برنامج التفسير المباشر

برنامج التفسير المباشر – الحلقة 63 – سورة ق 3

اسلاميات

التفسير المباشر الحلقة 63:

بسم الله الرحمن الرحيم

الجمعة 12/6/1430هـ

تفسير سورة ق.

الآيات محور الحلقة : 12- 20

د. عبد الرحمن الشهري: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة المشاهدون الكرام في كل مكان السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأهلاً وسهلاً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم الأسبوعي التفسير المباشر الذي يأتيكم على الهواء مباشرة من استديوهات قناة دليل الفضائية من مدينة الرياض. ما زلنا أيها الأخوة المشاهدون نتحدث عن سورة ق عن تفسير آياتها وقد وقف بنا الحديث يفي الحلقة الماضية عند قوله تعالى (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ﴿١٢﴾ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ﴿١٣﴾) وسوف نتناولها مع ضيفنا في هذه الحلقة بإذن الله تعالى. وبداية باسمكم جميعاً أيها الأخوة المشاهدون الكرام أرحب بضيفنا في هذا اللقاء فضيلة الشيخ الدكتور عبد الحكيم بن عبد الله القاسم عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين في جامعة الملك سعود بالرياض فحيّاكم الله يا شيخ عبد الحكيم..

د.. عبد الحكيم: حيّاكم الله الله يجزاك خير ويسلمك.

د. عبد الرحمن: وللمشاهدين الراغبين في المشاركة معنا في هذه الحلقة يمكنكم التواصل عن طريق الهاتف على الأرقام التي تظهر تباعاً على الشاشة:.

من داخل السعودية الرقم الموحد: 920009599

ومن خارج السعودية: 00966920009599

وللتواصل بالرسائل القصيرة على الرقم: 0532277111

أو يمكن التواصل أيضاً عبر منتدى البرنامج [email protected]

قبل أن نستمع إلى تفسير هذه الآيات نستمع إليها مرتّلة ثم نعود إليكم فابقوا معنا.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ﴿١٢﴾ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ﴿١٣﴾ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴿١٤﴾ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴿١٥﴾ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴿١٦﴾ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴿١٧﴾ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴿١٨﴾ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴿١٩﴾ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ﴿٢٠﴾ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ﴿٢١﴾ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴿٢٢﴾)

د. عبد الرحمن: بعد أن استمعنا أيها الإخوة المشاهدون إلى هذه الآيات العظيمة من سورة ق نبدأ مع ضيفنا الكريم فضيلة الشيخ عبد الحكيم كان الحديث يا دكتور عبد الحكيم يتحدث عن الامتنان وقد تحدثنا في الحلقة الماضية عن الامتنان بهذه النعم وهذه المخلوقات إلى أن قال (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10) رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)) ثم انتقل الحديث الآن عن الأقوام السابقة ما مناسبة الانتقال؟

د. عبد الحكيم: ذُكر أول السورة تعجب الكفار من البعث وذكر الله الدلالة على هذا البعث وأنه حق وصدق. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم مع الآيات التي تتلى يظهر له إستمرار قريش في تكذيبه صلى الله عليه وسلم وقريش لا زالت في التكذيب فجاء هذا الخطاب لقريش وللنبي صلى الله عليه وسلم. فيقول الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم إن الرسل السابقين كُذّبوا وأقوام كثيرة كذبت رسلها فقوم نوح كذبت رسولها وأصحاب الرس وعاد وفرعون وإخوان لوط كل هؤلاء كذبوا رسلهم وأنت يا محمد لست بدعاً من الرسل فكما قيل للرسل من قبلك سيقال لك. ففيها تسلية للنبي صلى الله هليه وسلم وتثبيت وكذلك يقال لكل داعية إلى الله سبحانه وتعالى لأن الداعية ليس دائماً يُستقبل فإذا كُذّب الداعية فليس عليه إلا البلاغ. ويقال لقريش إن قوم نوح كذبوا لكن ماذا حصل لهم؟ وقوم عاد كذبوا فماذا حصل لهم؟ وإخوان لوط كذبوا فما حصل لهم من العقوبات؟ ففيه تخويف لهم أن يستمر هذا التكذيب وأن الواجب عليهم التصديق بالرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان بما وعد به الله عز وجل من البعث والإيمان بالله سبحانه وتعالى وتوحيده، هذا هو الارتباط بين الآيات

د. عبد الرحمن: .يبدو لي يا أبا محمد أن هذه الأمم كانت قصصهم معروفة لقريش أنهم يعرفون قوم نوح ويسمعون بقوم عاد وهود وثمود ولذلك جاءت على وجه الاختصار هنا للتعداد فقط.

د. عبد الحكيم:. ولذلك الاستفسار عن أماكنهم واقوامهم وبلدانهم ما له داع لذلك الفكر لأن الشيء الأساسي في هذه الآيات أن هناك أقوام كذبت رسلها فحق عليها عقاب الله عز وجل لكن لو لم نكن نعرف من قوم نوح؟ هو قوم كذبوا الرسل فأهلكهم الله لا يزيد ذلك شيئاً كثيراً في معنى الآية

د. عبد الرحمن: نبدأ بتفصيل هذه الآيات (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ﴿١٢﴾ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ﴿١٣﴾ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴿١٤﴾) لو نتوقف مع كل قوم ونبين المقصود بهؤلاء

د. عبد الحكيم: نوح هو أول رسول أرسله الله إلى البشر وكان هو أكثر إنكاراً ممن بعده لأنه أول رسول بينما الرسل التي بعده يذكّرهم الله أنه أرسل نوح سابقاً لذلك كان تكذيبهم تكذيباً عظيماً لنوح عليه الصلاة والسلام ومعروف أن نوح دعا قومه إلى التوحيد 950 سنة ولم يؤمن منهم إلا قليل قال تعالى (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) هود) الذين في السفينة ومع ذلك حل بهم عقوبة حتى لو كانوا قوماً كثيرين حلت بهم العقوبة فأتباع النبي صلى الله عليه وسلم قليل وقريش كافرة كثيرة لكن لا تنفع الكثرة وكذلك الأقوام الباقون أصحاب الرسّ. هناك أقوال في تحديدهم لكن معنى من معاني الرسّ أصحاب البئر غير المطوية فقيل أنهم ألقوا الرسول فيها واختلف في مكانهم وبعض الأقوال أنهم تسعة والذي يظهر أن العرب يعرفون من هؤلاء وأما أماكنهم لا داعي لمعرفة الأماكن. وعادة القرآن أن لا يفصّل الأماكن ولا يسمي الأشخاص ولا يسمي الأزمان، الفكرة أن هؤءلا كذبوا الرسول.

د. عبد الرحمن: ألا تتصور أن الرس ليس لها علاقة بمنطقة الرس الموجودة الآن في الجزيرة؟ أذكر أن زهير ابن أبي سلمى في معلقته عندما يصف بعض الأماكن فيقول:

بكرنا بكوراً واستحرن بسُحرة فهنّ ووادي الرس كاليد للفم

فأقول ربما يكون المقصود بالرس هنا تلك المنطقة ما الذي يمنع؟

د. عبد الحكيم: لكن يقولون في اللغة الرس يطلق على البئر فيمكن أن يكون هذا البلد ويكم أن يكون غيره.

د. عبد الرحمن: وكما تفضلت سواء كانت هي أو غيرها فالعِبرة حاصلة سواء عرفنا المكان أم لم نعرفه

د. عبد الحكيم: لذلك كثير من الناس لما يأتي لهذه الآية يريد أن يعرف من هم أصحاب الرسّ وإذا ما عرفها ضاق صدره بينما الإنسان يقف على ما وقف الله عز وجل عليه ويعرف المراد. وأنا أقول الاستفسار في مثل هذه المواضع مثل قول عمر رضي الله عنه قد عرفنا الفاكهة فما الأبّ؟ ثم رجع إن هذا لهو التكلّف يا عمر مع أنه هو يعرف أن الأبّ من الزرع لكن ما تحديده من الأشجار هذا ما يحتاج والله أعلم.

د. عبد الرحمن: وثمود هم قوم صالح عليه السلام.

د. عبد الحكيم: قوم صالح أصحاب مدين وديارهم مدائن صالح وكذلك قوم عاد بعث الله إليهم هوداً عليه السلام في الأحقاف في جنوب الجزيرة العربية. وفرعون فرعون موسى معروف وذكر الله فرعون ولم يذكر قومه ما قال قوم فرعون لأن فرعون هو الذي يسوق قومه وهم وراءه كما قال تعالى (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ (54) الزخرف). وإخوان لوط لوط عليه السلام أرسله الله تعالى إلى قرى سدوم وغيرها في شمال الجزيرة، قرى سدوم وقال بعضهم أن محلها البحر الميت والله أعلم بذلك.

د. عبد الرحمن: قد يسأل سؤال شيخ عبد الحكيم في قوله (وَإِخْوَانُ لُوطٍ) هنا، لوط عليه الصلاة والسلام ليس منهم وإنما هو جاء من العراق مع عمه إبراهيم عليه الصلاة والسلام فلِمَ قال هنا (وَإِخْوَانُ لُوطٍ)؟

د. عبد الحكيم: بعضهم يقول إخوان لوط إشارة إلى أنهم قليلون أو أنهم ليس له بهم نسب فأضيف إليهم أو أضيفوا إليه. أما اصحاب الأيكة فهم قوم شعيب عليه السلام. والأيكة هي الواحة الخضراء ملتفة بها الأشجار وأرسل الله إليهم شعيباً عليه السلام ومعروف عذابهم عذاب يوم الظُلّة. وقوم تُبّع جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجل صالح “لا تلعنوا أو لا تسبوا تُبّعاً فأنه قد كان أسلم” وهذا في مسند الإمام أحمد والمحقق قال إسناده حسن. فتُبّع ليس رسولاً وإنما هو ملك القوم. ويقال أن تُبّع لقب على من ملك سبأ وحمير وحضرموت يقال له تُبّع مثلما يقال هرقل والنجاشي وفرعون والملك وغير ذلك من الألقاب التي تلقى في بعض البلدان. فقوم تُبّع أيضاً كذبوا رسولهم لكن إسم الرسول هذا الله أعلم به والنبي صلى الله عليه وسلم قال : “وأنه قد كان أسلم” يعني أنه من المدعوين وأسلم وآمن بالله سبحانه وتعالى واتبع الرسول ولا يُعرف هذا الرسول والله أعلم به .وورد أيضاً في سورة الدخان (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)) وهذا يشير إلى أن زمانه قريب من زمن العرب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قال (وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) كأنه من آخر الأقوام التي كانت فيهم دعوة ورسالة

د. عبد الرحمن: وقريش لها علاقة مستمرة دائمة مع اليمن ومع قبائل اليمن

د. عبد الحكيم: ولذلك هؤلاء الأقوام لهم فيها علم ويعرفون أخبارهم وتأتيهم أخبارهم. فقال الله عز وجل بعد سياق هؤلاء الأقوام كلهم (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) (كلٌ) يعني كلهم، التنوين هنا ناب عن الضمير أو عن المضاف إليه (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) وأن نوح عليه السلام رسول واحد فقال عز وجل (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) وقوم عاد أرسل إليهم هود رسول واحد مع ذلك كذبوا الرسل كلهم لأن الرسول الواحد يدعو إلى ما دعا إليه باقي المرسلين فكأنه إذا كذّب رسولاً واحداً فكأنه كذّب جميع المرسلين فكلهم يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنهي عن الشرك وعبادة الطاغوت كل الأنبياء يدعون إلى هذا فإذا كذّب واحداً منهم، فلو أتاه رسول آخر كذّبه لأن الدعوة واحدة وأصول الدعوة واحدة. (فَحَقَّ وَعِيدِ) أي فحق وعيدي وعقابي ومعروف الغرق الذي أصاب قوم نوح والصيحة التي كانت على ثمود وعاد والغرق الذي كان على فرعون والخسف الذي كان على قوم لوط وقراهم وعذاب الظلة الذي كان لأصحاب الأيكة وهناك أقوام ما ندري ما عقوبتهم، لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى شيء من هذا إلا أخبار وهي محل الصدق أو الكذب ما تُصدّق ولا تُكذّب.

د. عبد الرحمن: وأيضاً في القرآن تفصيل لهذه الأقوام، نوح عليه الصلاة والسلام فُصلت قصته في كثير من السور وثمود وفرعون ولوط وعاد وأصحاب الأيكة كل هؤلاء قد فصّل الله ذكرهم في مواضع كثيرة في القرآن الكريم

د. عبد الحكيم: قد يشير هذا إلى أنه تقدّمت آيات وسور نزلت فيها هذه القصص لأن العرب علمهم بالبعيد من الأخبار بعيد أيضاً فنقول هذه السورة سبقها سور فيها تفصيل لهؤلاء الرسل أو هؤلاء الأقوام والله أعلم. أو أن العرب عندهم علم بهذا.

د. عبد الرحمن: وهذا وارد وهذا وارد، هذه السورة نزلت في منتصف العهد المكي وكنت أقرأ في تفسير الشيخ الميداني وهو يهتم ويفسر الآيات حسب النزول فكان يذكر أن سورة المرسلات هي التي نزلت مباشرة قبل سورة ق ثم جاءت سورة ق وربك بين موضوع سورة ق وموضوع سورة المرسلات وأن بينهما تكامل فوارد هذا الذي ذكرت أن العرب عندهم علم وخبر عنها والعرب أيضاً يحضرني في سورة فصلت في أولها في قوله تعالى (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)) فبعض المفسرين استنبط أن العرب عندهم علم وليسوا كما يظن البعض أنهم أهل جاهلية الذي يظن عندما يسمع أنهم كانوا في الجاهلية يظن أنهم كانوا جهلة لا يفهمون شيئاً. الجهل يغلب عليهم لأنهم كانوا مشركين وكانوا يعبدون الأوثان لكنهم كانوا أهل علم بالشعر وباللغة وبالأنساب وبالأخبار وكان هذا علمهم كما يقول عمر كان الشعر والأنساب علم قوم ليس لهم علم إلا هو يتناقلونه فأتصور أن علم هؤلاء الأقوام كان من المشهور عندهم.

د. عبد الحكيم: ثم إنتقل الحديث من ذكر هؤلاء إلى الحديث عن الإنسان لأن العرب أو قريش كانت تكذب البعث والله عز وجل ذكر في أول السورة دلائل على قدرة الله سبحانه وتعالى في خلق السموات وخلق الأرض وإنزال المطر وإخراج النبات ثم ذكر الإنسان نفسه أنه أيضاً الله عز وجل قادر عليه أن يبعثه مرة أخرة فقال سبحانه وتعالى (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) والخلق الأول الذي يظهر والله أعلم أنه خلق الإنسان يعني من العدم قال الله تعالى (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) الإنسان) لو إنسان عمره ثلاثين أو أربعين سنة نقول له أنت أين كنت قبل ثلاثين أو أربعين سنة؟ لا شيء، غير موجود ثم خلقه الله عز وجل. كل إنسان يقول الذي خلقني هو الله سبحانه وتعالى، وهذا عجيب لو أتيت إلى والد أو والدة ما شاء الله هذا ولدك؟ يقول نعم هذا ولدي، تقول أنت خلقته؟ يقول لا، أنا أخلق ولدي؟! الله الذي خلقه. لذلك المرأة إذا حملت الشهر الأول والثاني والثالث إلى أن تصل إلى الشهر السادس أو السابع تقول أنا حامل وتعمل فحوصات وأشعة وتثبت وتعلم أنها حملت أو لم تحمل لأن الله عز وجل هو الذي يخلق هذا الإنسان. ما في أحد من البشر يقول أنا الذي خلقت الإنسان لا والد ولا والدة فسبحان الله بل هم أسباب، قال الله تعالى (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) والاستفهام هذا منفي لم يعي الله عز وجل. والعيّ هو نوع من العجز لكن يكون هناك مرحلة قبل العجز وهو البحث عن الشيء هذا ثم عدم القدرة من الوصول إليه فهذا هو العيّ. الله عز وجل لم يعي بالخلق الأول خلقه وهو سهل عليه سبحانه وتعالى (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) يس) ومع ذلك (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (38) الزمر) إذن والبعث؟ (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) يعني آمنوا بالخلق الأول ولم يؤمنوا بإعادته وهو أهون على الله سبحانه وتعالى. والمراد بالخلق الجديد البعث (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) اللبس هو الشك والخلق الجديد هو بعث الناس من قبورهم كما قال الله عز وجل في أول السورة (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)) فهنا يرد الله عز وجل (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) إذا لم يعي بالخلق الأول فهو قادر على الإعادة من باب أولى فهذه عودة مرة أخرى إلى إنكارهم البعث في قوله (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)

د. عبد الرحمن: ويبدو لي أن إنكارهم للبعث بعد الموت وإنكارهم للموت أو للقيامةو إنكارهم لليوم الآخر كان من أشد القضايا التي ركز عليها القرآن الكريم في العهد المكي ولذلك لو تتتبع الآيات التي وردت في مثل هذا المعنى في قضية إنكارهم للبعث وإقامة الحجة عليهم لكانت تستغرق الحلقة كاملة وأنت تسرد الآيات فقط.

د. عبد الحكيم: لأنها أصل من أصول الإيمان باليوم الآخر وهي تستغرق الدعوة كلها. فأنت إذا دعوت الناس إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى وليس هناك بعث فما الفائدة من أن يستجيب الناس لهذا الكلام؟ لكن إذا قلت هناك بعث وهناك جزاء وهناك عقاب فمردّ الدعوة كلها إلى هذا اليوم الآخر الذي لا ينتهي

د. عبد الرحمن: سبحان الله العظيم. ثم ينتقل الحديث الآن إلى الإنسان نفسه بعد أن ذكر خلق السموات والأرض يأتي الآن ويفصل عن خلق الإنسان وكيف أن الله سبحانه وتعالى قارد على مراقبته وقادر على خلقه وقادر على بعثه وقادر على محاسبته وهذه الآيات التي ستأتي الآن في غاية القوة ومن أشد الآيات عندما يقرأها الإنسان.

د. عبد الحكيم: نعم، فيها من الوعظ الشيء العظيم ولذلك ثبت في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ هذه السورة كاملة في خطبة الجمعة وإحدى الصحابيات تقول حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر. ومن العجيب أنه في آخر السورة قال الله عز وجل (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) وهذا إستجابة من النبي صلى الله عليه وسلم لله عز وجل في هذا الأمر أن يقرأها في خطبة الجمعة ويرضى الناس بها وهي أعظم مجمع للناس تصل لهم هذه الدعوة وهذه الموعظة. نلاحظ في هذه الآيات بعد أن ذكر الله عز وجل خلق الإنسان وقدرته على إعادته أنه بعد أن خلقه سبحانه وتعالى هو محيطٌ به. قد يصنع الإنسان شيئاً ويغفل عنه ما يستطيع أن يسيطر عليه يتفلت عنه لكن الإنسان منذ خلقه الله عز وجل إلى اليوم الآخر وهو في أمر الله عز وجل وفي قضائه وقدره لا ينفك عنه لا رغبة ولا رهبة (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ) وكل بني الإنسان على هذا النحو (وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) الوسوسة يطلقونها على صوت الدينار أو صوت الحلي لأنها خفية فالوسوسة خفية في النفس، تكون في القلب، حديث النفس فالله عز وجل سبحانه وتعالى يعلم ما توسوس به أنفسنا

د. عبد الرحمن:. الله أكبر. خقيقة عندما تتأمل تجد هذه المرحلة من العلم انفرد الله عز وجل بها لا يستطيع لا جهاز ولا تقنية أن تصل إلى هذه المرحلة. قبل أن نكمل هذه الاية أستأذنك يا أبا محمد وأستأذن الإخوة المشاهدين الكرام في فاصل قصير ثم نعود إليكم إن شاء الله.

——————–فاصل——————-

د. عبد الرحمن: مرحباً بكم أيها الأخوة المشاهدون الكرام مرة أخرى ولا زال حديثنا متصلاً عن آيات سورة ق مع ضيفنا الكريم فضيلة عبد الحكيم القاسم (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ).

د. عبد الحكيم: في هذه الاية إحاطة الله عز وجل بالإنسان. الإنسان قد يصنع شيئاً ويتفلت عليه ويخاف منه من أمثلة ذلك صناعةالسلاح النووي انظر إلى العالم الآن يريد أن يتخلص منه ما يستطيع، اجتماعات دورية

د. عبد الرحمن: يعني صنعه ثم تورط به

د. عبد الحكيم: لا شك. لكن الله عز وجل لما خلق المخلوقات هي تحت قدرته وتصرفه سبحانه وتعالى وتحت إرادته عز وجل. فمن أمثلة إحاطة الله سبحانه وتعالى العلم المحيط بكل شيء حتى وسوسة النفس. الوسوسة للنفس ترد باللحظات أنت تقول الآن يا أخي عبد الرحمن ترد في النفس خواطر الله عز وجل يعلمها ولكن هناك علم أكثر من ذلك أكثر من وسوسة النفس وجاء في سورة طه قول الله عز وجل (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)) قالوا في السر هو حديث النفس أو النجوى. قالوا وأخفى الله عز وجل يعلم الأخفى من السر فما هو الأخفى؟

د. عبد الرحمن: خطرات الفؤاد أو أوهام النفس

د. عبد الحكيم: خطرات الفؤاد هي حديث النفس. قالوا قبل أن تحدث نفسك لو قلت لك يا دكتور عبد الرحمن بعد دقيقة ماذا ستحدث نفسك؟ لا تدري، بعد لحظة؟ لا تدري لكن الله عز وجل يعلم السر وأخفى من السر سبحانه وتعالى. وهذا يدعونا إلى مراقبة الله سبحانه وتعالى. إذا كان الله عز وجل يعلم ما توسوس به النفس فكيف بالقول وكيف بالعمل؟ والعمل من أعمال القلب الإيمان واليقين والرهبة والخوف والرجاء والخشية والمحبة هذه كلها أعمال قلوب والكفر والنفاق والحسد والحقد كلها أعمال قلوب وعليها الثواب والعقاب وهي في القلب ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول “التقوى هاهنا” فإذن الحديث عن وسوسة النفس هي الخطرات التي ترد على النفس.

د. عبد الرحمن: سبحان الله. وأذكر في سورة فصلت عندما يأتي العقاب للمشركين في الآخرة في قوله سبحانه وتعالى (وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ (23)) فهذا مصداق لهذه الآية في قوله (وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أن المؤمن يستحضر هذا العلم وهذا يضمر المراقبة يعني ما الفائدة أن أعرف أن الله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم إذا لم يكن هذا دافعاً لي للمراقبة والمحاسبة؟

د. عبد الحكيم: وهذا ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في أشرطته المسجلة ويقول الواعظ الأعظم والزاجر الأكبر هو الحديث عن مراقبة الله سبحانه وتعالى ويقول أنك لا تقلب صفحة في القرآن إلا وتجد فيها هذا الزاجر الأعظم والواعظ الأكبر، مراقبة الله سبحانه وتعالى. الناس لا يعرفون إلا الظاهر لكن ما الذي يدور في قلبك هذا لا يعلمه إلا الله عز وجل ولكن مع علم الله عز وجل بوسوسة النفس وهذا فيه تخويف عظيم إلا أن الله عز وجل لا يحاسب على وسوسة النفس.

د. عبد الرحمن: يعلم بها ولكن لا يحاسب عليها ما لم تفعله

د. عبد الحكيم: يقول النبي صلى الله عليه وسلم “إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل”. ومما يخرج عن الوسوسة ما يستقر في القلب. إذا استقر في القلب صار عمل قلب لكن الخاطرة هي التي لا يحاسب الله عز وجل عليها أما الشيء المستقر في القلب هذا الذي يحاسب الله سبحانه وتعالى عليه فليحذر الإنسان أن يقع في قلبه من النفاق والتكذيب أوالحسد والكِبر، والكِبر في القلب”لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر” فالكِبر خطير وهو عمل قلب وعليه يحاسب الإنسان وينال ثوابه وعقوبته. الوسوسة للنفس متى تكون؟

د. عبد الرحمن: في الخلوة

د. عبد الحكيم: في الخلوة والغفلة. ولذلك إذا داوم الإنسان على ذكر الله سبحانه وتعالى ذهبت الوسوسة فإذن وسوست نفسك معناه أنك بعدت عن مراقبة الله عز وجل وغفلت وأعرضت قليلاً فهو نوع من المذمة ودواء ذلك الاستعاذة بالله سبحانه وتعالى (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) فهي تشمل الاستعاذة من وسوسة الإنسي والجني وهذه حديث النفس ووسوسة النفس. قال الله تعالى (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) فالله سبحانه وتعالى عز وجل أقرب للإنسان من حبل الوريد.

د. عبد الرحمن: ما هو حبل الوريد؟

د. عبد الحكيم: الحبل تشبيه له بالحبل الذي تتصل به الأشياء أو تُمسك به الأشياء. وهو ما يكون في العنق فقالوا أنهما وريدان غليظان يكون بمقطعهما هلاك الإنسان.

د. عبد الرحمن: الإنسان وغير الإنسان، الحيوان إذا ذُبِح كما يقولون من الوريد إلى الوريد

د. عبد الحكيم: الوريد هو في رقبة الإنسان وهو أقرب شي ء إليه والله عز وجل أقرب إليه من حبل الوريد سبحانه وتعالى فهو متصرفٌ فيه عالم بأحواله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء ولا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى وهذا القرب هو قرب العلم أو قرب الملائكة وقال بالقولين شيخ الإسلام ابن تيمية والسعدي أنه قرب علم الله سبحانه وتعالى وقرب ملائكته. وفي الاية التي بعدها إشارة إلى ذلك (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17))

د. عبد الرحمن: وسبحان الله هذا المعنى مكرر في آيات كثيرة في القرآن قضية قرب الله سبحانه وتعالى من العبد في قوله في أواخر سورة الواقعة (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ (85)) (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84)) يكرر المعاني ولذلك من معاني كون القرآن مثاني وأنا أدعو دائماً إلى هذا حتى في شرحي للآيات أحياناً وهو أن الذي ينظر إلى الآية بمفردها أو أحياناً إلى السورة بمفردها فإنه لا ينظر نظراً كاملاً في القرآن وإنما ينبغي عليك وأنت تنظر إلى السورة أو إلى الآية أن تنظر إلى القرآن كاملاً فتنظر المعنى الواحد يكرر في أكير من سياق فإذا جمعت كل هذه الآيات إتضحت لك الصورة كاملة

د. عبد الحكيم: لكن هنا الآية عامة في كل أحوال الإنسان وفي سورة الواقعة عند الاحتضار وحضور الملائكة. ولكن الملائكة حاضرة في حال الحياة وحال الاحتضار

د. عبد الرحمن: كما قال في الآية التي ستأتي (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18))

د. عبد الحكيم: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)) متلقيان

د. عبد الرحمن: من هم هؤلاء؟

د. عبد الحكيم: ملائكة كرام كما قال الله عز وجل (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) الانفطار) فوصفهم بصفتين الكرم والشرف وعدم اللؤم فهم لا يكذبون ترتفع أحوالهم عن هذه الصفات الدنيئة لا يكتب على الإنسان إلا ما عمل ولا يزيد عليه ولا ينقص منه. والأمر الآخر أنه يعلم ما يفعل الإنسان يعني ما يكتب بالظنّ كل شيء كُتِب هو شيء فعله الإنسان، شيء ما كُُتب إذن هو لم يفعله. فهؤلاء الشهود على الإنسان وجاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: “يتعاقبون فيكم ملائكة في الليل وملائكة في النهار ” فإذا كان يكتب على العبد اثنان وهم يتعاقبون فينا فصار على الإنسان أربعة إثنان في النهار وإثنان في الليل هؤلاء يكتبون وفي سورة الرعد قال الله عز وجل (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ (11)) على أحد الأقوال أنهم الملائكة يحفظونه أمر الله يعني يحفظونه من القدر الذي لم يكتب عليه فالإنسان لم يكتب له أن يموت في هذا الحادث لكن ينظر إلى واقع الحال تقول أكيد هذا الإنسان توفي وهم لم يمت معافى بجانب السيارة لأن هناك ملائكة تحفظه، تحفظه بالليل وتحفظه بالنهار فصار الحفظة أربعة يكتبون إثنان يكتبون بالليل واثنان يكتبون بالنهار. هناك حفظة من أقدار الله التي لم تكتب عليهم إثنان واثنان فالله عز وجل جعل الملائكة تحيط بالإنسان حتى تسجل له كل أعماله وكل أحواله والله عز وجل مطلع على كل شيء ولكن من باب إقامة الحجة على العبد لأنه نفسه ينكر يوم القيامة، إذن خلق الخلق ولم يتركهم هملاً سبحانه وتعالى بل جعل الملائكة الكرام الكاتبين (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) وأرسل الرسل وأنزل الكتب وأقام الحجج والدلائل والآيات في الآفاق وفي القرآن الكريم كلها لإقامة الحجة على هذا العبد حتى لا يقول لم يأتني من رسول ولا نبي.

د. عبد الرحمن: سبحان الله وأنت تتحدث يا شيخ عبد الحكيم بهذا الآن كثير من الأخوة المشاهدون قد لا يتصور هذا لأنه كله من عالم الغيب، الملائكة من عالم الغيب ونحن نؤمن بالغيب. فأنت تتحدث ولولا أنها وردت في القرآن ووردت في السنة الصحيحة ما كان الإنسان يدله عقله عليها أبداً أن هناك ملائكة يحفظونه من أمر الله وأن هناك من يكتب وأن هناك من يسجل ومن يحاسب. ثم في القرآن الكريم نقل الله تعالى لنا صوراً حية من الآخرة كيف أنه يؤتى بك يوم القيامة وتأتي بك الملائكة ويشهدون عليك بل تصل إلى مرحلة أن يرفض الإنسان يقول أنا لا أقبل شهادة هذا الملك ولا أقبل كتاب ولا أقبل إلا من نفسي فقال (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) يس)

د. عبد الحكيم: ولذلك من أعظم صفات المؤمنين أول سورة البقرة (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (3)) والله عز وجل غيب والملائكة وكل أركان الإيمان كلها بالغيب لم يرها الإنسان لكن إذا جاء الموت صار الغيب هذا شهادة فآمن كل الناس لكن لا يُقبل إيمانهم أنه إيمان بالشهادة فمن أعظم صفات المؤمن أن يؤمن بالغيب لكن لا بد أن يكون ما يؤمن به دلت عليه الدلالة الصحيحة من كتاب الله سبحانه وتعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لم يبق الإنسان إلا أن تكون الدلالة صحيحة يتأمل في الدلالة فقط أو من سنة الرسول الثابتة لأن هناك أحاديث موضوعة ومكذوبة عن النبي عليه الصلاة والسلام يتثبت من صحة الحديث ويتأكد من دلالة الحديث أيضاً على المعنى الذي استدل به.

د. عبد الرحمن: هل في قوله هنا (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) عبّر هنا بالتلقي هل يمكن أن نقول أن في هذا دلالة على أن هذا الملك كما تفضلت لا يفتات على الإنسان وإنما يتلقى كأنه فقط يستملي ما تقول وما تفعل هل هذا هو المعنى؟

د. عبد الحكيم: نعم هذا هو المراد. هو لا يأمرنا ولا ينهانا وإنما يسجلان هذه وظيفتهم

د. عبد الرحمن: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ) ولم يقل إذ يكتب الملكان

د. عبد الحكيم: يتلقيان كل شيء، يتلقيان على صيغة الكتابة يكتبان. (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) فهما ملازمان للإنسان عن يمينه وعن يساره وأجمع العلماء على أن الذي على اليمين يكتب الحسنات وعلى اليسار يكتب السيئات.

د. عبد الرحمن: تشريفاً لليمين.

د. عبد الحكيم: هذا الذي ورد في الحديث وهناك تفاصيل كثيرة لكن أغلب الأحاديث في تفاصيل ذلك ضعيفة وأورد كثيراً منها الإمام القرطبي رحمه الله في الجامع لأحكام القرآن الكريم لكن المحقق أشار إلى أنها كلها ضعيفة. فليس كل حديث وقفت عليه تقول به إلا أن يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام وهذه لفتة يجب أن يهتم بها كل مسلم ليس كلما وجدت حديثاً في أي كتاب تقول قال رسول الله صلى الله عليه والسلام فإن النبي عليه الصلاة والسلام من حبه وتكريمه والإيمان به أن ننقي الأحاديث فيبعد منها ما لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم فقد يكون من التقول على النبي عليه الصلاة والسلام.

د. عبد الرحمن: والآن ولله الحمد ألاحظ أن كثيراً من الناس ومن الإخوة والأخوات أصبحوا يتثبتون وإذا سمع حديثاً أصبحت عندنا ثقافة هل هذا الحديث صحيح أو غير صحيح. في مدة ليست بعيدة كان كل ما يقال فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو صحيح حتى لو كان من الموضوعات وهذا مشكلة ولكن الآن ولله الحمد مع العلم ومع انتشاره أصبح الناس يفرقون بين الصحيح والضعيف.

د. عبد الحكيم: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هذه اللفتة يقول جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال “أما إنه سيُكذب علي” فهذا الحديث إن كان النبي قاله فخبره صدق فهو يُخبر أنه سيُكذب عليه، ماذا نفعل إذا كان سيُكذب على النبي عليه الصلاة والسلام؟ أن نتثبت من الأحاديث. وإن كان هذا الحديث كذباً فوقع الخبر أنه كذب، وقع الكذب. إذا كان الحديث كذباً فلا بد أن نتثبت من الأحاديث.

د. عبد الرحمن: أستأذنك يا شيخ عبد الحكيم معنا اتصال.

الأخ محمد من السعودية: في آخر سورة العنكبوت (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)) تفسير الآية لو تكرمتم

د. عبد الرحمن: نعود إلى قوله (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ما معنى قعيد؟

د. عبد الحكيم: قعيد يعني ملازم للإنسان في كل أحواله لا ينفك عنه ولا لحظة من لحظاته. كان الحديث بعد ذلك في أحد هذه الأشياء التي تسجل عليه وهي الألفاظ قال سبحانه وتعالى (مَا يَلْفِظُ) أي هذا الإنسان (مِن قَوْلٍ) أيّ قول (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ففي هذه الآية تهديد من الله سبحانه وتعالى أن يقول الإنسان بلسانه لم يتدبره ولم يتأمله لأنه سيكتب هذا اللفظ إذا كان سيكتب فبالتالي سيحاسب الإنسان عليه ولذلك ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن أكثر ما يورد الناس النار الفم والفرج وأكثر ما يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم فهذه الآية العظيمة تدل على أنه يجب على الإنسان أن يحفظ لسانه وابن مسعود أو أبو بكر يقول ليس شيء أحق بطول سجن من لسان. يُسجن، إسجن لسانك لا تتكلم إلا بالشيء المفيد ولذلك لو أن الإنسان فعل ذلك لرأى من تغير حاله شيئاً كثيراً. إذا كان لا يتكلم إلا بما يليق به وما يحسن بنفسه أن يصل إليه فإنه ستتغير حاله لأن الإنسان يغرف ويأخذ من القلب فإذا طهر القلب طهر اللسان إذا فسد القلب فسد اللسان فهذه الآية تشير إلى كتابة كل لفظ (يلفظ) يلقيه الإنسان

د. عبد الرحمن: حتى الصيغة تدل على العموم (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ) أو الاستغراق أنه لا يشذ عن الكتابة أيّ قول

د. عبد الحكيم: فالجملة منفية و(من) دالة على العموم أيّ قول ونكرة جاءت في سياق النفي فتعمّ. (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) في قوله (مِن قَوْلٍ) طبعاً اختلف العلماء فبعضهم يقول يكتب الحسن والسيء وبعضهم يقول يكتب كل شيء حتى المباح يكتب وهذا ظاهر اللفظ أنه كل قول يكتب. هل يحاسب على المباح أو لا يحاسب عليه؟ الله أعلم المهم أنه مكتوب ولذلك جاء عن الإمام أحمد في مرضه قل أحد السلف أنه يُكتب على الإنسان حتى الأنين وكان رحمه الله يئن من مرضه فلما قيل له هذا الكلام لم يئن مات رحمه الله. فالظاهر من الآية أن كل قول يقوله الإنسان يكتب عليه فليحذر الإنسان هذا. ورقيب عتيد هما وصفان للملائكة المراقبة والملاحظة والاستعداد التام وعدم الغفلة الإنسان وهو يتكلم قد يغفل عن نفسه ولذلك يتذكر أستغفر الله قلت كذا؟ لكن هو مكتوب. فقوله (رَقِيبٌ عَتِيدٌ) فيها إشارة مثل قول الله عز وجل (كِرَامًا كَاتِبِينَ). رقيب عتيد مرحظ لك وملازم لك ولا يغفل عنك.

د. عبد الرحمن: ولعل هذا نفس معنى قوله في سورة الكهف أو يؤكده (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)) نفس المعنى في قوله (مِن قَوْلٍ) فيبدو أن الصواب هو ما تفضلت به وهو أنه يدخل فيه كل قول سواء مباحاً أو غير مباح.

د. عبد الحكيم: الخلاف السابق في القول لكن العمل يكتب كله والقول هو أقل من العمل. إذا كان القول يكتب فما بالك في العمل؟! العمل أعظم من القول لذلك وقع الخلاف في القول ولم يقع في العمل. في آية الكهف في العمل هذه الآية في القول فوقع الخلاف في هذا لكن الراجح هو العموم أن كل قول الإنسان أنه يكتب فإما أن يحاسب عليه أو لا يحاسب إذا كان مباحاً.

د. عبد الرحمن: يلاحظ الإخوة المشاهدون عناية المفسرين يا شيخ عبد الحكيم والبعض ممن يسمع الكلام يقول هؤلاء المفسرون متكلفون فيفرقون بين قوله هنا (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ) وقوله هناك (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) أن هذا من التكلف في فهم الخطاب والأصل أن الآية واضحة ما يلفظ من قول يدخل فيها القول كله وتلك أيضاً تدخل فيها العمل والقول ونحو ذلك. وأقول للجميع لما ترجع إلى كلام المفسرين وتحليلهم ومحاولتهم استخراج كل الفوائد من الآات القرآنية والبحث عن المطلق الذي قيّد والعام الذي خُصص والاستثناء ونحو ذلك من دقائق معرقة كلام الله سبحانه وتعالى للحرص على أن لا يفوت علينا أي معنى من المعاني التي وردت في القرآن إلا وقد فهمناه ووضحناه. ولذلك انظر في كتب التفسير بعضها في عشرين مجلد وبعضها في 15 وهذا لا شك أنه من عنايتهم رحمهم الله بكلام الله.

د. عبد الحكيم: وهذا التنوع في الصياغة يدل على أن كل شيء له مراده وينبغي الإنسان وهو يتدبر في هذه الآيات يتذكر قول الله عز وجل (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) هود)

د. عبد الرحمن: فوصف الآيات وليس السور

د. عبد الحكيم: محكم كل شيء محكم في هذا القرآن الكريم (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) فصلت) وقال عز وجل (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) النمل) فالله عز وجل ذكر في كتابه سبحانه وتعالى حكمته وعلمه وأسراره في خلقه، الإنسان يتتبع دقائق المنتجات والاختراعات وينبهر من ذلك لكن لم يتدبر في كتاب الله عز وجل. العلم الذي خص الله عز وجل أشرف خلقه وهم المؤمنون خصّ أشرف خلقه بهذا الكتاب ولا يتدبر الإنسان فيه وهو مسلم؟! يشهد بأن الله عز وجل أنزل هذا الكتاب وهذا الكتاب خطاب من الله إليه فالواجب أن يتدبر كل لفظ وينبغي أن يتبدر هذه الألفاظ وأن يكون مع اللفظ متى ما دل على معنى ذهب إليه

د. عبد الرحمن: بقي معنا يا شيخ عبد الحكيم دقيقة واحدة وأنا أريد أن نجيب على سؤال الأخ محمد وهو قد سألنا على آية وأنا أجدها متصلة بما نتحدث عنه في سورة العنكبوت (لَنَهْدِيَنَّهُمْ) وأن من الجهاد فيما يبدو لي تدبر القرآن وتتبع معانيه ودقائقه وعلومه فما معنى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا)

د. عبد الحكيم: الجهاد هو بذل الوسع في الوصول إلى المراد. الجهاد هنا قال (فينا) يعني في الله سبحانه وتعالى وفي مراده وفي رغبته وفيما يحب فإذا قصد الإنسان وجه الله سبحانه وتعالى ورضاه سبحانه وتعالى فكل أمر يفعله للوصول إلى مراد الله سبحانه وتعالى فالله وعده بالهداية إلى سبيل الله سبحان وتعالى ووعد في آخر السورة بالمعية بشرط أن يكون محسناً (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)واللام في (لَنَهْدِيَنَّهُمْ) موطئة لقَسَم محذوف (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) وفي آخرها (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) قَسَم آخر لأن الله سبحانه وتعالى سيهديه سبيله سبحانه وتعالى وأنه سبحانه وتعالى معه بالتأييد والنصرة فهذه الآية تدخل في كل شيء إذا أراد الإنسان.

د. عبد الرحمن: يدخل فيها الجهاد بكل أنواعه. نفع الله بكم يا أبا محمد وشكر الله لكم ما تفضلتم به. انتهى وقت هذه الحلقة وقد استفدنا كثيراً واستمتعنا بحديثك أسأل الله أن يجعله في موازين حسناتك. أيها الأخوة المشاهدون الكرام باسمكم جميعاً في نهاية هذه الحلقة أشكر الله سبحانه وتعالى الذي هيأ هذا اللقاء ثم باسمكم جميعاً أشكر فضيلة الشيخ الدكتور عبد الحكيم بن عبد الله القاسم عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود على ما تفضل به في هذا اللقاء وأسأل الله أن يجمعنا به وبكم جميعاً في لقاءات قادمة وأنتم على خير. ألقاكم إن شاء الله في الحلقة القادمة أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


رابط الحلقة فيديو

http://ia301530.us.archive.org/1/items/tafsirmobasher050609/tafsirmobasher.WMV

و هنا رابط الصوت
http://ia301530.us.archive.org/1/items/tafsirmobasher050609/tafsirmobasher.mp3