برنامج بينات

برنامج بينات – آل عمران 31

اسلاميات

الحلقة 31

 

فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)

 

أسباب التمكين للدين

إن هذا التعقيب القرآني على الغزوة العظيمة وهي ثاني غزوة من الغزوات الكبار في تاريخ الإسلام تعطينا إشارة إلى أسباب التمكين لهذا الدين في الأرض وأنه لا يمكن أن يتمكن الحق إلا بتضحيات وبذل وجراح وإبتلاءات قد تزهق فيها الأرواح بل تزهق فيها أرواح الصفوة الغالية. ونريد أن نتحدث عن ما في هذه الآيات من أسباب النصر والتمكين للمسلمين والرسل.

 

ذكر الله الصبر وكان الحديث عن الصبر في القرآن حديثاً متواصلاً على أنه من أسباب التمكين الكبيرة خاصة في قصة موسى عليه السلام {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الأعراف} كثر الحديث عن الصبر في قصة موسى وكيف ثبتهم الله بهذا.

 

وفي قصة سليمان عليه السلام جاء الحديث عن أسباب نصره وتمكينه بكثرة جنوده فقال {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) النمل} أشار إلى كثرة الجنود والإستعداد. وفي قصة النبي صلى الله عليه وسلم تحدث عن الصبرر وفي أُحد ظهر الصبر أنه سبب من أسباب التمكين في الأرض وإنه لا يمكن هذا الدين إلا بالإبتلاء والتمحيص {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) آل عمران }

 

التقوى أيضاً من أسباب النصر. {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)  آل عمران} .

 

وعدم التنازع أيضاً ونلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ بشوراهم قطع كل إختلاف بعد ذلك وهو لا شك من أسباب التمكين لأن التنازع هو أكبر سبب من أسباب الفشل وكونه يوجد أكثر من فريق للمسلمين هذا يدل على الفشل، قاعدة في الإسلام أن وجود الأحزاب والتحزبات دلالة على فشلنا. إذا تحزبنا لأشخاص أو لمبادئ أو غايات غير الراية التي قام عليها محمد صلى الله عليه وسلم وغير المهنج الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم ولنعلم أن هذا من أسباب الفشل. وعلينا جميعا أن نرجع إلى منهج محمد ونلتف حول هذا المنهج كما قال تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) آل عمران}. وهذا من صور العلو لمنهج الحق {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) آل عمران} من مظاهر الإستعلاء لمنهج الحق هو الوحدة وتوحيد الصف وتوحيد الكلمة والإستقامة على منهج صلى الله عليه وسلم أيضا. من أسباب التمكين أيضاً أولاً ترك الذنوب كبيرها وصغيرها. وترك المعصية حتى للقائد ومن ولاه الله عز وجل أمرنا فإن طاعته فيما ولاه الله إياه واجبة علينا ما لم تكن معصية ومخالفته ولو كنا نرى أنها أحسن أو أخير فإن فيها إخلال بنظام المؤمنين في تعاملهم مع إدارة الحرب. الرسول صلى الله عليه وسلم لما شاور أصحابه وقد أمره الله بالشورة وامتثلها لم يخالف الشورى وحاول أن تنسجم الأمور . والصحابة أيضاً كان يجب عليهم أن يلتزموا أمر الرسول ولا يعصوه فلما عصوه أراهم الله ثمرة هذه المعصية وكيف عجل الله لهم العقوبة {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) آل عمران} .

 

وأيضاً من أسباب التمكين الدعاء {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) آل عمران} وفي سورة البقرة {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} أي جاء النصر بعد الدعاء مباشرة . أيضاً من الأسباب الشورى. إذا كان الرعية والجنود يعامَلون كالقُطعان على أنهم أدوات أو آلات فلا شك أن تفقد معنويات الجنود وإخلاصهم لقائدهم وللمبدأ الذي يعيشون له. ولذلك جاء الأمر “شاورهم”. أنت يا خير البشرية صلى الله عليك وسلم أكمل عقلاً وخير الثقلين لماذا يستشير من دونك؟ ولو كان أحد يستغني عن الشورى فهو أنت؟. يمدحهم الله تعالى أن (وأمرهم شورة بينهم) معنى ذلك أن الشورى من أسباب قوة الجيش وولائهم لقيادته ولمبدئه ثم كل جندي يشعر أنه مسؤول عن النصر والهزيمة. ولو ما شاورهم يقولون نحن لم نرد الحرب ولم نكن راضين. ومن أسباب التمكن أيضاً لما ذكر الله عز وجل “لا تهنوا” عدم السماح للوهن أن يدخل إلى القلوب والوهن هو الضعف ودخول الأسباب التي تجعل القلب ليس فيه عزيمة (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)) أي لا يجوز أن تسمحوا للوهن أن يدخل للقلوب. وقد يقول شخص أن الوهن يتسلل وهذا حق والشيطان لنا يقف بالمرصاد ولكن يجب علينا أن نضع العلماء في وسط الجيوش والمربيين والدعاة إلى الله عز وجل يتلوون عليهم القرآن يذكرهم بحقيقة هذه الحرب التي بيننا وبين أعدائنا، كلمات بعد الصلوات وقيام الليل تبعد هذا الوهن ونذكرهم بحياة الشهداء {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)  آل عمران} إذا كنت خائفاً من القتل فإذا قتلت ستلقى خيراً مما لو تُركت. ومن أسباب التمكين مسارعة الإستجابة لله وللرسول { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) آل عمران} أي لا يكفي أن تطيع فقط بل تسارع . وفي تعقيبه تعالى على الشهداء { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) آل عمران } كانت صفة الإستجابة لله والرسول هي الصفة التي أهّلتهم لهذه العاقبة العظيمة وليس المقصود الإستجابة في موطن الحرب فقط بل الإستجابة لله المطلقة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)  الأنفال} والله تعالى والرسول لا يدعو إلا لما يحيي الإنسان..

 

توسيع معنى الشهادة

ينفي القرآن الخوف والحزن لما قال لا خوف أي في المستقبل ولا حزن على ما فات { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الحديد} وقال أيضا { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) البقرة} وهذا كثير في القرآن وهما ضمان في الماضي والمستقبل، وهما أمران يكادان يكونان متلازمين. أن يخاف الإنسان على مستقبله أو يحزن على شيء يفوته فيقال لك عندك ضمان لك في الماضي والمستقبل وهذا أمن ليس بعده أمن، إذا ضمنت على المستقبل وأمنت من الماضي لا يبقى عندك ما تخاف منه.

في المرة السابقة كنا نتحدث عن الشهيد وفضله وقد يقول قائل أن هذه فرصة لا تسنح إلا لقلائل من الأمة (فرصة الإستشهاد في المعركة) ولكن الله سبحانه وتعالى رحيم فتح الله لنا الفرصة بالنيّة فمن سأل الله الشهادة بصدق بلَّغه منازل الشهداء وإن مات على فراشه، هذه رحمة من الله. ولذلك نقول يا عبد الله أكثر من التطلع إلى هذه المنزلة فقد تموت في فراشك فيجعلك الله تعالى محشوراً مع الشهداء. السؤال أن تسأل الله الشهادة بصدق. ولذلك لما خرج صلى الله عليه وسلم بالصحابة في غزوة تبوك ترك صلى الله عليه وسلم في المدينة بعض الصحابة يتمنون أن يخرجوا معهم ولكن حبسهم عذر فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة تبوك ، فدنا من المدينة ، فقال: ( إن بالمدينة أقواما ، ما سرتم مسيرا ، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ) . قالوا : يا رسول الله، وهم بالمدينة ؟ قال : ( وهم بالمدينة ، حبسهم العذر ) . الراوي: أنس بن مالك المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم: 4423. خلاصة الدرجة: [صحيح]} . الجهاد باب أوسع من القتال، ولا يشترط أن يكون الجهاد بالخروج إلى المعركة بل الجهاد بماله ودعاءه. { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ، ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا ) . .الراوي: زيد بن خالد الجهني المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم: 2843.خلاصة الدرجة: [صحيح] }. باب الجهاد مفتوح والحمد لله . ونحن نتحدث عن آيات الجهاد في يومنا هذا ننظر يمينا ويسارا كأنه يتحدث عن شيء محرم بينما هو ذروة سنام الدين حتى تكلم النبي صلى الله عليه وسلم عن أجر الشهيد وعاقبته وشارك بنفسه وتعرض للشهادة والصحيح أنه مات شهيداً لأنه مات مسموماً. والمفروض أن نتحدث عن هذه الشعيرة بصوت مسموع . صحيح أن هناك بعض الممارسات الخاطئة ولكنها لا تقدح في أهمية الجهاد في سبيل الله . هل بالفعل نحن صادقون أن نحذر الناس من هذا الأمر؟ إذا كنا صادقين فلنغلق وزارات الدفاع في البلاد كلها وفي البلاد الإسلامية. الجهاد جزء من حياتنا ونحن جهادنا على مبدأ وليس من أجل التوسع أو المال بل لأجل الله .ولكن يقام بشروطه المعتبرة شرعا أي في سبيل الله. ونحذر من الوقوع في ما يسيء إليه أو في غير ما شرع الله باعتباره هو جزء لا يتجزأ من حياة الناس  ومن كينونة وجود الناس في الأرض { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)  البقرة} ولو تركت أنت السلاح ما تركه عدوك. وهذه قاعدة مهمة في الحياة. الله سبحانه وتعالى منذ أن سال دم بني آدم كتب القتل على بني آدم. وفي قوله { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)  البقرة} ما أجمل أن يسفك دمك في سبيل الله لإعلاء كلمة الله كما كان من النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المعركة . هذا طريق نسأل الله تعالى أن يبلغنا إياه.

 

{وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} هذه قاعدة قرآنية { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) الكهف} فلينظر المسلم في هذه الفاصلة التي ختمت بها الآية . لم يضيع الله أجر الشهداء وأثابهم الثواب الكبير بل زادهم { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)  آل عمران} وهذا من حسن ظنهم بربهم ولهذا وصفهم بأنه استجابوا لله ورسوله. الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين قتلوا ولا يضيع أجر المؤمنين الموجودين الآن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما اصابهم القرح.

 

سرعة الإستجابة لله ورسوله

الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)

 

القرح المقصود { إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ }(من 140 آل عمران) ما أصاب المؤمنين من الجراح في معركة أحد والإنكسار. وهذه الآيات لها مناسبة تتعلق بحمراء الأسد. كان القتال في أحد في النصف من شوال قي السنة الثالثة وكان يوم سبت. وحصل الإنكسار وحصل ما حصل لرسول الله وأصحابه ثم رجعوا إلى المدينة وتسامع أصحاب النبي بأن أبا سفيان وقريش ينوون الرجوع إلى المدينة. والحقيقة أن المشركين لما أصابهم ذهول الإنتصار وأرادوا أن يحافظوا على هذه الغلبة فرجعوا فقال هؤلاء انكسروا فلماذا لا ترجعون إليهم؟ . جاءت هذه الشبهة ولما سمع صلى الله عليه وسلم أراد ألا يطمع أهل مكة وقريش في المدينة وفي المسلمين فأمر من قاتلوا بالأمس أن يخرجوا ويلحقوا بعدوهم. وهذا فكرة غاية في الدلالة على أنه صلى الله عليه وسلم قد أوتي مجامع الحكمة والقيادة من أعلى جوانبها فأمر الصحابة الذين شهدوا أُحداً فقط أن يخرجوا ولم يأذن لأحد من من لم يشهد أُحد أن يخرج إلا جابر بن عبدالله رضي الله عنه. كانوا منشغلين بالجراح وكان بعضهم يحمل بعضهم على ظهورهم. ولكن انظر للإستجابة التامة لله ورسوله. هذا لا يطيقه الإنسان إلا إذا إمتلأ قلبه إيماناً ومحبة الله ورسوله وصدقا ويقينا وهذا ما حدث بالفعل. خرجوا حتى وصلوا حمراء الأسد. وتقع حمراء الأسد على طريق المدينة مكة فإذا خرجت من الحذيفة ترى الجبل على يمينك قائم سطحه أو رأسه مستوى وطرفاه من الغرب إلى الشرق. هذا هو جبل حمراء الأسد . ووصلوا إلى هناك وخيّم به الرسول صلى الله عليه وسلم حتى سمع بهم أبو سفيان فعرف أن ما أصابهم بالأمس هي عثرة أو كبوة جواد وليست هي انكساراً تاماً أو هزيمة، هي مصيبة ولكنها لم تكن القاضية { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)  آل عمران} وسمع أبو سفيان بما حصل فهرب ولذلك سميت حمراء الأسد وجاءت الآيات لتثني على من خرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم واستجابوا له بعد ما أصابهم الأذى الكبير. يكفيهم أن 70 من الصحابة يقتلون وهذه تحتاج لأسبوعين حتى الواحد يشفى نفسيا ويتخلص من آلآمه ويصلح حياته. قتل حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أيضا صلى الله عليه وسلم كان مجروحا. هم خرجوا جميعاً استجابة له ولم يعترضوا. أراد أن يتم الأمر لهؤلاء وحتى يظهر لأولئك أنهم وإن أصيبوا في الأمس فهم قادرون أن يحققوا مرادهم ويصلوا إلى عدوهم. الله يكلف عباده المؤمنون ليرفع درجاتهم. هم في هذا الموقف في أمس الحاجة للراحة بعد المعركة والله قادر أن يكسر شوكة قريش من دونهم ولكن الله أراد أن يرفع درجاتهم فأراد أن يحملهم على ذلك حملا. وكان رسول الله قد جرح وشج رأسه وكسرت رباعيته وعندما أراد أن يصعد فوق إحدى الصخور في جبل أحد ما إستطاع مع أنها كانت قريبة حتى صعد على ظهر أحد الصحابة. وبالرغم من ذلك يؤمر بالخروج في اليوم التالي، فيها مشقة ولكن الله أرادها لهم لكي يرفع لهم الدرجات ويكونوا قدوة لنا. مثلاً في مشقة الحج والجهاد أنس بن النضر قيل أنه ضرب أكثر من ثمانين مرة تشوه تماماً حتى لم يُعرف من الضرب والتشويه،فالدرجات العلا من الجنة لا تنال إلا بالتعب والجهاد. نحن ندعو أن يكون القارئ متبصرا بالآيات أن يقرأ غزوة أحد أولا ثم يقرأ الآيات فستجد من نفسك تفهم من المعاني واللطائف والأسرار الكثير ما لا تفهمه لو كنت تقرأ مباشرة.، الآيات تسلط الضوء على لقطات من المعركة وليست المعركة كلها.

 

الثبات على الحق

{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} العلماء يقولون أن”الناسُ” هي العامة المراد به الخصوص. والمقصود أن أبا سفيان كان يريد أن يثبط المسلمين فأرسل من يقول أن أبا سفيان يجمع جنوده ليعود إليكم فسمي هنا “الناسُ” فهذه عام مراد به الخصوص. أما الناسَ” المقصود بها أبو سفيان ومن معه. وهو العام مراد به الخصوص.و العام على ثلاثة أنواع كما ذكر العلماء: عام غير مخصوص مثل {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)  الأحزاب} فهذا لا يمكن أن يخص. والثاني عام مخصوص وهو كثير في القرآن {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} من 11 النساء لا يراد به كل الأولاد فإن ولد القاتل والكافر لا يدخل فيها. الثالث هو العام الذي أريد به الخصوص وهو الذي ذكرناه هنا. وهو يكون لفظه لفظ العموم ولكن المتحدث يريد شخصا معينا. والعام في موضع يخصص في موضع آخر. وأنواع التخصيص متعددة. والعام المراد به الخصوص من لطائف علوم القرآن، قد يقال كيف نعرفه؟ فنقول انظر إلى هذا اللفظ هل يمكن تعميمه تعميماً مطلقاً على كل من يراد به؟ هذا إشارة إلى أنه مخصوص (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ) هنا هل كل الناس قالوا هذا الكلام؟ لا. إذن هو مخصص. ومثال ذلك أنه يكثر بين المعنيين بالإعجاز العلمي قوله سبحانه وتعالى {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) فصلت} .هذه الآية من العام المخصوص وليست من العام الباقي على عمومه. القائل يرى أن “سنريهم” عام في جميع الكفار . وأنا أرى أنها خاصة بأهل مكة فقط. ما هو دليل التخصيص؟ هذه الآية يجب أن تنطبق على كل كافر منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحتى الآن لكن هل كل كافر تحقق فيه الآية؟ جماعات كبيرة من الكفار تحققت فيهم الآية ولكن أهل مكة نعم. ولذلك تنبه ابن عاشور إلى لازم الخبر قال {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) فصلت} فيؤمنوا. وهذا وقع لكفار مكة وهذا دليل على أن هذه الآية ليست من العام المطلق بل العام الذى يراد به الخصوص مثل { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } فالآية خاصة باهل مكة ولو عممتها يجب أن تثبت أن الله قد أوقع معنى هذه الآية عند الكفار منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم للآن. اليوم في أهل الكفر هل وقع فيهم هذا؟ لا العلماء منهم فقط من آمن واهتدى إذا اقتنع أن ما عندنا حق. محمل هذه الآية على العموم المطلق سببه عدم فهم علوم القرآن، موضوع العموم طويل وهو من أكبر أنواع علوم القرآن والتي هي من صلب علوم القرآن هو علم العموم والخصوص.

في قوله عز وجل { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } فضلا عن الذي ذكرتموه ألا ترون أنه يقول للمؤمنين في كل زمان ومكان لو اجتمع الناس كلهم على أن يقولوا لكم شيئاً يخالف ما أمركم الله سبحانه وتعالى به فاعتصموا بالله وإياكم أن تنخذلوا من قبل مقالتهم. في زماننا هذا انظروا كيف أن الإعلام استحوذت عليه فئات من اليهود وصارت تتحكم فيه تسخره لخدمة أغراضهم وللصد عن سبيل الله ولكي يكون في خدمة مصالح الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم. ونحن قضايانا التي هي ذات حق واضح لا نستطيع أن نتواصل مع العالم بسبب أننا لا نملك الوسيلة الإعلاوية التي توصلها. ألا ترون أن عبر عن ذلك ليبقى المعنى يا أيها المؤمنون إذا قيل لكم أن الناس جميعا قد جمعوا لكم فلا تخشوهم واخشوني. يجب أن يكون عندكم من الثبات والصبر والتحمل واليقين بالله سبحانه وتعالى وبوعده وأنه لا يخلف الميعاد، إن كل قوى الكفر لو إجتمعت على أن تقاتل يجب أن يكون عندكم القوة والعزم والمدافعة والقيام بأمر الله عز وجل. وهذه لفتة رائعة جداً ومؤيدة بمواقف كثيرة وأن الصحابة كانوا دائما أقل عددا وعدة من أعدائهم وما كانوا يترددون أبدا، في مؤتة كان عدد المسلمين ثلاثة آلاف بينما كان عدوهم 120 ألفاً، ليس المهم العدد والنسبة ومع ذلك في كل مرة يحققون إنتصارات حاسمة بسبب توكلهم على الله . وهذه الأشياء التي تذكر لا تزيدهم إلا إيمانا ولا تربكهم وى تضعفهم بل تزيدهم إيمانا ويقولون { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }. في غزوة الأحزاب { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)  الأحزاب} لاحظ هذا المعنى هو الذي يجب أن يبقى. الآن أمريكا تأتي في العراق أو السودان تصاب قلوب كثيرة بالرعب، فيقال ستدك بنا المدن وتمتلئ القلوب رعبا وتبدأ الأراجيف في وسائل الإعلام. المفروض أن نكون أقوياء بالله عز وجل وأن نثبت ونزداد إيمانا كما في قوله الله عز وجل{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) التوبة} تأتي هذه الفتنة مستمرة ومع ذلك لا يتعظون من المرة الأولى. لا شك مبدأ اليقين بوعد الله. والثبات مبدأ ليس سهلا. الثبات في مواطن الفتن . نسأل الله الثبات في المعارك. وما أكثر المعارك في حياة المسلم حتى مع النفس. الثبات على المبدأ والإستقرار والتواصي به مبدأ ينبغي أن نصبر عليه.

 

(حسبنا) بمعنى كافينا. والوكيل سبق بيانه. قالوا { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} نعم الوكيل الله وكلوا أمرهم إلى الله سبحانه وتعالى وفوضوا أمرهم له. وفيها من معاني الكفاية. ونطيل فيها في المجلس القادم بإذن الله .