د. محمد الخضيري : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مشاهدي الكرام مازلنا في هذه السورة العظيمة سورة النساء نتفيأ ظلالها وننهل من معينها ونقبس من أنوارها ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بها وسائر كتابه العظيم. وصلنا إلى قول الله عز وجل (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). قبل أن نتحدث عن هذه الآية ونقف على معالمها ونفسر معانيها ونقبس من أنوارها نستمع نحن وإياكم إلى تلاوتها فإلى هناك
(وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (36)).
بعد أن استمعنا إلى تلاوة هذه الآية الكريمة نريد أن ندير الحديث حولها مع الشيخين الفاضلين د. عبد الرحمن الشهري ود. مساعد الطيار الأستاذين الكريمين بجامعة الملك سعود، د. عبد الرحمن استفتح الحديث حول هذه الآية.
د. عبد الرحمن الشهري : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. تقدم الحديث معنا في الآيات السابقة عن الحقوق، ومرّ معنا حقوق اليتامى وحقوق الزوجات وحقوق الأزواج على بعضهم البعض وحقوق الورثة، ثم جاء الحديث هنا عن حق الله سبحانه وتعالى في قوله سبحانه وتعالى (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا).
د. الخضيري : أنت تتكلم عن جملة الآية أم تتكلم عن هذا الموطن ؟
د. عبد الرحمن : هذا المقطع بالذات، افتتاح الآية بالذات ، وإلا الآية كل كلمة منها تصلح أن تكون ديواناً .
د. الخضيري : تسمى آية الحقوق.
د. عبد الرحمن : نعم، آية الحقوق العشرة ، علماً بأن السورة كلها هي سورة الحقوق لكن هذه أيضاً خاصة من خاصة، أنها ركزت على حقوق عشرة كل حق منها يستحق أن تفرد فيه الحديث.
د. الخضيري : دعنا نتحدث عن أنه من طرائق القرآن أبو عبد الله أنه يأتي بالأشياء أحياناً مجملة ويأتي بها أحياناً مفصلة وكل ذلك من أجل أن يصل هذا الخير والهدى للعباد فأحياناً تجمله ليجتمع وأحياناً تفصله لتعرف حدوده ويضبط إلى آخره .
د. عبد الرحمن : هذه الآية وهي آية الحقوق العشرة في سورة النساء وهي قوله (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا) هذا الحق الأول قدّمه الله سبحانه وتعالى لأنه هو أَولَى الحقوق وهو توحيد الله سبحانه وتعالى وأول ما يدخل الإنسان في دينه هو بهذه الشهادة.
د. مساعد الطيار: وهو أول واجب على المكلَّف.
د. الخضيري : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ (36)النحل) .
د. مساعد : وليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله .
د. الخضيري : وهو أول أمر في القرآن، قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) البقرة).
د. عبد الرحمن : تلاحظون أن هذه الآية لم تبدأ بالنداء، فلم يقل الله فيها يا أيها الذين آمنوا اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وإنما جاء الأمر مباشرةً (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا) والواو هنا قد تكون عاطفة على ما سبق (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا) فعطف الحديث عن الإصلاح بين الأزواج وهي مسألة أسرية إلى مسألة عبادة الله سبحانه وتعالى لا شريك له، ما هو الرابط يا شيخ مساعد برأيك بين هذه المسألة الأسرية وبين عبادة الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له؟
د. مساعد الطيار : لاشك أن من الروابط أن عبادة الله سبحانه وتعالى لا شك أو تمام العبودية هو الذي يحقق حسن المعاملة التي ذكرها الله سبحانه تعالى .
د. الخضيري : واستقبال أيضاً هذه الأوامر وتنفيذها على وجه التمام والكمال .
د. مساعد : والتعبد يكون لمن حقق التوحيد أيضاً.
د. الخضيري : أيضاً تذكرت آيات سورة البقرة (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)) ماذا بعدها؟ (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ (238) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ) لاحظ جاء بالأمر بالصلاة وسط المعمعة – معمعة الحديث عن العدد والطلاق وما يحصل بين الأزواج والزوجات – لأجل أن يذكّر الناس بأنهم عبيد لله في كل الأحوال وعليهم أن يتقبلوا هذه الأوامر من أوامر الله في المعاملات الزوجية كما يتقبلوها في عبوديتهم لله عز وجل عندما يسجدون له ويعبدونه .
د. عبد الرحمن : جميل جداً، وهذا هو رابط رائع جداً بين هذه الآية العظيمة لأن الأمر بعبادة الله وعدم الإشراك به أمر عظيم قامت عليه الديانة كلها، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء بالإسلام جاء بهذا – بتوحيد الله وعدم الإشراك به – لكن أن يُقرن هذا بالأخلاق وبالمعاملات التي تقع بين الناس والتعاملات، هذه الحقيقة نحن نغفل عنها كثيراً .
ولهذا استمعت الحقيقة إلى ألبوم أشرطة قديماً بعنوان الأخلاق في القرآن الكريم للشيخ الأستاذ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد – ود. عبد الستار من أساتذة التفسير المتميزين حقيقة جزاه الله خيراً – فكان تكلم في هذا الألبوم يمكن عشرة أشرطة عن الأخلاق في القرآن الكريم وكيف جاء سياقها وقبل ذلك تكلم الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه دستور الأخلاق في القرآن الكريم تكلم كلامًا عظيمًا جداً ومن ضمن النقاط الأساسية التي ذكرها دراز في كتابه قضية أنه القرآن الكريم يأتي فيمزج الأخلاق بالعقيدة والعبادة، فبينما يتحدث عن التعامل الآن مع الزوج وزوجته والخلافات الزوجية يأتي مباشرةً بتوحيد الله وعدم الإشراك به، بينما يتحدث عن الطلاق يأتيك بالمحافظة على الصلاة، فيها دلالة وإشارة إلى أن أمور الإسلام كُلٌّ لا يتجزأ .
د. مساعد.: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً (208) البقرة).
د. عبد الرحمن: نعم، (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ (85)البقرة) وأن هذا الصنيع الذي يصنعه البعض يأخذ ما يشاء ويترك ما يشاء ليس من الدين في شيء، حتى في قوله سبحانه وتعالى في سورة المطففين (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1)) يتكلم عن التعاملات في البيع والشراء (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3)) ثم انظر كيف ينقلك (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)) مباشرة نقلك من الموازين في السوق إلى يوم القيامة، ربطك باليوم الآخر والبعث ويوم القيامة .
د. الخضيري : لاحظوا معي يا مشايخ، ما قال في هذه الآية اعبدوا ربكم ولا تشركوا به شيئاً، الذي يظهر لي في التذكير بالألوهية، ولذلك جاء النهي عن الضد (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا) فلما جاء النهي عن الضد ناسب أن يُختار اسم الألوهية دون الربوبية. مثلها قوله (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ (64) آل عمران) لاحظ أنه جاء بلفظ الجلالة الله .
د. عبد الرحمن : قد تكون مضطردة في القرآن الكريم سبحان الله! ، ألحظ هنا أيضاً أنه لم يكتف بالأمر بالعبادة الذي هو يستلزم معه التوحيد (وَاعْبُدُواْ اللّهَ) ما وقف وإنما قال (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا) ولذلك سبحان الله العظيم اجتناب الطاغوت واجتناب الشرك دائما يُقرن بالأمر بالتوحيد ولا يقتصر على الأمر بالتوحيد مثل قوله سبحانه وتعالى (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ (256) البقرة) ما يدلك على أن الاستمساك بالعروة الوثقى لا يتم إلا بهذين الأمرين التحلية والتخلية .
د. الخضيري: وهو مقتضى (لا إله إلا الله)، ما قال أنا أعبد الله فقط، وإنما (لا إله) ينفي ثم يثبت.
د. مساعد : نقول أيضاً في قوله (وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا ) يمكن إضافة تنبيه أنه قد تقع عبادة الله لكن فيها شرك.
د. الخضيري: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (106) يوسف).
د. مساعد: فيمكن أن يقال أن هذه أيضاً من فوائد عطف النهي على الأمر (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا) إذاً المراد هو خلوص العبادة لله وحده وهو مقتضى (لا إله إلا الله).
د. الخضيري: قوله (شَيْئًا) في سياق النهي نكرة يدل على العموم، ولذلك قال الله في الحديث القدسي ” أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه ” وفي رواية ” فهو للذي أشرك وليس لي منه شيء” ونحن ننبِّه أنفسنا وإخواننا على أن نجتهد في إخلاص العمل لله في ألا يكون فيه ذرة من حظ لأحدٍ سوى الله سبحانه وتعالى، من حظٍّ لنفسك أو للناس، ومنه وبالمناسبة من دقائق الشرك العُجْب وهو أن يعجب الإنسان بعمله ولو أنه ما اطلع عليه أحدٌ من خلق الله، تقوم في جوف الليل المظلم ما يراك أحد تتوضأ وتقوم تصلي ثم تشرك نفسك مع الله، تقول الآن من يصلي غيرى؟! أنا الوحيد من هؤلاء الذي يقوم وكلهم كسالى ونائمين! يصيبك العُجب، أشركت نفسك مع الله! ورأيت أن لنفسك شيء من الحظ في هذه العبادة، ولقد يحبط عملك.
د. مساعد: نرجع قليلاً، الآن لما نقول (إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)) هذه محل للركوع، قوله (وَاعْبُدُواْ اللّهَ) جملة مساندة، يعني تسمى قصة جديدة قطعة جديدة ، هي صحيح مرتبطة بالموضوع السابق لكنها قطعة جديدة، معناه أنه لو قرأنا (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا) نلحظ أنها استئناف واضح جداً ولهذا ننبه على أن السورة فيها مقاطع وهذا يعتبر مقطع جديد، فيصلح أن يوضع على (خَبِيرًا) “ع” ركوع هنا لأنه قد تم المعنى .
د. عبد الرحمن: بمناسبة الركوع، في مركز التفسير إن شاء الله ننتج الآن مصحف هو من المصاحف الموجودة لكن نقطّع الصوت على حسب الركعات مثلما هو مكتوب في مصحف الباكستانى ومصحف الكويت الذي طُبع مؤخراً يضعون علامة الركوع وهذه تساعد الأئمة حيث أنه يستمع الإمام كل مقطع يصلح ركعة .
د. الخضيري: في قوله (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) أولاً دلالة هذا الاقتران بين (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا) وبين الأمر بالإحسان للوالدين، هذا واحد، ثانياً معنى الإحسان يا أبا عبد الملك.
د. مساعد: أولاً سأجيب على الأول وأقف على الثاني. أما الأول فنلاحظ أنه لو تأملنا أنه طبعاً قَرَنَ الله تعالى الأمر بعبادته بالأمر بالإحسان إلى الوالدين مثل قوله (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (23)الإسراء) هي نفس الآية التي عندنا في هذا المقطع.
د. الخضيري: وفي وصية لقمان أيضاً (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ (14) لقمان) .
د. مساعد: وفي وصية لقمان، الآية الأولى في التوحيد، الله سبحانه وتعالى هو المنشئ والخالق لك ابتداءاً، والوالدان هما سببا الإيجاد، فهناك صار نوع من ماذا ؟ من المشابهة، وبناءً على هذا جعل الله سبحانه وتعالى حق الوالدين بعد حقه أو أقرب لحقه سبحانه وتعالى.
د. الخضيري : وهذا من عظيم رحمة الله تعالى بعباده أن يذّكر بحق هذين، وإلا لو شاء سبحانه وتعالى لقال لا حقّ إلا لي ولا يُعبد أحد سواي وانتهى الموضوع عند هذا الحد، أليس هذا من حق الله سبحانه وتعالى؟
د. مساعد: بلى .
د. الخضيري: لكن الله أرحم بنا من أنفسنا فيذكّرنا بحقوق من لهم حقٌ علينا لأنهم شاركوا في إيجادنا وكانوا سبباً في وصولنا إلى هذه الدنيا، وهذا لا شك أنه من عظيم رحمة الله بنا.
د. عبد الرحمن: هذا الحقيقة من كمال ربوبية الله سبحانه وتعالى لأنه من معنى الربوبية التربية، تربية الخلق على كمالات الأخلاق وعلى كمالات السلوك والاعتقادات، فعندما ذكر لك كمال الاعتقاد وهو توحيد الله سبحانه وتعالى وعدم الشرك به ناسب أن يذكر كمال الأخلاق .
د. الخضيري: وهو رد الجميل إلى من أحسن إليك.
د. عبد الرحمن: نعم، ثم بدأ بأولى الناس بالبر وهو الوالدان، ولذلك عندما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ فقال: أمك، قال: ثم من؟ ثم كررها قال: أمك حتى قال: ثم أبوك.
فأولى الناس ببرّك وبإحسانك وبعطفك وبشفقتك هما والداك، ولذلك يخطئ أشد الخطأ من يقدِّم غيرهما عليهما لأي سبب من الأسباب. فإنه ينبغي أن يكون الوالد والوالدة هما رقم واحد في حياة الرجل وفي حياة المرأة براً وإحساناً وإكراماً وسؤالاً وصلةً. ولاحظ أنه قال (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) والإحسان هذه كلمة جميلة جداً يعني تذهب النفس في تفسيرها كل مذهب، وكل ما يدخل تحت هذا الوصف من خُلُق فهم أولى الناس به، أولى الناس بابتسامتك هو والداك، أولى الناس بكلمة المعروف منك هم والداك، أولى الناس بالمال الذي في يدك هم والداك، أولى الناس بصلتك، حتى لو تعارضت مصلحتهما مع مصلحتك أنت تقدم مصلحتهما .
د. الخضيري: انظر إلى يوسف عليه السلام لما جاء أبواه إليه وهو في مصر (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا (100) يوسف) كان في الإمكان أن يضعهم في مجلس جانبي أو يجتمع بهم ويجلس هو على العرش، لكن أراد أن يعبّر عن جميل امتنانه لهما وحسن استقبالهما، رفعهما على العرش، الذي هو في الأصل موضوع للملك أو لعزيز مصر أو لمن يتولى مثلاً وزارة المالية، رفعهما على العرش (وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا).
د. عبد الرحمن : أيضاً من معاني البر بعض الناس يظن أن المقصود ببر الوالدين فقط في الحياة وكثير من الناس لا ينتبه إلا إلى هذا المعنى، بر الوالدين مادام أن الوالد موجود أو الوالدة موجودة الاتصال بالهاتف، مثلاً عطية، يعني شيء من المال، وينتهي الأمر عند هذا الحد، لكن لاحظ واحد من الصحابة انتبه إلى هذه النقطة فقال يا رسول الله هل بقي من بر والديّ شيء أبرهما به بعد موتهما؟ يا سلام! ما أجمل هذا السؤال! يا أخي بعض الأسئلة التي يسألها بعض الناس بركة، يعني المرأة التي ذكرتها قبل حلقة أو حلقتين التي جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت يارسول الله الرجال ذهبوا بكل شيء ونحن في البيوت نغسل ونطبخ وكذا، فقال هل سمعتم أجمل من هذا السؤال؟.
فأنا أقول مثل هذا السؤال فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإنفاذ عهدهما والاستغفار لهما، يا سلام! معناه أن البر بالوالدين يستمر حتى تموت أنت أيضاً.
د. الخضيري: ولاحظ مثل ما ذكرت يا د. عبد الرحمن عبّر عن البرّ بالإحسان، والإحسان مثل ما ذكرت أي لا حدود له، تحسن ثم تحسن ثم تحسن ولم يحدّ الله له حداً.
د. مساعد: أطلقه دون قيد .
د. الخضيري: لأجل أن يتبارى الناس في هذا الإحسان، وبالفعل تجد ذوي المروءات والمكارم يتبارون في أن يوصلوا إلى والديهم من الإحسان ما لا يغالب عليه.
د. عبد الرحمن: هو مفعول مطلق (وأحسنوا بالوالدين إحساناً).
د. الخضيري: لكن السؤال هنا هل المقصود إنه إذا الإنسان لم يعقّ والديه فقط برئت ذمته؟ منطوق الآية يدل على أنه لا بد أن توصل إليهما إحساناً، ولذلك يكون محرّماً عليك شيئان: محرّمٌ العقوق والمحرّم أيضاً عدم الإحسان، لو أن إنساناً قال أنا والله الحمد لله ما سبق أن سببت والديّ ولا سبق أن ضربتهما ولا آذيتهما، نقول ولكنك آثِمٌ بترك الإحسان إليهما، الله أمرك بأن تحسن، ما أمرك بألا تعقّ فقط. دعنا ننتقل إلى من يُحسَن إليهما بعد الوالدين (وَبِذِي الْقُرْبَى ) د. مساعد من هم ذوو القربى؟
د. مساعد: طبعاً القرابة كما سبق أن تكلمنا هناك أقربون وهناك قرابة، الإخوان والأعمام والأخوال وأبناء العمومة، عشيرة الرجل وكل من له بهم رحم يدخلون في القرابة، وهؤلاء أقرب من يرجع إليهم، عشيرته وعصبته التي تعصّب بها ثم يليهم من هم أبعد .
د. الخضيري: فلهم حق في الإحسان. يا شيخ ما هذا الإحسان بالنسبة لهم؟
د. مساعد: هو طبعاً مثلما ذكرنا في حق الوالدين الإحسان عام لكن لا شك أن الإحسان الأقرب لذي القربى ليس كالإحسان إلى الوالدين فمثلاً رعاية المحتاج منهم، إعانتهم بجاهه، السلام عليهم، التبسم، إجابة دعوتهم، أعمال كثيرة جداً .
د. الخضيري: السؤال عليهم، تفريج كرباتهم، زيارتهم إذا كان يستطيع الزيارة الآن بفضل الله عز وجلّ لما جاءت وسائل الاتصال الحديثة كانت فرصة كبيرة جداً لأن يصل الإنسان الكثير من أرحامه الذين لم يكن بإمكانه أن يصلهم على الوجه المطلوب، الآن ترفع السماعة وتسأل على عمك الذي في أمريكا أو في الصين وتسلم عليه ما الذي يمنعك؟ وتكون بذلك أديت حقاً عظيماً من حقوقه، ونحن الآن في زمن يا إخواني أصبحت المصالح هي التي تحكم تصرفات الناس، فما الذي يمنعني ويمنعك ويمنعك أخي المشاهد من أن تغير هذه النظرة؟! اتصل بابن عمي وأقول له إنما اتصلت لأجل السلام عليك فقط، قال النبي صلى الله عليه وسلم “بلّوا أرحامكم ولو بالسلام” يعني تبلّ الرحم ولو فقط ترفع السماعة وتقول أحببت أسلم عليك حتى تذهب هذه النظرة المادية البغيضة التي طغت على حياة الناس، إذا اتصلت على واحد يترقب أن تقول له لو سمحت خدمة أحضِر كذا، صلّح كذا، إشتر كذا .
د. مساعد: وأحياناً لغلبة هذا الأمر تجد إن يتصل عليك أحد أو تتصل على أحد من أجل السلام يقع في نفسي أو في نفسك استغراب لأنك اعتدت أن الناس يتصلون لحاجات حتى ولو كانوا الأقربينّ. أنا كان بودّي أن نقف حقيقةً في قوله (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) إلى جانب ذكرناه سابقاً وهو موازنة بين حال المسلمين في هذا الجانب وحال الغرب في هذا الجانب ، وذكرت سابقاً قصة أو خبر عن أحد الأخوة ذكرت بعض العادات التي هي من غيرنا والتي كانت تؤثر أو أثّرت فيه، أنا أذكر من ذكر لي هو الأخ البرازيلي يقول تصور أنني أذهب أنا وأبي إلى محل القهوة فأبي ليس معه مال فيفتش ويقول يا ابني أنا أعتذر أنا سأشرب ماء، يقول وأنا أذهب وأشرب قهوة ولا يجرؤ أبي أن يطلب مني أن أشتري له – يقول لا يجرؤ- صدقني يقول هذا الكلام لا يجرؤ أن يقول لي يا ابني أعطني كوبًا من القهوة!.
د. الخضيري: ولذلك نعلّم الأبناء إذا كان المجلس فيه جماعة من الناس ولو من ذوي الجاه وكان فيهم أبوك أول ما تبدأ بأبيك، فإن وجّهك فذاك من حقه، وإن لم يوجّهك إلى أن تعطي أحداً غيره فهذا حقه، لو قدّمت عليه غيره لكان فيه غلظة عليه، يقولون مرة دخل أحد الملوك وأظنه من هنا على رجلٍ كان براً بأبيه ومعروفٌ ببره بأبيه وأراد أن يمتحنه في هذا الأمر عندما يصب القهوة من يعطيه فلما صبّ فنجان القهوة قدّمه لأبيه ، فقال له ذاك: كيف تقدم أبيك على الملك أو المسؤول أو الأمير؟ قال ما أقدّم على أبي أحداً من خلق الله إلا إذا قال لي أبي رائي فلاناً، فأدوا هذا من مناكبه، لأنه وضع الإحسان في محله . حتى نتجاوز الآية يا إخواني نريد أن نستوعبها في هذه الحلقة (وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى) .
د. مساعد: رجعنا مرة أخرى لليتامى .
د. الخضيري: رجعنا مرة أخرى لليتامى الذين جاء الله تعالى بحقهم في أول السورة (وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ (2)) ، (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا (10)) وهنا يأمر بإكرامهم ويجعل لهم حقاً عظيماً. من هو اليتيم يا د. عبد الرحمن؟
د. عبد الرحمن: اليتيم من الناس هو الذي مات والده قبل أن يبلغ سن البلوغ والرشد، فيقال له يتيم لأنه كأنه انفرد وأنه مات عائله ومات الذي يدافع عنه وأصبح في حاجة إلى من يكرمه ويحسن إليه .
د. الخضيري : والإحسان بالمناسبة مثل ما ذكرت قبل قليل في الذوقيات النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن من صور الإحسان مسح الرأس يعني يدعو الناس إلى الترحم، رحمتهم ووالإحسان إليهم، هؤلاء اليتامى. ثم قال بعدها (وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) من هم المساكين يا د. مساعد؟
د. مساعد: طبعاً لا شك أنه وقع خلاف كبير جداً في المساكين، والواضح أنه مأخوذ من المسكنة وهي الذُلّ الذي يحصل له بسبب الفقر وكما قالوا الذي لا يكاد يجد قوت يومه، يعني محتاج.
د. الخضيري: طبعاً وهذا إذا انفرد يشمل الفقير والمسكين؟
د. مساعد: نعم يشمل الفقير والمسكين، لكنه في قوله (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ (60)التوبة) لا بد من معرفة من هو الفقير ومن هو المسكين؟. وهذا الذي يدخل فيه (إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا) .
د. الخضيري: (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى) والجوار لم يحدد في الشرع بحدّ معين، فما تعارف الناس على أنه من الجيران دخل في هذا الباب وهو وجوب الإحسان إليه، وبدأ الله سبحانه وتعالى بمن كان مجتمعاً مع جواره وصف آخر وهو القرابة، الجار الذي يكون من قرابتك يكون له من الحق عليك أكثر من الجار الذي لا تجمعك به قرابة، وكلاهما له حق. والله أعلم سبب ذكر الجار ذي القربى أنه يكثر وخصوصاً في قبائل الأعراب وسكنى العشائر متجاورين فأبناء الأب الواحد تجدهم يأخذون قطعة أو مكانًا من الأرض فيتجاورون فيها فذكّر بحقهم قال (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى) والنبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن جبريل ما زال يوصيه بالجار حتى ظن أنه سيورثه، وقال ” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرِم جاره ” وقال “والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه” من لا يأمن جاره بوائقه فنفى عنه الإيمان من باب التهديد والتحذير.
د. مساعد: لكن لماذا لا يكون الجار ذي القربى بمعنى القريب في المسكن ؟
د. الخضيري: لأنه قال بعدها (وَالْجَارِ الْجُنُبِ ) يعني الجار البعيد يعني الذي ليس بينك وبينه قرابة .
د. عبد الرحمن: يعني هو جار ولكنه ليس قريباً.
د. الخضيري: فذاك تبع وصفين.
د. مساعد: إذن الآن قصدي من ذاك لكي ينتبه السامع أن ذوي القربى ذكروا في الآية مرتين مرة بوصف القرابة ومرة بوصف الجيرة، فالإحسان للجار ذي القربى سيكون أكثر من الإحسان إلى ذي القربى البعيد عنك في الجوار .
د. عبد الرحمن: لأن هذا اجتمع فيه وصفان.
د. مساعد: نعم، القرابة والجيرة.
د. الخضيري: (وَالْجَارِ الْجُنُبِ) يعني الجار البعيد عنك، كلمة (الْجُنُبِ) هذه ما يمكن تحمل معنى الجنابة بمعنى الحدث الأكبر؟
د. عبد الرحمن: السياق ليس له أي علاقة بالموضوع.
د. الخضيري: الكلمة وردت بهذا المعنى ((وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ (6)المائدة) ستأتينا في سورة النساء ؟
د. عبد الرحمن: لاحظ سبحان الله هذه من الألفاظ التي إن صح التعبير المشترك اللفظي وهو أن لفظة واحدة نفس اللفظة ولكنها تطلق على عدة معاني، الجار الجنب أي الجار غير القريب، أي واحد من عرض الناس، (فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ (11) القصص) أي عن بعد، وأما (وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ) الجنب هو الذي وقعت عليه الجنابة وهي الحدث الأكبر فابتعد بها عن الطهارة وابتعد بها عن المسجد وقراءة القرآن والصلاة، فالسياق يحدد. لغة القرآن هنا (وَالْجَارِ الْجُنُبِ) لا يخطر ولا يصح أن يقال فيها الجار الذي وقعت عليه الجنابة .
د. الخضيري: (وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ) من هو الصاحب بالجنب يا أبا عبد الملك؟
د. مساعد: طبعاً الصاحب بالجنب هو الذي يرافقك في السفر أو في العمل أو انتظار.
د. الخضيري: أو كل من جمعك به مناسبة معينة له حق عليك، أنا أقول حتى في مخبز أو في مستوصف أو في أي مكان أو حتى في المطار فقال لك الذي أمامك عن إذنك لو سمحت القلم، له حق عليك، هذا واحد. اثنين: قال لك سأذهب إلى دروة المياه احفظ حقيبتي، أتقول له لا، معذرة؟ لا، له حق عليك أحسن إليه لأن هذا الإحسان متبادل وفيه منفعة للجميع ، أنت قد تحتاج لهذا.
د. عبد الرحمن: تماماً.
د. مساعد: هل يوجد هذا في دساتير الدنيا اليوم؟
د. الخضيري: لا يوجد.
د. مساعد: حتى لاحِظ هذا الطارئ والعارض من هؤلاء الجيرة أُعطُوا حقاً، لأن الجار ذي القربى والجار الجنب ثابت لكن الصاحب بالجنب هذا لا.
د. الخضيري: د. عبد الرحمن أشار إلى العمل وهذا صحيح وكثير لأنه ما منا من أحد إلا وله عمل يعمله سواء في شركة أو مؤسسة أو دائرة حكومية أو غيرها، هذا العمل يجمعك أو يربطك بأناس، هؤلاء لهم حق عليك، مرِض تعوده، مات أحد له تذهب وتعزيه، إحتاج تواسيه، إستعان بك تعينه، إستشارك.
د. عبد الرحمن: الطلاب في مدارسهم أيضاً .
د. الخضيري: هؤلاء كلهم أصحاب بالجنب، المرأة مع زوجها أيضاً داخلة في هذا هي صاحب بالجنب لأنها ليست من القرابة، قال بعضهم أنها داخلة في هذا، ودخولها في هذا لا إشكال فيه.
د. مساعد: وقد خُصصت في آيات خاصة بها.
د. الخضيري: وهي سميت أيضاً صاحب .
د. عبد الرحمن: (وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) عبس) – (وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ (101) الأنعام).
د. الخضيري: (وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ) من هو ابن السبيل د. عبد الرحمن؟
د. عبد الرحمن: المسافر المحتاج، ثم أجمل التعبير القرآني بابن السبيل .
د. الخضيري: هل يلزم أن يكون محتاجًا؟
د. عبد الرحمن: هو طبعاً الأصل أنه لا يطلب الحاجة إلا إذا كان محتاجاً .
د. مساعد: لكنه هنا في رعاية حقه.
د. الخضيري: في رعاية الحق أعمّ من كونه محتاجاً لكن في الزكاة (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ (60)التوبة) .
د. مساعد: الإحسان أعمّ من الإنفاق .
د. عبد الرحمن : لاحظ هنا أنهم فسروا ابن السبيل بالمسافر المحتاج، لكن دعنا من هذا دعنا نتحدث عن قضية تسميته بابن السبيل. السبيل هو الطريق لكن كأنه من كثرة ملازمته لهذا الطريق والسفر كأنه ابناً له، فهذا من اللفتات الجميلة في القرآن الكريم أنه سمى المسافر ابن السبيل لذلك تعجبني أبيات جميلة لأحمد شوقي من قصائده الرمزية في ديوانه يتحدث فيها عن الوطن وحب الوطن، كأن الريح تخاطب الحمامتين على شجرة وتحبب لها السفر إلى الوطن ، فيقول – كأن الحمامتين تكلمان الريح -:
ياريح أنت ابن السبيل ما عرفت ما السكن هب جنة الدنيا (اليمن) لا شئ يعدل الوطن
فالشاهد أن وصف المسافر المنقطع بابن السبيل فيه بلاغة عالية الحقيقة، فالله سبحانه وتعالى ذكره هنا ممن أُمرنا بالإحسان إليهم المسافر، سواء كان محتاجاً أو غير محتاج، لكن لا شك أن المسافر المحتاج الإحسان في حقه آكد. ثم قال (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) .
د. الخضيري : ما ملكت أيمانك يشمل طبعاً ملك اليمين من العبيد والإماء هؤلاء يجب على الإنسان أن يحسن إليهم فيطعمهم ويكسوهم ويقوم على حوائجهم ولا يقصّر، وإن كان الله سبحانه وتعالى قد سخرهم لك فيجب عليك أن تؤدي إليهم حقهم، ويدخل فيما ملكت أيمانكم حتى الحيوانات أيضاً، فلا يجوز لك في الحيوانات التي تمتلكها من شياه أو أكرمكم الله حمير أو جِمال أو غيرها أن تسيء إليها وتقلل في نفقتها .
د. عبد الرحمن : فأنت مأمورٌ بالإحسان إليها .
د. الخضيري: نعم، (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) انتهى .
د. عبد الرحمن : ذكر الله عشرة أصناف أو عشرة حقوق.
د. الخضيري: نعم، ثم (إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا).
د. مساعد: هذه فاصلة عجيبة!
د. الخضيري: ما وجه العجب فيها يا دكتور ؟
د. مساعد: لاحظ أن الحقوق تدرجت لو تأملت تدرجاً من حق الله إلى حق الوالدين ربما يكون بالأكثر لزوماً، لما جاء إلى هذه الحقوق كلها قال (إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) الاختيال هو الكبر و العجب بالنفس، والفخور قريبة منه، وهو كما ذكرنا سابقاً أن يأتي لفظان متقاربان في المعنى المختال والفخور، ورد طبعاً كثيراً في القرآن في غير هذا الموطن.
د. الخضيري: هما طبعاً مؤدّاهما واحد لكن فيه فرق من ناحية الاختيال بالأفعال والفخر بالأقوال .
د. مساعد: هذا ممكن أن يكون.
د. عبد الرحمن : أنا عندي لفتة يا د. مساعد في ختم هذه الآية بهذا المعنى، أن هذه الحقوق تحتاج إلى شيء من التواضع وطهر النفس، يعني الآن الإحسان إلى الوالدين يحتاج منك إلى أن تتواضع لهما (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ (24) الإسراء) واضحة فيها، لأنه يترفع الإنسان عن هذه الحقوق لهذا السبب .
د. مساعد: حتى في عبودية الله.
د. الخضيري: لأنه ما يريد أن يستصغر نفسه.
د. عبد الرحمن : وفعلاً ترى عندما تريد أن تقوم بهذه الحقوق على وجهها وتحسن إلى الناس تحتاج إلى أنك تضع من نفسك وتتواضع للناس وتكرم الناس. أما أن تجلس هكذا وتظن نفسك شيخ الشيوخ وتقول والله أنا أحسنت إليهم، لا والله يا أخي!.
د. الخضيري: كثير من الناس بعد ما تتبعنا أسباب قطيعتهم وعدم قيامهم بهذا الخير والإحسان ومساعدة المخلوقين وجدنا أن السبب والسر يدور حول أن له حقٌ على الآخرين وأنه يجب أن يكرَم وأنه لا يمكن أن يهين نفسه في هذه الأمور، أنا أخدم مملوكاً؟! لماذا أصير عبداً عند ابن السبيل وأخدمه؟! وأشياء من هذا القبيل.
إذن نحن يا إخواني نقول ونوجه رسالتنا لإخواننا جميعاً: يا إخواننا لينوا وتواضعوا فإن الإنسان بالتواضع يكسب خيراً كثيراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم:”ما تواضع عبدٌ لله إلا رفعه الله ” فالتواضع رفعة بين المخلوقين ورفعة عند الله سبحانه وتعالى ، يقول الشاعر :
تواضع تكن كالنجم لاح لناظرٍ على صفحات الماء وهو كثير
ولا تكن كالدخان يعلو بنفسه إلى طبقات الجو وهو وضيع
د. عبد الرحمن : هناك لفتة في الآية في قولة (لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) المختال هو في تصوير لهيئته وهو يمشي مشية الخيل متبختر، والفخور هو الذي دائماً يقول أنا فلان أنا أفعل فيرفع من نفسه ومن شهاداته ويقلل من شأن الآخرين .
د. الخضيري: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من القائمين بهذه الحقوق وأن يعيننا على أدائها و تكميلها وأن يرزقنا الإخلاص في كل ذلك. بهذا نصل وإياكم مشاهديّ الكرام إلى ختام هذه الحلقة، وإلى لقاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بُثّت الحلقة بتاريخ 20 رمضان 1431 هـ