الحلقة 32
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
العموم والخصوص
(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) ذكرنا في الحلقة الماضية أنها نزلت في حمراء الأسد. وأن كلمة (الناس) الأولى في الاية مراد بها نعيم بن مسعود والثانية مراد بها الجموع التي كانت مع أبي سفيان. وتكلمنا عن علم العام والخاص وأن هذه من العام الذي أُريد به الخصوص وبيّنا أن هذا له ضوابط وأنه لا يكون هذا إلا في أناس معينين إما فرداً وإما جماعة. إضافة في موضوع العموم والخصوص أنها من المسائل العلمية اشتركت في علوم القرآن مع أصول الفقه. فمن يقرأ في علوم القرآن يجد العموم والخصوص “العام والخاص في القرآن الكريم” ومن يقرأ في أصول الفقه يجد العموم والخصوص. ولكن في علوم القرآن بعض الإضافات خاصة بالقرآن مثل عموم الأخبار وأمور تتعلق بالعقيدة. أي أن باب العموم والخصوص ليس خاصا بالأحكام الفقهية والشرعية. فهذا فرق بين تناول الأصوليين لها وتناول المتخصصين في علوم القرآن. وننبه القارئ في كتب علوم القرآن فهناك من يقول أن من كتبوا في علوم القرآن مثل السيوطي والزركشي لم يضيفوا جديدا على ما كتبهم من قبلهم من الأصوليين. نقول نعم وليس معنى ذلك اننا نحن لا نضيف ولذلك هناك جانب يتعلق بالأخبار وهذا مهمل وقد أغفل بالفعل .فنحن نضيف فيه كثيرا. ومن ما يمكن أن يضاف في هذه المسألة المهمة أن السلف عندهم قاعدة عامة وهي أنهم يعبّرون عن العام بمثال له وهذا جزء مما يتعلق بالمبحث العام. نقول إن كان علماء الأصول عُنوا بجانب الأحكام بالذات واشبعوه بحثا لأن مادة بحثهم كانت متعلقة بالأحكام إفعل ولا تفعل فإننا نحن أيضا يجب علينا أن نضيف إضافات مما تركه العلماء المتقدمون وهو يدخل في باب العموم.
أرسل الدكتور الشهري رسالتين: رسالة للمتخصصين في علوم القرآن أن يوسعوا دائرة البحث في الموضوع لتشمل ما لم يتحدث عنه الأصوليون عندما يدرّسوم مادة العموم والخصوص للطلاب يجب عليه أن ينظر نظرة أوسع من نظرة الأصوليون لأن كثيراً ممن يكتب في علوم القرآن نجد أن كل مراجعه في العموم والخصوص والمطلق والمقيد والمباحث المشتركة بين أصول الفقه وعلوم القرآن تجد أن المراجع كلها أصولية. ورسالة أخرى للزملاء المتخصصين في أصول الفقه أن يقتربوا أكثر من القرآن في دراستهم للموضوع وفي تطبيقهم وليتهم يطبقون هذه القواعد على القرآن الكريم أثناء تدريسهم لمادة أصول الفقه. ونحن ندرس في أصول الفقه في الشريعة كما ندرسها ونكتفي بمثال واحد لكل مسألة. ندرس آيات الأحكام في نفس الكلية فلا نجد صدى لتلك القواعد الأصولية التي ندرسها في مادة أصول الفقه . ولا زلت ادعو أن تفعل مادة أصول الفقه في تدريس آيات الأحكام مثلا كيف يطبّق باب العموم والخصوص باب المطلق والمقيّد وباب المجمل والمبين فيجد الطالب حلاوة ليس لها نظير عندما يطبق. وهذه دعوة عامة في العلوم الشرعية والتطبيقات وأذكر أن كان معنا دكتور محمد الخضيري والدكتور محمد بن صالح الفوزان في جلسات ورتبنا فيه أن يكون لنا نوع من التطبيقات في هذه المسائل فكانت مثمرة ولعل الدكتور محمد يعطينا بعض النماذج التي صنعها في أمثال القرآن.
أجاب د. محمد الخضيري إن مشكلتنا الكبيرة أننا ندرس العلوم الشرعية بأمثلة وقواعد جاهزة مسبقاً. ولكن أن يقول الشيخ مثلا إقرأ من أول النساء مثلا أين العموم فيها. وأين الخصوص؟ أين المطلق وأين المقيد وأين المبين؟ ويأخذنا آية آية سيكون عندنا دربة ومِران عظيمة جدا. أما أن نأخذ مثالاً واحداً في القياس (الخمر) وفي العموم (يوصيكم الله بأولادكم) وفي النسخ أربع آيات معروفة. لا يذكر مثال على التدرج إلا في تشريع الخمر بينما توجد آيات كثيرة المفترض أن تفعّل هذه المواد حتى تكون عملية في حياة الناس وهذا هو الإبداع وهذا هو الإعمال الحقيقي للعلوم الشرعية في حياة الناس. نجح أحد الأساتذة وهو من سوريا معنا في كلية الشريعة كان يدرّسنا النحو في السنة الرابعة. وفي يوم الأربعاء يعطينا واجبا يقول إعرب قول الله تعالى آية، سواء أخطأت أو أصبت المهم أن تحاول أن تعرب الآية. وفي يوم السبت يقف عند الباب يسحب الواجب وكل من جاء بالواجب أخذ نفس الدرجة سواء أخطأ أم أصاب يقول المهم شغلت مخك في إعراب الآية . وكان الإعراب ثقيل علينا أول مرة ثم تبين لنا أن إعراب القرآن أيسر من إعراب كلام الناس. ثم يكتب الآية ثم نعربها جميعاً كلمة كلمة وانتهى الدرس. إنتهينا من الفصل الدراسي وقد أُزيلت عنا رهبة الإعراب. والعجيب في الأمر كان معنا الدكتور محمد خميس في كلية المعلمين وهو تخصص لغه عربية ومعه قراءات وهو في الأصل دكتوراه في اللغة العربية فقلت ما رأيك أن نجلس جلسات لإعراب القرآن؟ قال لا مانع فجلسنا وأعربنا، في المرة الأولى أو الثانية قال لي هل تصدق أن هذه أول مرة في حياتي أجلس جلسة إعراب القرآن أنا أتهيب من إعراب القرآن ولا أحب أن أمارس هذا الأمر ولكن أنت الآن تجعل لي القواعد أمثلة حية من كتاب الله وهذا يعين على الفهم. وهذا ما حرص عليه عبد الخالق عضيمة في كتابه العظيم “دراسات لأسلوب القرآن” .
أيضاً في المسائل المشتركة بين علوم القرآن وأصول الفقه أخونا فهد الوهبي الآن يبحث هذه الحقيقة وله أشرطة ألقاها فيها معلومات مفيدة للغاية. وبيَّن ما هي المباحث التي تكلم فيها الأصوليون وما هي المباحث التي زادها الذين كتبوا في علوم القرآن ما يتعلق بعلوم القرآن وقد سمعت له في دورات علمية في الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والحقيقة والظاهر والمأوّل كان فيها إضافات وابداعات . هذه المسائل يمكن أن تكون في ثلاث دوائر دائرة مشترك بين علوم القرآن وأصول الفقه ودائرة لعلوم القرآن ودائرة لأصول الفقه.
التوكل على الله
(وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173))
بيّنا في الحلقة السابقة المعنى العام . هذه كلمة عظيمة ويشرع قولها عند مجيء أو جثوم أو إقبال الكرب والأخطار العظيمة التي تأتي علي المؤمنين فتصيبهم في الحالة النفسية في مقتل ما لم يؤمنوا بهذه الكلمة ويؤمنوا بمقتضاها. فإن سمعت خبرا تقولها يعني الله هو كافينا وهو نعم من يُتوكل عليه فيذب عنا ونكون في معيته فنظفر بالنصر والتأييد. كلمة حسبُنا يقال فلان فأحسبني أي كفاني. ونحن نفهم الكفاية فهماً من الواقع الفقهي أن الكفاية هي أدنى الدرجات للوصول إلى الحاجة كأنه بمعنى الكفاف. ولكن المقصود بها الكفاية التامة أعطاني فأحسبني أي كفاني كفاية تامة وأغدق علي. لما تقول حسبنا الله يعني الله كافينا من كل وجه، سيعطينا الله من فضله ويحفظنا ويؤيدنا ويرفعنا وهي كلمة كبيرة وقيل في الأثر أن جبريل عليه السلام نزل على إبراهيم وهو سيُلقى في النار فقال هل لك إليّ حاجة؟ قال أما إليك فلا وأما إلى الله فنعم وقال حسبنا الله ونعم الوكيل. فأحسبه الله وكان نعم الوكيل { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) الأنبياء} وأيضاً عن ابن عباس: { حسبنا الله ونعم الوكيل } . قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا : { إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } . الراوي: عبدالله بن عباس المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم: 4563 خلاصة الدرجة: [صحيح]. ولهذا نقول ليكن مما تذكر الله به هذه الآية { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } في مثل المواقف كلما سمعت خبراً سيئاً أو أذى لمسلم أو أمراً دهم المسلمين أو أيضا في ذاتك. بعض الناس لما يسمع هذه الأشياء يخاف ويبدأ يحسب حساباته ويفكر في كل شيء إلا في هذه الكلمة لكن نقول له قل هذه الكلمة وتفكر في معناها { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) الأنفال}وأن الكفاية والحسب من عند الله أي هو كافيك فلا تجزع منهم ولا تتوقع شرا ما دام الله سبحانه وتعالى ناصرك وكافيك ومؤيدك. ومن يتأمل فيها أن من كان الله معه لا يضره ولو خذله البشر جميعاً ومن لم يكن الله معه لم ينفعه شيء وهذا معنى (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)) هذه نفس المعنى وممكن أن نأخذ منها موضوعاً قيماً وهو كفاية الله لعباده المؤمنين لها آيات كثيرة منها هذه الآية وفي قصة إبراهيم وقصة يوسف وموسى والأنبياء كلهم وكيف أن الله كفاهم وعيسى كفاه الله وأنقذه
ثمرة التوكل
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
وهذه هي النتيجة عندما قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل كانت النتيجة (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ). ولكن كيف لم يمسسهم سوء وهم مثقلون بالجِراح ؟! ما المقصود بالسوء إذن؟ المقصود به أنهم لم يصيبهم سوء المعصية للرسول صلى الله عليه وسلم والله سبحانه وتعالى . ولكن هذه الجراح تندمل. ولكن ماذا فعل أعداؤهم { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) آل عمران } الناس يرجعون بالغنائم ولكن هم رجعوا ومعهم سخط الله. انظر إلى (فانقلبوا) عبّر بالفاء لأنها تدل على سرعة الإستجابة وأنه نصرهم وثبتهم وأعانهم وغفر لهم ورفع درجاتهم. و”فضل” أي أزيد مما كانوا يرجون تفضل عليهم بشيء زايد . ويمكن أن يكون من معاني السوء أنه لم يصبهم بعد ذلك أذى، لم يمسسهم سوء من المشركين. قال (لم يمسسهم سوء) وهم أصابتهم الجراح فكأنه تجاهل الجراح هذه إذا حملناها على غزوة أُحد لكن لو حملناها على حمراء الأسد هم لم يدخلوا في حرب أصلاً. هم حققوا الاستجابة ومع ذلك لم يمسسهم سوء وانقلبوا بالنعمة والفضل من الله. وتذكر بعض الروايات عنهم أنهم وجدوا من النشاط في غزوة خمراء الأسد والخفة ما كانوا لا يعهدون في أنفسهم لأنهم كانوا جرحى لكن لما استجابوا وجدوا من الخفة والنشاط وهذا من فضل الله عليهم لاستجابتهم للرسول.صلى الله عليه وسلم
(رِضْوَانَ اللَّهِ ) انظر التكرار فيما مر معنا { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) آل عمران } وهذا تأكيد وإشارة إلى أنهم رضي الله عنهم في هذه المعركة كانوا يسيرون في رضوان الله أُنظر أين رضوان الله في هذه المعركة؟ هو في الإستجابة لأمره بقتال المشركين والوقوف أمامهم والتصدي للمشركين ورفع الدين وبذل كل الجهود في نصرة هذا الدين، وهذا كله إتّباع لرضوان الله تعالى وهذه محاب الله فعلى الإنسان أن يحاول أن يتتبع محاب الله يتتبع ما يحب الله (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) لعلع الله تعلى يلحقه بهؤلاء.
أولياء الشيطان
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
المفسرون لهم قولان في الآية لا تعارض بينهما. وبالتأمل نجد أن هذا صحيح وهذا صحيح. فالقول الأول (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أولياءه أي الذين يطيعونه ويوالونه يخوفهم ولذلك يسيرون في حياتهم كلها في خوف. مثلا لا تطلق لحيتك أنك لو أطلقتها يقول ستتعرض للمشاكل والتصنيف بأنك رجعي وإرهابي وأصولي، هذا من تخويف الشيطان لأوليائه الذين أطاعوه ومشوا في دربه، يخيفهم كلما أرادوا خيرا ثبطهم عنه إذا أراد أحدهم أن يصلي مع الجماعة يخوفه أن الناس يتهمونه فيخيفهم ويوهمهم بهذه التوهيمات. والقول الثاني للسلف في هذه الآية (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أي يخوفكم بأوليائه. أي أن (أولياءه) منصوب على نزع الخافض. هذا خروج في الحقيقة عن الظاهر. ولكن له دليل ودليله هو تتمة الآية { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ } .نستفيد من الآية أن الشيطان يخوفهم ويخوف المؤمنين بأوليائه إذا أراد المؤمنون أن يفعلوا الخير قال انتبهوا الأعداء سيفعلوا بكم الأفاعيل سيجمعون عليكم من القتال والقنابل العنقودية وغيرها وتيدأ الأراجيف. أي يخوفكم أيها المؤمنون بأولياؤه قال الله { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ }. يجب أن نعرف أن أعظم مكايد الشيطان في صده الناس عن دين الله هي مكيدة التخويف.ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجبن ومن الخوف مما يلقيه الشيطان في نفوس المؤمنين. والخوف من أحد الأسباب التي وقع بسببها الفشل والتنازع الذي وقع في قلوب المجاهدين من الوهن والخوف من الأعداء وهذا من تخويف الشيطان ولذلك قال تعالى { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } يُظهر أنهم أقوى منكم وهذه التتمة (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ) تؤيد هذا المعنى. الواحدي في (البسيط في التفسير) وقف عند هذه الآية وأشار إلى قضية مهمة وهي أنك لا تفهم كلام السلف إلا إذا فهمت الإعراب فجمع بين الإعراب وبين كلام السلف في الآية ثم حلل تفسير السلفي في بعض المواطن. كان الإعراب بالنسبة لهم سجية. لما نقول { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ } قال السياق يخدم القول الثاني أي أنه يخوفكم بأولياؤه فلا تخافوهم. ولكن المعنى الأول أن الشيطان يخوّف أولياءه الذين اتبعوه هل هي بمعزل عن لا تخافوهم؟. إذا تأملت { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) النساء} يعني يزرع في نفوسهم الخوف فيتبعونه فلا تخافوهم لأن كيد الشيطان كان ضعيفاً , فكأن قوله (فَلَا تَخَافُوهُمْ) فيها المعنى اللازم إذا كان الشيطان يخوف أولياؤه فهم ضعفاء لأن مُخَوِّفهم ضعيف { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) النساء } فهذا يعتبر براعة ممن نبه على هذا المعنى وقد يقول قائل ما علاقة تخويف الشيطان بأوليائه؟ بينما يقول (فَلَا تَخَافُوهُمْ) نقول هذا هو الرابط.
ومصداق هذه الآيه نجده في الذين يخوفون الناس بالسحرة والكهان مثلا هؤلاء ضعفاء وهم أوسخ الناس يعيشون في الأماكن الرديئة لو كانوا يستحقون أن يُخافوا لعاشوا عيشة الملوك. بل إنهم بحاجة للملوك أكثر من حاجة الملوك لهم، ماذا قال السحرة لفرعون؟ { وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) الأعراف} لو كانت صناعتهم تنفعهم لما احتاجوا أن يقولوا ذلك.
وبعد أن حذر تعالى من الشيطان الذي يخوف أولياءه أنه أشار أيضا أن الكافرين كيدهم أيضاً في ضلال أيضا. الشيطان أصلا ولي للكافرين وأخذ على نفسه عهدا أن سوف يتفرغ لعداوة المؤمنين. فقال الله سبحانه وتعالى (فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) ولاحظ كيف قال (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعني شرط للتغلب على الشيطان وعلى أولياؤه أن تكون مؤمناً فكلما زاد إيمانك قل خوفك من الشيطان. المؤمن إذا إطمأن قلبه بالإيمان والصدق فإنه لا يخاف الشيطان وأولياؤه ولا يخاف من السحرة وغيرهم.
سنة الإملاء
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
في السورة هذه تكرار لكلمة “يسارعوا” { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) آل عمران } المسارعة إلى المغفرة أما هنا فالمسارعة إلى الكفر. النبي صلى الله عليه وسلم كان من شفقته على أمته أنه يحزن لما يرى هؤلاء على كفرهم ولذلك قال تعالى في سورة الشعراء والكهف (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)) لا تقتل نفسك من الأسى والحزن للذين لم يستجيبوا لك. وأنت بلّغت وأدّيت ما عليك ولكنه هو الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم .{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) الكهف } { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)} الشعراء).
قال (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) . لماذا يارب؟ { إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يذكر لك العِلّة حتى تعرف الحكمة في إمهال هؤلاء وقد قال من قبل { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } . يسارعوا إلى الكفر. ولكن يريد الله ألا يجعل لهم أيّ حظ في الآخرة أيّ حظ وأي نصيب من الخير { يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ } ولذلك هؤلاء يحشرون في الدرك الأسفل من النار. ثم قال عذاب عظيم ثم وصفهم أيضاً وقال أنه من شدة المسارعة إلى الكفر يذهبون للكفر كأنهم اشتروه { إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ } مقابل الإيمان الذي هو الرحمة والصدق وتكون به الطمأنينة الدنيوية والأخروية ومع ذلك يؤثرون الكفر فيشترونه كيف؟ طبعاً لا يوجد شراء للكفر ولكن لشدة حرصهم عليه شُبِّهوا بأنهم يشترون . وردّ عليهم { لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقال من قبل { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } التكرار في الأول عذاب عظيم. لازم الخبر هو نفسه { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } إذا كانوا لا يضرون الله فهم لن يضروا أولياءه من باب أولى. ثم قال هؤلاء الكفار لماذا لم يعجل لهم العقوبة؟ قال { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } أي نمهلهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب أليم وهذا من كمال عدل الله لا يأخذ الظالم إلا بعد أن يوغل في الإثم والظلم فإذا أخذه أخذ عزيز مقتدر. فيأخذه أخذة لا يفلت منها. نجد هنا عذاب عظيم إلى قَدْره ثم أليم في وقعه في أجسادهم ثم عذاب مهين. عذاب عظيم إشارة إلى قدره وأليم إشارة إلى وقعه في أجسادهم والثالث مهين في نفوسهم فقد تتعرض أحياناً لموقف أليم وليس مهين والعكس. إذا صفعك أحدهم أمام الناس هذه إهانة ولو أنها غير مؤلمة جسديا لكنها مهينة والله سبحانه وتعالى جمع لهم بين عظيم ومهين وأليم.
هذه تُشكل على لحُفّاظ نجد عظيم ثم أليم ثم مهين. ولكن من وسائل الضبط وسيلة الضبط بالأسلوب المعجمي تأخذ الحرف الأول من كل كلمة تنظم منها كلمة. خذ من عظيم (عين) ومن أليم (ألف) ومن نهين (ميم) وهي كلمة عام إحفظها وهذه إحدى أساليب الضبط.
(إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) الإملاء أي الإمهال. وإعطاء فرصة . وفي الآية رَدُ على من قصر تصوره ويقول ما بال التسونامي يجىء شمال آسيا ولا يجيء في أمريكا في الدولة الظالمة؟ كما قال تعالى { نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } ليزدادوا إثماً . سُنة الإملاء سنة ربانية وقد يستمر هذا الإملاء سنين طويلة ليس بأعمارنا نقيس. ومن أكبر أخطائنا نحن البشر أننا نقيس بأعمارنا أي بالسنوات. منذ متى وأميركا متجبرة وفعلت باليابان ما فعلت { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } العذاب المهين سيجيء لا محالة ولكن متى؟ هذا قدر الله، والله أدرى به ولذلك قال سبحانه وتعالى { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17) الطارق} نستفيد من ذلك ألا نستبطىء النصر من الله. وأن لا يغرنا أن الكفار أقوياء وما زالوا يزدادون قوة، هذا من الإملاء سيأتي الله باليوم ترى فيه أمريكا قد سخطت. هذا يجعلنا عندما نلتقى مع هؤلاء لا نغتر بما هم عليه فلا تغتر بما هم عليه ولا تعترض على القدر فتقول لماذا وقع العذاب هنا ولم يقع هناك؟ .
الآيات إذن فيها فوائد: قوله { لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا } هي نكرة في سياق النفي يعني ( أي شيء). هؤلاء الكفار مهما صنعوا لن يضروا الله شيئاً . وتكرارها في الآيات { إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} ثم يؤكد أيضا { لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } هذه نكرة في سياق النفي فهي تدل على العموم. وهناك فائدة الحقيقة أن النكرة في النفي والنهي والإستفهام كما ذكر العلماء تدل على العموم. أما النكرة في سياق الإثبات فإنها لا تدل على العموم إلا في بعض السياقات كما في قول الله عز وجل { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) التكوير} السياق دل على أن نفس هنا عامة. الأصل أن النكرة في سياق الإثبات خصوص ولا تدل على العموم.
أيضا في قوله ” لاتحسبن” وهناك قراءة” لايحسبن” وإن اختلف المخاطَب، لا تحسبن يا محمد أو لا يحسبن هؤلاء الذين نزل فيهم هذا الخطاب وهم الذين كفروا.