سورة المائدة
مع سورة المائدة وتسمى سورة العقود. بعض السور لها أكثر من اسمها وهذه السورة اسمها المشهور المائدة ومن أسمائها من استنباط بعض العلماء سورة العقود. المائدة لأنها ذكرت قصة المائدة في آخرها والعقود مناسب لافتتاحها فأولها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) وموقع هذه السورة لطيف جداً قلنا أن السور التي تسمى السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة هذه على التوالي سور مدنية ثم الأنعام والأعراف ويونس على الراجح وهذه سور مكية والأحكام تكون عادة في السور المدنية التي نزلت بعد الهجرة فسورة البقرة ذكرت فيها أحكام كثيرة، سورة آل عمران ذكرت فيها أحكام كثيرة والنساء ذكرت فيها أحكام كثيرة وعقود، قال الله في سورة المائدة في أولها بعد أن ذكر كل تلك الأحكام في البقرة وآل عمران والنساء قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) كأنه يقول: أوفوا بكل ما سبق. لو قرأنا البقرة وآل عمران والنساء سنجد عقوداً كثيرة أُمرنا بها فتأتي سورة المائدة تبدأ بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) فهذا من مناسبة هذه السورة لما قبلها من السور. وهذه السورة إذا قارناها بالسور التي قبلها فهي آخر واحدة نزلت منهن يعني البقرة وآل عمران والنساء نزلت قبل المائدة، المائدة نزلت متأخرة في معظم آياتها متأخرة النزول وهي من آخر سور القرآن نزولاً بل فيها آية عظيمة نزلت في حجة الوداع في يوم عرفة وهي قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا (3)) جاء رجل يهودي يتكلم مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول إن في كتابكم آية لو أُنزلت علينا معشر يهود لاتخذنا ذلك اليوم عيداً – اليهود مشهورون بكثرة الاحتفالات ونحن في ديننا عندنا عيدان لكن هذه القصة تدل على معرفة اليهود بقدر هذه الجملة وهي جزء من آية – فقال عمر رضي الله عنه: وما تلك الآية؟ قال (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) فقال عمر إني لأعلم متى نزلت نزلت يوم الجمعة يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم في عرفة في حجة الوداع تبشّر المؤمنين (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) فهذه الآية متأخرة النزول جداً أكثر من سورة البقرة وسورة آل عمران وغزوة أُحد ونحو ذلك، هذه السورة متأخرة فجاء فيها الإيفاء بالعقود. وكلمة العقود جمع والمفرد عقد يختصرها بعض الناس في أشياء محدودة: عقد البيع، عقد الإيجار، عقد الزواج ولكن العقد في الشرع أوسع من ذلك، أنا وأنت باعتبارنا مسلمين في عقد مع الله سبحانه وتعالى ومجيئك إلى الصلاة وأداؤك للصلاة في وقتها وتطهّرك قبلها والتزامك بشروطها وأركانها وواجباتها تجديد للعقد وتوثيق للعقد مع الله سبحانه وتعالى والذي يفرّط فيها يُضعف من رابطة العقد مع الله سبحانه وتعالى لأن الصلاة صلة بين العبد وبين الله وكذلك بقية العبادات دخول الإنسان في الإسلام يعني شيئاً آخر (صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) البقرة) قبل أن يدخل الإنسان في الإسلام يكون حاله مختلفاً جداً عمن يدخل في الإسلام وإذا دخل في الإسلام لا يحق له أن يخرج بعد أن دخل كما هو معروف في أحكام الردّة نعوذ بالله من الخذلان. القصد أن الإنسان باعتباره يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله هو في عقد عظيم مع الله فقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) تشمل كل العقود سواء كانت في العقود المالية أو عقود النكاح ونحوها وغيرها كلها داخلة. والله سبحانه وتعالى بدأ هذه السورة بالنداء للمؤمنين وبدأ السورة التي قبلها بالنداء للناس فقال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) وهنا قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) وهذه السورة لا يشركها في هذا الافتتاح نداء المؤمنين في بداية السورة إلا في سورتين أخريين وهي سورة الحجرات وسورة الممتحنة وكلها فيها أحكام خاصة بالمؤمنين منها هذه السورة ومنها تلك السور.
هذه السورة بعضها آيات متأخرة جداً وبعضها آيات متقدمة، يقول الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)) هذه آية تحريم الخمر والخمر حرمت على المشهور في السنة الثالثة للهجرة فهي متقدمة لأن حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة وهذه في السنة الثالثة إذن سنوات وهي تنزل تربي المؤمنين. وفيها آيات نزلت قبل غزوة بدر وغزوة بدر في السنة الثانية للهجرة، إذن هذه السورة طويلة النزول امتد نزولها وأكثرها متأخر لكن منها ما كان متقدماً.
هذه السورة ليس لها فضل خاص، لكن هي من السبع الطوال ويقول النبي صلى الله عليه وسلم “أوتيت السبع الطوال مكان التوراة” وهذا عطاء عظيم من الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ابتداء ولمن أخذ بهذا الميراث من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وتعلم هذه السورة فقد أخذ شيئاً أُعطيه النبي صلى الله عليه وسلم في مقابل التوراة الذي أعطيها موسى عليه وعلى نبينا أفضل صلاة وأتم تسليم.
أقسام السورة
هذه السورة يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام مع خاتمة تربط بين تلك الأقسام أو تلخص ما سبق وتعطي النتيجة النهائية. لأن الله في أول السورة يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) ويقول في خاتمة السورة (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿١١٩﴾) فالذي يوفي بالعهد يوشك أن يسمع هذا الكلام من رب العزة والجلال سبحانه وتعالى (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) فالذين لم يوفوا بالعقود لم يصدقوا والذين أوفوا بالعقود صدقوا فهذه الخاتمة مناسبة.
القسم الأول في السورة مملوء بالنداءات وهذه السورة فيها نداءات كثيرة مثل سورة النساء فيها نداءات كثيرة وهذه السورة أيضاً يكثر فيها النداء جداً. فالقسم الأول بدأ بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) وجاءت فيه خمس نداءات:
- الأول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)
- والأمر الثاني (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ (2)) رجح الإمام الطبري أن المراد (لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ) لا تحلوا شيئاً حرّمه الله، مثلاً في مكان من الأماكن في بلد من البلدان يسمح بشرب الخمر وأنها غير ممنوعة وأنه لا يعاقب شارب الخمر هذا من إحلال شعائر الله وهو من مخالفة شعائر الله. بعض العلماء يخصص هذه الاية بأحكام الحج أي لا تغيّر في أحكام الحج وشيخ المفسرين الإمام الطبري يقول الآية عامة تشمل كل إحلال لما حرّم الله أو تحريم لما أحلّ الله، فكما لا يجوز تحليل ما حرّم الله كذلك لا يجوز تحريم ما أحلّ الله سبحانه وتعالى.
- الأمر الثالث قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ (6)) وهي آية الوضوء وهي تشبه آية في سورة النساء ذكر فيها الوضوء وذكر فيها التيمم.
- الأمر الرابع يقول الله سبحانه وتعالى فيه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ (8)) وهنا أمر صعب جداً. قال (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ) أحياناً الإنسان يكون بينه وبين إنسان عداوة أو خصومة فتحمله هذه الخصومة على أن يكذب أو قد لا يكذب ولكن يبالغ قليلاً يضيف بعض الأمور على القصة حتى يصوّر نفسه مظلوماً، قد يكون مظلوماً لكن يزيد من العبارة ما يصوّر الشيء على أكثر من حقيقته. قال الله سبحانه وتعالى (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يحملنكم (شَنَآنُ قَوْمٍ) أي بغض قوم (عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
- النداء الخامس والأخير في القسم الأول قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11))
لسنا بصدد تفسير كل الآيات وإنما الغرض المرور على الآيات.
جاءت هذه النداءات ثم جاءت قصص ومواقف لأقوام نكثوا بالعهود ولم يوفوا بالعقود حتى نأخذ منهم العبرة.
فذكر الله اليهود قال (وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)) الله سبحانه وتعالى يمزج في الآيات وتأتي الأمور متشابكة بحيث الذي لا يتأمل ولا يتدبر لا يستفيد. الله ذكر هنا أناساً لم يوفوا بالعهد لكن بيّن العاقبة قال (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) فالإنسان إذا لم يوفي بالعقد مع الله يكون جزاؤه اللعن وقسوة القلب فإذا اشتكى الإنسان من قسوة القلب عليه أن يراجع حساباته هل هو موفي بالعقد مع الله ومع الناس؟ البعض يستأجر مثلاً ولا يراعي صاحب البيت فيصنع فيه ما يشاء بما يخالف العقد ولا يستأذن والله سبحانه وتعالى يقول (أوفوا بالعقود) كذلك إذا أردت أن تبيع شيئاً فيه عيب لا بد أن تبينه، فهذه الأمور والمخالفة فيها تقسي قلب الإنسان (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً).
ثم ذكر النصارى أيضاً (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (14)) خالفوا أيضاً.
ثم ذكر قصة لبني إسرائيل مع موسى وفيها مخالفة أيضاً وهي قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ (20)) فضل كبير على بين إسرائيل، ما المطلوب منهم؟ قال (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)) هنا اختبار للوفائ بالعقد فبدأ سوء أدبهم من أول قولهم (قَالُوا يَا مُوسَى) هو نبيهم والمفترض أن يخاطبوه بالتعظيم فيقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله، يا كليم الله، لكنهم قالوا (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23)) كان هناك رجلان عندهم خوف من الله وهذه إشارة أن الذي يوفي بالعقد يخاف من الله أما هؤلاء فقالوا (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ). (قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ) يخافون الله كما رجّح الإمام الطبري (أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا) بأن الخشية موجودة في قلوبهما (ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ) كما أمركم الله (فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) فما تكلموا مع هؤلاء بحسب الظاهر من الآية وإنما خاطبوا موسى بكلام غير مؤدب (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)) كلمة قبيحة جداً!! وهذه القصص إنما تُذكر ليأخذ المؤمنون منها العبرة وقد أخذوها ففي غزوة بدر استشار النبي صلى الله عليه وسلم أحابه فيما يصنع فقال المقداد رضي الله عنه كما في صحيح البخاري: لا نقول كما قال قوم موسى إذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون وإنما نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك. يقول الراوي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسُرّ بهذا القول. وفي رواية لنفس القصة في سيرة ابن اسحق قال المقداد: يا رسول الله امضِ بما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغمام (وهي منطقة في اليمن) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه (بمعنى أننا نمشي معك حيث تذهب). والشاهد في هذا أن الصحابة أخذوا العبرة لما سمعوا القصة صارت حاضرة في أذهانهم، هي لم تنزل عليهم وقت المعركة لكن من تدبرهم لها عرفوا أنهم مقصودون بها وأنهم مطالبون أن لا يسيروا سير أولئك القوم حتى لا يصلوا إلى مصيرهم والعياذ بالله.
والشاهد الآخر في القصة أن هذه الآيات نزلت قبل غزوة بدر، ذكرنا أن بعض آيات السورة نزل متأخراً جداً لكن هذه الآيات نزلت مبكراً لأن الصحابي استشهد به في غزوة بدر مما يدل على أن هذه الآيات نزلت مبكراً.
ثم ذكر الله قصة ابني آدم اللذين قتل أحدهما الآخر كما هو معروف (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27))
ثم خُتم هذا القسم بآية عظيمة يقول الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)) بعد أن ذكر حال أولئك مع الجهاد ذكر هنا (وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
في القسم الثاني من السورة كان هناك تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم لأن القسم الأول يُشعر أن بعض الناس سيوفي بالعقد وبعض الناس لن يوفي بالعقد قال الله سبحانه وتعالى في بداية هذا القسم مخاطباً خير خلقه صلى الله عليه وسلم (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ) هم في الظاهر سيوفون بالعقود (وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) والعِبرة بالقلب لا باللسان (وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)) ذكرت الآيات من صفاتهم ما ينبغي أن يحذر منه كل من أراد أن يوفي بعقد الله سبحانه وتعالى ولا يرتكس ارتكاسهم.
وفي هذا القسم جاءت حقائق
أولها: وجوب الاحتكام لشرع الله قال فيها سبحانه وتعالى (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ (49)) وقال فيها (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ (48)) الأمم السابقة كانوا مطالبين بكتبهم، مطالبين بتحكيم التوراة وبتحكيم الإنجيل وجاء في الآيات (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)) وهؤلاء لم يوفوا بالعقد. وفيها (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)) وفيها (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)) ثم بيّن الله أن هذا الكتاب الذي أُنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم حاكم على كل الكتب السابقة قال (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ (48)) مهيمناً عليه يعني شاهداً عليه، التوراة الآن موجودة بعضها صحيح وبعضها محرّف فإذا أردت أن تعرف إن كان الذي في التوراة صحيحاً أو كاذباً فالحل أن تحكم بالقرآن على كل ما في الكتب السابقة لأنه جاء مهيمناً على كل ما في الكتب السابقة لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين.
بيّن الله أيضاً في هذا القسم صفات الذين يوفون بالعقد قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ) فلا يوفي بالعقد (فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54))
في القسم الأخير من السورة أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة وخصص أهل الكتاب بالدعوة قال الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)) وقال (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68))
وفي هذا القسم جاءت أحكام كثيرة مخاطباً بها المؤمنون قال الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)) وقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)) إلى آخر ما ذكر من آيات وكان منها قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101))
وفي خاتمة السورة كما قلنا أن السورة تأمر بالوفاء بالعقود وتبين حال من أوفوا وحال من لم يوفوا، صفات هؤلاء وصفات أولئك وتأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الدعوة كلها وتبليغ الدين كله وعدم كتمان شيء وحاشاه صلى الله عليه وسلم ثم تأتي الخاتمة ترتجف لها القلوب يقول الله سبحانه وتعالى في أولها (يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109)) الرسل أرسلوا وذكرت رسالتهم في هذه السورة وأمروا أقوامهم بالوفاء بالعقود وهنا يجمع الله الرسل لأنهم سيشهدون على أممهم قال (يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) تأمل في قول الرسل الذي يجل على التسليم الشديد لله والخوف منه، الرسل يقولون لا علم لنا، بعض العلماء يقولون هذه في وقت من يوم القيامة يذهل فيه الناس لا يستطيعون الإجابة من شدة الخوف والرهبة وبعضهم قالوا (لا علم لنا) يعني لا علم لنا إلا بشيء أنت أعلم به منا فالرسل وإن شهدوا فإن شهادتهم ليست مثل علم الله وإحاطته بوفاء الناس بالعقود ونكثهم لها (يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ).
ثم ذكر الله مواقف في كلام الله مع نبيه عيسى وقد كثر ذكر النصارى في هذه السورة وجاء هنا الخطاب مع عيسى ومنه قوله (وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116)).
وجاء في آخر السورة ما هو ختام لها وهو ختام لمسألة الوفاء بالعقود وهو تذكير للمؤمنين بعاقبة من يصدق ويوفي وتحذير لغيرهم (قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ (119)) نسأل الله أن يجعلنا من الصادقين وأن ينفعنا بصدقنا عند رب العالمين (قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)) ومثل هذه الآية إذا فكر فيها الإنسان وقد صعُب عليه الوفاء بشيء من شرع الله سهُل عليه الأمر لأنه عرف الموعد، الموعد عند الله سبحانه وتعالى.
ثم قال سبحانه وتعالى (لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ) وإذا كان كذلك فلماذا يعترض الإنسان على أحكام الله؟ لماذا لا يتوقف عن إعطاء كل ذي حق حقه؟ لماذا يتوقف عن أيّ حكم من أحكام الله؟ (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)) فهو قادر علينا ونحن نعمل في دار الامتحان هنا وهو قادر علينا يوم نلقاه هناك نسأل الله أن يعل لقاءنا لقاء تشريف وكرامة.