية لأنهم يقولون نحن أهل كتاب وأهل حق ويستشيرهم كفار مكة ماذا يصنعون مع محمد ويسألونهم هل نحن أفضل أم محمد صلى الله عليه وسلم؟ فكان لا بد من بيان حالهم خاصة أن كل ما نسمع ونقرأ في الآيات عن بني إسرائيل كان كما ذكر بعض أهل العلم تمهيداً لتحويل القبلة، النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس وظل يصلي إلى بيت المقدس إلى شهر رجب من السنة الثانية من الهجرة ثم حُوّلت القبلة وهذا قبل غزوة بدر التي كانت في رمضان في نفس السنة وكانت تمحيصاً للمؤمنين الآن المؤمنون يرون المشركون يتوجهون للكعبة ويتعلقون بها ويرون بني إسرئيل وهم أقرب إليهم يتوجهون إلى بيت المقدس فتحويل القبلة يحتاج إلى تمهيد فجاء هذا التمهيد يبين حال اليهود ثم يبين حال من استجاب لأمر الله وهو إبراهيم (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا (124)) كلمة إمامًا هنا ثم ذُكر بعدها بناء ابراهيم واسماعيل هذا كله تمهيد لتحويل القبلة. ابراهيم إمام وخلفه يكون المأمومون، إبراهيم يتوجه إلى الكعبة ومعه اسماعيل وهما يبنيان البيت يقولان (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿١٢٧﴾ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿١٢٨﴾ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿١٢٩﴾) وهو نبينا صلى الله عليه وسلم هذا التمهيد جاء بعده تحويل القبلة في القسم الأول من السورة.

أما القسم الثاني الذي بُدء بقوله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿١٦٨﴾) فقد اشتمل على أحكام كثيرة، اشتمل على أحكام الصيام وأحكام الحج وشيء من أحكام القتال إلى غير ذلك مما جاء فيه من الشرائع الظاهرة التي شُرعت أو أُكملت في المدينة. وفي نهاية القسم الأول ذُكر الحديث عن التوحيد والشرك كما بُدء به القسم قال الله سبحانه وتعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴿١٦٥﴾)

في القسم الثالث من السورة قال الله في مطلعه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208)) السلم هنا هو الإسلام ويستشهد بعض الناس بهذه الآية على السلام الدائم العادل الشامل بين البشر وهذا كلام ليس له علاقة بالآية! الآية تتكلم عن الدخول في أحكام الإسلام كله بعد أن ذكر أحكام الصيام وأحكام الحج وشيئاً من أحكام القتال وهذه أمور معروف أنها من الدين قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً) وذكر أحكاماً ربما تكون أصعب على النفوس وأشق في العمل منها أحكام الطلاق، بعض الناس يصلي ويصوم ويحج لكن إذا حصلت بينه وبين زوجه خصومة لم يراقب الله سبحانه وتعالى ويقول هذا شيء بيني وبين زوجتي في البيت! وذكر شيئاً آخر في هذا القسم أيضاً يصعب على الإنسان وهو الدرهم والدينار والتعامل المالي وأكل الربا لأن هذه أيضاً أمور صعبة على النفس فقد تجد الإنسان في أحسن حال فإذا عاملته بالدرهم والدينار وجدته شحيحاً وليس شحيحاً فحسب بل يكذب ويسرق ويغش لأجل أن يحصّل شيئاً من متاع الدنيا (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) التوبة) فهذا القسم ركز على هذه الأمور مع حثٍّ على الجهاد في سبيل الله.

وجاءت خاتمة السورة بعد المقدمة والأقسام الثلاثة: القسم الأول تمهيد بالتزهيد في حال اليهود والتوجيه إلى القبلة الصحيحة وذكر شيء من الأحكام والقسم الثاني فيه أحكام متعددة تفصيلية والقسم الثالث فيه أحكام قد تكون أدق وأصعب على النفوس فبدأت بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً) بخلاف اليهود الذين ذُكروا في القسم الأول وقال الله لهم (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ (85)) أما نحن فلا نصنع صنيعهم.

آخر السورة جاء بعد أن خُتِم القسم الثالث الذي بدأ بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً) خُتم بقوله تعالى (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٢٨٤﴾) يقول أبو هريرة رضي الله عنه كما في صحيح مسلم لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) – عندما كانت تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ويبلّغها لا ينظر على أنها نشرة أخبار أو شيء بعيد أو شيء نحن غير مطالبين به وإنما قرار من ملك الملوك سبحانه وتعالى – قال (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول أبو هريرة رضي الله عنه: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – شعروا أن المسألة شديدة – فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب – لشدة شعورهم بعظم المسؤولية بهذه الآيات – فقالوا أي رسول الله (هذا نداء يعني يا رسول الله) كُلّفنا من الأعمال ما نطيق، (قبل هذه الآية كانت تأتينا تكاليف نقدر عليها) الصلاة والصيام والجهاد – الصلاة فيها مشقة والصيام قد يكون عند بعض الناس فيه مشقة والجهاد لا شك أنه اشق – قال: والصدقة – وأيضاً هذه فيها مشقة على النفوس – وقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -لاحظوا مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تدل على أن الآيات التي ذكرت في السورة عن اليهود لم تذكر كي نشمت بهم أو كي نقول حسبي الله فيخم فقط ولكن كي نحذر من سلوك طريقهم – قال صلى الله عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. قال أبو هريرة: فلما اقترأها القوم – أي قرأوها كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم – ذلّت بها ألسنتهم فأنزل الله في إثرها (آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴿٢٨٥﴾) قالوها ثم نزلت الآية مصدقة لما قالوه فقد قالوه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) قال: فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل الله (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) قال الله: نعم – يعني استجاب هذه الدعوة – (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) قال الله: نعم (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) قال الله: نعم، (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿٢٨٦﴾) قال الله: نعم. وفي رواية لهذه القصة ولكن عن ابن عباس رضي الله عنه أنها لما نزلت دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم يعني وصلت قلوبهم إلى حالة لم تصل إليها من قبل، هذا ظاهر العبارة، ولما قرأها ابن عمر بكى رضي الله عنه فذهب مجاهد وهو من تلاميد ابن عباس إلى ابن عباس فقال ان ابن عمر قرأ هذه الآية فبكى فحكى له ابن عباس قصة هذه الآيات التي ختمت بها هذه السورة العظيمة المملوءة بالأحكام وكأنها رجاء من المؤمنين يرددونه مستعينين بالله.