تأملات في سورة آل عمران من الآية 195 – آخر السورة
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴿١٩٥﴾ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ﴿١٩٦﴾ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿١٩٧﴾ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ﴿١٩٨﴾ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿١٩٩﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٢٠٠﴾
توقفنا في اللقاء الماضي عند قوله تعالى (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) ولعلنا في هذا اللقاء نواصل الحديث عن هذه السورة العظيمة. وقد سبق أن تحدثنا عما في هذه السورة من أعمال القلوب ومن الفضائل ومن الفوائد البلاغية ونحن لم نتحدث عن سورة آل عمران لما فيها من الفوائد وما فيها من العِبَر وإنما نحن نحاول أن نحبب المشاهد الكريم في مراجعة هذه السورة والتفكر فيها وإلا هي تحتاج لسنوات طويلة لتدبر هذه السورة -كما فعل ابن عمر مع سورة البقرة- لأن التفكر بالقرآن الكريم والعمل به وتكراره يحتاج إلى وقت وهو عمر المؤمن الحقيقي. وعمر المؤمن الحقيقي هو الوقت الذي قضاه مع القرآن، والوقت الذي استثمر هو الوقت الذي قضاه المؤمن مع كتاب الله يتأمله وينظر في معانيه.
بعد أن تحدثنا في اللقاءات الماضية عن دعاء المؤمنين (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴿١٩١﴾) وتحدثنا عن عبادة التفكر وعن أعمال القلوب والغفلة التي يعيشها المسلمون، ثم بعد هذا الدعاء كله قال الله تعالى (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴿١٩٥﴾) ثم ذكر نماذج لهذه الأعمال (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)، هذه الآية أطال الله فيه التفصيل في الاستجابة لهذا الدعاء العظيم وقلنا سابقاً أن الله سبحانه وتعالى علّمنا في هذه السورة كيف ندعوه وأن على المؤمن أن يكثر من الدعاء بهذا الدعاء وأفضل دعاء دعاء القرآن وأفضل ما يدعو المؤمن به هو هذا الدعاء الذي علّمنا إياه الله سبحانه وتعالى في كتابه لأنه سبحانه أعلم بنفسه وأعلم بخلقه.
نقف وقفتين مع هذه الآية: أولاً سرعة استجابة الله لدعاء المؤمنين. كثيراً ما نسمع الناس تقول إننا ندعو ولا يُستجاب لنا في حين أن الله سبحانه وتعالى أشار في كتابه أنه سريع الاستجابة فقال (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (186) البقرة) بمجرد الدعاء فإنه يستجيب لك لكن ليس بالضرورة أن تكون الاستجابة هي تحقيق ما تدعوه به وإنما ذكر العلماء أن الداعي لا يخلو من حالات إما أن يستجيب الله دعاءه فينفذ له ما طلب وإما أن يصرف عنه من الشرّ بقدر ما دعا به من الخير وإما أن يُرجئها الله سبحانه وتعالى له إلى الآخرة وهي أعظمها ولذلك قال الشافعي رحمه الله لرجل يقول أنه يدعو الله ولكنه لا يستجيب:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ولم تعلم بما صنع الدعاء
سهام الليل لا تُخطئ ولكن لها أجلٌ وللأجل انقضاء
النقطة الثانية في قوله سبحانه وتعالى (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى وهو السيد وهو المالك وهو المتصرف أنه لن يضيع عمل عامل وأنك مهما عملت من عمل صَغُر أو كبُر فأنك سوف تجزى به ولذلك قال (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) الزلزلة) وذكر في مواضع كثيرة في كتابه دقة الميزان (وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) الأنبياء) (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) الكهف) هذا فيه طمأنينة للمؤمن وهو يدعو الله سبحانه وتعالى وهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى تكفّل أن لا يضيع عمل عامل منكم، وهذا فيه تطمين للعبد لأنه من أشد ما يؤثر على العامل أنه لا يطمئن إلى الجزاء، العامل الذي يعمل في أحد المؤسسات ولم يستلم راتبه كيف تكون حالته وكيف تكون نفسيته؟! يقول حقوقي مضيّعة؟! ولكن عندما يأتيه ضمان بأن حقوقه محفوظة، وهنا الضمان من الله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) آل عمران).
لعل هذا تكملة لقوله تعالى (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ (195)) هذا تأكيد وأن وعدي لكم بأن أجزيكم خير الجزاء وأنصركم على أعدائكم وأورثكم الجنة يوم القيامة أن ذلك لن يضيع عند الله سبحانه وتعالى وكل عمل قدمتموه لن يضيع عند الله سبحانه وتعالى (وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) محمد) بمعنى لن يضيع أعمالكم. ولو تأملنا هذا التطمين الرباني لهم يجعلهم بالفعل يعملون حتى لو العمل الصغير والله سبحانه وتعالى لا يحقر العمل الصغير وقال صلى الله عليه وسلم (لا تحقرنّ من المعروف شيئاً) أي شيء يعمله العبد فيه خير فإنه سيعود عليه بالنفع والخير ولذلك الذي قطع غضن شجرة كانت تؤذي الناس أدخله الله سبحانه وتعالى به الجنة وهو عمل يسير لا يؤبه له.
في التفصيل لما قال تعالى (لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم) وهذا واضح أنه للجميع لكنه قال (مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى) وبتقليب النظر في ذكر الذكر والأنثى أو المؤمن والمؤمنة قصداً في بعض الأمور قطعاً يكون لحكمة (ذكر وأنثى) (مؤمن ومؤمنة) (والمؤمنون والمؤمنات) تحتاج لوقفة وتأمل ولعل أحداً يصل فيها إلى الحكم في هذا الموضوع.
لما سألت أم سلمة الرسول صلى الله عليه وسلم لا نجد للنساء ذكراً (وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ (32) النساء) وقيل أنها نزلت فيها كل الآيات التي ذكرت النساء والرجال، قالت ما لي أرى الله يذكر الرجال ولا يذكرنا؟ فأنزل الله تلك الآية والآية في سورة الأحزاب (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ (35) الأحزاب) فذكر هؤلاء جميعاً مع الرجال. وهذا يدل على أن التساؤلات مشروعة وهذه المرأة النبيهة سألت هذه التساؤلات المشروعة وجاء بعدها استجابة. ونرى فائدة في قوله تعالى (أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم) هذه شاملة ثم جاء (مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى) تنبيه على أن الجزاء سواسية ليس فيه تفاضل، أنتم سواء في الجزاء لا تؤثر الذكورية في زيادة أجر الذكر على المرأة ولا تؤثر أنوثة المرأة بنقص في الأجر ولهذا نقول أن هذا من الجوانب التي يجب أن ننتبه لها أن الرجل والمرأة يكونون في أمور على حد سواء وأحياناً يكون للرجل حال وللمرأة حال ولكن الغالب أن حال الرجل أفضل من حال المرأة هذا بتفضيل الله سبحانه وتعالى وليس تشفّياً وهذه القاعدة العامة والغالبة عند جميع الناس فالاستثناءات التي تحصل أحياناً في العالم، إمرأة تملك بلاد أو امرأة تملك وزارة أو امرأة مسؤولة عن رجال فهذه تعتبر شواذ لأن الأصل الغالب أن يكون الرجل هو المقدم. فلعل المقصود أنه لا يؤثر الجنس ذكر أو أنثى في قضية الجزاء عند الله سبحانه وتعالى.
في حديث أم سلمة يقول القرطبي في تفسيره “وروى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه عن أُم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله تعالىٰ: { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ } الآية. وأخرجه الترمذي”.
من فوائد هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى خصّ العمل وذكر مثالاً ل’مال الصالحة التي تقرّب إلى الله سبحانه وتعالى، فعممّ في الأول (أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى) فدخل فيه كل عمل صالح يعمله إنسان من ذكر أو أنثى فإن الله سبحانه وتعالى لا يضيعه، لكنه ذكر مثالاً على هذه الأعمال الصالحة وكأنها من أعلى الأعمال الصالحة فقال (فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ) ذكر الهجرة، (وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ) وليس سهلاً على الإنسان أن يخرج من دياره بطواعية، ولذلك نقول لإخواننا الذين شُرّدوا من ديارهم في كل مكان: هل تتوقعون أن أجركم كأجر غيركم؟ أنتم على أجر عظيم إن صبرتم واحتسبتم. ولذلك انظروا إلى إخواننا في فلسطين وأفغانستان والعراق وفي كل مكان كيف شُرِّدوا من ديارهم فلا يعرف الهمّ إلا من يكابده ولا المرارة إلا من يعانيها، فليس سهلاً أن تسمى لاجئاً لكن الله سبحانه وتعالى قد خصّك بأجر فقال (وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ) ليس سهلاً أن يخرج الإنسان من دياره بطواعية، وقال (وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي) لذلك نحن نذكر الإخوة الذين أخرجوا من ديارهم أن يحتسبوا الأجر عند الله سبحانه وتعالى أن لا يتسخطوا على قضاء الله وقدره فأن الله تعالى بقدر ما ابتلاهم بهذا البلاء في الدنيا فإنه قد أعد الله لهم من الأجر ما لم يعده لمن بقي آمناً في وطنه، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر النِعَم قال: ” من أصبح معافى في بدنه ، آمنا في سربه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ” والشاهد قوله ” آمناً في سِربه”. وهؤلاء الذين ذكرناهم في هذا الزمن زمن الذل والهوان على المسلمين قد كثروا بالفعل وواجب عليهم أن يحتسبوا هذا الأمر عند الله سبحانه وتعالى فإن الله سيجزيهم عليه جزاءاً عظيماً. ثم جاء بالقسم في (لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) هذه اللام موطّئة للقسم، فالله سبحانه وتعالى يُقسم وكأنه يضمن لهؤلاء الذين قاتلوا وقتلوا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيله يقسم الله عز وجل أن يكفّر عنهم سيئاتهم وجاء بالتكفير مقابل هذه الأعمال.
(لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ) هذا باب التخلية و(وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) وهذا باب التحلية، هذه القاعدة الغالبة كما يقول تعالى في كثير من الآيات (غفور رحيم)، غفور هذه تخلية ورحيم تحلية، فهنا قال (وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ) وهذا الإدخال ليس لجنة واحدة وإنما جنات (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) الرحمن) (وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) الرحمن) لا يُعطى الإنسان في الآخرة جنة واحدة وإنما هي جنات يتنقل بين هذه الروضات والمنازل المتعددة والقصور الفارهة العظيمة والخيام التي من لؤلؤ، هي جنات لمن يصبر على هذا الأذى والإخراج والهجرة وينال هذا الأجر العظيم ولهذا قال في آخر السورة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فالمسألة تحتاج إلى صبر ومصابرة. وقد ذكر الصبر في أول السورة (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)) بدأ السورة بالصبر وختمها بالصبر ولذلك لم يُعطَ الإنسان عطاء أوسع من الصبر. ولذلك نلاحظ الآن نحن لا نعظّم خُلُق الصبر كما عظّمه الله عز وجل، نحن للأسف لم نتخلق بخلق الصبر وكل شيء عندنا في عجلة وقلة صبر، ابن القيم قال “إن الصبر هو سيد الأخلاق”، فالشجاعة صبر ساعة، الكرم صبر على بذل المال، الحلم على عدم الاستثارة، كل الأخلاق تجدها تحتاج إلى صبر. ولذلك لما ذكر تعالى في سورة البلد (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴿١١﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴿١٢﴾ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴿١٣﴾ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴿١٤﴾ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ﴿١٥﴾ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴿١٦﴾ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ﴿١٧﴾ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴿١٨﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ﴿١٩﴾ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ ﴿٢٠﴾ البلد) تواصوا بالصبر لأن فك الرقبة وإطعام المسكين في يوم المسغبة هذه الأعمال العظيمة التي ذكرها تحتاج إلى صبر. ونحن للأسف لا نتدرب عليه ولا نُربى عليه بشكل يليق به، لا نربي أنفسنا ولا نربي أبناءنا ولا طلابنا ولا مجتمعاتنا على الصبر. وليس الصبر المذموم وإنما ضبط النفس وضبط الأخلاق والمفترض في إدارة المرور مثلاً أن يطرحوا دورات في الصبر، والغربيون نجحوا في هذا أكثر منا فتعودوا على الصبر والانتظار حتى في الصناعة والتعلم أما نحن بحكم المَدَنية المعاصرة التي تسهِّل على الناس أصبحنا نستبطئ الساعة فإذا أُعلن في مطار عن تأخير رحلة ترى الناس ينزعجون انزعاجاً هائلاً وما يدرون ما الحكمة من هذا التأخير.
في قوله سبحانه وتعالى (ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) والثواب مأخوذ من مادة تاب وتاب إذا رجع، غذا تأملنا تسمية هذا بالثواب كأنه لك ثم تبت إليه لكن لا تتوب إليه إلا بالأعمال الصالحة وقريب منها المآب ولذلك قال (فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) النبأ) مآب يعني مرجع، والمرجع بالأعمال الصالحة. وقالوا هذا الذي أعطاك الله هو ثواب، توبته عليك فكأنك رجعت إلى حال مقدرة. وكأنه تذكير بالحالة التي كنا عليها، فآدم عليه السلام كان في الجنة ثم أُهبِط منها بسبب الذنب والآن رجعنا إلى المكان الذي خرجنا منه وكأننا تبنا وأبنا إلى المكان الذي كنا فيه. لكن نلاحظ أن المكان كان في الجنة فأهبط منها والآن ينبغي منا أن نصعد إليها والصعود ينبغي له جهد وشغل وليس كالهبوط فيمكن بسيئة واحدة تهبط لكن الصعود يحتاج لبذل جهد (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴿١١﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴿١٢﴾ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴿١٣﴾). كل واحد منا يتصور أنه يصعد في سلم إلى السماء إلى الجنة معناه كلما أصلي أو أصوم أو أزكي أصعد إلى السماء درجة وكلما كان العمل فيه مشقة وجهد كلما كان الصعود أعلى. ولذلك هؤلاء أخرجوا من ديارهم وهاجروا وأوذوا في سبيل الله وقاتلوا وقتلوا كل هذه مصاعد.
وكأن القائل يقول انظر إلى هؤلاء الكفار يتمتعون ويتنعمون ونحن في هجرة وإخراج فقال (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ) هذه الحقيقة نحتاج إلى التذكير بها وهي تقال كثيراً، كلما أراد أحدهم أن يمثل بالحضارة يقول انظروا إلى الغرب ماذا فعلوا وهذه مِنيّة صادقة وهذا حقّ لا نرده ولا نُنكره لكن لا نريد كثرة الطَرْق على هذا الجانب كأننا نحن متخلفين لأننا نحن أصحاب الحضارة والحضارة الحقيقية هي التي نبعت من الوحي ونحن أصحاب الحضارة الحقيقية وأصحاب الوحي والله سبحانه وتعالى (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ) هم لا شك يتقلبون في النعم وشوارعهم أفضل من شوارعنا وحضارتهم المادية قد بلغوا فيها شأواً والذي نتمتع نحن به الآن هو من حضارتهم لا شك عندنا بذلك لكن الواقع الذي نعيشه اليوم محزن بالنسبة للمسلمين.
فائدة هنا الملاحظ أن الثواب هنا نُسب إلى الألوهية وليس إلى الربوبية وأن بداية الخبر كانت ربوبية (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) لكن لما ذكرت بعض الأعمال المرتبطة بالعبودية جاء ذكر الألوهية لأن الألوهية من عند الله. والتوجيه أن مقام الألوهية مقام عبادة يعني ألِهَ أي عَبَد ولما ذكر جملة العبادات نسبها إلى الألوهية لأنها أنسب لها مع أن الثواب أحياناً قد يأتي من الرب لكن المقام الآن حسُن أن يذكر فيه لفظ الجلالة لارتباطه بالعبادات التي ذركت من قبل، هذا أمر والأمر الثاني أن الألوهية فيها عظمة وتمكن فكأنه أراد أن يبين أن هذا الثواب عنده وله ومُلكه فهو الذي يهب لمن يشاء ويمنعه من يشاء فهو أعطاهم الثواب من عنده تفضلاً فتستشعر هذا المعنى. وهناك معنى أن هذه الأعمال التي ذكر الله ثوابها أعمال فيها مشقة وكأنها ليس فيها معنى اللطف والربوبية، فيها قتل وفيها إخراج من الديار فعبر الله سبحانه وتعالى بالألوهية ليدل على أنه يستحق سبحانه وتعالى أن كل هذه التضحيات من أجل الله سبحانه وتعالى ولهذا قال بعدها (وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ). إن كان هناك ثواب فهو عنده، قُدّمت العندية على الثواب كما قالت امرأة فرعون (إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ (11) التحريم) الجار قبل الدار.
قال (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (196)) لا شك أن كثيراً من المسلمين وقعوا في مخالفة صريحة لهذه الآية وهو اغترارهم بالكافرين حتى قالوا وجدنا في الغرب إسلاماً بلا مسلمين، هذا غير صحيح مع أن هؤلاء يتقلبون في نعم عندهم حضارة ولا ننكر شيئاً من ذلك ونرى أنهم قد حازوا شيئاً ينبغي لنا نحن أن نحوزه ولكن علينا أن لا نغترّ به فما دام الإنسان قد فقد الإيمان وفقد الصلة بالله عز وجل فهو في الحقيقة فقد البوصلة في هذه الدنيا فلا يعلم أين يتجه؟ ولذلك انظر إليه يعيش الإنسان وهو يكدح في الدنيا ما عنده هدف آخر، ما الفائدة؟! ولأن أعيش في بيت شعر في صحراء قاحلة وأعرف من أنا ولماذا خُلِقت أحب إلي من أعيش في ناطحة سحاب وعندي ملذات الدنيا كلها ولا أدري لماذا خُلِقت .
حدثني أحدهم في قوله سبحانه وتعالى (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ (26) المائدة) فقلت بنو إسرائيل ما كان تيههم أربعين سنة وإنما هم تائهون إلى اليوم لأن التيه الحقيقي هو الضلال عن الهداية وليس التيه أنهم ضلوا الطريق إلى فلسطين. هذه الهداية التي أنعم الله بها عليهم ينبغي أن نستحضرها دائماً ونعلم كيف يمكن أن تتجاوز العقبات وكيف تغفر خطاياك هذا الهم الأكبر عند المؤمن وهو ينرظر إلى ما عند الله وإلى ثواب الله.
(لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ) فيها إشارة إلى أن الكفار لديهم من بهرج الحياة ما قد يغرّ المؤمن، وهذا واضح لمن يتأمل في حياتهم وما عندهم من حضارة وتكنولوجيا ولديهم أشياء متقدمة وهذا قد يغرّ، وهم يقولون هذا الكلام ونحن لا نشكك في النيات، هو يقولونه من باب حثّ المسلمين أن يأخذوا بأسباب القوة وهذا لا شيء فيه، لكنه قال تعالى (مَتَاعٌ قَلِيلٌ) لا يساوي أن يُغترّ به، بالرغم من كل هذا إلا أنه قال (مَتَاعٌ قَلِيلٌ). (ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) معناه أن العبرة بالنهاية والمؤمن العاقل ينظر إلى النهاية لا تغرّه الحياة الدنيا، ينبغي أن ترضى أن تكون مشرداً بإيمانك ولا تكن عاقبتك إلا هذه العاقبة الحميدة ولا تستعجل كما يستعجل وبعضهم يرتد عن دينه والعياذ بالله. ولذلك يذكرون قصة جَبَلة ابن الأيهم عندما كان أميراً في النصارى من الغساسنة ثم أسلم في عهد عمر وكان يطوف حول الكعبة فوطئ أحد المسلمين على ردائه فأنف منه ولطمه فاشتكاه إلى عمر فقال لطمة بلطمة فكبرت في نفسه كيف يُلطم وهو أمير فاستمهل رسول عمر إلى اليوم الثاني فلما كان اليوم الثاني هرب وارتد ثم كبر وندم ندامة شديدة على ردّته وكتب قصيدة من ضمنها:
تنصّرت الأملاك من أجل لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
لو كان صبرت وتحملت على أمل النجاة في الآخرة وعدم الاغترار بالدنيا والاستعجال بنعيمها.
(لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ) هذا الذي ينبغي أن يسعى إليه الناس وينافسوا فيه، هذا هو السعي. وهنا يذكر بقضية التقوى التي ذكرت في هذه السورة كثيراً (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)) (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ) النُزُل هو المكان الذي يُعَدُّ للضيف ولذلك في بعض البلاد يسمون الفنادق نُزل. (نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ) وفيه إشارة إلى الاحتفاء الشديد بالمؤمن والمتقي وأنه يجد في الآخرة من الحفاوة، وسبحان الله المؤمن في الدنيا يُبتلى ثم منذ أن يموت يبدأ النعيم، منذ وفاته وفي قبره وفي الحشر وفي الجنة، يقول تعالى (أعد الله لهم) (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) آل عمران) (نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ) فيها إشارة إلى حفاوة ولذلك لو كنا فعلاً نعي هذه المعاني لعملنا لما بعد الموت ولذلك قيل” والكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت”.
تكلم القرطبي عن الاستدراك في (لكن) (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ) لأن هذا من غرائب الاستدراك، الاستدراك على ماذا؟ الاستدراك هنا حالي، لو تأملنا أنه كان يتكلم عن المؤمنين أولاً ثم ثنّى بالكلام عن الكفار، عندما قال (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)) لكن المتقين حالهم مختلف تماماً. قال القرطبي في تفسيره: “في قوله تعالى (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ) استدارك بعد كلام تقدّم فيه معنى النفي؛ لأن معنى ما تقدّم ليس لهم في تقلُّبِهم في البلاد كبير الانتفاع، لكن المتقون لهم الانتفاع الكبير والخُلْد الدائِم”.
(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ) كأنه عود إلى ما حدث في أول السورة دعوة أهل الكتاب وأهل الإيمان فتختم السورة بما بدأت به. قال في أول السورة (اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ (4)) بدأت بذكر الكتب السابقة ثم عُرّج على حال أهل الكتاب ثم ذكر (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ) منهم مؤمنون صادقون خاشعون لله يخشون الله (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ (83) المائدة) يستجيبون الله يثني عليهم وكأنها تعريض وإلماحة إلى الذين نكثوا واستكبروا واستنكفوا أن يؤمنوا :إتقوا الله في أنفسكم” وهذا أيضاً إنصاف لهؤلاء الذين استجابوا وقد سبق الحديث عنها في السورة (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) آل عمران). وأيضاً فيها فائدة (وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ) ذكر في الآية الأبرار الذين سبقت صفاتهم في هذه السورة.
قال (خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً) وصفهم أنهم خاشعين وأنهم لا يشترون، خاشعين الخشوع يدل على صدق القلب وخوف من الرب ولا يشترون أن هذا الخشوع حملهم على أن لا يبيعوا شيئاً أو يشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً كما فعل أهل الكتاب الذين منعهم من الإيمان أنهم ىثروا حظوظهم الدنيوية لأنهم كانت تأتيهم أموال بسبب كونهم قسيسين ورهبان وباباوات، (لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً). ثم ذكر أن هؤلاءلهم الأجر (أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ). وهذه الآية فيها فائدة وهي الثناء على أهل الفضل لما فيهم من الفضل من باب تشجيعهم وتثبيتهم. وعندما يأتي مثل هذا الإنصاف في الشريعة، حتى الذي أسلم والذي يريد أن يُسلم ولكنه متردد فيقال له (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) قيهم أناس صالحون، أناس صادقون، هذا يساعده فيقول لماذا لا أكون من هذا النوع؟
أيضاً قال (لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً) هل يُفهم من هذه الآية أن الذي يشتري بآيات الله ثمناً ضخماً يخرج منها؟ هذه للدلالة على ذكر الأعلى أو لذكر الواقع الذي وقع من هؤلاء أنهم اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً. ولو افترضنا أن الدنيا كلها كانت ثمناً للكفر بالله فهذا لا يكفي ولا تساوي الدنيا كلها وهذا كله ثمن قليل ولذلك قال قبلها (مَتَاعٌ قَلِيلٌ) التقلب في البلاد والتمكن منها وملك الدول والحكم كله متاع قليل.
(أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ) الملاحظ المخالفة بين الربوبية والألوهية في هذه الصفحة كثيرة، محاولة استخراج الفروق الدقيقة بينها تحتاج إلى تأمل. قال (أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ) رد الأجر إلى الربوبية، وقال أجرهم كأن فيه إثبات أن هذا استحقاق لهم. وقال (ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ) إشارة إلى فضله عليهم. ثم قال (إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ما قال إن ربك سريع الحساب كما ذكرنا في قضية التعظيم في جانب الألوهية. ثم جاءت بالألوهية لما ذكر (خَاشِعِينَ لِلّهِ) لما كانت عبادة ذكر خاشعين لله. وقال (لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ) والإيمان مرتبط بالعبودية.
في قوله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) هذا ختام السورة. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) النداء بوصف الإيمان وقد تكرر كثيراً في سورة البقرة وآل عمران النداء بوصف الإيمان ومعروف ما قيل فيه قديماً وحديثاً ونلاحظ في قوله (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) وهذا النداء منه النداءات الموجودة في القرآن الكريم فيه فائدة عدم الخجل من الدعوة إلى الله ونشره فهذا هو منهج الله الذي نزل به شرعه ونزلت به كتبه. نلاحظ لما جاءت هذه الأوامر قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ) وهناك فرق بين الصبر والمصابرة فالصبر هو حبس النفس على طاعة الله عز وجل وعن معصية الله وعلى أقدار الله المؤلمة. المصابرة هي أن يكون أمامك خصم يصبر على ما هو فيه من المعصية فأنت تصابره وهذا يكون في القتال لما يلتقي المؤمنون والكفار، هؤلاء صابرون وهؤلاء صابرون كل واحد منهم يصبر على باطله أو على حقه لكن ينبغي للمؤمن أن يصابر، يغالب هؤلاء فيصبر أكثر من صبرهم. يقول النابغة:
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ولكننا كنا على الموت أصبرا
إصبر فعل أمر وصابر فعل أمر أيضاً ولكن هذا من المفاعلة التي تدل على أن هناك من يقابلك.
ثم قال (وَرَابِطُواْ) الاستقامة يمكن للإنسان أن يصبر ويمكن أن يصابر في مواقف لكن أن يرابط عليه ويدوم حتى يلقى الله ويتوفاه مع الأبرار هذا موطن الخلاف بين الناس ولذلك (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا (30) فصلت) ثبتوا على طاعة الله، وهذه الآية أصل في المرابطة على طاعة الله وفي سبيل الله والمرابطة ليست مقصودة فقط في الجهاد وإنما هي عامة ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث ” ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ ” قالوا : بلى . يا رسول الله ! قال ” إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط” . وليس في حديث شعبة ذكر الرباط . وفي حديث مالك ثنتين ” فذلكم الرباط . فذلكم الرباط. الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم – المصدر: صحيح مسلم – الصفحة أو الرقم: 251، خلاصة حكم المحدث: صحيح ” هذا رباطٌ صالح لكل أحد.
(واتقوا الله) قد يصبر الإنسان ويصابر ويرابط لكن لا يتقي بمعنى أن الإنسان قد يختل المنهج أو الميزان أو المحرك لهذه الأمور فقد يرابط لأنها حميّة لوطنه أو لأهله، لا، إتقِ الله، إجعلها لله، واجعل الحامل لها هو الله ولذلك قال في الآية التي قبلها (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا (120) آل عمران) وقال (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186) آل عمران) الصبر لا ينفع إذا كان مجرداً من التقوى ولا يجزى عليه الإنسان فلا بد من صبرٍ يكون الحامل عليه هو التقوى فقد يقع صبر بلا تقوى. وكأن هذه الآية لخصت السورة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ) تذكير بالأوامر التي ذكرت كلها الصبر على الجهاد والصبر على الخروج من الوطن والصبر على الأذى وعلى ما يلقونه من المشركين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ) فيها إشارة إلى ما تجده من العناء والمعاندة (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ (104) النساء). و(وَرَابِطُواْ) فيها معنى الملازمة والرباط والطاعة في الجهاد.
(وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ولذلك كما بدأت سورة البقرة بالفلاح ولذلك نربط بين الزهراويين ونحن نعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يربط بينهما، قال السيوطي: ما وجدت سورتين متتاليتين إلا وجدت مناسبة بين آول الأولى وآخر الثانية وذكر مثالاً لذلك البقرة وآل عمران وذكر عدداً من السور، خاصة التي يقرن بينها النبي صلى الله عليه وسلم.
في قوله (وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الفلاح مأخوذ من فلح الأرض لأن الفلاح يشق الأرض لكي يستنبتها ويخرج منها الزرع كأن فيها إشارة إلى هذا المعنى أن ما تقدموه فإنه يكون في النهاية رادّاً لك كما يفعل الفلاح فيرتد إليه خيرها.
أفضل ما كُتب عن سورة آل عمران في كتب التفسير:
كتاب في ظلال القرآن لسيد قطب من الكتب المميزة التي تكلمت عن هذه السورة وفيما يتعلق بمعركة أُحد بالذات والحديث عنها.
مراجعة كلام إبن القيم رحمه الله في زاد المعاد عندما تحدث عن الحِكَم المستنبطة من غزوة أُحد فهو ذكر حكماً عجيبة استنبطها من الآيات وغالب ما استنبطه من الآيات وأفرد لذلك فصلاً في أربعين أو ستين صفحة موجود في زاد المعاد.
وحضرت لشيخنا العلامة ابن عثيمين تفسير هذه السورة ليس كلها ولكن جزء منها وقد طبع في مجلدين فمن أراد أن يقرأ ما في هذه السورة من حكم وفوائد واستنباطات فعليه أن يقرأ ما ذكره الشيخ رحمه الله في تفسير ذلك.
وما كتبه ابن كثير في هذه السورة كلام رائع جداً جدير بالقرآءة.
ومنهم من أفرد هذه السورة بالحديث أذكر منهم الدكتور مصطفى الشكعة له كتاب تفسير سورة آل عمران
وكتب كثير من المعاصرين في تفسير السور
والتفسير الموضوعي للسور وقد أُشبعت دراسة وكتب عنها الأستاذ عبد الحميد طهماز ضمن سلسلته في التفسير الموضوعي.
سورة البقرة وآل عمران مع طولهما إلا أنهما يتميزان بكثرة المعاني وبسهولة الحفظ، فيهما سهولة بالغة ونوصي بحفظها.
بمناسبة انتهائنا من هذه السورة نكرر أن بعض السور نبّه النبي صلى الله عليه وسلم بفضلها أو نبّه عليها بفعله صلى الله عليه وسلم فتكون من باب الأحوال التي كان صلى الله عليه وسلم يقوم ببعض السور أو بعض الآيات فمن الحسن أن يتعلم المسلمون معاني هاتين السورتين لأن بهما فضل كبير جدا جداً وكثير من المعاني.
محاور الحلقة:
– ذِكْر الذكر والأنثى أو المؤمن والمؤمنة قصداً لحكمة
– سبب نزول قوله تعالى (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى (195))
– عظيم أجر من أُخرِج قهراً من وطنه
– قاعدة التخلية قبل التحلية
– مدار الأخلاق على الصبر
– مناسبة نسبة الثواب للألوهية
– التيه والضياع الحقيقي هو الصلال عن الهداية
– قوله تعالى (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ)
– سبب ارتداد جبلة بن الأيهم عن الإسلام
– الاستدراك حاليّ في قوله تعالى (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا)
– الفرق بين الصبر والمصابرة
– الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أصلٌ في المصابرة
– المناسبة بين أول السورة مع آخر السورة المقارنة لها
– أفضل ما كُتِب عن سورة آل عمران
انتهت بحمد الله تأملات سورة آل عمران.