برنامج بينات

برنامج بينات – 1431هـ- تأملات في سورة النساء الآيات 29-32

اسلاميات

الحلقة الخامسة عشر:

د. الطَيَّار : بسم الله الرحمن الرحيم،الحمدلله والصّلاة والسّلام على رسول الله. أيُّها الإخوة والأخوات من هذا المكان الطيّب، نبتدئ حلقتنا لهذا اليوم. وقبل أن نبتدئ بهذه الحلقة لعلّنا نستمع لبعض آياتٍ من سورة النِّساء، ثم نبتدئ بتفسيرها إن شاء الله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٣١) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٣٢)).

بعد أن استمعنا إلى تلاوة هذه الآيات، نعود إلى ما كُنّا قد وقفنا عليه في اللِّقاء السَّابق وكان الحديث عند الدُّكتور- عبد الرَّحمن- حفظه الله في تعليقه على قوله سبحانه وتعالى (وكان ذلك على الله يسيراً) فإن كان هناك إضافة؟

د. الشِّهري: طبعاً كُنّا نتحدّث عن نهي الله سبحانه وتعالى في الآية السَّابقة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا) ثمّ ختم الآية الثّانية فقال (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (٣٠)). وكنتُ أشَرت إلى قضيِّة أنّ هؤلاء الظَّلمة الذّين يبغون على النَّاس بغير الحق، فَيُبالغون في ثمن السِّلَع مثلاً، أو يظلِمون النَّاس بِغِشِّهم وأكل أموالهم بالباطل، في الغالب أنّهم لا يرتدعون ولا يردَعُهُم إلاّ السُّلطان أو من يقوم مقامَ السُّلطان، وعامَّةُ النّاس يُعانُون منهم الأَمَّرين من ظُلمِهِم ومِن أكلهم للأموال. وتُلاحِظون حتى في مجتمعاتنا اليوم بعض كِبار التُّجَار الذِّين لا يرقُبُونَ في المؤمنين إلاًّ ولا ذِمَّة، خَسَفُوا بأموال النَّاس خاصّة في أسواق الأسهُم وما يتعلَّق بها، فالله سبحانه وتعالى عقَّبَ في الآية الثّانية فقال (ومن يفعل ذلك عُدواناً وظُلماً فسوف نُصليه ناراً) فكأنَّ الله سبحانه وتعالى يُذَّكِر هؤلاء الظَّلَمَة بقوَّته سبحانه وتعالى وقُدرته عليهم وأنَّ عقابهم والاقتصاص منهم والانتصاف منهم سواءً في الدُّنيا أو في الآخرة فإنّه يسيرٌ على الله سبحانه وتعالى فقال (ومن يفعل ذلك عُدواناً وظُلماً فسوف نُصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً) وهذا تهديد لهؤلاء الذّين يبغُون بغير الحق، لأنَّ الله سبحانه وتعالى قادرٌ على أن ينتصف منهم وأن يقتصّ منهم.

د. الخضيري: ننتقل بعدها إلى قول الله عزَّ وجل إلى قوله (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٣١)) الحقيقة هذه الآية من آياتِ البَشائر العظيمة في هذه السُّورة وحُقَّ لِكُلِّ مؤمنٍ أن يفرحَ بها. وقد ثبت عن إبن مسعود وابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما في ذلك أنّهم كانوا يفرحون بآيات من سورة النِّساء منها هذه الآية، ومنها قول الله عزّ وجل (إنّ الله لا يغفِرُ أن يُشرِك به ويغفرُ ما دُونَ ذلك لمن يشاء) يجعلونها من آيات الرَّجاء. فَحُقَّ للمؤمن حقيقة أن يقرأ مثل هذه الآية فيستبشر بها ويحرص على العمل بها. طبعاً معناها أيُّها المؤمن إن اجتَنَبت الكبائر من الذُّنوب فإنَّ الله سبحانه وتعالى يتكفَّلُ لك بتكفيرِ الصَّغائر وعداً منهُ كريماً قد وعد به عباده المؤمنين وعفَا به عنهم هذه الصَّغائر واللَّمم الذِّي يُلابِسونه ولا يكادون ينفَكُّونَ عنه. هذا طبعاً يدعونا إلى أن كل مسلم يريد أن يتحقّق بهذه الآية لا بد أن يعرف ما هي الكبائر، حتى يجتَنِبها ويبتعد عنها يجعلها على جَنبٍ وهُو على جَنب. قال (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٣١)) لاحِظُوا يا إخواني قاعدة القُرآن أنَّ الــمُدخَلَ الكريم هذا ما تأتي إليه إلاَّ بعد تكفير السَّيئات، وغُفران الذُّنوب، والتطهير أو التخلية التي تكون قبل التحلية.

د. الطيَّار: إذا دخلنا الآن في قضيِّة الكبائر، الآن لـــمّا قال (إِنْ تَجْتَنِبُوا) أي تتركوا جانبًا (كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ) وقُرِئ (كبيرة ما تُنهَونَ عنه) الكبائر كما نعلم أنّه ورد أحاديث صريحة بالسَّبع الموبقات (اجتنبوا السَّبع الموبقات) فنقول إنَّ الكبائر يُمكن أن تُقسَم إلى قسمين: قسمٌ نصَّ عليه الشّارع صراحةً وهي المذكورة في السَّبع الموبقات

د. الخضيري: وفي حديث “ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر قال الشِّرك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكأً فجلس قال ألا وشهادة الزُّور ألا وقول الزُّور فما زال يُكَرِّرُها حتى قُلنا لَيته سَكَت.”

د. الطيّار: نعم، فإذاً هناك كَبائر منصوص عليها، فالمنصوص عليه لا خِلاف فيه أنّه من الكبائر، لكن هل هي الكبائر فقط أم لا؟ أيضاً يكاد يقع اتّفَاق العلماء على أنّها ليست هي الكبائر فقط، بل هناك أيضاً كبائر وغيرها. يعني اختلف العُلماء في حدّ الكبيرة فبعضهم قاس على الكَبائر المذكورة السَّبع وبعضهم نظر إلى أمور أُخر مثل من قال الكبيرة كلُّ ما توعّد الله عليه بنارٍ، أو بلعنةٍ، أو بغضب.

د. الخضيري: أو بِحَدٍّ في الدُّنيا

د. الطيّار: أو حدٍّ هذا قيد آخر، عند آخرين أنه ما تُوِّعِدَ عليه بحدّ. فنقول كُلّ هذا الخلاف لا شك الذّي بين العُلماء يجعل الإنسان المسلم أيضاً يتخوَّف من الوُقوع في الذَّنب. ولهذا الماوردي أشَار إلى لفتة جميلة جِدّاً في هذا المقام في أنّ الكبائر التي لم يُنَصّ عليها كونُه لم يُنَصّ عليها لكي يتَّقِيَ المسلم الذُّنوب بعامّة وأنّها قد أُخفيت كما أُخفيت ليلة القدر، أو ساعة الإجابة من يوم الجُمعة أو غيرها فهو وازَنها بهذا. لكن نقول هذا ملحظ لَطيف، لكن يبقى أنَّ الكبيرة لا شك أنّه ما دام يوجد كبيرة فيوجد صغيرة ولذا الله سبحانه وتعالى قال في سورة النّجم (الذِّين يجتنبُون كبائر الإثمِ والفَواحشَ إلاّ اللّمم) فقَسَم الكَبَائر والفَواحش مع اللَّمم وهي الصَّغائر التِّي تُكَفِّرها الصَّلاة، تُكَفِّرها العُمرة بعد العُمرة، والحجّ بعد الحجّ، وتُكَفِّرها الأعمال الصّالحة. فما بَقِي منها فهو موكول إلى رَبِّ العالمين سُبحانه وتعالى.

د. الخضيري: طبعاً العُلماء لهم في هذا – مثل ما أشَرت يا دُكتُور مساعد- مَسلكان، منهُم من يَعُدُّها عَدّاً، ومنهم من يَحُدُّها – كما أسلفتم- حَدّاً، يجعل هُناك تعريفاً أو ضابطاً تُضبَط بِهِ الكَبائر فقالوا كُلُّ ذَنبٍ له حَدٌّ في الدُّنيا أو وعيدٌ في الآخرة فهُو من الكَبائر-  هذا واحد هؤلاء الذَّين حَدُّوا- أمَّا الذِّين عَدُّوا لا جعلوها معدودة قالوا الشِّرك، السِّحر، قذف الــمُحصنات الغافلات، أكل مال اليتيم، قولُ الزُّور إلى آخره. إبن عبَّاس رضي الله عنهما لــمّا سأله أحد النَّاس قال: أتُرَاها يا ابن عبّاس سبعاً؟ قال: هي إلى السَّبعين أقرب، يعني أنَّها كثيرة ولذلك أنا أقول الحقيقة أنّه ينبغي لكلِّ مؤمن أن يتعلّم ما الذّي قيل فيه أنّه كبيرةز فإذا تعلَّم ذلك وعَرَف أنّ هذه كبائر يحرص على اجتنابها ليظفر بهذا الوعد الكريم من الله سبحانه وتعالى. وبهذا الخُصُوص ممكن نذكر لإخواننا الـــمُشاهدين بعض الكُتُب التّي عُنِيَت بذكر هذه الكبائر أشهرها طبعاً “كتاب الكبائر” للذّهبي، وهو كتاب مختصر وذَكَر فيه قُرَابة السَّبعين أو ثلاثة وسبعين كبيرة، وهُناك كتاب” الزَّواجر عن اقتراف الكبائر” لابن حجر الهيثمي رحمه الله فقد ذكر فيه ما يزيد على أربعمائة كبيرة، في كل كبيرة يذكرها يأتي بالدَّليل على انطباق الحدّ عليها، أنّه تُوُعِّدَ عليها بحدّ، أو لعنة، أو شيء من هذا القبيل ويذكر الأحاديث الواردة في ذلك – رحمه الله-

د. الشِّهري: طبعاً، هُناك فائدة في هذا دكتور محمّد، الآن عندما يقرأ المسلم هذه الكبائر ويطَّلع عليها لا شكّ أنّ المسلم ينبغي أن يأخذ نفسه بـــــــــ”خَلِّ الذُّنوبَ صغيرها وكبيرها ذاكَ التُّقى”

د. الخضيري: لكن من ذا الذي يستطيع أن يسْلَم؟!.

د. الشهري: ومن جهة أخرى، عندما تكون أنت مُرَبيّ أو تتولى أمر النَّاس فينبغي أيضاً ان تُرَاعي ما راعَاهُ الشَّارع في وضع الذُّنوب والمعاصي في موضعها، فما سمَّاه الله سبحانه وتعالى كبيرة ونصَّ عليه النّبي صلى الله عليه وسلم ليس كما لم ينُص عليه، فأنت مثلاً عندما يرتكب المسلم كبيرة من الكبائر الـــمُجمع عليها على سبيل المثال شهادة الزُّور، وقتل النّفس، والشِّرك بالله سبحانه وتعالى. وغيره لا تجعل هذه المعصية مثل المعاصي التي لم يَرِد فيها مثل هذا الوعيد، ولم يضَعَها الشّارع في مثل هذا الموضع.

د. الخضيري: يعني تُرَتِّب الأشياء ترتيباً صحيحاً، من حيث الإنكار.

د. الشِّهري: بالضَّبط، هذا ما أقصِدُهُ. لأنَّ بعض النَّاس أحياناً يرى بعض الذُّنوب اليَسيرة على بَعض المسلمين فيهجُرُهُ ويُبَالِغ في ذَمِّه ويُبالِغ في هجره، حتى يُصَّوِر هذا الذَّنب أنّهُ كبيرة من الكبائر. في حِينَ أنّ الإسلام عندما جعل هذه كبيرة و هذه من اللَّمم يجب أن يكون تعاملنا معها على هذا الأساس، يعني رجل مسلم يحافظ على الصَّلوات الخمس، ثمّ يشرب الدُّخَان على سبيل المثال، ولكنَّه من أهل الصَّف الأوّل محافظ على الصَّلاة، فبعضنا قد يُضَّخم هذه المعصية التي يرتكبها هذا الرَّجل حتى وكأنها شِرك بالله، أليس هذا من عدم التّوازن؟!.

د. الخضيري: هذا صحيح.

د. الشِّهري: هذا هو ما أردتُ أن أُنَبِّه إليه

د. الخضيري: هناك قاعدة في هذا الباب الحقيقة أُوَد أن أُذَّكر بها، وهو أنّه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار. فالإنسان الذّي يقع في الكبائر ثمّ يُبادر إلى التَّوبة والاستغفار فإنّ الله سبحانه وتعالى يمحُو ذلك الذَّنب عنه ولا يُصبح في حقّه كبيرة، وكذلك الصَّغيرة إذا تهاون فيها الإنسان واستمرأَها ورأى أنّه لا يعمل شيئاً فيها فإنَّ هذه الصَّغيرة تنقلب إلى كبيرة بسبب تهاونه وإصراره عليها. أيضاً نحن نقول من يعمل الصَّغائر إنتبه وأنت تعمل الصَّغائر كُن خائفاً وعَاهِد نفسك واحرص على أن تُقلِع وأن تجتهد في البُعد عنها وأن لا تقع فيها مرَّة أخرى وإن كنت تعود إليها كل يوم. ومع ذلك لا تيأس فهذا باب من أبواب المجاهدة والصَّبر، وطريق من طُرُق الوصول إلى رحمة الله سبحانه وتعالى التَامَّة. لأنَّ الإنسان إذا أكثَرَ العَودَ والتّوبة أعْلَمَ الله أنّه ليس له أحدٌ يتوب عليه ويستغفره إلاّ الله فيتوب الله عليه، وهذا سبق أن تحدثنا عنه.

د. الشِّهري: وهذه الآية فيها دلالة على هذا يا دكتور مساعد في قوله ( كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ) فيه إشارة إلى أنّنا نُنهى عن أشياء صغائرَ أيضاً، وأنّه ينبغي علينا أن نجتنبها أيضاً، لكن من رحمة الله سبحانه وتعالى بنا أنّه خصَّص هُنا الكبائر قال (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّر عنكم سيئاتكم) وهذا فتح لباب الأمل الحقيقة والتَّوبة بشكل كبير.

د. الخضيري: لا شك، كلمة (نُكَفّر) معنى التكفير ما هو؟

د. الطيّار: عن مادّة كَفَرَ، بمعنى غطّى وسَتَر، ومنه سُمِّيَ الكَافِرُ كافراً لأنّه غطَّى الفِطرةَ.

د. الخضيري : (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٣١) جاء الــــمُدخل الكَريم بعد تكفير السَّيئات، فالتَّخلية ثم التَّحلية.(نُدخِلكُم) أيضاً جاءت بنون العَظَمَة لِبَيان شرف هذه المنزلة وهذا الجزاء لأنَّه لا يكون إلاّ من عَظِيم وكريم سبحانه وتعالى. وكلمة (مُدخَل) هذه طبعاً يمكن أن تكون مصدراً ميميّاً يعني (نُدخِلكُم إدخالاً كريماً) ويُمكن أن تكون اسم مكان (نُدخِلكم مكانَ دخولٍ كريم) الذّي هو الجنّة، نسأل الله أن يُدخِلنا ومن يسمع وآباءنا وأُمّهاتنا ومشايخنا والمسلمين.

د. الشهري: لو ننقل إلى الآية التي بعدها (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ)

د. الخضيري: لو أذنت لي، أنتَ أشرت يا دكتور عبد الرَّحمن إلى أنّ الذُّنوب مراتب، وكذلك الإيمان مراتب وهذا يُستفاد من هذه الآية، فإذا كانت الذُّنوب مراتب، كبائر وصغائر، فأكيد أن الإيمان والطّاعات مراتب، والإيمان أيضاً درجات والنَّاس يَتفاضَلُون فيه ولذلك مذهب أهل السُّنة أنَّ الإيمان يزيد وينقُص، وهذا شيء نَلحَظُه من أنفسنا أنت في لحظة تعلم من نفسك أنَّ إيمانك ومحبَّتك لِرَبِّك ورغبتك في القُرب منه غير تلك اللَّحظة التي تجِد من نفسك فيها الثِّقل والابتعاد والرُّكون إلى الدُّنيا، بل والرُّكون أحياناً- نسأل الله العَافية- إلى المعصية في مَحبَّتها، وقُرب قَلبك منها أو قربك إليها فهذا يُستفاد من دلالة الآية، مفهوم المخالفة.

د. الشّهري: جميل جِدّاً، الآية التي بعدها في التَّمني (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) تُلاحظون الحديث في السُّورة سورة النِّساء، والنِّساء في الغالب – حتى قد سألت بعض الصّحابيات أظُنُّها أم سلمة أو غيرها النّبي صلى الله عليه وسلّم قالت يا رسول الله، الرِّجال يَحُجُّون، ويجاهدون ويفعلون فما لنا نحن النِّساء؟ فالمرأة تجِد أحياناً في نفسها رغبة أو تَمنّي أنّها كانت رَجُل.كثيراً منهُنّ تسمعها تقول لِيتني كُنت رَجلاً! لكُنتُ فعلتُ وفعلت وفعلت.

د. الخضيري: ما تدري!.

د. الشِّهري: ولذلك هذا الشُّعور، الله سبحانه وتعالى أشار إليه في مثل هذه الآية فقال (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) الآية فيها دِلالة على أنّ الله سبحانه وتعالى فعلاً فضَّلَ الرِّجال على النِّساء وقال (وللرِّجال عليهِنَّ درجة) وقال (الرِّجال قوَّامُونَ على النِّساء) وذَكَر أوجه تفضِيل لجنس الرِّجال.

د. الخضيري: وليس لأفرادهم

د. الشِّهري: وليس لأفرادهم. بعض النِّساء خيرٌ من كثيرٍ من الرِّجال

د. الخضيري: عائشة أمِّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها خيرٌ من ملايين من الرِّجال.

د. الشِّهري: السؤال هل هذا النّهي يدل على تحريم هذا الفعل؟ بمعنى أنّ المرأة التي تقول يا ليتني كُنتُ رجُلاً، هل نقول أنّتِ قولِك هذا حرام؟ هل يُفهم هذا من هذه الآية يا شيخ محمد؟

د. الخضيري: طبعاً الآية لو فصَّلنا في مدلولها (ولا تتمنَّوا ما فضَّل َ الله به بعضكم على بعض) لو قال (لا تتمنَّوا مثلَ) لكان هنا إشكال، بمعنى أن تمنّي المثل جَائِز أنا أتمنى أن يُعطِيَني الله علماً مثل علم فلان من العُلماء، أو مالًا مثل مال فلان، هذا لا إشكال فيه لأنّهَ ليس فيه تسَّخُط لِقَضاء الله، وفيه طلب لفضل الله.

د. الطيار: هذه الغبطة

د. الخضيري: نعم، لا تتمنّى ذاكَ الشَّيء الذّي عند فلان، من زوجة أو ولد أو علم أو مَال أو جَاه أو أيّ شيء من هذه الأشياء أن يكونَ هو هُو بذاته عندك، ولذلك قال في آخر الآية (واسألوا الله من فضله) يعني بدل ما تَحصُر نَفسِك وتقَصُرها على أن يكون هذا الشَّيء إمّا أن يكون لك أو له يا أخي إسأل الكريم من فضله.

د. الطيَّار: كأنّ يقول (ليتَ فلانة زوجتي) وهذا حكاه بعضُ السَّلف وهُو يُعيِّن فلانة، لكن لو قال (لَيتني يُعطِيني مثل فُلانة) هذا يختلف لاحظ الآن الفَرق!. لــمّا تقول (ليت فُلانة زوجتي) وهي في عصمة رجل آخر هذا من تمنِّي ما فَضَّلَ الله به بعضهم على بعض.

د. الشِّهري: وهذا لا يجوز

د. الخضيري: هذا عين الحسد،

د. الطيار: أو المرأة تقول مثل ذلك تقول ليت فلانًا زوجي لكن قد تطلب شيئًا آخر.

د. الخضيري: وفي المسألة التي ذَكَرها الدُّكتور عبدالرَّحمن تنصيصاً يعني كَون الـــمرأة تتمنى شيئاً لا يُمكن أن يَحصُل لها، هذا يدخل في باب التَّسخُط لِقَضَاء الله وقَدَره، ولِذلك نقول لكل إنسان ينبغي له أن يعمل في حُدود الــمُتَاح، ترى يمكن لو كُنت في غير هذه المنطقة، أو في غير هذا المكان، أو في غير هذا الوصف ما عَمِلت!. مثل ما قال ذاكَ الرَّجُل لحُذيفة بن اليَمَان لَيتنا كُنَّا مع رسول الله، ما تركناه يمشي على الأرض! قال اسكُت يا فُلان، فقد كُنّا مع رسول الله وذكر الموقف الذِّي كان في غزوة الأحزاب، وأنّ كثيراً من النَّاس في ذلك الموطن تردَّدوا وحصل عندهم إشكالات وكان في عهد رسول الله مُنافِقُون، ومع ذلك ما تدري أنت قد لو كنت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكُنت في عِداد المنافقين.

د. الشِّهري: لا حول ولا قُوَّة إلا بالله.

د. الخِضيري: إحمد الله على ما أنت فيه، واسأل الله من فضله، واعمل في ذلك المحيط الذّي أنت فيه، أبدع في المكان الذّي أنت فيه.

د. الشِّهري: جميل، هناك لفتة أخرى في هذه الآية، تذكُرُون قول الله تعالى (تلك الرُّسل فضَّلنا بعضهم على بعض) من هو الذِّي فضَّل؟

د. الطيَّار: الله.

د. الشِّهري: الله سبحانه وتعالى، هُنَا يَقُول (ولا تَتَمَنَّوا ما فضَّلَ الله)، أيضاً هذا التَّفضيل الذِّي بين البَشر، فيما بيننا الآن هو من الله سبحانه وتعالى، فأنتَ يعني عندما يقع في نفسك هذا أنتَ تتسَّخَط على الله سبحانه وتعالى، أنّه لماذا رَفَع هذا علينا؟! وهكذا. هذا ذكَّرني بأبيات من الشِّعر في هذا المعنى يقول:

أَلاّ قُل لمن بَاتَ لي حَاسِداً         أَتَدرِي عَلى من أسَأت الأَدَب.

أسأتَ على اللّه سُبحَانه             لأنَّك لم تَرضَى لي ما وَهَب.

فَعَاقَبَكَ اللهُ أن زَادني               وسَدَّ عليكَ وجُوهَ الطَّلب.

فِعلاً الإنسان عندما تَتشوَّف نفسه – كما تفضَّلت- تمنِّي زوال النِّعمة عن الآخرين، ولَيتنا كَانت لنا وكذا، يا ليتَ لنا مثل ما أوتِي قارون، فَهِيَ في الحقيقة تسَّخُط على قضاء الله وقدره، باختصار.

د. الخضيري: شيء آخر، أيضاً هي أن تتوقّع أنّه ما في سبيل للمجد إلاّ بالطّريقة التي وَصَل إليها فلان أو وصل منها فلان؟ هذا غير صحيح.

د. الشِّهري: هناك ألف طريقة

د. الخِضيري: بل مَلايين الطُّرُق، بل كُل إنسان يمكن يَصِل إلى المجد، وإلى رحمة الله، وإلى الفِردَوس الأعلى، وإلى مغفرة الله عزّ َوجل، وإلى تحقيق مَطَالبه ومُراداته في الدُّنيا وفي الآخرة من أبواب كثيرة فتحها الله لعباده. يا أخي هذا الرَّجل البغي من بني إسرائيل الذِّي سقى كلباً فغفر الله له وصل إلى المغفرة من طريق سُقيَا كلب، والذِّي وَجَد غُصنَ شوكٍ فأَخَّرَهُ فَغَفَر الله له تصَّوَر كيف أنّه استطاع، أُوَيس القَرَني ما أدركَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا صَحِبَه وكان يُمكِنهُ الصُّحبة لَكِنَّه انشغل بأُمِّه بِرّاً بها، فَاتته الصُّحبة من أجل أُمِّه، وحَقَّقَ بذلك مجَداً عظيماً حتى إنَّ النَّبي صلى اللّه عليه وسلّم مَن لَقِيَهُ منكم فَليسأله أن يستغفر له، لأنّه مُجاب الدَّعوة. وحتى عُمُر لــمَّا كان يَتَحَيَّن أن يرى أويس القَرني فلمَّا جاء كان يسأل أمداد اليمن أفيكُم أويس؟ فسأل، فوجده فيهم ثمّ ذهب إليه وطلب منه أن يستغفر له، تصوَّر أويس كان بإمكانه أنّه يُضَّحي بما حوله من فُرَص الخِير والثَّواب لِيذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويُحقّق هذا المعنى العظيم ولا يلومه أحد. هُنا يأتي الفَرّج (واسألوا الله من فضله) كلما رأيت خير لإِنسان إسأل الله أن يُبارك له،وأن يرزقك الله من فضله. طبعاً إذا سألت الله من فضله تَرى ما يلزم أنّك تسأل نفس هذه النِّعمة بل اسأل أكثر، وَدعِ الأمرَ لله أنت قد تسأل شيئًا ثُمَّ لا تُوَفَّق أولا يكون هو الخَير لك أو لا تكون مناسبة لك في حال من حالاتك أو في زمن من أزمانك ما تدري يعني، فأنت احرص على أن تَكِل الأمر إلى الله جل وعلا، ترى الله عزَّ وجل إذا أوكلت الأمر إليه أعطاك ما يُناسبك، ويَصلُح لك، ويُصلِحُك، ويُوصِلُك للمَنَازِل العُليا.

د. الشِّهري: واختياره لك، خير من اختيارك لِنَفسِك.

د. الطيّار: ولذا نقول من القواعد التي يجب أن يُعنى بها المسلم قاعدة: المفاضلة بين الأعمال،إذا ازدحمت الأعمال أيُّها أفضل بالنسبة لك؟ وهذه هي الأولويات

د. الخضيري: كَتَب فيها الأخ سليمان النَّجران كتاب المفاضلة بين العبادات، وهو كتاب رائع جِدّاً جِدّاً وهو لون من الفقه يُغفِله كثيرٌ من النّاس، أو لا يفقهونه.

د. الطيّار: بل إنّ بعض الزُّهّاد من أجهل النَّاس في هذا الباب، لأنَّهُم يعبدون الله على ما يُحِبُّون وليس على ما يُحبّ الله، يعني يبحث في العبادة التي تُناسبه ويقف عندها وإذا زاحمها أيّ شيء آخر ظنَّ أنَّ الـــمُزاحِم هو أقلّ ولا يَدري لأنَّه ليس عنده فقه في العمل. ولهذا نقول نحنُ مِنَ القَضايا الــمُهِمَّة جِدّاً هُوَ العِلم بالأُجُور. يعني ما هُو أجرُ هذه؟ وما هو أجرُ هذه؟ حينما تأتي بعض المزاحمات تستطيع أن تُحسِن الاختيار، هذا طبعاً في الــمُزاحمة بين الأعمال الفاضلة، مع الأسف أحياناً تأتي أشياء أقل من هذا وتجد أنّ الإنسان يُضِّيع كثيرًا من الأعمال الفاضلة من أجل أعمال أقلّ منها بكثير من الــمُباحات .

د. الخضيري: في قوله يا إخواني (واسألوا الله من فضله) الحقيقة فِيها إرشاد إلى منزلة الدُّعاء، وأنّ الإنسان ينبغي له أن يَتَّخِذَ الدُّعاء سِلاحاً، وَدِرعاً وَمرَكباً في كل الأحوال لا تَدَع الدُّعاء، والله لو ينقطع شِسع نَعلِك اُدعُ الله، ترى الله قريب منك ولا يُعجِزُه سُبحانه وتعالى شيء. يعني كَم مِن إنسانٍ يَشتكي لك يقول لك: يا أخي أنا من سنوات وأنا أشكو من هذه الخَصلة، أو من هذه الطَّبيعة، أو من هذا المرض. فتسأله هذا السُّؤال؟ دَعَوتَ الله؟ فينظُر كِذا، ويقول واللهِ، ما دعوته. لماذا؟! هل لأنّك يائس من رحمة الله؟! أوّ لأنَّك ترى أنَّ الله سُبحانه وتعالى ما يقدر على أن يُغِّير هذا الأمر؟! خُصوصاً في الأمور التي تَكون تَرَسَّخت، وثَبَتت مثل الطّبائع والأخلاق، والسَّجايا؟. فنقُول ليس هُناك شيءٌ مستحيل على الله سبحانه وتعالى أو يُعجِزُ الله، إسأل الله من فضله.

د. الطيّار: هذا غفلة ترى.

د. الخضيري: يا أخي، هذه الأيّام يا أبا عبدالله أَقرأ إمرأة ثمانِينِيَّة تَدخُل إختبار جمعية تحفيظ القرآن الكريم، عمرها ثلاث وثمانين سنة دخلت إختبار الجمعية، فأنا أسأل أخي وهو مُشرف على الدُّور النِّسائية في منطقة الرِّياض، أقوله: هذه المرأة الوحيدة التي حفظت القرآن الكريم في الثَّمانين؟. قال لا عِندنا كثير، لكن هذه الوحيدة التي دخلت الاختبار في حفظ القرآن الكريم كاملاً. أنا متأكِّد أنَّ هذه المرأة سألت الله عَزَّ وجل بِصدق وإِصرار أنَّ الله عزَّ وجل يرزُقها حفظ القرآن، وقد تكون مَسألة هذه عُمرها يمكن خمسين، سِتِّين، سبعين المهم أنَّها بَقِيت عشر سنوات فحفظت القرآن وعمرها ثلاث وثمانين سنة.

د. الشِّهري: والله إنَّها عِبرة!.

د. الخضيري: والله عِبرة، طبعاً. ماذا تقول يا أبا عبدالملك الرَّجل قد يكون أقدر في هذا السِّن على أن يحفظ من المرأة، لأنّ المرأة تكون أُنهِكَت بالحمل والولادة والإرضاع ومعروف هذا، هَذا كُلُّه يأخُذ من عُمرها ومن قوَّتها وصِّحتها ونَشَاطِها. بل لو كانت في صِحتها وشبابها قال الله عزَّ وجل (واستشهدوا شهيدين من رِجالكم فإن لم يَكونا رجلين فرجُلٌ وامرأتان ممّن تَرضَونَ من الشُّهداء أن تَضِّلَ إحداهُما فَتُذَّكِرَ إحداهُما الأخرى) ومع ذلك مع الإِصرار والعزيمة حَفِظَت. هل هذه المرأة تقرأ؟ لا تقرأ، هذا كُلُّه حِفظ بالسَّماع!.

د. الطيّار: ما شاء الله.

د. الخضيري: تصَّوَر! أنا أعرف خمَس في أَحَد أحيَاء الرِّياض، حَفِظنَ القرآن وكُلُّهُنَّ مِن القواعد من النِّساء.

د. الشِّهري: حتى في النَّماص هنا ترى. والله عِندنا أمثلة كثيرة من هذا النُّوع.

د. الخضيري: الآن تجد بعض النَّاس بلغ الأربعين، أوالخَمسين، تقول: إحفظ القرآن؟ يقول خلاص، فات زمن الحِفظ!

د. الشِّهري: بعد ما شَاب ودُّوه الكُتَّاب.

د. الخضيري: نعم، نقول له: إسأل الله من فضله.اسأل الله من فضله، ترى فضل الله واسع ولا يُمكن أن يُحَد.

د. الطيّار: صحيح، طبعاً باب الدُّعاء نُقَصِّر فيه كثيراً، تصَّور لو كان بالفعل الدُّعاء هِجِيراه في كُلِّ شيء، تركَب السيّارة، تذهب الــمَحَلّ، يعني تَدعُو الله سبحانه وتعالى أن يُيَسِّر أمرك، أن تجد ما تحتاج في أيِّ شيء. والله إنّها نعمة كبيرة جِدّاً جِدّاً، ويشرح الصَّدر، لأنَّ سبحان الله الآن الدُّعاء إذا أنت تأمَّلته تجد أنّك في النِّهاية أنت المستفيد، إن أجاب الله لك فَهُو خَير، وإن صَرَفَ به سوءاً فهو خَير، وإن ادَّخره لك في الآخرة فهُو أكثر خيرًا

د. الخضيري: ثُمّ هو عنوان التّوحيد، لأنّك تعرف عند ذلك أنّك عبد وأنَّ الله ربّ، فَأنت مُتَوَّكِل وأَنت عَارف بأنّك ضعيف ومُحتاج إلى الله في كُلِّ شيء.

د. الطيّار: بو عبدالله تذكُر الدُّكتور محمد الفوزان، عن إذنك شيخ عبدالرَّحمن، مرَّة ذَكَر لنا قِصَّة ما أدري إذا كُنت حضرتها، يقول إنَّه لــمَّا تَــخَرَّجوا من الشَّريعة، كَانوا يَتخَوَّفون من القَضاء، يقول فكان كُلّ واحد مِنَّا يَبحث عن من يَستطيع أن يَتَوَسَّط به لكي يُخرِج اسمه من القَضاء، يقول إلاَّ شخص كان معنا قال والله أنا ما أعرف إلا ربّ العالمين، يقول: هذه الكلمة أنا توكّلت على الله، يقول وذَهَب إلى دِياره وكان في الجَنُوب مكان بعيد جِدًّا، يقول سبحان الله فطلعت أسماؤهم كُلُّهُم في القضاء وهو نجا!

د. الشِّهري: وهذا الذّي يَتَمَيَّز به المؤمن عن غير المؤمن، نحن الآن عندما نتحَدَّث عن القرآن وآياته، وتَدَّبُرِه. هو في الحقيقة حتى يعلم المؤمن أنّه يمتلك شيئًا، ويأوي إلى ركن شديد ويتعلّم كتابًا عظيمًا ويتدَّبر في كلام حكيم، وليست المسألة مسألة -كَما تَفضَّلت-الرُّجوع إلى عَادات البَشر وأُمور البشر، نحنُ نتحَدَّث عن كتاب الله سبحانه وتعالى، فالله يقول (واسألوا الله من فضله). ذكَّرني هذا قضيّة الدُّعاء، بأبيات للشَّافعي رحمه الله، عِندما كَانَ يُشِير إلى أهميِّة الدُّعاء فكأنَّ أحدهم قد تَسَّخَط على هذا الموضوع، وقال: أَنا أدعو من زَّمان، ما فيه فائدة. وبعض النَّاس يقول هذا ترى، عندما تقول له اُدعُ؟ قال يا أخي أنا تعبت من الدُّعاء

د. الطيّار: عجيب، قلنا لك يا ابن الحلال الدُّعاء كُلُّه خير.

د. الشِّهري: فقال :

أتَهــزَأُ بِالدُّعَاء وَتَزدَرِيه            وَلم تَعلَم بِما صَنَع الدُّعَاءُ

سِهامُ اللَّيل لا تُخطِي ولكن    لها أجَلٌ وللأَجَل انقضاءُ.

فالدُّعاءُ يعني لا يخيب-كما تَفضَّلت- إمّا أن يُستجّاب لك عاجِلاً، إمّا أن يُرَد عنك من الشَّر بمثله، وإمّا أن يُدَّخَر لك في الآخرة  فأنت الرابح!

د. الطيّار: بعض النَّاس يقول كيف يُرَد عنِّي الشر بمثله؟ نقول تأمّل نفسك، وحَيَاتك أَلم يَـــمُر بك مواقف ثَواني لو أنت أقدمت لَذَهبت؟! فمباشرة تقول لعلّها بسبب دعوة دَعوتُها فجعلها الله سبحانه وتعالى هنا، فبدلاً من أن يُعطِيَكَ هذا الذّي دَعوتَهُ ردَّ عنك هذا الشَّر.

د. الخضيري: في قوله (إنّ الله كان بِكلُّ شيءٍ عليماً) نحن نقول الحقيقة يعني ليست بمثابة القاعدة الــمُضطَّرِدة ولكن كثيرا ما تَرِد التَّذكير بعلم الله في مقام التّهديد، يعني انتَبِهُوا لا تتَمنُّوا لأنَّ التَّمني بالمناسبة عمل قلبي لاحظّ لذلك قال (إنّ الله كان بكِلُّ شيءٍ عليماً) فإيّاكُم أن تُخالِفُوهُ فيها.

د. الشِّهري: أذكر فائدة قديمة، ما أدري هل هي صحيحة أو لا؟، طبعاً هُم يُعَرِّفون التَّمَنِّي فيقولون التَّمنِّي هو تعلُّق القلب بمستحيل الوقوع، تعلق القلب بما لا يمكن حُصوله، والرّجاء هُو تَعلُّق القلب بما يُمكن حُصوله ولو كان صعباً. ولذلك عندما تقول: نتمنى لكم سَفَراً سعيداً! كان يقول أستاذ درَّسنا لُغَة عَرَبيِّة- الله يذكُرَه بالخير- أنت إذا قلت أتمنى لك التَّوفيق. كأنَّك تدعُو عليه، وتقول يعني أنّ الله لا يُوَفقك!، لأنّ هذا تعلُّق النَّفس بشيء مُستحيل الوُقوع، لكن لو تقول أرجو لكَ التَّوفيق

د. الطيّار: لكن ما يُقال هذا !

د. الشِّهري: أنا أقول هذا فقط، وإلاّ أنا لم أتَتَبع هذه المسألة .

د. الطيّار: تحتاج إلى مراجعة لأنّهُ كَثُر في كلام النَّاس.

د. الشِّهري: فهُنا عندما يقول (ولا تَتَمنُّوا ما فضَّل الله به بعضكم على بعض)كأنَّ فيه إشارة إلى هذا المعنى، وهو أنّ التمنِّي تعلُّق القلب بشيء مستحيل الوقوع، وهو أنّك تتمنى ما فضّل الله به بعضكم على بعض.

د. الخضيري: الظّاهر والله أعلم، معنى الآية أنّ التَّمني أوسع من هذا، وإن كان يَرِد في لغة العرب -كما ذكرت- مثل قول الشّاعر:

ألا ليت الشَّباب يعودُ يوماً       فأُخبِرُه بما فعل الــمَشيب.

فـ(ليت) هنا للتَّمني لشيء لا يُمكن حصوله وهو رُجُوع الشَّباب، لكنّ هذا ليس هو الــمُضطَّرِد- يعني الذِّي لا يأتي غيره- بل يأتي على الشَّيء الذِّي يَعسُر الحصول عليه ويَصعُب نَوالُه.

د. الطيّار: قلنا في قوله (إنّ الله كان بكُلِّ شيءٍ عليماً) طبعاً الذي أريد ان نقف عليه في هذا المقطع لما قال (إنَّ). (إنّ) إذا جاءت في فاصلة الآية-يعني في آخر الآية- تحتمل أحياناً الاستئناف، وتحتمل في كثير من الأحيان التعليل مثل (واسألوا الله من فضله) لأنّ الله كان بكل شيءٍ عليمًا، كأنّه ربط السُّؤال بالعلم.

د. الشِّهري: هل يا تُرى الذّين كَتَبُوا التَّفسير الــمُيَّسر هذا راعُوا علامات الوَقف التِّي اعتمدتُها اللَّجنة في مُصحَف المدينة؟ هل راعُوها فعلاً؟ يعني أنا عندي الآن (واسألوا الله من فضله إنّ الله كان بِكُلِّ شيءٍ عليماً) هذا يدُلّ على أنّهم اختاروا أنّها استئنافية، لأنَّهُم كَتَبُوا (قِلَى). في التَّفسير قالوا (إنّ الله كانَ بِكُلِّ شيء عليماً) وهُو أعلم بما يصلُح عباده فيما قَسَمَهُ لهم من خير، واسألوا الله الكريم الوَّهاب أن يُعطِكُم من فضله بدلاً من التَّمني (إنّ الله كان بكل شيءٍ عليما) أَعَادوا نفس الفكرة، هل تتوقّع أنّهم غيَّروا التَّفسير بما يَتَناسب مع تَغيير الاجتهاد في علامة الوقف.؟!

د. الطيّار: واضحة، ولكن لعلّنا طبعاً هذه الفائدة، نبتدئ بها في اللِّقاء القادم لأنّ وقت الحلقة الآن زَاحَمنا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُبارِك لنا ولكم وللإخوة الذّين يُشاركوننا في التَّصوير والإخراج، ولكلّ من يستمع إلينا، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلاّ أنت نستغفركَ ونتوب إليك.

بُثّت الحلقة بتاريخ 15 رمضان 1431 هـ