برنامج بينات

برنامج بينات – آل عمران 9

اسلاميات

الحلقة 9

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿٧٥﴾ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴿٧٦﴾ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿٧٧﴾ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿٧٨﴾ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴿٧٩﴾ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴿٨٠﴾)

د. مساعد: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. أيها الإحوة المشاهدون نكمل ما توقفنا عنده في الحلقة الماضية في قول الله سبحانه وتعالى (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وذكرنا ملحظاً من الملاحظ التي كانت من أخلاق اليهود وقد نصّ الله سبحانه وتعالى عليها في قوله (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) الأميون هم من سوى اليهود وكأنهم يرون أنفسهم كما يزعمون شعب الله المختار وأنه يحق لهم أن يفعلوا أي شيء ليس يحدهم أي أخلاق في غيرهم من البشر ولهذا قضية قتل الطفل والمرأة وقتل الحيوان وتدمير البنى التحتية هذه يعتبرونها حلالاً كما يشرب الواحد الماء البارد. فلهذا لا نستغرب حينما نرى كل هذه الأشياء لكي نعرف كيف يفكر هؤلاء. هؤلاء اليهود ينطلقون من منطلقات عقدية بلا ريب وإن كان تظهر قضية العلمنة وغيرها من خلال الواجهة السياسية لكن الواجهة الدينية واضحة جداً في مثل هذه الحروب التي يقومون بها ولهذا ليس لهم أي عهد ولم نعلم أنهم في يوم من الأيام منذ أن استولوا على فلسطين استطاعوا أن يوفوا بوعد واحد.

د. محمد: الآية تشير إشارة واضحة إلى علاقة الأخلاق بالاعتقاد ولذلك لما نزل القرآن بدأ يرسخ هذه العقيدة في نفوس الناس لكي يسهل البناء الأخلاقي في التعامل مع الناس وفي الوفاء بالعهود والصدق في القول وفي كل سلسلة الأخلاق التي ينبغي على الناس أن يقوموا بها. لاحظ هنا قال (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) ليجعلهم يقولون أن هناك عقيدة فاسدة أو ضعيفة أو متهالكة أدت بهم إلى أن يفعلوا أشياء تتناقض مع أبجديات أيّ دين حتى الدين النصراني أو اليهودي أو غيرها ما يليق بأي إنسان ينتسب إليها أن يكون خواناً أفاكاً أثيماً غداراً كذاباً لكن لما كان الاعتقاد الذي عندهم ويحملونه في جنباتهم فاسداً أدى بهم إلى هذا. ولذلك اليوم في نظري مشكلتنا ليست أخلاقية مشكلتنا اعتقادية لما ذهب الخوف من الله والإيمان الحق به واستحضار الآخرة في أعمالنا كلها فسدت أخلاقنا وأصبح الإنسان يتعامل معك بالإكرام لأنك أنت من جماعته أو من قبيلته ولكن مع ذاك المسلم الآخر الذي يحمل جنسية في نظري أنها جنسية دونية فإنه يحقره ويكذب عليه ويسرق ماله ولا يأتي معه بعهد سبحان الله! هذا له ربّ وهذا ليس له ربّ؟! هذا من صدر آدم وهذا من رجليه؟! السر في ذلك هو ضعف الاعتقاد قد يكون ضعف الاعتقاد بمعنى الإنحراف كما هو عند اليهود والنصارى قالوا (قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) وقد يكون ضعف الاعتقاد بمعنى خبوّ الإيمان عدم استحضار هذا الإيمان في النفس في كل الأحوال معك في صُبحك ومسائك، في ليلك ونهارك، في سرك وجهرك، في جميع أعمالك.

د. مساعد: في الحقيقة الملحظ الذي ذكرته ملحظ مهم جداً في قضية علاقة الأخلاق بالاعتقاد ولهذا الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق بأخلاق التجار قال (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴿١﴾ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴿٢﴾ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴿٣﴾ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ﴿٤﴾ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿٥﴾) فدل على أن الإيمان باليوم الآخر يحجز الإنسان عن أشياء كثيرة جداً فهذه قضية مهمة جداً بالفعل.

د. عبد الرحمن: ذكرني هذا الحديث بسلسلة رائعة جداً أنصح بالاستماع إليها عن الأخلاق في الإسلام للدكتور عبد الستار فتح الله سعيد وهو أستاذ معروف تكلم فيها كلاماً رائعاً وكان يؤصّل في مطلعها إلى أن هناك كثير من المسلمين يفصلون بين الأخلاق والاعتقاد ويظنون أن المسلم أو المؤمن قد يصح إيمانه ودينه وهو سيء الخُلُق. ثم تكلم عن مسألة أن الدين كله خُلُق ومن زاد عليك في الخُلُق فقد زاد عليك بالدين والنبي صلى الله عليه وسلم قال “والبِرُّ حسن الخُلُق” وتكلم عن قول النبي صلى الله عليه وسلم “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق” قال البعض يستدل بها ويظن أنها تتحدث عن الأخلاق فقط والتعامل مع الناس في حين أنها تتحدث عن العقيدة لأن إصلاح العقيدة هو إصلاح للأخلاق. والأخلاق الحسنة لا تكون إلا ممن حسنت عقيدته واستقرت ولذلك هنا اليهود سوء أخلاقهم مترتب على سوء اعتقادهم وكذلك المؤمن حسن خُلُقه وتعامله مع الناس لحسن ظنه واعتقاده بالله سبحانه وتعالى. ولذلك السماحة واللطف وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم “رحِم الله امرءاً سمحاً” سماحة المؤمن مع الآخرين هي من دينه لأنه يرجو ما عند الله سبحانه وتعالى.

د. مساعد: والدليل عليها حال الصحابة قبل الإسلام وبعد الإسلام، كيف تغيرت أخلاقهم ولهذا نقول الأصل أن الدين يؤثر على الخلق لكن بعض الناس سبحان الله فصل الدين عن الخلق وجعل التدين مظاهر لبعض العبادات والخُلُق شيء آخر. فالآن مثلاً الصيام بعض الناس ينزعج في وقت الصيام وإذا سئل يقولون لا باس هذا لأنه صائم والفترض لأنك صائم يكون أحسن الناس خُلُقاً.

د. عبد الرحمن: القرآن الكريم في مواضع كثيرة منه يدمج الأخلاق بالعقيدة مثلاً في قوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿١﴾ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴿٣﴾) هذه أخلاق، أخلاق مع اعتقاد ممزوجة مع بعضها البعض. ومن الأشياء التي ذكرها الدكتور عبد الستار قال انظروا إلى خديجة رضي الله عنها عندما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل أول مرة فخاف عليه الصلاة والسلام وذهب إلى خديجة وهو يرتجف فقالت له رضي الله عنها وثبتته بكلمات جميلة جداً فقالت له “والله لا يخزيك الله أبداً” هذه أول عبارة وفي موقف ليس مثل المواقف التي بعده، المواقف التي بعده سهلة لكن هذا الموقف له ما بعده. قالت خديجة “والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتحما الكلّ وتُقري الضيف وتكسب المعدوم وتصل الأرحام وتعين على نوائب الدهر” كلها أخلاق، هذه كلها من مكارم الأخلاق وجعلتها خديجة سبباً أن الله لا يخذله. وتأمل في قوله تعالى (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ﴿٥﴾ الليل) هذه أخلاق، وتأمل في أبي بكر وأخلاقه العالية جداً جداً مع النبي صلى الله عليه وسلم وكيف كانت سبباً في فتح عظيم فتح الله به. تأكيداً على ما تفضلتم به دكتور محمد في قضية علاقة الأخلاق بالاعتقاد في قوله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) حتى الرب يرون أنه محرّم بين اليهود لكن ما دام مع غير اليهود فهو مشروع.

د. محمد: هناك إشكالية وهناك جواب لها. الآن كثير من الناس يتبجح أن الغرب يحمل أخلاقاً عالية في التعامل يصدقون في البيع والشراء وفي العهود فيما لما الإنسان يزرو بلادهم يجد نُظماً وأشياء تبهر من ينظر إليها بشكل ظاهر وهي لا شك محل الإعجاب والتقدير ونحن لا ننكر الفضل لصاحب الفضل مهما بلغ من العداوة والبعد عنا. ولكن لو تأمل المتأمل في حقيقة هذه الأخلاق لوجد أن أخلاقهم متعلقة بالمصالح. هو يصدق لأجل أن يكسبك حتى تأتي للشراء منه، من أجل أن يروج سلعته لأن ترويج السلعة يعتمد على الوفاء والصدق وضبط التعامل واتقان الصنعة وحتى تكون عميلاً مستمراً لا بد أن تكون كذلك. قد يقول قائل هذا غير صحيح، لا نسلِّم لك بذلك وأن هؤلاء يتعاملون بها من منطلق أخلاقي صحيح أقول أبداً لا يمكن أن يكون ذلك من منطلق أخلاقي راسخ عن اعتقاد صحيح وإنما لأجل مصالحهم الدنيوية الآنية. والدليل على ذلك انظر إلى الأشياء التي لا مصلحة فيها دنيوية عاجلة ماذا يفعلون بها؟ مثال على ذلك بر الوالدين أليس وفاءً؟ لماذا لا يقومون به؟ أبوك الذي سهر عليك وربّاك وأعطاك ومنحك كل شيء حتى صرت رجلاً وصرت قادراً على أن تعيش وتقوم وحدك وبعدما كبر وأسنّ ورقّ عظمه وشاب رأسه واحتاج إلى عونك ومساعدتك ذهبت ورميته في أحد الملاجئ ويمكن أن تكون باراً غذا أرسلت له في عيد رأس السنة رسالة تقول له فيها أنك تحبه أو كل عام وأنت بخير أو غير ذلك من العبارات اللطيفة، هذا هو غاية البِر عندهم، أين الخُلُق في هذا وأين الوفاء؟! لكن لأن هذا لما كان شيئاً لا يرجى به إلا الدار الآخرة وهو لا يؤمن بالدار الآخرة التي هي أساس الخلق هذا لا يعنيه أما هو يصدق حتى مع كلبه وقد يورثه ماله كله لن هناك أشياء أخرى هي التي تجعله يقوم بمثل هذا.

د. عبد الرحمن: حدثني أخي الدكتور زاهر قال كنت أدرس الطب في بريطانيا فيقول كان على الطريق بجانب البيت الذي أسكن فيه رجل يبيع في محل تجاري وكنت أعمل في المستشفى فانقطع الرجل ولم أعد أراه فعلمت أنه في المستشفى فوضعت في ذهني أن أمر واسلم عليه في المستشفى وكان رجلاً كبيراً في السن. فذهبت إليه في المستشفى واطمأننت على صحته فاندهش الرجل وقال ما المناسبة؟ فقلت له أنا جارك وافتقدتك، قال سُر الرجل سروراً ليس بعده سرور وقال أنا عندي ولد وبنت في المدينة التي أنا فيها وما زاروني أبداً وقال كانت البنت أحسن من الولد فاتصلت بي وعرفت أني في المستشفى. مع أن هذا الخلق البِر بالوالدين والوفاء من أعظم أنواع الخُلُق.ولكنه شبه مفقود ويقول لي أخي زاهر أنه الآن في المستشفيات في السعودية يعانون من مسألة تنظيم دخول الناس للزيارة فتراهم قبل الزيارة محتشدين وهذا معه الشاي وغيره وكلها من أجل البر بهذا المريض الذي في المستشفى أما هناك فالزيارة مفتوحة 24 ساعة ولا أحد يأتي. فانظر إلى هذا وإلى هذا! هذا شيء من القيم والأخلاق.

د. مساعد: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)) لما تكلم الله سبحانه وتعالى عن اليهود، نلاحظ الآن عندنا صور الآن صور لبس الحق بالباطل خصوصاً ما يتعلق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأخلاقيات اليهود ومزاعمهم في إبراهيم عليه السلام ثم بعد ذلك ذكر (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا) فإذن عندنا عهود بين العباد وربهم وعهود بين العباد مع العباد. اليهود لم يقوموا بالعهد الذي بينهم وبين الله ولا بالعهود التي بينهم وبين المخلوقات. الله سبحانه وتعالى يقول (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى) أي من حصل منه هذا فإن الله يحبه (فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) وكأن فيها إشارة إلى أنكم أيها اليهود وأيها النصارى لستم كذلك.

د. عبد الرحمن: أيضاً يا دكتور مساعد في قوله هنا في هذه الآية (وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)) بعض العلماء استدل من هذه الآية على أن الكافر لا تقبل شهادته لأنه يكذب. في التعبير هنا بهذه الصيغة صيغة المضارع (وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ألا تدل على أنها سجيّة في هؤلاء؟ يتجدد منهم الكذب على الله دائماً مرة بعد مرة وأن هذا خلق من أخلاقهم لا يقلعون عنه (وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) إذا كان يقولون على الله الكذب وهم يعلمون فماذا ترجو من ورائهم أنت؟ وأنا أشير إلى هذه معاهدات السلام التي يبرمها بعض المسلمين مع اليهود ويفرحون بها وأنا شخصياً عندما أقرأ بعض الكتب التي تتحدث عن هذه المعاهدات مع اليهود أقول لعلي أنا متشائم وأسيء الظن دائماً بالآخرين والذين يحللون تحليلات سياسية لعلهم أقرب إلى الحقيقة وبعد مدة تطول (كما في معاهدة أوسلو وغيرها) أقرأ في نتائجها بعد سنوات وإذا باليهود لم يفوا بأي من الاستحقاقات التي بينهم وبين هؤلاء فأقول في نفسي صدق الله العظيم. ينقضون العهد من بعد ميثاقه ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ونحن بالرغم من ذلك نلهث وراءهم لكي نبرم اتفاقاً على معبر أو اتفاق على تسليم أسرى أو اتفاق على أشياء. لكن سبحان الله نحن المسلمون فعلاً لا نتعظ ولا نؤمن بما في هذا القرآن حق الإيمان وإلا لو كنا نستقيم على هذا الطريق (وألو استقاموا) ما وقعنا في مثل هذه القضايا والمهاترات التي تقع الآن.

د. محمد: بعد ذلك جاءت هذه الاية العظيمة التي هي في ترك الحقائق والاعتقادات بالأثمان البخسة لأجل دنيا زائلة (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)) هؤلاء اليهود وهؤلاء النصارة الذين هم سادة في قومهم لما يقال لهم: أمحمدٌ على حق؟ يحلفون الأيمان المغلظة بأنه ليس نبياً وبأنه ليس رسولاً من عند الله من أجل أن تبقى لهم رياستهم ويبقى لهم شأنهم ولا تذهب عليهم حظوظهم الدنيوية العاجلة لأنهم إذا تركوا محمداً صلى الله عليه وسلم للنبوة معنى ذلك أنهم سيبقون من الأتباع ويذهب عليهم حظهم من الدنيا ولذلك جاءت هذه الآية ومفهومها وألفاظها تستوعب معاني كثيرة في هؤلاء وفي غيرهم (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وهي أيضاً في حق كل من يحلف بالله سبحانه وتعالى كاذباً ليتعجل شيئاً من الدنيا ومثله الذي يحلف حتى على السلعة يدخل في مفهوم هذه الآية أو في عموم ألفاظها الذي يقول والله إني اشتريت هذه السلعة بكذا وكذا وهو كاذب فيما ادّعى من أجل أن يروّج السلعة على المشتري هو أيضاً داخل فيمن يشتري بعهد الله ويمينه ثمناً قليلاً. آلله عند صار بهذا الرخص حتى تجعله سبباً للحصول على لعاعة من الدنيا قليلة؟! ألا تتقي النار أن يكون الله أهون الناظرين إليك وأهون من تحلف به وتعاهد عليه على شيء تعلم أنه كذب؟! ولذلك هي تحذير لهؤلاء الكاذبين في أيمانهم المنفقين لسلعهم بالحلف الكاذب. وقد جاء مصداقها في الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال المسبل والمنّان والمنفّق سلعته بالحلِف الكاذب، مصداقاً لهذه الآية.

د. عبد الرحمن: وتصديقاً لما تفضلت به هنا في كتاب الإكليل هذا كتاب قيم أحضرته لأعرّف به الأخوة المشاهدين عنوانه الإكليل في استنباط التنزيل للإمام السيوطي رحمه الله، ليس تفسيراً وإنما يتوقف عند بعض الآيات ويستنبط منها بعض الفوائد الفقهية والعقدية والتربوية وهو كتاب قيّم في ثلاث مجلدات ومحقق بتحقيق الدكتور عامر العرابي يقول مصداقاً لما تفضلت به عن هذه الآية يقول سعيد ابن المسيب قال اليمين الفاجرة من الكبائر وتلا هذه الاية (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وقال السيوطي: واستدل بالآية على أن من قال عليّ عهد الله فهو يمين فيه كفّارة. هنا في هذه الآية قد يأتي سؤال (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ماذا لو إذا كان إشترى بها ثمناً كثيراً؟

د. محمد: كل الثمن الذي في الدنيا هو قليل.

د. عبد الرحمن: لماذا قال قليلاً؟

د. محمد: تأكيداً لهذا الوصف.

د. عبد الرحمن: لأنه كما تفضلت الدنيا كلها قليل مقارنة بأنك بعت عهد الله وبعت دينك وبعت إيمانكوبعرض من الدنيا قليل.

د. محمد: لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء

د. عبد الرحمن: لكنه قال هنا (ثَمَنًا قَلِيلاً) حتى يهوّن الثمن مهما كان كثيراً في نظر من صنع هذا والعياذ بالله.

د. مساعد: هناك مثال مناسب لهذه الأمثلة وهذا كتاب “تحفة الأديب في الرد على أهل الصليب” للقس أنسلم تروميدا للشيخ عبد الله الترجمان الأندلسي كان نصرانياً في الأندلس وأسلم في تونس في القرن التاسع تقريباً لكنه في الحقيقة أشار إلى اشتراء الدنيا بالآخرة ويتكلم عن القس الذي كان يتربى عنده – لعله في مناسبة أخرى نقرأ ما يتعلق به عند الكلام عن الفارقليط لو تأملنا الآن يتكلم عن قصته مع شيخه وكيف أن شيخه بقي على الدين النصراني مع معرفته بأنه دين باطل. من القصة يقول فقلت له وكيف الخلاص بعد أن تبين له أن دين الإسلام دين حق كيف الخلاص من هذا الأمر؟ قال يا ولدي بالدخول في دين الإسلام فقلت وهل ينجو الداخل فيه؟ فقال نعم ينجو في الدنيا والآخرة، فقلت له يا سيدي إن العاقل لا يختار لنفسه إلا أفضل ما يعلم فإذا علمت فضل دين الإسلام فما يمنعك عنه؟ فقال لي يا ولدي إن الله تعالى لم يطلعني على حقيقة ما أخبرتك به من فضل دين الإسلام وشرف نبي الإسلام إلا بعد كبر سني ووهن جسمي ولا عبرة لنا فيه بل حجة الله علينا قائمة ولو هداني الله لذلك وأنا في سنّك لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق. قال وحب الدنيا راس كل خطيئة فأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى من رفعة الجاه والعز والشرف وكثرة عرض الدنيا ولو أني ظهر علي شيء من الميل إلى دين الإسلام لقتلني العامة في أسرع وقت، وهب أني نجوت منهم وخلُصت إلى المسلمين وأقول لهم أني جئتكم مسلماً فيقولون لقد نفعت نفسك بالدخول في دين الحق فلا تمنّ علينا بدخولك في دين خلّصت به نفسك من عذاب الله فأبقى بينهم شيخاً كبيراً فقيراً إبن تسعين سنة لا أفقه لسانهم ولا يعرفون حقي فأموت بينهم من جوعي وأنا الحمد لله على دين عيسى وعلى ما جاء به يعلم الله ذلك مني، إلى آخر كلامه. وهذا حقيقة كتاب نفيس وجيد يذكر هذا القس قصة إسلامه وما حصل معه.

د. عبد الرحمن: نحن حقيقة عندما نسمع النصارى نظن بهم ظن السوء ونتوقع أنهم كلهم أعداء لكن مثل هذه القصة تبين

د. محمد: تبين أن فيهم من يعرف الحق ويتمنى الدخول فيه

عبد الرحمن: إستطراد يا أبا عبد الملك، قرأت قبل أسبوع قصة قس من أثيوبيا كان معظماً عند النصارى وكان المنصّرون يعتنون به كثيراً ويكرمونه ويؤملون به أملاً كبيراً وهو من أهل أثيوبيا وتنصر على أيديهم ونفع الله به إن صح التعبير –

د. مساعد: قل انتفعوا به

د. عبد الرحمن: يقولون رأى رؤيا سورة قل هو الله أحد، رأى رؤيا كأن هذه السورة تقرأ عليه في المنام فيقولون بحث عن تأويل هذه الرؤيا فما وجد ما يشفي غليله فقرر أن يذهب إلى مركز إسلامي هناك أو مسجد فقالوا نعم هذه سورة في القرآن عندنا وشرحوا له معناه فانشرح صدره للإسلام سبحان الله فأسلم فأسلم بإسلامه قرى وقبائل قالوا فتضايق منه المنصِّرون تضايقاً شديداً وعرف أنه لن ينجو منهم فجاء إلى مكة المكرمة وأخذ تصريح من رابطة العالم الإسلامي للمجاورة بمكة وجاء وجاءت معه زوجته فتضايق النصارى أشد المضايقة وعرفوا أنهم لا يستطيعون أن يثنوه عن دينه، عن الإسلام فاحتالوا بحيلة فجاءت إبنة أحد هؤلاء المنصّرين معظّمة عندهم وشكت إلى الشيخ، إلى هذا الرجل وقالت له أنا أسلمت وسيقتلونني لو رجعت إلى هناك فأريد أن أتزوجك فتزوجها وأسكنها في جدة والعجيب أنها كانت مصابة بمرض الإيدز وأرادت أن تقتله بعدما يئسوا من أنه يعود إلى النصرانية فقالوا لا بد أن نقتله بأي طريقة بحيث أن تكون بجريمة ليست جنائية وفعلاً بعد أن تأكدت أنه قد أصيب بالإيدز ونقله إلى زوجته الأولى رجعت إلى اثيوبيا وهو مات قبل مدة قصيرة هو وزوجته ودُفنا في مكة رحمه الله. فانظر كيف يهدي الله سبحانه وتعالى كثيراً من علمائهم ومن قساوستهم وأنهم يهتدون إلى الدين وفيهم قُرب مثل هذا الرجل وانظر أيضاً إلى العذر الذي يعتذر به هذا القسيس أنه كبير في السن وأوضاعه جيدة عند النصارى فانظر إلى تفكيره! أنا أتصور لو ذهب إلى المسلمين أو استشار لوجد أنه ليس بالضرورة أن يكون بهذا السوء الذي يتوقعه هو من المسلمين أنه سيكون شيخاً مهملاً ليس له قيمة.

د. محمد: ثم ماذا بقي له من عمره حتى يحفل بهذا الباقي؟ هو لو عاش أربع خمس سنوات يستمتع بفقره ثم مات فقيراً لاستمتع بعد ذلك بجنة عرضها السموات والأرض ولكن الله أراد له ذلك (ومن يهد الله فلن تجد له).

د. مساعد: قوله (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)) أيضاً هذه من باب العدل لأنه ما قال كلهم وإنما قال (فريقاً). قال (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ)

د. محمد: يعني يتلونه تلاوة يظهر لغير العارف أنه من الكتاب المقدس وهو ليس كذلك وهذا من تمام لبسهم الحق بالباطل لووا العنوان لبس الحق بالباطل أن يُتلى غير الكتاب بصورة يتلى بها الكتاب حتى إذا سمعها السامع ظن أنها من الكتاب.

د. مساعد: وبعض المفسرين ذهب إلى معنى آخر وهو تحريف المعنى (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ) أي يحرّفون معانيه. (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ) يعني ما قالوه هو من عند الله وما هو من عند الله. فهذا أيضاً وجه آخر في معنى (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ) قال (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)

د. عبد الرحمن: هذا تكرار سبحان الله، (وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)) ويقول هنا (وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)

د. مساعد: إشارة إلى أنهم يعلمون أنهم كذبوا.

د. عبد الرحمن: هذا المثال الذي ذكرته، هذا القسّ يعرف أنه على باطل

د. مساعد: وأنا أكاد أجزم أنه ما أحد يصل لمثل هذه المرتبة والمرحلة إلا وعنده يقين ببطلان ما عنده وصدق ما عند المسلمين لكن يمنعه إما الحسد وإما الحقد والعياذ بالله وإما ما هو فيه من الدنيا وأشياء كثيرة تمنعه لأنه لا يكفي العلم.

د. محمد: أو التسويف أحياناً.

د. مساعد: أو التسويف فإنه لا يكفي العلم، مجرد العلم ليس هو الكافي للدخول في الدين مثلما ذكر هو قبل قليل يقول أنا أكتفي بإيماني بعيسى لكن أنت تعلم أنه لا يكفي.

د. محمد: في الآية ظهر شيءعجيب جداً وهو شيء بلاغي قد أشرت إليه يا أبا عبد الملك في حلقة ماضية وهو وضع المُظهَر مقام المضمر. لما يقول (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ) المفروض أن يقول لتحسبوه منه (وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ ) ما قال وما هو من عنده. طبعاً هنا اللفتة البلاغية لما يطنب ويضع المُظهَر مكان المُطنب حتى يعظم هذه الأشياء ويضخّمها كيف يحصل هذا منهم؟ فهو يطيل في ذكر هذه الأشياء لشناعة ما يقولون ويؤنف مما يفعلون.

د. عبد الرحمن: سبحان الله ترى أصل انحراف هؤلاء اليهود والنصارى هو تحريفهم للكتاب وعنايتهم بذلك وإصرارهم عليه أنهم يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ويشهدون بالكذب ويكذبون ويلبسون الحق بالباطل وهم يعلمون من كتبهم فمعناه أن الكتاب الذي بين أيديهم فيه حق وفيه دلالة على صدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لكنهم يمارسون التضليل والتلبيس والتحريف حتى النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء في حدّ الزاني المحصن لما زنا يهودي بيهودية فأرادوا أن يحتكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قصة فأمرهم أن يتلوا ما جاء في التوراة.

د. مساعد: قالوا لعل في شرعه أخف مما عندنا

د. عبد الرحمن: فلما جاؤوا بالتوراة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع هذا الحَبر يداه على آية الرجم

د. مساعد: وكان عبد الله بن سلام حاضراً فقال له إرفع يدك

د. عبد الرحمن: مما يدل على أن ما في أيديهم من الحق هو فيه من موافقة النبي صلى الله عليه وسلم ومن تصديقه الشيء الكثير.

د. محمد ما يدلهم على الحق ولكنهم أبوا أن ينصاعوا إليه.

د. عبد الرحمن: وبالرغم من هذا التحريف الذي صنعوه بكتبهم بقيت هناك إشارات كثيرة في التوراة لأنهم ما يستطيعون أن يطمسوا على كل ما يدل على النبي صلى الله عليه وسلم.

د. محمد: مثل إشارة الفارقليط هذه، ما هي يا دكتور مساعد.

د. مساعد: هي في الحقيقة طويلة وما نريد أن نأخذ وقت البرنامج.

د. عبد الرحمن: هي عند أي آية؟

د. مساعد: والله لا أذكر ولكني أحضرت الكتاب

د. عبد الرحمن: هي الآية التي بعد هذه، الآية (81) (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ)

د. مساعد: إذن ما دامت جاءت نذكرها. هو يتكلم عبد الله عن قصة أنه كان غلاماً صغيراً وأن أباه دفعه إلى قسيس وتعلم عند القسيس قرابة عشرين سنة ومرض القسيس يوماً فقال له إذهب وكان عندهم طلاب يطلبون العلم اللاهوتي قرابة الألف فقال اذهبوا وخذوا الدرس اليوم لأنه كان متعباً. هو يذكر ما قرأه على القسيس من علم أصول دين النصرانية وأحكامه وأنه تقرب إليه لخدمته فذكر أنه قال: ثم أصابه بعدعشر سنسن من الخدمة ثم أصابه مرض يوم من الدهر فتخلف عن مجلس قراءته وانتظره أهل المجلس ومن يتذاكرون مسائل من العلم إلى أن أفضى بهم الكلام إلى قوله تعالى على لسان نبيه عيسى عليه السلام أنه يأتي من بعدي نبي إسمه الفارقليط فبحثوا في بتعيين هذا النبي من هو من الأنبياء وقال كل واحد منهم بحسب علمه وفهمه فعظم بينهم في ذلك ما قالوه وكثر جدالهم ثم انصرفوا عن غير فائدة عن تلك المسألة (يعني ما وصلوا إلى رأي). يقول فأتيت إلى مسكن الشيخ صاحب الدرس المذكور فقال لي ماذا كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ فأخبرته باختلاف القوم في اسم الفارقليط وأن فلاناً قد أجاب بكذا وأجاب فلان بكذا وسردت له أجوبتهم فقال لي وبماذا أجبت أنت؟ فقلت بجواب القاضي فلان في تفسيره للإنجيل فقال لي ما قصّرت وقرُبت وفلان أخطأ وكاد فلان أن يقارب ولكن الحق خلاف هذا كله لأن تفسير هذا الإسم لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلا القليل.قبادرت إلى قدميه اقبلهما وقلت له يا سيدي قد علمت أني أتيت إليك من بلدة بعيدة لخدمتك عشر سنين حصّلت عنك فيها من العلوم جملة لا أحصيها فلعل من جميل إحسانك أن تكمل علي بمعرفة هذا الإسم الشريف فبكى الشيخ وقال يا ولدي والله إنك لتعزّ عليّ كثيراً من أجل خدمتك لي وانقطاعك إليّ وأن في معرفة هذا الإسم الشريف فائدة عظيمة لكن أخاف عليك أن يظهر ذلك عليك فتقتلك عامة النصارى في الحين فقلت له يا سيدي والله العظيم وحق الإنجيل ومن جاء به لا أتكلم بشيء مما تسر إليّ إلا عن أمرك. فقال لي يا ولدي إني سالتك في أول قدومك إليّ عن بلدك وهل هو قريب من المسلمين وهل يغزونكم وتغزونهم لأستخبر به ما عندك من المنافرة للإسلام فاعلم يا ولدي أن الفارقليط هو إسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم وعليه أُنزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال علي السلام وأخبر أن هذا الكتاب سينزل عليه وأن دينه هو الدين الحق وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل. قلت يا سيدي ما تقول في دين النصارى؟ قلت يا ولدي لو أن النصارى أقاموا على دين عيسى الأول لكانوا على دين الله لأن عيسى وجميع الأنبياء دينهم دين الله تعالى. ثم قال فقلت له وكيف الخلاص؟ (وهذا ذكرناه قبل قليل)

د. عبد الرحمن: هذا فقيه

د. محمد: لكن ما نفعه ذكاؤه

د. مساعد: لما ذكرت الآن (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ) لو ترجع الآن لأناجيلهم التي تذكر هذه الآية المذكورة تجد بدل الفارقليط جعلوا المعزّي

د. عبد الرحمن: يحرفون

د. مساعد: حرفوها من الفارقليط إلى المعزي لما رأوا المسلمين قد تمسكوا بهذا الإسم وحللوه تحليلاً صحيحاً لأنه باللغة اليونانية الفارقليط وهو معناه الذي يكثر حمده وهو يساوي محمد أو محمود. فلما رأوا تعلق المسلمين بهذا الإسم غيروه إلى المعزي ففيها تحريف.

د. محمد: في الاية التي بعدها قال الله عز وجل (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79)) هذه إشارة إلى الرد على النصارى أنه كيف يدّعي عيسى الألوهية وهو نبي من عند الله ورسول من عنده وما استقام وما صح وما ينبغي أن يكون هناك بشر يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يدّعي هذه الدعوى لأنها دعوى لا تليق بأحد إلا بالله سبحانه وتعالى فهذا تأكيد لمقام التوحيد بأسلوب آخر جديد لم يُعهد حتى في هذه السورة وهي أنه استعرضوا التاريخ ابحثوا عن الأنبياء في سجلاتهم وتورايخهم ومقالاتهم ما منهم من أحد ادعى هذا فكيف تدعونه لنبي من أنبياء الله ورسول من عنده وهو عيسى عليه الصلاة والسلام؟ ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله، ولهذا يقول لهم (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)

د. مساعد: والرباني عند بعض العلماء مثل ابن مسعود قال هو الذي يعلِّم الناس صغار العلم قبل كباره وبعضهم قال رباني حكماء وبعضهم قال علماء وهي كلها داخلة في معنى رباني يعني إما أن يكون منسوباً إلى الربّ وهذا القول وإما أن يكون منسوباً إلى الربان الذي هو المعنى السائس الذي يسوس الناس.

د. عبد الرحمن: ومن أجمل من رايته تكلم عنها الطبري رحمه الله في تفسيره تكلم عن الربانيين بكلام حتى قال محمود شاكر وهذا الكلام لا تجده في معاجم اللغة. تكلم الطبري في تعريف الرباني وأنه هو العالِم الحكيم جمع مع العلم التربية. (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) وهذه الآية تصلح أن تكون نبراساً للمربي والمدرّس ليس كل ما يُعلم يقال وأيضاً ينبغي أن تعطي من العلم بقدر ما يستوعبه عقل من أمامك. أحياناً البعض قد يفضل في مسائل دقيقة أمام طلاب في بداية الطريق فبعضهم يقول كل هذا يحتاج أن أتقنه؟! ثم يترك العلم.

د. محمد: أو يفهم الأمر على غير وجهه فيضِل ويُضل.

د. عبد الرحمن: ولذلك قال علي ابن أبي طالب إنك ما كنت محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.

د. محمد: حدثوا الناس بما يعرفونه أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله؟

د. عبد الرحمن: لفت نظري يا دكتور تعليق على ما تفضلت به قال (أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (80)) فيها لفتة جميلة إلى أن الاستعانة بغير الله والإستغاثة بغير الله أو عبادة البشر أنها كفر بالله سبحانه وتعالى.

د. محمد: (وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (80))

د. مساعد: يعني إذا كان الأصل فيهم الإسلام فكيف ينقلكم من الإسلام إلى غيره؟

د. عبد الرحمن: ثم لاحظ أنه قال تعبد ملائكة أو نبي فكيف بمن يعبد الأحجار؟ ويعبد الأصنام؟ ويعبد الفئران؟

د. محمد: الهنود يعبدون أو في دينهم يعبدون 33 مليون إله كل ما يُحب ويُبغض ويُخاف ويُرجى فهو معبود من دون الله نسأل الله العافية السلامة ونحمد الله على ما نحن فيه من نعمة التوحيد، ونعمة التوحيد والله لا يعدلها نعمة. ولذلك لاحظ هنا التأكيد على التوحيد (وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا) تجعلونهم أنداداً لله سبحانه وتعالى (أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) لعلنا نأتي إلى هذه الآية الشريفة التي فيها شرف النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء.

د. مساعد: وفي قوله سبحانه وتعالى (وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا) إشارة، النصارى لم يتخذوا ملائكة ولا اليهود ذكر أنهم اتخذوا ملائكة وإنما اتخذوا عُزيراً أو عيسى عليه الصلاة والسلام اتخذوهم أرباباً فكأنها إدخال أيضاً للعرب لأن هذا الكتاب خوطب به اليهود وخوطب به النصارى وخوطب به العرب فلما جاءت مناسبة لإدخالهم أُدخلوا لأنهم قالوا الملائكة بنات الله وأنهم يعبدونهم (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى (3) الزمر) فهذا أيضاً ينتبه له إلى أن القرآن أحياناً في بعض المناسبات يُدخل أقواماً ليسوا من أهل ذلك السياق ليشير إلى أنهم متفقون في الأمر وهو الإشراك بالله، يعني هؤلاء أشركوا بوجه في أنهم ادعوا ألوهية العزير وهؤلاء أشركوا بأنهم ادعوا ألوهية عيسى وأنتم أيضاً ايها العرب أشركتم بادعائكم أن الملائكة بنات الله وأنهم يستحقون العبادة لهذه الدعوة التي ادعيتموها.

د. عبد الرحمن: وأيضاً لأن الخطاب يصلح للجميع كقاعدة عامة أن القرآن الكريم ونحن نتكلم عنه الخطاب الأصل فيه أنه للجميع يدخل فيه كل من يتلبس بشيء من هذه المعاصي والإشراك والشرك بالله سبحانه وتعالى.

د. مساعد: لعلنا أيها المشايخ إن شاء الله نكمل هذا من قوله (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (81)) سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.

بُثّت الحلقة بتاريخ 10/6/2009م