برنامج النبأ العظيم

النبأ العظيم – د. أحمد نوفل – سورتي العصر والهمزة

اسلاميات

سورة العصر وسورة الهمزة

النبأ العظيم – د. أحمد نوفل

(تفريغ موقع إسلاميات حصرياً)

سورة العصر

السورة السادسة والعشرين والسابعة والعشرين بترتيب جزء عمّ. سورتان جليلتان عظيمتان، ماذا في سورة العصر؟ ماذا في سورة الهمزة؟ المعاني فيهما كبيرة هائلة زاخرة نستخرج بعض ما فيهما من المكنون والمخزون.

(وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3))

ترتيبها في المصحف 103، آياتها ثلاث آيات. من سور القسم يقول عنها الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لو لم ينزل من القرآن كله إلا سورة العصر لكفت الناس. أقصر سورة من هذا القرآن المدهش تلخّص معانيه كلها- لا نقول أصغر سورة وإنما نقول أقصر سورة – لا يليق بسور القرآن أن توصف أنها صغيرة، كل سور القرآن كبيرة وإن كانت في سطورها قصيرة.

سورة العصر من فضلها أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كلما افترقوا عن بعضهم قرأوا سورة العصر. سورة أكثِروا من تلاوتها في كل مجلس، سورة جليلة شأنها كبير.

(وَالْعَصْرِ) يُقسِم الله تعالى بالعصر، هل هو الوقت الذي بعد الظهر؟ لا. (والعصر) أي وحقّ الزمان كل الزمان، يقسم الله عز وجل بالزمان ليلفتنا إلى ثروة مهدورة ثروة طائلة هائلة مبددة، الزمن. الوقت ليس مالاً كما يقول الغربيون وإنما الوقت عندنا عبادة، الوقت سبيل الجنة، تدّخر أعمالاً صالحة وعدّتك الوقت تطلب العلم أداتك في طلبه الوقت، الحضارة والتقدم والعمران والكشف كله وقت. يقسم الله تعالى بالشمس، بالقمر، بالضحى، بالليل، بالفجر، كلها زمن، (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا (103) النساء) الزمن. الأمم المتخلفة تهدر الوقت، ونستخدم عبارات مثل نضيع الوقت، نقتل الوقت! هل الوقت عدوك؟ الوقت حياتك، إن الحياة دقائق وثواني، كلما مضى يوم مضى بعدك، كلما مرّ يوم كأنه نُزع من دفترك صفحة إلى أن تنتهي الأوراق ويبدأ الحساب. الزمن علينا أن ننتبه منه وله جيداً. يقسم الله تعالى بالزمن ليلفتنا إلى أهميته، “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ”، “اغتنم خمساً قبل خمس: شبابَك قبل هَرمكِ، وصحتَك قبل سقمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شغلِك، وحياتَك قبلَ موتِكَ”. اغتنم وقتك قبل أن يزدحم عليك. موضوع مهم جداً فإننا لن ننهض إلا إذا قدرنا الزمن حق قدره، الزمن كالقابض على هواء، الزمن نهر جارٍ لا يتوقف استثمرناه أو لم نستثمره، الزمن نهر جار الفالح يغتنم ويُخرج من هذا النهر ويسقي الأرض لكن الفاشل يرى النهر يجري وسط أرضه والصحراء على الجانبين! نهر الزمن يجري وسطنا ثم لا نستثمره ونزرع حياتنا بالأعمال الصالحة بالفكر النيّر، بالإبداع الحضاري، بالتطوير، بالكشوف، الزمن يقسم الله عز وجل به ليلفتنا إلى أهميته. (وَالْعَصْرِ) أي وحق الزمان كل الزمان.

(إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) ليس الإنسان الكافر فقط وإنما مطلق الإنسان، والعصر أي وحق الزمان مطلق الزمان إن الإنسان مطلق الإنسان لفي خسران مطلق الخسران، كله مطلقات: الزمن مطلق والإنسان مطلق والخسران مطلق. خسران نفسي، اجتماعي، أخلاقي، اقتصادي، سياسي، عسكري، أمني، خسران مطلق!

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) جاء هنا الاستثناء، المؤمنون قلة وهم المستثنون. إن الإنسان كل الإنسان لفي خسران كل أنواع الخسران. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان أعظم عمل يتقرب به العبد إلى الله تعالى أن يؤمن به ويناجيه دون أن يستشعر به أحد، وأنت نائم تناجي ربك يا رب أنا عبدك المقصّر أقرّ بتقصيري وأنت الإله الرحيم عفوك عني، مغفرتك لي، كثرت ذنوبي، هذه المناجاة التي لا يطّلع عليها أحد يحبها الله لأنها مخلَصة ليس فيها رياء لا أحد يراك ولا يسمعك، ثم إنها صافية تصفّي النفس ثم هي تعترف بضعفك وبشريتك وتقصيرك.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) مطلق الصالحات سواء كانت عبادات أو تقرب من الله تبارك وتعالى بخدمة الناس وخدمة لشؤونهم، أو زراعة للأرض واستصلاحها أو جهداً في أي اتجاه كله يدخل في (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فهؤلاء لهم الفلاح (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ).

إذن (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)) تساوي (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) المؤمنون).

(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) لماذا تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر مع آمنوا وعملوا الصالحات؟ كأن الذي يؤمن ويعمل الصالحات تتناوشه القوى والأعداء وتُلقى عليه السهام من كل صوب ومن كل اتجاه لذلك احتيج أن يتواصى المؤمنون فيما بينهم بالحق ثباتاً عليه وتمسكاً به وعضّاً بالنواجذ عليه، تمسك بحقك، تواصوا بالحق، اثبتوا على الحق كما في قصة غلام أصحاب الأخدود الذي قال لأمه أنت على الحق، اِمضِ.

(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) هذا الدين من أهم أجزائه وأركانه ومن أهم ما يعينك الصبر جعلنا الله من الصابرين.

******************

سورة العصر على اختصارها هي من أجمع سور القرآن للخير والحمد لله الذي جعل كتابه كافياً عن كل ما سواه شافياً من كل داء هادياً إلى كل خير (ابن القيم)

سورة الهمزة

(وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9))

همزة لمزة ينتقص الناس إن باللسان والكلام أو بالحركات والإشارات. الهمزة الذي يغتاب الناس ويسلقهم بلسانه (سلقوكم بألسنة حداد) لسانه مسنون يشحذه كالسكين! لماذا تكسب آثام الناس؟! ولماذا تأكل لحومهم؟! الهمزة من يسيء إلى الناس بلسانه. اللمزة بحركات يديه وعينيه مثلاً إذا رأى أعرجاً يقلده، يحاول أن يرسم الناس قصير، طويل، سمين، يفعل حركات يُصحك الناس رسم كاركاتيري بالإشارات لغة الجسد، يحاول بلغة الجسد أن يصوّر الناس. وفي الحديث الشريف  لقد قلت كلمة لو مزجت بالبحر لمزجته!. إشارة واحدة! لا تنتقص من الناس، أنت لم تخلق نفسك إن كنت جميلاً ولا الآخر خلق نفسه أن كان دميماً أو قصيراً أو سميناً، هو لم يخلق نفسه، هذا اللمز يوصلك أن تعيب خلقة الله، ما لك ولهذه الورطة؟! ولماذا تُدل نفسك جهنم بغير فائدة؟! (ويلٌ) تهديد! صدّق مولاك عندما يتوعّد. كأن الله سبحانه وتعالى يقول: ويل لكل همزة لمزة، ورطة شديدة! ما الذي يدفعك إليها أيها المؤمن؟! ما الذي يدفعك لتمشي إلى النار برجليك؟! أنت إن تسخر من الناس يسخر الناس منك، ترسم الناس رسماً كاريكاتورياً فيرسموك أنت رسماً كاريكاتورياً!

(وَيْلٌ) عذابٌ، هلاكٌ، وادي في جهنم، كل المعاني واردة. ويلٌ مطلق لكل همزة لمزة. ثم فصّل في شخصيته:

(الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ) جمع مالاً ثم يستمتع بعدّه مرة بعد مرة! يستأنس بعدّ ماله! لا يملّ من سماع صوت المال وهو يعدّه!

(يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) المدّ في (ماله) تصوير القرآن للمعنى بجرسه وإيقاعه! المال إما أن تفارقه وإما أن يفارقك ويترك حسرات بعد مفارقته لك فاجعل اتكالك على الله تعالى الرازق لهذا المال لا على المال الذي تركك!

(كَلَّا) ردع وزجر، (لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) هُمَزة على وزن (فُعَلَة) وكذلك لُمَزة وحُطمة، أربع مرات صيغة فُعَلة. يقال فلان ضُحَكة، كثير الضحك حتى في مقام لا يحتمل الضحك. يقال فلان طُلَعة أي بحّاثة، دائماً يقرأ. هذه الصيغة تعني من اعتاد الشيء فأصبح عنده سجية متكررة. فُعلة للمُكثر من الشيء متعوّد عليه، هُمَزة معتاد على الهمز، لو أشرت بوجهك بحركة عندما ترى أحداً من الناس كأنك اغتبته وسُجّلت عليك خطيئة ووضعت في كفة سيئاتك أوزاراً تأكل من حسناتك يوم القيامة وأنت محتاج لكل ذرّة من حسناتك فلا تضيّع حسناتك! (كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) قَسَم، والله لينبذنّ في الحطمة، نقول أكل التمرة ونبذ النواة، لأنبذنّك نبذ النواة (كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) (نبذناه هو وجنوده). الحُطمة تحطِم ما يدخل فيها.

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)) تصل إلى الأفئدة نسأل الله السلامة! لو في الدنيا طارت شرارة من نار ولسعتك في يدك تبقى متألماً أياماً. (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ) نار الله! اكتسبت العظمة من إضافتها للعظيم، الموقدة.

(الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ) مقفلة. الفرن عندما يُقفل تتضاعف حرارته. (إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ) مغلقة ليس لها منفذ.

(فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ) كأن النار مثل التوابيت مثلاً ممددة ومقفلة على أصحابها نسأل الله السلامة حتى لا يضيع من حرارة النار ولا ذرّة، مغلقة جهنم كلها ومغلقة على كل واحد مثل التابوت مقفل عليه بحيث لا يضيع من الحرارة ولا ذرّة.

هذا جو سورة الهمزة، نهاية مريرة للسورة موضوع السورة القيامة وتركيز على النار لمن فعل فعلة الأشرار ولا يفعلها المؤمنون الأخيار. وسورة العصر قبلها أيضاً موضوعها القيامة (إن الإنسان لفي خسر) وبالذات يوم القيامة. وموضوع القيامة هو محور جزء عمّ بكليته.