الحلقة 30
17 رمضان 1430 هـ
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
الخذلان في وقت الشدة
(وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) نبدأ بالحديث في مسألة الخذلان المؤمنين وقت الشدة وعقوبته. ويظهر ذلك جليا في موقف المنافقين في غزوة أحد عندما خذلوا النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في موقف عصيب. كيف تصرف صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف؟ لاحظ في قوله سبحانه وتعالى { وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا } قال المؤمنين ولم يقل وليعلم الذين آمنوا أما بالنسبة للمنافقين فقال الذين نافقوا . ولعل السبب في تغيير التعبير أن ظهور النفاق وبروزه في موقف خذلان هذا الجيش من المنافقين ظهر وكأنه يتجدد وكأنه يبرز لأول مرة للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه فجاء بالجملة الفعلية التي تفيد التجدد والحدوث. أما (ليعلم المؤمنين) هؤلاء المؤمنون الراسخون لم يتغير في موقفهم شيء فجاء بالجملة الإسمية. النبي صلى الله عليه وسلم عندما خذله المنافقين كان عددهم كبيراً يصل إلى ثلث الجبش و صلى الله عليه وسلم صبر وثَبَّت المؤمنين كلٌ في مكانه. ويقال في كتب السيرة أنه عُرض عليه أن يستعين باليهود فهم حلفاء فرفض وقال صلى الله عليه وسلم (مالي واليهود) فلم يستعن باليهود مع أن كان الموقف محرجا ولو كان إستعان بهم لقلنا هذا من باب السياسة الشرعية ولكان مقبولا عند كثير ممن يراقب الموقف ولكنه بالرغم من ذلك رفض وثبت الذين آمنوا ولم يستعين باليهود. الله يثبت المؤمنين في ساعات الشدة جزاء لهم على أعمالهم السابقة وإيمانهم وصدقهم مع الله وتوكلهم عليه. وتظهر آثار التثبيت في وقت الشدة. أيضا معرفة حقائق الناس ومعرفة أخلاق الناس وطبائعهم الذاتية . أظن أنه صلى الله عليه وسلم قد لاحظها بشدة في هذا الموطن فعندما عُرض عليه أن يستعين باليهود يعرف أن اليهود لا يقاتلون إلا من وراء جدر وأنهم جبناء يحبون الحياة ومثل هؤلاء لا يمكن أن يغامر الإنسان بوضعهم في معركة قد تكون مفرق طريق فقد يتسببون في مثل ما تسبب فيه عبد الله ابن أبيّ ويحدث من الفشل والخذلان أكثر مما حدث مع عبد الله ابن أبيّ. أتعجب لشىء في هذه السورة وسائر القرآن أن قلما يذكر مواقف المنافقين إلا وتُُتبع بالحديث عن اليهود هنا السورة ذكرت مواقف المنافقين وبعدها وبعدها { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ }من 181 آل عمران . وفي سورة الحشر لما جاء موقف اليهود قال بعدها { أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) } وفي سورة الأحزاب لما ذكر المنافقين والأحزاب ذكر اليهود. لماذا؟ لوجود تشابه بين تصرفاتهم ومعرفتة هؤلاء بالحق وكتمانهم له ومعرفة هؤلاء بالحق وكتمانهم له. فالنبي صلى الله عليه وسلم لن يغامر بقبول مثل هؤلاء لأن في نهاية المطافسيرجع أثره على المسلمين . يبدو أن هناك اتفاق استراتيجي بين اليهود والمنافقين من عهد صلى الله عليه وسلم إلى اليوم. ونلاحظه ونراه كما كنا نشاهد عهد صلى الله عليه وسلم . إتفاق على أعلى المستويات وحتى في أخص الأمور وكأنهم أخوة. لا يستحوا من الله . لم ينتصر أهل الكتاب على معركة في التاريخ إلا وكان المنافقون هم الذين يدخلون عن طريقهم (الطابور الخامس) الذين يُفشلون الصف الإسلامي.
(هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ) إشارة إلى أنهم كانوا مذبذبين ولكنهم في هذه الحالة التي تكلم عنها الله سبحانه وتعالى كانوا أقرب للكفر منهم للإيمان ومآلهم في النهاية كان إلى الكفر. ما فائدة هذا الخطاب؟ هو خطاب خاص بتلك الحالة التي حدث فيها الخذلان من المنافقين فالله يبين أنهم في هذا الوقت هم للكفر أقرب منهم للإيمان. سؤال. عندما يثبت لهم جزءاً من الإيمان, ما هو هذا الجزء إذا قلنا أن الإيمان أعمال قلبية ؟ الإيمان أجزاء كما أن الإسلام أجزاء. هذه الحقيقة يجب أن تكون معلومة. ولذلك أهل السنة يقولون أن الإيمان يزيد وينقص بحسب الأعمال وما يقع في القلب من تصديق الله عز وجل والتوكل والإخلاص. هم يؤمنون بالله ويؤمنون بموسى وإبراهيم ونوح ويؤمنون بكثير من الأنبياء الذين سبقوا موسى لكنهم ينازعون في عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. وهم يعلمون محمدا كما يعلمون أبناءهم كما ذكر القرآن ولكن كذبوا به. هذا التكذيب أضر بإيمانهم كله. صار القدر من الإيمان الموجود في قلوبهم لا ينجيهم من الله لا ينفعهم في قبول إيمانهم وكذلك المنافقين . هذا القدر لا ينفع في براءة الذمة ولا في السلامة من العقوبة ولا في القبول عند الله . فهناك قدر من أصل الإيمان لابد أن يأتي جميع أركان الإيمان الستة إذا كذبت بواحد منها كأنما كذبت بها كلها. الذين كذبوا بنوح عليه الصلاة والسلام { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) الشعراء} لماذا قال كل المرسلين وما جاءهم مرسلين، إذا لماذا كذبوا بكل المرسلين؟ لأنهم كذبوا بنوح ومن كذب بالرسول كأنه كذب الرسل جميعا ولاحظ أن من كذب بالرسل فقد كذب بالله. والمعنى أن الإيمان الموجود مسماه فعلا ايمان ولكن هذا القدر من الإيمان لا ينفعهم بأن يكونوا مؤمنين ولا أن يخلصوا من عقوبة الله .
الألسن مغارف القلوب
(يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) جاء بفعل مضارع للدلالة على التجدد وهذا يبدو أن يكون ملازما للمنافق. لأن النفاق يتجدد مرة بعد مرة. ويقال عن سيرة عبد الله بن أبيّ بالذات أنه كان يمارس أعمالا في غاية الصفاقة فكان في يوم الجمعة يصعد على المنبر يستنصت الناس ويقول “أيها الناس هذا رسول الله إستمعوا وأنصتوا” بطريقة كان يمجّها كثير من الصحابة والكل يعلم أنه هو كان رأس المنافقين وهو كاذب. وقال العلماء أنه ما يُنسب القول للأفواه إلا كان المراد به التكذيب. مثلا في قصة الإفك (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) نسب القول للأفواه ولذلك دل على أنه كذب. وكذلك في سورة الفتح وفي غيرها من سورة القرآن وذكر ذلك القرطبي وتكاد تكون مضطردة. نسبة القول بالألسن دل على أن القائل كاذب والكلام كذب. يقول الناس الآن إذا سمعوا كلاما يعرفون أنه كذب يقولون هو “كلام” أي ليس له قيمة وليس هو بحقيقة . الناس يظنون أن الصدق هو مطابقة الكلام للحقيقة. الحقيقة أنه في القرآن الصدق هو مطابقة الكلام للواقع ولما في القلب وإلا لا يكون صدقاً بدليل { ذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) المنافقون} هذا الكلام صحيح ومطابق للواقع ولكن لم يطابق ما في قلوبهم.{ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } لماذا سماهم كاذبين؟ لأنه غير مطابق للقلوب. هم صادقون في قولهم إنه رسول الله لكنهم كاذبون في الشهادة. والعلماء يقولون أن تمام الصدق هو أن يطابق الكلام ما في الواقع وأن يطابق ما في القلب وهذا تمام الصدق. وهذا هو معنى بيت الأخطل الذي يستشهد به كثير من العلماء:
لا تعجبنّك من خطيبٍ خطبة حتى يكون مع الكلام أصيلا
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلا
اذا كان الكلام من القلب ويظهر على اللسان. أما إذا كان { يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } فهو ليس بصدق. ولذلك يقال عن خالد بن معدان التابعي المشهور كان يقول أن الألسن مغارف القلوب يعني نقّوا قلوبكم حتى إذا غرفت ألسنتكم شيئاً تغرف شيئاً من مكان نقيّ. هذا من التزكية الموجودة عند السلف والتي نفتقد كثيرا منها اليوم. في مرحلة الثانوية التي هي مرحلة التشكيل فلو أن الطالب اعتنى في هذه المرحلة بتزكية قلبه ونفسه وقرأ في كتب الزهد والزهد غير ما قد يتصور السامع من تقشف وإنما المقصود به التزكية وتربية القلوب. قيل للإمام أحمد هل يمكن أن يكون لأحد مال ويكون زاهدا ؟ قال نعم اذا كان في يده وليس في قلبه. قد ترى غنياً وافر الغنى وتجده زاهداً.
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) فيها نوع من التهديد لهم وقد تحدثنا من قبل عن لازم الخبر وهنا فيه تهديد لهم وتخويف للمؤمن وأن الله مطلع على ما في القلوب وأن على الإنسان أن يكون حذرا. وهذا لا نكاد نجد لها مثيل في المناهج الوضعية وهو التربية الذاتية للمسلم أن يكونالرقيب ذاتياً وأن يوقظ الإنسان في نفسه الرقيب الذاتي { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) } آل عمران و{ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) } آل عمران و{ إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) الأحزاب } . أنت الآن بمفردك تستحضر معاني هذه الآيات العظيمة ورقابة الله عليك وأنه مطلع على كل ما في صدرك وأنه خبير به ولا يخفى عليه شىء من أمرك فتستيقظ في نفس الإنسان هذه الصفة وهي مراقبة الله في السر والعلن فتزكو نفس الإنسان وهذا من أهم معاني التزكية. استحضار رقابة المدير قد تعينك ولكن ليس مثل إستحضارك لمراقبة الله سبحانه وتعالى .للإنسان
(الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
يستوقفني قوله تعالى (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أنتم الآن إنسحبتم من المعركة وتركتم المؤمنين وسيجيئكم الموت كيف ستدرؤه عن أنفسكم؟ لا تستطيعون. والتعبير بلفظ (فَادْرَءُوا) كأنه شيء لا بد منه ثقيل وتفر منه النفس فالمطلوب أن تدرأ عن نفسه لكن لا تستطيع كما قال تعالى في مواطن أخرى { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ }من 78 النساء, جاء التعبير عن الموت في القرآن بطريقتين. { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } فصوّر الموت على أنه يلحقك ويدركك. وفي سورة الجمعة قال { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) الجمعة} لم يقل فإنه مدردككم فعبر بتعبير أروع أنه ملاقيكم إذا فررتم منه من جهة جاءكم من جهة أخرى (يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) القيامة).
(الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) الأخوة هنا ليست أخوة في الدين بل أخوة في الوطن لأن أغلبهم كانوا من الخزرج. من يقولون دواعي الوطنية البحتة التي لا ترتبط بالدين هذا غير صحيح وهذا لعب. كم رأينا من يكونوا إخواناً في الوطن وتكون بينهم من العداوة ما لا يعلمهم إلا الله. كيف نجمع هؤلاء؟. هؤلاء المنافقين هم من الأوس والخزرج واليهود كانوا مواطنين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وخذلوه. كل القبائل اليهودية الثلاث خرجت من المدينة بواقع الخيانة العظمى التي هي إخلال بأعظم مقومات الوطنية والمواطنة. هم مواطنون في المدينة منذ مئات السنين وليسوا وافدين ولكن الناس الذين يقولون أن الوطنية يجب أن يجتمع الناس تحتها هذا غير صحيح ولا يوافقه الواقع ولكن حقيقة ما يجمع الناس هي المبادئ. المنافق عبد الله بن أبيّ كان ينظر أنه هو صاحب الوطن {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) المنافقون} الأعز يقصد بها نفسه والأذل يقصد بها الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرين ويرى أنه هو صاحب البلد وأن النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين هم الوافدون. { قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا } الإشارة هنا في قعدوا فيه مه أنه سبق التأكيد على انخذال هذا الجزء من الجيش فيه نوع من التأكيد أنهم أهل قعود { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) التوبة} القعود عن الجهاد صفة ذم في هذه المواطن. فهذا تصوير لحالهم (َالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا) القول والقعود وهذه قاعدة في العطف لو قيل قالوا وقعدوا أو قعدوا وقالوا هي متساوية ومتلازمة فهم حال قعودهم قالوا. وحال قولهم قعدوا.
تلاحظون أن المنافقين كأنهم يريدون أن يضخموا الخسائر ويقللون النصر في أعين المسلمين لكي يبرروا قعودهم وإنخذالهم ولذلك بيّن الله بعد هذه الآيات التالية أن من استشهدوا ما قتلوا وإنما انتقلوا للحياة الحقيقية فكأنه يريد للمؤمنين الصادقين أن ينتشلهم بعد الجراح من مشكلة المنافقين وهذه الأراجيف التي دائما تشيع بعد الإنتصارات . ثبت المؤمنون في فلسطين فأخذ المرجفون والمحللون يسحبون كل صور الإنتصار ويحولونها إلى هزيمة. كيف انتصرتم وقد قتل منكم كثير؟. كيف تقولون أنكم انتصرتم وفيكم جرحى؟!. والعجيب عندما ننظر إلى أهل الأرض لم نجد في القنوات واحدا قد تجهم أو غضب مما حصل.
فضل الشهادة
إن فلسفة الإنتصار الحقيقي للمعركة { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أنه كان يغيب عنهم هذا المعنى الرائع في الشهيد وخاصة من استشهد في المعركة حمزة كان قتلته شنيعة. رماه وحشي بالحربة فوقعت في خاصرته وخرجت من ظهره. يقول وحشي رأيت حمزة في أثناء المعركة وهو يهدّ الناس هداً بسيفه مثل الليل فاختفيت وراء شجرة حتى تمكنت منه فرميته رمي الحبشة (خبراء في رمي الحراب) فإتجه إليّ ارادني قال فإبتعدت عنه حتى سقط. فتركته ثم نزعت رمحي فجاءت هند بنت عتبة رضي الله عنها وهي على الشرك فبقرت بطنه وأخرجت كبده ولاكتها وألقتها. كيف كان شكل حمزة في هذا الحال؟! ولما وقف عليه صلى الله عليه وسلم وكان في غاية التأثر قال (لن أُصاب بمثلك) تخيل موقفه صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إلى عمه ثم يقول الله سبحانه وتعالى { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } هذا من الإيناس العجيب جدا. وهذا فيه ازدواج فهو من جهة ردٌ على المنافقين الذين هونوا من شأن الإنتصار. وفي قراءة ابن عامر (قُتِّلوا) مبالغة سبحان الله أي ما أكثر من قُتل منهم. وهذا يدل على أنهم بالفعل كانوا يشيعون روح الهزيمة. فهذه الآية رد على هؤلاء أن كنتم تحسبون أنهم قتلوا فهم لم يقتلوا بل في حياة أنتم لا تعلمونها ثم هي إيناس للرسول صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء انتقلوا إلى حياة أخرى. وفيه تحضيض أولا نفى عنهم القتل { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا } أحياء عند ربهم هذه العندية لها معنى ثم قال فرحين. أنتم مكلومين وهم فرحين { بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } هم فرحين بما آتاهم الله من فضله (ويستبشرون) حتى كأنه يحسّر الصحابة على أنهم ما استشهدوا أيضا وما كسبوا هذا المكسب العظيم. وهذا ديدن الصحابة كانوا يعبرون من قُتل في المعركة له مزيّة. كما قال عبد الرحمن بن عوف لما قُتل مصعب قال قُتل مصعب وهو خيرٌ مني.
وفي الحديث: سألنا عبدالله ( هو ابن مسعود ) عن هذه الآية : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } قال : أما إنا سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال ( أرواحهم في جوف طير خضر . لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة . فقال : هل تشتهون شيئا ؟ قالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ . ففعل ذلك بهم ثلاث مرات . فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يُسألوا ، قالوا : يا رب ! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى . فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُركوا ) . الراوي: مسروق المحدث: مسلم – المصدر: صحيح مسلم – الصفحة أو الرقم: 1887 – خلاصة الدرجة: صحيح
وذكر فضل الشهداء في القرآن والسنة النبوية كثير. في هذه السورة وأيضا في سورة البقرة في قوله سبحانه وتعالى { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) البقرة} . هنا يقول { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } والحديث شرح ما جاء مجملا في هذه الآية. ويرزقون جاءت بالفعل المضارع دلالة على التكرار مرة بعد مرة. هذا في الحياة البرزخية وما جاء في سورة البقرة هو في الجنة (كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ (25)). لما قال فرحين حال ويرزقون فعل كأنه دلالة على أن قوله فرحين أنها صارت صفة لازمة فيهم وهو من الفرح المحمود لأنهم فرحين بنعمة الله وهذا الفضل هو منّة زائدة من الله .
لما قال فرحين قال (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) كأن المسلم الأصل فيه أن إذا كسب نعمة أن يدعو إخوانه لها وهذه من الصفات الموجودة في الكُمَّل والخُلَص. لاحظ الرابطة بين المؤمنين: هؤلاء ماتوا ومفروض أن ينسوا الدنيا وما فيها ولكن رابطة الأخوة تجلعهم يهمهم إخوانهم واشتاقوا أن ينال إخوانهم ما نالوه هم{ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) الزخرف} ومصداقه في قصة الرجل المؤمن الذي قتل { قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) } يتمنى لهم مثل ما وجد لنفسه من الخير ومن الفضل. المقصود بالشهيد عندنا أولاً هو من يقتل في المعركة في سبيل الله وقد قال العلماء أن الشهداء نوعان شهداء الدنيا والآخرة وشهداء الآخرة. شهداء الدنيا والآخرة هم الذين يقتلون في سبيل الله. أما شهداء الآخرة فقط فهؤلاء كثير وهذا من فضل الله ورحمته بعباده أن جعل الله الشهادة ينال فضلها آخرون يلحقون بهؤلاء { أتعلمون من الشهيد من أمتي ؟ فأرم القوم ، فقال عبادة : ساندوني . فأسندوه ، فقال : يارسول الله ! الصابر المحتسب . فقال رسول الله : إن شهداء أمتي إذا لقليل ، القتل في سبيل الله عز وجل شهادة ، والطاعون شهادة ، والغرق شهادة ، والبطن شهادة ، والنفساء يجرها ولدها بسرره إلى الجنة ، [ قال : وزاد أبو العوام سادن بيت المقدس : ] والحرق ، والسل الراوي: راشد بن حبيش المحدث: الألباني – المصدر: صحيح الترغيب – الصفحة أو الرقم: 1396خلاصة الدرجة: حسن صحيح } وسّع صلى الله عليه وسلم معنى الشهادة. لكن هؤلاء الشهداء ليسوا في منزلة الشهيد ولا يعامل معاملته لأن الشهيد لا يصلى عليه ولا يغسل ويكفن في ثيابه أما هؤلاء فيغسّلون ويصلى عليهم ويكفنون كما يكفن سائر الموتى لكن الشهيد لمكانته ولعلو منزلته عند الله لا يصلّى عليه لأن الصلاة أصلا إستشفاع للميت وهذا شفعت له دماؤه وشفع له إقدامه على الموت { للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في أول دفعة ويرى مقعده من الجنة ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين من أقاربه . الراوي: المقدام بن معد يكرب المحدث: الترمذي – المصدر: سنن الترمذي – الصفحة أو الرقم: 1663. خلاصة الدرجة: حسن صحيح غريب } واحدة منها كافية أن يقدم الإنسان روحه لله عز وجل في مكانها الصحيح فكيف إذا اجتمعت هذه كلها من الله وما لا نعلمه أكثر.
وأيضا من معاني { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } قضية الإستبشار بالشهادة أولا والإستبشار يالإيمان والإستبشار بنصر الله لعباده المؤمنين وتوقع الخير للمسلم والظن به الظن الحسن. هؤلاء قد ماتوا وأصبحوا عند ربهم ولكن بالرغم من ذلك يستبشرون ويحسنون الظن بإخوانهم من خلفهم انهم سيسيرون على نفس الطريق وينالون نفس الأجر ومعنى الاستبشار تجده في القرآن . كما في سورة التوبة{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) التوبة} ففكرة الإستبشار في القرآن والإستبشار في الشهادة في سبيل الله سبحانه وتعالى والاستبشار بفضل الله وأن هؤلاء المؤمنون يستبشرون أن ينال اخوانهم من الشهادة مثل ما نالوا هم { لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه . الراوي: أنس بن مالك المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم: 13. خلاصة الدرجة: [صحيح] } وموقف هؤلاء الشهداء من أعلى المواقف في محبة الخير لإخوانهم . أي أن استبشارهم هنا ليست للطلب بل من باب البشرى.
(فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } لا خوف عليهم فيها تغيير النظم وهو أحد أسباب الإشكال في التفسير والفهم. إذا تأملنا النظم قال { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ثم قال { فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ثم قال { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} ثم قال { أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} قد يظن البعض أنها يستبشرون ألا خوف عليهم فيكون (يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) ما موقفها؟ ولهذا ننتبه إلى أهمية علم الإعراب في أنه يكشف المعاني. قد يقول قائل أن الصحابة لم يكن عندهم إهتمام بالإعراب وذلك لأن الإعراب كان عندهم سليقة أما نحن فنتكلف لكي نفهم وهذا ما يدل على أهمية العلم لأنه مهم جداً في هذا الباب. لما ننظر إلى (ألا خوف عليهم) نجد بعضهم قال هي بدل من قول (بالذين) يعني يستبشرون بالذين بألا خوف. وبعضهم جعلها مفعول لأجله كأنه قال يستبشرون بالذين من خلفهم لأنهم لا خوف عليهم. وبعضهم جعلها مفعول لفعل محذوف وهو يقولون كأنها يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم ويقولون للذين يلحقون بهم أقدموا فلا خوف عليكم ولا تحزنون. من الأشياء التي تشكل على طالب العلم المبتدئ قوله { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} فيظن أنها يجب أن تكون (أمواتٍ) لأنها مختومة بالف وتاء يعني من جمع المؤنث السالم ولكن هي ليست جمع مؤنث سالم وإنما جمع تكسير لأن أصلها (ميِّت) فالتاء أصلية والآن صارت جمع تكسير وليس مؤنث سالم فقال (أمواتاً) لأن الألف والتاء مزيدتين و (أمواتاً) مفعول به لفعل (تحسب). أما فى آية البقرة { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) البقرة} اختلف النظم فاختلف الإعراب (أمواتُ)
وأيضاً انظر إلى مكانة هؤلاء الشهداء عند الله سبحانه وتعالى كيف نقل الله حتى رغباتهم النفسية لإخوانهم الذين على قيد الحياة الآن يموت الميت ولا تدري ماذا يريد منك لكن في الاية الله سبحانه وتعالى نقل ما يتمناه الشهيد لك ونقل لك فضله ومكانته وجزاؤه عنده ونقل ما يتمناه لك، نسأل الله أن يرزقنا الشهادة في سبيله.