برنامج بينات

برنامج بينات – آل عمران 33

اسلاميات

الحلقة 33

مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

 

نلاحظ أن الآيات إستئناف لأن الحديث السابق كان عن الكفار والمنافقين منذ قول { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)  آل عمران }. وقبل ذلك نلاحظ أن الآيات السابقة فيها إشارة واضحة إلى الكيد الذي كان عند الكفار والمنافقون واليهود للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله { وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)  آل عمران } إشارة إلى تطمين الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نعم نحن نلاحظ هذا الكيد وهذا السعي للإفساد فيما بينكم بكل وسيلة ممكنة فنلاحظ أن يكرر { لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا } لإدخال الطمأنينة على قلبه صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ونحن نقول أن هذا وعد من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في كل زمان أن الله وعدهم بالنصر إذا حققوا شروطه { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ (من 160 آل عمران )} بمعنى أنك إذا حققت شروط النصر فاطمئن ولن يضرك الأعداء شيئاً. وهذه تفتح باب الأمل والتفاؤل لكل المضطهدين من المسلمين في كل مكان أنهم ينبغي عليهم أولا أن يحققوا أسباب النصر في أنفسهم وفي أُسرِهم وأولادهم ويربوا أنفسهم تربية يستحقون معهها النصر . فالآيات التي مرت معنا كلها فيها إشارة أن النصر يوهب ولا يؤخذ . فالنصر من عند الله سبحانه وتعالى .حتى الملائكة لو نزلوا في المعركة ليس لكي يحققوا النصر لكن لتطمئن قلوبكم فقط أما النصر فمن عند الله . لأن البعض يقول نريد أن نُعد لكي ننتصر نقول أنت تعد لكي تكسب رضا الله وتحقق أسباب النصر أما حقيقة الانتصار فهو من عند الله سبحانه وتعالى يهبه لمن يشاء.و لذلك فمعركة أحد درس رائع كل مقومات النصر كانت موجودة في الجيش الإسلامي ولما وقع منهم المخالفة والعصيان وقع ما وقع من الإنكسار. الآيات أشارت إشارة غير مباشرة أن الكفار كانوا في غاية الغيظ من أن ينتصر محمد صلى الله عليه وسلم خاصة في بداية الحياة في المدينة واليهود والمنافقون كان عندهم أمل أن ينكسر محمد وأن يخرج من المدينة وكان عندهم طموحات سياسية .فلما وقعت المعركة وانتصر صلى الله عليه وسلم وكان في حمراء الأسد دليل على هذا الإنتصار.

 

{ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) آل عمران } هذا من رحمة الله بعباده المؤمنين أنه يبتليهم ببلايا ويصَّرف فيهم الفتن حتى يكون من حكمته أن يتعرف المؤمنون على من اندسّ فيهم وليس منهم. الكافر عرفت عداوته وانتهى. ونحن الآن في داخلنا ناس يتسترون بالدين . يصَلّون في الصف الأول ويجاهدون ويتكلمون بإسم الدين وقد تكون لحاهم أطول من لحانا وأصواتهم بالقرآن خير من أصواتنا لكن في قلوبهم غل على الذين آمنوا وفي نفوسهم من الدَخَن ما الله به عليم، هؤلاء كيف نعرفهم؟ وكيف نتقي شرهم. ونحتاط منهم؟. هذه قضية خطيرة. الله بحكمته وبعلمه وحسن تقديره ينزل البلايا فيمحص الصدور. وهذه البلايا مع شدتها علينا إلا أن فيها هبات ورحمات فعلينا أن نشكر الله . نحن في فتنة غزة هذا العام بانت لنا أموراً كانت مخفية علينا ما كانت لتظهر حتى لو جاء انسان مطلع وبصير وأثبت لنا بالدلائل بعض الحقائق التي ظهرت لنا لأنكرناها وقلنا يا فلان أحسن ظنك إتقي الله هذا من وسوستكم أيها المحللون وغير ذلك. ولكن جاءت الفتنة من داخل غزة ومن داخل فلسطين ومن الدول العربية ومن القنوات الفضائية ومن الصحف ومن الكُتّاب ومن المسؤلين ومن الرؤساء ومن كل واحد حتى من طلاب العلم والدعاة وكشفت وأظهرت وأطلعتنا على خفايا { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } ما كان يذركم مختلطين لا يعرف بعضكم بعضا حتى تقدم هذه الفتن { يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } وهذا درس نستفيد منه أن الفتن لله فيها حِكم ومن حكمها أن يبين الله هؤلاء من هؤلاء وإن بعض الأمور لا تنهض إلا بالمشقة والإجتهاد وهذا منها، قال تعالى في سورة محمد { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) محمد} لو نشاء لأريناك هؤلاء المنافقين بعلامات يعرفون بها ويميزون من بين سائر الناس، قال{ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أما لحن القول فستعرفون منه المنافقين معرفة تامة من كلامهم وعباراتهم ستعرفهم قطعا. أما أن تعرفهم بسيماهم فهذا لن يكون إلا بمشيئة الله وقد شاء الله لمحمد أن يعرفهم بسيماهم فعرفهم بأسمائهم وأسر بها لحذيفة بن اليمان.

 

لما يذكر الله في القرآن التمييز يقدم الخبيث أولاً ” يميز” أي يفرز أو يفصل { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)  الأنفال} وأيضا { وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) يس} فكلها تشير إلى تمييز الخبيث المجرم وهذه فائدة أنه ليس الهدف من التمييز البيان فقط بل يميز المنافق من المؤمن ومحقه وإهلاكه وفضحه وكبته وهذا هو الذي ظهر في هذا المعنى. وفعلا بعد أحد ميّز الخبيث من الطيب وكبتهم ولم تقم لهم قائمة. كلمة “ميز” جاءت كلها مع الخبيث (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) (ليميز الله الخبيث من الطيب)  ولذلك إستنبط بعض العلماء أظنه تقي الدين الهلالي قال كلمة إمتاز وممتاز ويمتاز لا ينبغي أن تستخدم في الأمور الطيبة وينبغي أن تستعمل كما إستعملها القرآن في الأمور الخبيثة. وهذا فيه دقة في الاستنباط لكن هذا مصطلح قرآني إلا أن الناس تعارفوا على غير هذا المعنى ولا نريد أن نعممها فتغير عرف الناس.

 

{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ } لما قال سبحانه وتعالى { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} الكلام موجه للمؤمنين كيف تعرفون هذا من هذا. فلو أطلعهم على الغيب فلان كذا وفلان كذا لإنتهى الإبتلاء. فنبه الله على هذه الحكمة العظيمة أنه لا يطلع على مثل هذا الغيب لأنهم في مقام الإبتلاء. نلاحظ أن هذا من حكمة الله ولو أطلعنا الله على خبيئته لما صار هناك إبتلاء ولإنتفت الحكمة التي يريدها الله سبحانه وتعالى لهم. ولإنتفى شيء آخر أيضا وهو الإجتهاد أن تتعرف على الطيب من الخبيث وهذه عبادة. أنت تتبع قناة هذا وكتابات هذا لأجل أن يكون هناك جهاد تؤجر عليه لتعرف ماذا تدع وماذا تأخذ. وأمر آخر نجد أن النفوس من طبعها عندها فضول لمعرفة الغيب وتتشوق لمعرفته لكن الله رحمنا ألا يطلعنا على الغيب . إذا قيل لك أنك ستربح ألف مرة ولكنك ستخسر خسارة شديدة كيف تعيش حياتك؟ ومن رحمة الله أن غيّب عنا هذا ليست عقوبة لنا بل هي رحمة بنا.

 

{ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } فيها نوع من الإلتفات ما قال ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه ولكن يقول { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} كأن الإبتلاء رحمة بالمؤمنين الذين اتصفوا بهذه الصفة هذه واحدة. والأمر الثاني أن قال { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} كأن هناك قائل قال لماذا لا تطلعنا على الغيب لنعرف المنافق من المؤمن فنرتاح؟ لأن ليس من سنته سبحانه وتعالى ولا من حكمته أن يطلع أحد على الغيب إلا من إرتضى من رسول لذلك قال { يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ } ليطلعه على بعض الغيب. وقد أطلع الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم على شىء بالرؤيا التي رآها قبل المعركة. { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} قد يقول قائل ما موقعها الآن والكلام عن الغيب؟ هذه إشارة إلى أن ذكر الرسول هنا لأنه يطلع على جزء من الغيب { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)  الجن}

 

استدراك

حملت الآية على أنها خطاب للمؤمنين. وهناك قول آخر لإبن عباس ذكره الطبري يقول الله للكفار ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر حتى يميز الخبيث من الطيب فيميز أهل السعادة من الشقاوة فهو يرى أنها خطاب للكفار.

 

{ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ } هذا المعنى تكرر في القرآن وهو الإجتباء والإصطفاء {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ  (من 124 الأنعام} {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) آل عمران} هذه الآيات الإجتباء والإصطفاء التي خص بها الله هؤلاء الأنبياء من المهم التنبه إلى أمر وقد أشرنا إليه من قبل وهي أن سبحانه وتعالى الذي قال { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } قال { قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ  (من 140 البقرة)} . فقد يرد في بعض من إجتباه الله في القرآن بعض الأفعال التي ذكرها الله عنهم أو بعض الأوصاف التي وصفهم الله بها فيأنف بعض المسلمين أن تنسب هذه الأوصاف لهؤلاء المجتبين ويدعي أن هذا منافي للأدب وأن هذا فيه سوء أدب. تأمل نحن نحمد لك حرصك على الأنبياء ولكن انتبه ألا تقع في سوء الأدب مع الله لأن الذي إجتبى هؤلاء هو الله سبحانه وتعالى وهو الذي ذكر هذه الإعال منهم ولكن قل أن يذكر ذنبا إلا ويذكر بعدها توبته منها وأن الله قد تاب عليهم. لذلك الحسن كان يقول ما ذكر الله ذنوب الأنبياء ليعيرهم بها ولكن لنقتدي بهم في التوبة . وهذا يفتح للمسلمين باب الإقتداء بأنس بشر يقع منهم أحيانا اجتهادات فيصيبون ويخطئون . صعب علينا أن نقتدي بالملائكة وهم لا يعصون الله ما أمرهم وليس عندهم شهوات ولهذا قال { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (من 93 الإسراء)} فنحن نأخذ جانب الرسالة ولا ننتبه للجانب البشري مع أنه واضح جداً. وهذه من نعم الله علينا أنه  اجتبى من البشر رسلاً. صحيح أن النبي معصوم فهناك جانب من العصمة يغفل عنه كثير من الناس وهي العصمة من التمادي في الذنب . هذا لا يوجد في الأنبياء ما ذكر لنبي من ذنب إلا وذكر استغفاره وذكر توبة الله عليه. بل أن الله ينبهه عليه مثل ما حصل من داود في سورة ص { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (من 24 ص) } ثم قال (فغفرنا له) مثل هذا إذا كان يذكر أنهم استغفروا هل استغفر ولم يغفر له شىء ولم يقع منه ذنب؟ يقول بن قتيبة أن بعض الناس يستوحش من نسب الذنب للنبي والله سبحانه وتعالى قد ذكره. لا يُستوحش من هذا لأني أنا لا أدعي شيئاً على النبي من ذات نفسي وإنما ذكره الله سبحانه وتعالى. وهذا ذكره البغوي عندما جاء لتفسير سورة يوسف { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) } اختلف الناس في ما هو هم يوسف ويكادون يتفقون أنه الهمّ الفاحشة. أما همّ يوسف فقد اختلفوا فيه لكن الجواب الذي ذكرته عن ابن قتيبة قال وبعض الناس يصيبه الورع في أن ينسب هذا إلى يوسف وهو أنه وقع في نفسه هذا الأمر ولكن الله عصمه. قال ولو كان هذا مما ينزه عنه الأنبياء لما قال به عامة السلف ولما ورد ذكره عند الصحابة والتابعين . قال عامة السلف أن الهم المذكور في الآية هو من جنس الهمّ الذي قامت به، ولكن بعض الناس يقول همت ليضربها مثلا. وهذا في الحقيقة تنقص من يوسف صلى الله عليه وسلم لماذا؟ كأنك تنزع عنه بشريته فلا يحصل به إقتداء. هذا التابعي الذي دعا الله أن إذا مرت به إمرأة  أنه لا يفرّق بين لو مرّت به خشبة أو مرت به امرأة وأوتي ذلك هذه ليست فضيلة لأنه انتزع مقام الإبتلاء. يوسف بعد أن همّ هو أكمل لأنه هم بسيئة ولم يفعلها فكتب له بها حسنة. قال صلى الله عليه وسلم { من هم بسيئة ، فإن عملها كتبت عليه سيئة ، وإن لم يعملها كتبت له حسنة – الراوي: – المحدث: الشوكاني – المصدر: الفتح الرباني – الصفحة أو الرقم: 4/1753. خلاصة الدرجة: صحيح} . ننبه له في مثل هذه الأمور . تحقيق مثل هذه الأشياء يمشي مع عاطفته وبأسلوب خطابي وإنشائي بعيد عن العلم ويكرر ألفاظا ليس وراءها تحقيق. هذه أمور علمية يجب أن ننبه لها ونكون وقافين مع كتاب الله ومع سنة صلى الله عليه وسلم. وإلا إذا أنت منعت هذا فأنا عندما أسمع البخاري يقول أن صلى الله عليه ذكر حديثا عن موسى .{إن موسى كان رجلا حييا ستيرا ، لا يرى من جلده شيء استحياء منه ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا : ما يستتر هذا التستر ، إلا من عيب بجلده : إما برص وإما أدرة ، وإما آفة ، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى ، فخلا يوما وحده ، فوضع ثيابه على الحجر ، ثم اغتسل ، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها ، وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل ، فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله ، وأبرأه مما يقولون ، وقام الحجر ، فأخذ ثوبه فلبسه ، وطفق بالحجر ضربا بعصاه ، فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ، ثلاثا أو أربعا أو خمسا ، فذلك قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها } الراوي: أبو هريرة المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم: 3404. خلاصة الدرجة: [صحيح]. وأدرة هي إنتفاخ الخصية. لو كنا نستخدم نفس الأسلوب ماذا نصدق؟ موسى كليم الله يمشي عريانا بين بني إسرائيل ؟! لماذا لا نستوحش هذا؟ فهذا نص واضح وصريح لا يحتمل التأويل. التأويل إذا فتح بابه وصلنا إلى سفسطة الفلاسفة المشهورة.

 

في غزوة أحد لم يُقتل النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه أوجعه المشركون وكادوا يقتلونه ولكن الله قد حفظ الرسل الذين يبلغون الرسالات من القتل فلم يقتل رسول من الرسل من الذين جاؤوا بالرسالات أما الذين جاءوا مجددين لرسالات سابقة فإن القرآن يذكر قتل الأنبياء وليس الرسل (ويقتلون الأنبياء). هذ أمر والأمر الآخر أن الله يجتبي الرسل. وقال سبحانه وتعالى { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ  (من 253 البقرة)} تكليم الله للنبي من أفضل أنواع الإجتباء والاصطفاء. ولذلك فإن موسى ومحمد من أعلى الرسل زأفضلهم لأنهم حظوا بهذا. مسألة أخرى إستوقفتني كنا في حفل إحتفال جامعة الملك سعود بإنشاء كراسي أبحاث وتعطي من يدعم الكرسي تشريفاً بوضع إسمه في لوحة الشرف وتعطيه ميدالية الجامعة. فرأيت بعض من دعموا الكراسي من الأغنياء والمسؤلين الكبار وهم يشعرون بالسعادة عندما يرون أسماؤهم فتذكرت قوله سبحانه وتعالى { وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)  ص} فقلت سبحان الله الواحد منا يبحث عن التميز والشرف ويفرح به يعني عندي استعداد لدفع الملايين من أجل أن يوضع إسمي في لوحة الشرف فأقول كيف بهذا التمييز الذي ميز الله تعالى هؤلاء الأنبياء { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)  آل عمران } آل إبراهيم ثم كيف اصطفى أبنائه كلهم أنبياء. أقول في نفسي ما هذا الشرف؟ وهذا هو الإصطفاء الحقيقي في الدنيا وفي الآخرة.، كيف يميزهم الله في الدنيا والآخرة وكل من يدخلون الجنة بسببهم { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) الصافات} انظر إلى النبي كيف ميزه الله في الحياة من الزهد في الدنيا { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)  الشرح} وقلت أين نحن من هذا

 

{فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} تكرر معنا أن التقوى ارتبط بها الصبر ولكن هنا ارتبط الإيمان بالتقوى لأن الإيمان هنا في هذه الآية هو المراد فجمعه مع التقوى فيصبح الإيمان هو ما يقع في القلب والتقوى هي العمل.{ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }. لما كان الكلام عن الصبر والتقوى تكرر للتأكيد فلماذا لم يأتي هنا مرة أخرى؟ نقول أن لما ذكر قبلها { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ } و { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } .وهنا قال { فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا } وإن تؤمنوا إيمانا صادقا وتتقوا الله بأعمالكم فتفعلوا الأوامر وتتركوا النواهي. إذا جمعتم بين هاتين الخصلتين فلكم أجر عظيم. تنكير الأجر ووصفه بالعظيم لتعظيمه. وأيضا كون الإيمان هنا أنسب لأنه ذكر الغيب هنا وما يليق بالغيب هنا هو الإيمان به. ولذلك إذا أخذنا بقول ابن عباس في { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } بأنها خطاب للكفار فهذا يتناسب جداً.  فائدة لغوية: (ليذر) فعل مضارع البعض يقول أن ليس له فعل ماضي ويقول آخرون أنه موجود (وذر) هذا القايس ولكنه لا يستخدم ونادر. وذر- يذر – وذراً

 

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) ألا ترون أن الحديث عن البخل في هذا الموطن مرتبط إرتباطا شديدا بأمر الجهاد في سبيل الله؟ لأن الجهاد قد يكون بالبدن أو المال. وقدم الجهاد بالمال في كثير من الآيات باعتبار أنه ميسور لكثير من الناس وهو أيضاً العنصر الأعظم في قوة المؤمنين في جهادهم في سبيل الله ولذلك في عامة الايات يقدم جهاد المال على جهاد النفس. جهاد المال باعتبار أنه أول إختبار لك في صدقك فقد تكون مريضا لا تستطيع الجهاد. جاهد به حتى تبرئ ذمتك أمام الله وتري الله من نفسك خيراً. ثم أيضا تنتفي العبودية لهذا المال إذا كنت تعبد المال فلن تخرجه وتبذله في هذا الميدان. أما إذا كنت تعبد الله فهذا المال يصبح قليلا في عينك ليرضى ربك عنك ولعل ذكر البخل في هذا الموطن لهذه العِلّة.

 

وهناك قول آخر بأن البخل هنا أعم من البخل بالمال وإنه يدخل فيه البخل بالعلم لمناسبة ذكر أهل الكتاب كانوا يعرفون محمدا كما يعرفون أبنائهم وبالرغم من ذلك كذبوا وكتموا ذلك العلم. ولذلك في سورة التوبة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (من 34 التوبة ) } ثم قال { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (من 34 التوبة ) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) } جمع بين كتمان العلم الذي يكتمه علماء أهل الكتاب وبين عدم إخراج زكاة الذهب والفضة والعقوبة.

 

هذا من توسيع لمفهوم الآية ولكن ليس هو المقصود. أغلب المفسرين قالوا بأن المراد به الزكاة. وفي الحديث في البخاري قال {من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعا أقرع ، له زبيبتان ، يطوقه يوم القيامة ، يأخذ بلهزمتيه – يعني بشدقيه – يقول : أنا مالك أنا كنزك . ثم تلا هذه الآية: { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله } . إلى آخر الآية . الراوي: أبو هريرة المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم: 4565. خلاصة الدرجة: [صحيح]}. لعل يؤيد ذلك ما جاء بعدها {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) آل عمران } وهذا أيضاً يرجح قول ابن عباس أن الآيات ما زالت تخاطب الكفار. من تفاسير السلف يؤيد أن المقصود بالبخل البخل بالعلم وأن المقصود هم علماء اليهود ويحدث من علماء اليهود وكتمان الحق وهذا صحيح. وتحدثنا سابقاً عن التفريق بين مجال الإستنباط ومجال التفسير أنه إذا كان الكلام المذكور متناسقاً مع الآية فهو من باب التفسير وإذا لم يكن متناسقاً مع الآية فهو من باب الإستنباط وهذا ما ذُكر هنا وهو صحيح وذكره بعض السلف وكان أخص العلم العلم بالرسول وهذا يمكن أن يدخل في معاني قوله سبحانه وتعالى {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)  الشورى} الحق هو البين الظاهر المعلوم والميزان هو ما توزن به الأمور . فنحن الآن نرى الحديث عن البخل نقول البخل بالعلم أولى منه لأن إنفاق العلم أيسر من إنفاق المال فإذا بخل به الإنسان فيكون أشد من بخله بالمال

 

{ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ممكن أن تشمل هذا وهذا . ولكن لما قال { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } هذا ما جعلكم تقصرونه على المال وليس بالضرورة ولكن قد يكون التطويق عن من بخل بعلمه فيكون البخل بالعلم والمال. وهذا ليس بالضرورة أن يكون صحيح أن الحديث بالمال أظهر.