الحلقة الثانية – رمضان 1431 هـ
تأملات في سورة النساء
د. الشهري : بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم وبارك على سيّدنا ونبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيّها الأخوة المشاهدون الكِرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ومرحبًا بكم في هذا المجلس القرآني اليومي “بيّنات” والذي يأتيكم في هذا الشهر المبارك، وحديثنا لايزال مستمرًا حول سورة النّساء. وقد كنّا في الحلقة الماضية تحدّثنا مع المشايخ الفضلاء، الدكتور: محمد بن عبدالعزيز الخضيري الأستاذ المساعد بكلية المعلمين في جامعة الملك سعود، وأخي فضيلة الشيخ الدكتور: مساعد بن سليمان الطيّار الأستاذ المشارك بجامعة الملك سعود. تحدّثنا حول سورة النّساء، وتحدّثنا عن نزولها في المدينة، وتحدّثنا عن موضوعها، وتحدّثنا عن تسميتها بسورة النّساء، وسبب تسميتها بهذا الاسم. ولعلنا في هذا اللقاء الثّاني أن نبدأ في الحديث عن بيان معاني هذه السّورة من أوّلها، ونتوّقف عند بعض الفوائد والاستنباطات من هذه الآيات العظيمة، وقبل أن نبدأ في الحديث عن هذه الآيات، لعلنا نستمع إلى الآيات الثلاث الأُول من هذه السّورة ثم نواصل الحديث بعد ذلك.
قراءة للشيخ: محمد صِدّيق المنشاوي – رحمه الله تعالى – رحمةً واسعة. من الآية: “1-3” من سورة النّساء.
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴿١﴾ وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴿٢﴾ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴿٣﴾)
وبعد استماعنا أيُّها الإخوة لهذه الآيات العظيمة من هذه السُّورة، لعلنا نبدأ في الحديث معكم يا شيخ محمد حول دِلالة هذا النداء في أول سُورة النِّساء (يا أيُّها النّاس اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ) ما هي يا تُرى دِلالة هذا النّداء والعموم الواسع الذي فيه؟.
د. الخضيري: طبعاً نحن قررنا في الحلقة الماضية أنّ هذه السورة ” سورة الحقوق”، وهذه الحقوق عامة وليست خاصّة وافتُتحت بحق الله عز وجل الذي هو عبادة الله عزّ وجل وتقواه. وهذا النّداء يناسبه العُموم” يا أيّها النّاس” كما في سورة البقرة في أول نداء فيها عندما قال (يا أيّها النّاس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) فهنا الحقيقة لمّا ذكرنا في الجلسة الماضية، وفي الحلقة الأولى من حلقات هذه السّورة “المناسبات بين السُّورتين”، كان ينبغي أن نشير إلى المناسبة بين سورة النّساء وآل عمران من هذه الزاوية، ففي سورة آل عمران “هي سورة التوحيد” فهي في حق الله عزّ وجل الخالص، وفي هذه السّورة ذُكر فيها الحُقوق عامّة، ورُكِّزَ فيها على حقوق من يَحتاج إلى التركيز على حقّه من الضُّعفاء والمساكين والأيتام وغيرهم، وأيضاً من الوَرثة وبيان حُقوقهم مُفصّلة، فكأنّها جارية على قاعدة القرآن عندما يُذكر حق الله يُذكر حق المخلوق. كذلك حتى في أركان الإسلام لمّا ذُكرت الصّلاة يُذكر بعدها إيتاء الزّكاة حقُّ الله وحقُّ العبد، لأنّ الإسلام بُني على أنّ كماله وتمامه أن يؤدّي العبد الحقَّ كاملًا في زاويتين، الزّواية المتصلّة بالرّب سبحانه وتعالى وبها يُبدأ، والزّاوية المتصلّة بالعبد، وبهذا يُعطى كُلَّ ذي حق حقّه. ولذلك نحن نقول وليحذر كل مسلم من أن ينصرف إلى أداء حق الله مثلاً الخاص به جلّ وعلا من توحيده وعبادته والصّلاة له وذكره ويُهمل حقّ من ولاّه الله سبحانه وتعالى أمرهم من زوجة، أمٍّ، أبٍّ، ابن، جارٍ إلى آخره فإنَّ هذا خَلل كبير جدّاً في تدّين المسلم لربّه جلّ وعلا.
د. الشهري: إذاً هذا يعني سبب إضافة هذا النداء العام في أول سورة النّساء، هل لديك إضافة دكتور مساعد في هذه النقطة بالذات؟.
د. الطيّار: فقط التركيز طبعاً على جانب، وهو ذكر الربوبية مع لفظ النّاس في هذه الآية ، وكذلك في بداية سورة البقرة: (يا أيّها النّاس اعبدوا ربّكم)، ونلاحظ أنّه لمّا كان الحديث عن النّاس جميعًا جاء الوصف بالربوبية، وإذا كان الحديث عن المؤمنين يجيء وصف الألوهية، قد يجيء بلفظ الربوبية ولكن يكثر ذِكر الألوهية، للدِّلالة على أنّ المؤمينن اختصُّوا بعبادة الله وهي العبادة الحقّة فحُقَّ لهم أن يُنادَوا باسم الألوهية، فإذاً إذا جاء الاسم العام بلفظ النّاس ناسبه الربوبية، وإذا جاء الوصف الخاص بالمؤمنين ناسبه الألوهية، وهذا يكاد يكون مضطّرداً في القرآن، وهو يدخل كما تُلاحظ في ما يُسمّى بـ “براعة الاستهلال” قال (يا أيها النّاس اتقوا ربّكم)، مثل ما ذكر أخونا محمد الخضيري أن تحدّث عن جملة من الحقوق كحق الرّب سبحانه وتعالى في تقواه.
وبراعة الاستهلال في السور وموضوع بدايات فواتح السّور، من المواطن التي يحسن تدبّرها، ولهذا أيضا لو أنّ القارئ للقرآن وضع لنفسه جلسات تدَّبُرية خاصّة للنّظر بفواتح السّور، وكذلك خواتم السّور فإنّه سيجد ما يُسمّى بردّ العجز على الصّدر من جهة عود الخواتم على البدايات. وكذلك سيجد في البدايات الإشارة إلى الموضوع الذي تتكلّم عنه السّورة، من حيث الإجمال. فإذا قال إنّ عندنا عددًا من السّور تكرّر فيها المطلع مثل (الحمد لله) ورد في خمس سور، فنقول انظر لما بعدها ستجد الإشارة إلى الموضوع. أو أحيانًا تكلّم عن الكتاب مثل (آلر تلك آيات الكتاب الحكيم) في سورة يونس، (آلر. كتاب أحكمت آياته ثمّ فُصّلت من لدن حكيم خبير) في سورة هود، (آلر. تلك آيات الكتاب المبين) في سورة يوسف. كذلك (طسم. تلك آيات الكتاب المبين) في سورة الشّعراء، فلمّا يتأمّل المقدمات، سيجد أنّها مع أنّها تكلّمت عن القرآن إلا أنّ كُلَّ سورة اختصّت بحالٍ من أحوال القرآن أو صفة من صفاته
د. الشهري: يعني تقصد وكيف نربط بين هذا الاستهلال بهذه الصّفة وبين موضوع السورة
د. الطيّار: نعم، لا شك.
د. الشّهري: يعني هذا براعة الاستهلال المقصود به كيف يستهِّل المتكلم كلامه بإشارة خَفيّة يفهمها الذّكي على موضوعه الذي سوف يتحدّث عنه.
د. الخضيري: وهذا من البلاغة.
د. الشّهري: لا شك أنّ هذا من أوجه البلاغة التي يعتبرها العرب.
د. الطيّار: لو تكرّمتم أبو عبد الله
د. الشّهري: تفضّل.
د. الطيّار: هنا قاعدة مهمّة جدّا فيما يتعلق بهذه الموضوعات، بعض النّاس يقول كيف تُنزِّلون كلام الله سبحانه وتعالى على كلام البشر، نقول هنا يجب أن ننتبه أن الله سبحانه تعالى قال: “إنّا أنزلنه قرآناً عربيّاً”.فإذاً هو على سنن العرب
فننظر للعرب بما كانت تعتني، فنجد أنّ لغة القرآن قد بلغت الذروة في هذا فمنها براعة الاستهلال، يعني براعة الاستهلال في الشِّعر هي التي تجلبك لسماع بقية القصيدة، فإذا كانت بداية القصيدة بداية باهتة أو بداية صريحة قد أيضاً لا تشّدك، لكن حينما تكون البداية بداية استهلالية رائعة جداً مثل : قفا نبكِ، فهذه تشُّد القارئ إلى أن يستمع إلى هذه القصيدة و أن ينظر إلى ما فيها.
د. الشهّري: كنت أظن الحقيقة يا إخواني، أنَّ الذي يعتني بمثل هذه التفاصيل، يعني الآن عندما تقول أنت الآن والله سورة النّساء سورة جاءت لكي تُرسي مبادئ وحقوق الإنسان وحقوق الضعفاء، وتُعطي كلَّ ذي حق حقّه، فجاءت من أجل ذلك مُقدّمتها على هذا النَّمط “يا أيَّها النّاس اتقوا ربّكم الذِّي خلقكم من نفس واحدة” يعني الآن عندما يأمرك بأداء الحقوق، يذِّكرك في البداية أنّكم كلكم من نفس واحدة يعني أنت الآن، وهذه اليتيمة، وهذا المظلوم وهذا الظّالم، كلكم أصلكم واحد يعني تذكير حقيقة، حتى الكافر ” الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ….وإلى آخره” ، كنت أظن أنّ الذي يعتني بمثل هذه التفاصيل البلاغية في البداية هم العرب فقط، ثمّ وجدت حتى في الآداب الأجنبية: في الفرنسية، في الألمانية يعتنون بهذا عناية شديدة، بل حتى في الدساتير يا إخواني الآن، عندما يأتي الإعلام العالمي لحقوق الإنسان فيبدأ بمقدِّمة، فيأتي شُرَّاح القوانين ويقولون: وانظر قد بُدئ هذا القانون بهذا النص قصداً لكي يكون دالاً على المضمون بشكل كذا وكذا وكذا. فأقول سبحان الله العظيم القرآن الكريم قد جاء على أوفى وأكمل ما يكون من هذه القوانين ، فجاء في مُستهل هذه السُّورة التي جاءت لإرساء حقوق الإنسان وحقوق الضُّعفاء بهذه البداية التي تكلمتم عنها وهي فعلاً مقدّمة بليغة وفيها براعة الاستهلال واضحة جدّاً جدّاً.
د. الخضيري: أيضاً نضيف إلى هذا إلى أن نذّكر إخواننا المشاهدين، بأنّ الانتباه كما ذكر الدكتور مساعد قبل قليل أن الانتباه إلى مطلع السّورة،
د. الشهري: قد يكون مطلع السورة حرف
د. الخضيري: أنّه مهم جدًا في معرفة موضوعها، ومضمونها، ومقصودها. فلينتبه كلُّ واحد منّا إلى هذا المطلع في معرفة ذلك المقصود.
د. الشّهري: فكرة جميلة جدّاً ، لو أحد يركزّ عليها الواحد في رمضان مثلًا.
د. الخضيري: نعم، مثال ذلك هذه السورة الآن: سورة المائدة (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) هي سورة العقود حقيقة، مثال آخر في سورة آل عمران: (آلم. الله لا إله إلا هو الحيّ القيّوم * نزَّل عليك الكتاب). العادة أنّ الحروف المقطعة يأتي بعدها ذكر الكتاب مباشرة، في هذه السّورة فُصل بذكر التوحيد، ممّا يدل على أنّ التوحيد مقصودٌ في هذه السّورة، وهو أعظم مقاصد هذه السورة، فنقول للنِّاس انتبهوا لهذا وركِّزُّوا عليه.
وأمّا ما ذكره الدكتور مساعد قبل قليل من قضية ردِّ العجز على الصَّدر، وأنّه من الأساليب البلاغية المعروفة المشهورة عند العرب، فهو لا تكاد سورة تخلو منه فخاتمة كل سورة تجدها مؤيدة لمقدمتها، بل خاتمة سُور القرآن هي في الحقيقةِ لون من ألوان ردِّ العجز على الصَّدر من جهة أنّها أكّدت ما ذُكرَ في السّور الأولى من القرآن. فمثلاً : انظر إلى سورة الفاتحة وسورة النّاس ، سورة الفاتحة ذُكرت فيها ثلاثة أسماء لله عزّ وجل: الله، والرّب، والملك. كذلك في سورة النّاس: (قل أعوذ برب النّاس. ملك النّاس. إله النّاس). نفس البداية ، سورة الفلق: ذكر فيها الحسد والسّحر وما يتصّل بها، وهي مذكورة في سورة البقرة، سورة الصّمد هي في التوحيد، وسورة آل عمران هي في التوحيد. وهكذا رُدّت السور السبع الطوال الموجودة في أول القرآن، رُدَّ العجز عليها، في آخر سور القرآن السَّبع القصيرة التي خُتِم بها كتاب الله عزّ وجل.
د. الشّهري: أنا أظن أنّ فيه تأليف لأحد العلماء، نسيت حقيقة، أنا أحاول أتذكر اسمه، لكن عنوانه: “الدُّرر اللوامح في أسرار الفواتح”. تحدّث فيها عن أسرار فواتح السّور، لا أدري هل هو من كتب السيوطي المفقودة، أو من كتب غيره، لكن أتوقع أنَّ مثل هذا المعنى الذي أشار إليه الدكتور مساعد وأشرتم إليه دكتور محمد، معنىً لم يكن غائباً عن العلماء السّابقين، وكانوا فعلاً يلتمسون في مطالع السُّور وفي أوائلها دِلالات من هذا النوُّع، وهي الحقيقة باب من أبواب الاجتهاد والاستنباط والتَّدبر وإعمال الذِّهن في آيات القرآن الكريم وفهمها.
د. الخضيري: طيب، من تمام براعة الاستهلال في هذه الآية حقيقة، كيف أنّه يُذّكر- مثل ما ذكرتم دكتور عبدالرحمن قبل قليل- خَلقِنا من نفسٍ واحدة، لبيان أنَّ لبعضنا على بعضٍ حقّاً، إذا كُنَّا نحن الآن خرجنا من أبٍّ واحد، إذاً بعضنا له على بعض حق، كحق القرابة، والأصل الواحد، ولذلك نحن يجب علينا أن نُراعي هذا في حق الضعيف ، والمرأة ، والمسكين وغيرهم.
قال تعالى: ” وخلق منها زوجها” أيضاً هذه المرأة التي يُراد أن يُتحنَّنّ عليها، وتُرحم ويُرفق بها، تراها خُلقت منك، يعني هي بعضٌ منك. فأنت إن ظلمت ظلمت بعضك، وإن قطعت قطعت بعضك.
د. الشهري : ولعله قال : ولا تقتلوا أنفسكم. لهذا المعنى
د. الخضيري: سبحان الله. قال : “وخلق منها زوجها ثم قال” وبث منهما”. أذكر أنّ لك لفتة في هذا الموضوع.
د. الشّهري: طبعا في هذه الآية: قال : ” وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامَ. تذكرون هذه الآية فيها خلاف نحوي مشهور، وهو أنَّ حمزة وهو أحد القرّاء السبعة قرأ : واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ إنّ الله كان عليكم رقيباً.
د. الخضيري: عطف الاسم الظّاهر على الضمير.
د. الشّهري: نعم، فالنَّحويون عندما قرأ والأرحامِ بالكسر، قالوا أخطأت، أخطأت يا حمزة بقراءتك هذا الحرف بالكسر، ووجه الخطأ عندهم أنّه عطف الاسم الظّاهر على الاسم المضمر، يعني عطف الأرحام وهو إسم ظاهر، على الضّمير في قوله (به). واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ.
د. الخضيري: وبالأرحامِ.
د. الشِّهري: نعم. قراءة الجمهور: واتّــقوا الله الذي تساءلون به والأرحامَ. فالمفسرون يقولون: والأرحامَ أن تقطعوها يعني: اتقوا الأرحام أن تقطعوها.
طيب، ما مناسبة النّهي عن قطيعة الرَّحم في هذه الآية؟ المناسبة كما ذَكرها أحد الطُّلاب وأنا أشيد به، وهو أحد طلابي في مرحلة الماجستير وهو الأخ: عبدالله بن سعود الحربي،كنت أعطي الطلاّب فكرة، كنت أدّرسهم مادة أحكام القرآن، فقلت لهم يا إخواني لا نريد أن نكرر الكلام، ونريد أن نأتي بشيء مفيد جديد في تدريس آيات الأحكام، فكنت أقسِّم على الطلاّب القرآن الكريم بحيث كل واحد منهم يأخذ جزء منه، ويستنبط منه فوائد. لأنَّ المقصود بآيات الأحكام هو استبناط الآحكام منها، فكان من نصيب الأخ عبدالله أول سورة النّساء إلى آيات محددّة، فربط بين النَّهي عن قطيعة الرحم وبين دلالة بثّ في الآية نفسها، وقال إن ّ سبحانه وتعالى قال: وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساء. وكلمة “بثّ” فيها دلالة على الانتشار، وانتشار بني آدم، وذرّية بني آدم في الأرض مظنّة قطيعة الرّحم، حتى اليوم، إذا ذهب أحدهم إلى الرياض مثلاً ، والآخر إلى كندا، والآخر إلى أوروبا وهم أبناء رجل واحد، فإنّه لبعد المسافات وانشغالهم، فهذا مظنة قطيعة الرحم، فجاء الأمر في نفس الآية: بصلة الرّحم فقال: “واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ” أن تقطعوها، ” إن الله كان عليكم رقيبا” ،فأنا وجدت الحقيقة مناسبة جميلة جدا بديعة لم أجد من نبّه إليها، وهي الصّلة: لماذا جاء الأمر بصلة الرّحم في الآية: وهي لمناسبة قوله” “وبثَّ منها رجالاً كثيراً ونساء” .
د. الطيّار: أيضًا من الفوائد المهمة جداً، لما قال:” الذي خلقكم من نفس واحدة” وهي مبدأ السواسية، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أكّد هذا المعنى: كُلُكم لآدم، وآدم من تراب. وقال: لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
فهذا مبدأ كأنّ الآية تشير إليها، وبناء على هذا فالحقوق التي بينكم أنتم فيها أيضاً سواء، لا يتمايز في هذه الحقوق واحد عن آخر بسبب نسب أو حسب، فالحقوق كُلّها تُنزَّل على هؤلاء جميعاً بدرجة واحدة، ليس هناك تفاضل أبداً في هذه الحقوق ، وفي الحقوق المالية بالذات الفقير، والغني، والحسيب وغير الحسيب، والشرّيف والوضيع. كلهم سواسية في هذا الحكم وأنا أذكر من اللطائف ما يتعلق بقضية السواسية، أنّ العقل أحيانًا يَتصوَّر إدراكاً معيّناً، ولكنّه لا يكون هو الصّواب لأنّ لله حكم غائية قد تكون غائية عن هؤلاء الأشخاص، وأنا سأذكر حادثتين للحِكم الغائية.
الحادثة الأولى: إن لم أكن أهِم سمعتها من الدكتور محمد، وهو أنَّ الشَّيخ بن سعدي رحمه الله تعالى و كان قاضياً يقضي، ليس هناك محكمة، وإنّما يقضي في بيته ويأتي النّاس يتخاصمون، فجاء اثنان من البادية ومعهم طفل صغير، في قماش، وكان لهم أب وهم يرعون ماشيته، هم الذين يُشرفون على مال أبيهم بعد أن كَبِروا، وزوّجوا أباهم عن كِبر، وجاء بهذا الولد، ولمّا جاء أمر هذه التركة سمعوا هم أنّ حق هذا الطّفل الرضيع مثل حقّهم سواء، فالعقل البشري ما أدرك الحكمة الغائية، ونظر إلى قضية أنا تعبان أين حقّي، فجاءوا للشيخ ابن سعدي يسألونه هل بالفعل هذا حكم الله، وقصّوا عليه القصّة، فهل بالفعل حقّه مثل حقنا ونحن تعبنا وفعلنا وفعلنا قال: نعم، وذكر لهم الآيات ، فقالوا : رضينا بحكم الله ورجعوا. فإذا هذه حكمة غائية، أنت لا تُدركها الآن، ولهذا دائماً نقول إذا نحن حكّمنا العقل دون الشّرع ولم نجعل العقل تبعاً للشرع فثق ثقة تامّة أنّه سيقع أخطاء كثيرة جدّاً.
د. الشهري: أنت ترى أنّها مخالفة للعقل والحكمة الإلهية ترى غير ذلك.
د. الخضيري: انظر إلى هذا، وتأكيده في قول الله ” يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيّاً أو فقيراً فالله أولى بهما” . لا تشهد للفقير لأجل فقره، تقول والله لأنّه فقير سأشهد له ولو كان جائراً، أو لن أشهد عليه أخشى أن أزيد مشكلته مشكلة، لا، يعني مبدأ السَّواسية الذي ذكره الدكتور في أن يُعامل النّاس بالفعل، حقوقهم تثبت سواء كانوا أغنياء أو فقراء، صغار أو كبار، ذكور أو إناث، مبدأ يُؤخذ من قوله تعالى: “من نفس واحدة “.
د. الشِّهري: تلاحظون يا إخواني في أوّل آية، الحقيقة أول آية من سورة النّساء مليئة بالمعاني، لاحظوا في ختام هذه الآية، يعني الآية مليئة بالحقوق والحديث عن الحقوق، والواجبات وكثير منها حقوق تتعلق بتعاملك مع الآخرين، فقال: ” إنّ الله كان عليكم رقيبا” يعني أشار الله سبحانه وتعالى إلى مراقبة الله سبحانه وتعالى لك في جميع أعمالك.
د. الخضيري: كأنّه يؤكد معنى التقوى التي مرّت مرتين في الآية. عجيب سبحان الله
د. الطيّار: وهذا يدخل في رد عجز الآية على صدرها .
د. الشّهري: يعني أنت تنظر لها من جهة عندما تأمر بالتقوى، فهو استحضار لمراقبة الله سبحانه وتعالى، لكنّ الله يؤكد هذا، ولا يتركها لك حتى تستنبطه، وإنّما يؤكده لك ويقول: إنّ الله كان عليكم رقيباً.فكان ماذا؟ فسيحاسبكم، فانتبه، لازم الخبر، فما دام أنّ الله رقيب فانتبه لنفسك، فما دام الله رقيب فمعناه أنّ الله سيحاسبك، فكل ما سوف يأتي فإنّ الله قد أمرك به، وفي عدم وفائك به فأنت مُعرَّض للحساب. ولذلك العجيب، الحقيقة أنّها فعلاً لفتة عظيمة، ولفتة الدكتور مساعد في قضية العناية بالآية الأولى في السّورة وعلاقتها ببقية السّورة، لفتة ممتازة جدا وهي بارزة واضحة.
د. الطيّار: في قضية لما قال: ” وخلق منها زوجها”.
د. الخضيري: طبعاً النبي صلى الله عليه وسلّم أثبت هذا وهو ما يُصَّدق هذه الآية ووممّا تُفسَّر السّنة به القرآن: إنّ المرأة خُلقت من ضلع- أي من ضلع آدم- وإنّ أعوج ما في الضّلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها، وإن استمتعت بها استمتعت بها على عِوج.
د. الشهري: المقصود بالضلع.
د. الخضيري: طبعاً أضلاع الصدَّر.أيضا يدل على الانحناء والدَّلالة على الميلان، أيضاً الانضمام إلى الأصل وهو ميلانها إلى الرّجل، دائما هي تحوم حوله، وتكون رغبتها فيه، لذلك يقال النّساء ما خلون إلا تحدّثن في الرِّجال، أمّا الرِّجال فقد يتحدّثون في الأرض، والزّرع، والضّرع وغيرها ولا يتحدّثون في هذا الأمر، إلا إذا كانوا من ذوي الشّهوات، أو قد امتلأت بطونهم وسرت في أنفسهم شهوتهم بنسائهم.
د. الطيّار: طبعاً في قضية علمية الحقيقة في هذا الموضوع، وهو أنّه طبعاً يُذكر في الآثار أنّ آدم عليه الصّلاة والسّلام نام نومة فقام فإذا بجواره حوّاء، فقال من أنتِ؟، قالت: أنا حوّاء، فَسَألها: من أين خُلقتِ؟، قالت: خُلقتُ من ضلعك، أو شيء من هذا. فالمقصود هذه القصة أنا رأيت بعض من يُشدّد النّكير عليها، وينقل عن الألباني رحمه الله تعالى أيضاً تضعيف هذه والتشديد على ضعفها.
والحقيقة أنّ هذه المسألة مسألة علمية يجب أن ننظر إليها بنظر متوزان، وأن ننظر كيف كان أسلافنا من الصَّحابة والتَّابعين وأتباعهم وكذلك من جاء بعدهم، كيف نظروا إل هذه القضية، وأنا يعجبني حقيقة الإمام الطبري يعني وضع ضوابط مهمّة جدّاً جدّاً للتعامل مع مثل هذه الأخبار عند قوله سبحانه وتعالى: “فأزّلهما الشيطان عنها ” .تكلّم عن ما ذكره المفسرون من دخول إبليس الجنّة من خلال الحيّة. ووضع ضوابط مهمّة جدّاً جدّاً.
من هذه الضوابط أنّه قال: ما كان من كتاب الله موافقاً، وهنا الآن لمّا ننظر لهذه القصّة المذكورة. وكتاب الله في نوع من التوافق لأنّه قال: “خلق منها زوجها”. أيضاً ذكر قضية: أنّها من الأمور الممكنة وهذا لا شك أنّه قطعاً من الأمور الممكنة، وذكَر قضية أنّ هذا الخبر المذكور لايردّه عقل ولا خبر بخلافه، فهو في حيّز الإمكان ما زال، وذكر أيضاً: أن يكون موافقاً للعربية، لأنَّ القرآن نزل على لسان العرب، وذكر أيضاً ضابطاً مهمّاً وهو تتابع أهل التأويل عليه، فإذا تتابع أهل التأويل عليهم ومرّ على عقل ابن عبّاس، وعقل مجاهد، وعقل عطاء، وعقل ابن مسعود وغيرهم، وكُلُّهم أمّروه وما لحظوا فيه شيئاً، فالمفترض علينا أن يكون عندنا على الأقل احترام لهذه العقول، التي مرّ عليها هذا الخبر ولم تستـنكره مثلما استنكرتَـه أنت، وأنا أقول مهم جدّاً من نظر في هذه الضوابط يجعل مثل هذا الخبر ليس مُشكلاً، ما دام أهل التأويل من الصَّحابة والتّابعين وأتباعهم ومن جاء بعدهم قد ذكروا هذا وليس فيه أيّ منقصة أو أيِّ نكارة في هذا الخبر.
د. الشّهري: وهي تعتبر يعني من الروايات الإسرائيلية.
د.الطيّار: نعم، نعم.
د. الخضيري: إذا أذنت لي.
د. الشهري: نعم، تفضَّل، يا دكتور محمد.
د. الخضيري: من لطائف هذه الآية التي أشار إليها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، وقد خرج تفسيره لسورة النّساء في مجلّدين، وأنا أوصي الحقيقة طُلاَّب العلم بقراءته، لأنَّ الشيخ إذا فسَّر علَّم، يعني يُعلّمك كيف تصل إلى المعلومة ويشرح لك كل ما يستغلق عليك، يعني ما يدع شيئاً إلا ويُـــــــبينه إن كان إعراباً، إن كان قراءة، إن كان كذا، فقد تقرأ في كُتب التفسير لا تفهم معلومة ولا تستطيع أن تصل إلى فهمها إلى عبر معلّم.
قال: ” وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساء” لمّا ذكر رجال، ذكر كثيراً قال : لأنّ كثرة الرِّجال النِّعمة فيها أتمّ، والعِزُّ فيها أكثر، فكلما كانت الأمّة فيها رجالٌ أكثر، كان ذلك أتم في النِّعمة وأعزّ أيضاً للأمّة، ولذلك جعل الله عزّ وجل الكثرة فيهم لإظهار هذه القِيمة وهي عزّة الأمّة.
د. الشّهري: جميل، مع أنّ الواقع أنّ العكس هو الصَّحيح، أنَّ النّساء أكثر من الرِّجال .
د. الخضيري: طبعاً، واقع الأمر، لكن كلما كثر الرِّجال دلّ ذلك على عزّة الأمّة.الآن في مجتمعنا نحن في الإحصائيات الأخيرة، آخر إحصائية قبل سنوات تبيّن أنّ الرِّجال عندنا 51% ، والنساء 49%.
د. الشهري: فيه معنى الحقيقة أريد أن أتحدث عنه، نحن نتحدث عن حقوق النّساء، وأنا أريد أن أتحدث عن حقوق الرِّجال. في قوله سبحانه وتعالى في سورة النّساء: “الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها”. فأنت تجد هنا هناك فضل لآدم عليه الصلاة والسلام على حواء بأنّه هو الأصل. في سورة البقرة في قوله تعالى: أُحِلَّ لكم ليلةَ الصِّيام الرّفث إلى نسائكم هُنَّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ.
هنا لماذا قدّم الله تعالى وصف المرأة بأنّها لباس للرّجل، على وصف الرَّجل بأنّه لباس للمرأة. لا أدري هل مرّ عليكم مثل هذا؟
المشايخ: أبداً.
د. الشّهري: أنا يظهر لي معنىً، وهو أنّ المرأة في قُدرتها على احتواء الرَّجل، وعلى سَتره، وعلى عفّته، بتحبّبها إليه، وتقديرها له، واحترامها له، والقيام بحقّه. وتقدير أنّ الرّجل هو أصل للمرأة، أنّ هذا هو أحفظ للأسرة، وأحفظ لقلب الرّجل، من قدرة الرّجل على أن يكون لباساً للمرأة. ولذلك قُدَّمت وصف المرأة بأنّها لباس للرّجل قبل أن يُذكر وصف الرَّجل بأنّه لباس للمرأة. لأنَّ المرأة أقدر في رأيي على أن تَعُفَّ الرّجل وأن تحتويه، بما آتى الله سبحانه وتعالى المرأة من صفات ومن ما فُطرت عليه من أخلاق.
د. الخضيري: ولأنهّا أيضاً هي قيّمة البيت حقيقةً، يعني هي ملكة البيت، يعني إذا جاء الرَّجل إليها فكأنّه يأوي إلى شيء، يسكُن إليها.
د. الشَّهري: لتسكنوا إليها.
د. الخضيري: التعبير القرآني عظيم. هذا السَّكن بما أنَّ البيت يستر الإنسان. أيضاً المرأة كأنّها لباسٌ له تحتويه لتستره.
د. الشِّهري: وأنا أتصوَّر أنّ هذا من حقوق الرّجل على المرأة، لأنّ بعض النّساء حقيقةً ليست سكناً.
د. الخضيري: أنا فصّلت هذا يا أبا عبد الله، ولعلّ أبو عبد الملك يعني يقيّم ما ذكرته في أمرين. قلت: الرّجل عليه الأمان الخارجي، والمرأة عليها الأمان الدّاخلي، فالرَّجل يحقق الأمان الخارجي، عندما يشتري مثلاً بيتاً أو يـُؤجِّر بيتـــاً ويضع فيه الطّعام والشّراب وغير ذلك، يبقى هنا الآن، لتكتمل السَّعادة ولترفرف على هذا البيت، المرأة تقوم بدورها في أن تجعل هذا البيت بالفعل يحوي هذه الأسرة، ويكون سكناً لهذه الأسرة، البيت موجود، والأثاث موجود، والطّعام موجود. بقي الآن دور المرأة في كونها تُضفي عليه، فإذا قامت المرأة بهذا الدّور صار البيت سكناً، ولابد أن يكون هذا البيت سعيداً. أمّا إذا انعكس الأمر، الرّجل أمّن البيت وجاب الطّعام والأثاث، والمرأة صار لسانها أطول منها، ولا ترضى بشيء ولا تقنع، ودائماً تخرج من بيتها، خرّاجة ولاّجة، وصارت كلما جاء الزّوج وإذا بها منصرفة لعملها، أو لاتصالاتها مع صويحباتها، أوخارجة لجيرانها ما صارت سكناً، ضاق صدر الرّجل فظهر ذلك على تصرّفاته ،فبدأت السَّعادة تخرُج من البيت.
د. الشهري: ما أدري هل ترون فعلاً قضية تقديم وصف المرأة بأنّها لباس للرّجل” هنّ لباس لكم” أليس هذا المعنى دقيق فيها؟
د. الخضيري: واضح جدّاً، خصوصاً في آية الصيام: “أُحِلَّ لكم ليلة الصيام الرّفث إلى نسائكم” . طبعاً الليل لباس وستر، وللزّوج ستر خاص فيه، يكون مكوّنًا من هذه المرأة التي هي أصلًا خُلقت من ضلعه، فهي لباسٌ له.
د. الطيّار: هناك قضية يكثر الحديث عنها: وهي هل يمكن إدراك سرّ البلاغة من خلال معرفة مدلول اللّفظ، وموقعه في الآية وهي لفظة (وبثّ)؟، لاحظ استخدام لفظ ” بثّ” ، ” يوم يكون النّاس كالفراش المبثوث”، وأيضاً: “فكانت هباءً منبثاً” ،يعني بثّ بمعنى نشر. لو أنت تأمّلت، أو قلت لأحدهم أعطِنا من دلالة “بثَّ” هذا السّر الإعجازي في اختيار الألفاظ ، لم تُختَر لفظة ” نشر” أو غيره مما يدل على المعنى، إنّما بث. مهما اجتهد المجتهد ليُعبّر عن دِقّة هذا الاختيار وتناسق هذا الاختيار مع محيط الآية، يعني ما قبل اللّفظ وما بعدها، أو مع مثيلاتها فإنّه يبقى أنّه يقدِّم لنا شيئا يسيراً، ولكن يبقى في النّفس شيء لا يمكن أن يخرج، لذلك فإدراك سر الإعجاز صعب، والتعبير عنه أصعب.
د. الشّهري: إي والله صحيح، كنت أتحدّث مع أستاذ للــّغة الفرنسية، وأستاذ متمكن ما شاء الله في المغرب، فقلت له: كيف أنت في اللغة العربية يا دكتور؟. فكان متكأً فجلس وتنّهد فقال: انظر، اللّغة العربية هي اللغة التي يصح أن يُقال عنها لغة!
د. الخضيري: سبحان الله!.
د. الشهري: أنا ولله الحمد، أتحدّث الفرنسية، وأتحدّث الإسبانية، ولديّ معرفة جيدة باللغة الإنجليزية، لكن الحقيقة اللغة العربية هي اللغة التي تحتوي المعاني الدينية ، المعاني التي يريد الله سبحانه وتعالى أن تبلغ البشر ما وجدت أكثر قدرةً عن التعبير عنها من اللغة العربية.
د.الخضيري: لا إله إلا الله.
د.الشّهري: ويقول هذا وكأنّي أثرت نقطة حسّاسة في نفسه.وقال : هذه قناعة وصلت لها بعد دراسة عميقة للغات اللّغة الأوروبية، ولمّا أتأمّل في اللّغة العربية، وجدت فعلاً أنّ فيها من الثراء، وقال : أنا لا أقول هذا تعصبّاً لكوني عربيّا ولا، أبداً، ولكنّي أجزم وأنا أريده ولديّ بعض الأبحاث في هذا . الحقيقة اندهشت من ذلك الحديث الذي تحدّث فيه عن بلاغة اللغة العربية وقدرتها على حمل المعاني القرآنية والرَّبانية.
د. الخضيري: طيّب، أنا بدا لي أمر ما أدري إذا توافقوني عليه أم لا؟ الله أراد أن ينبث النّاس، أنا أرى من يريد أن يجمع النّاس في مكان واحد، يخالف هذه السُنَّة والإرادة الإلهية، وهذا مما يُضِّر الآن بالنّاس، وخُصوصاً الآن بعد مجيء الحضارة إلى مثل دُولنا نحن التي تعتبر يعني واضح التخلّف عليها، وهذا شيء مشهود، اجتمع النّاس في مدن، هذه المدن تكلفة الآن يعني اجتماع النّاس فيها أصبحت باهظة جدّاً، في التصريف، في الكهرباء، في الماء، في توزيع الطرق، في توزيع الحقوق إلى آخره. ولذلك أصبحت عبئاً على النّاس. ألا ترون، أنّ بقاء النّاس كما كانوا سابقاً يعمرون الأرض، وينبثّون فيها، الرُّعاة في أماكنهم ،وأهل الجبال في جبالهم، وأهل السُّهول في سهولهم، وأهل الرّمال في رمالهم ، وأهل الصَّحاري والقُطب أيضاً يبقون في أماكنهم. لتُعمَر هذه الأرض ليــــنـتفـع كل جماعة منهم بما عند الجماعة الأخرى.
د. الشِّهري: والحقيقة فعلاً، أضّر تجمّع النّاس في أماكن محدّدة ، أضّر فعلاً بهم إضراراً بالغاً، يعني انظر لبعض المناطق، على سبيل المثال: عندنا في الرّياض مثلا، تجمّع النّاس في الرّياض، وأتوا من كل مكان، وضاقت الرِّياض حقيقة بمن فيها، وأصبح العيش فيها صعباً، وأصبح أيضاً القدرة على شراء أرض غالٍ جدّاً، في حين لو تفرّق النّاس في أماكنهم وعُمرت الأرض لكانت خفّت عليهم واستطاع الجميع أن يعيشوا فيها، وأنا أتصّور حتى في الحضارات القديمة، أنا كنت أقرأ في كتاب في الجغرافيا قديماً في كون النّاس في العادةً يتجمّعون عند أماكن موارد المياه، وعند الأنهار ولذلك الحضارات قامت على شواطئ الأنهار، إلى اليوم فيما يبدو لي،حتى تعاني منها مصر فيما يبدو لي، تعاني من تجمّع النّاس في القاهرة على ضفاف النّيل. وأن أكثر أجزاء مصر خالية الآن غير معمورة، وهذا كلُّه يخالف كلمّة ” بثّ” ، نحن نقول لا جمعوهم.
د. الخضيري: الغربيون انتبهوا لهذا، ولذلك حتى في مصالحهم، يحاولون قدر المستطاع إبقاء النّاس في أماكنهم، حتى الجامعات مثلاً لا يجمعونها في المدن الرئيسية، يضعون كل جامعة في مكان حتى يُعمر المكان.
د. الطيّار: بالفعل، حتى يكون متوازنًا.
د. الخضيري: نعم متوازن، ولا يحصل هذا الغلاء الذي ذكره أبو عبد الله الذي ضيّق على النّاس.
د. الطيّار: طبعًا، لو أهل الاجتماع والذين لهم علاقة بمصالح الدولة، ينظرون لمساوئ لهذا الاجتماع لكان حسناً.
ما أدري إذا كان باقي وقت يا دكتور عبدالرحمن.
د. الشهري: نعم، نعم، ما زال الوقت متاحاً.
د. الطيّار: طيب، أيضاً في كلمة ” بثّ”، قد يرجع البعض من يقرأ في تفاسير السَّلف يجد أن مثل السُّدّي قال : بثّ بمعنى ” خلق”، فيقول ما علاقة ” بثّ” بمعنى ” نشر” بـ(خلق)؟، وهذه القضيّة مهمّة ، أن ننتبه إلى قيمة أمرين: قيمة معرفة دلالة اللغة العربية وأصل الاشتقاق في اللفظة، ومعرفة كلام السّلف، لكي يكون عندنا قدرة على الرّبط بين كلام السَّلف والمعنى اللُّغوي، وإذا بنا نجد حينما نقرأ أنّ كلام السّلف وإن لم يكن مدلولاً لُغويّاً مباشراً، أنّه لا يخرج عن هذا المدلول ، إمّا أن يكون لازماً من اللَّوازم ، أو من الأسباب أي علاقة السبب بالمسبب، أو أنّه جزء من معنى اللّفظ، أو غيره، هناك علاقات معيّنة. فإدراك طالب علم التفسير لهذه العلاقات مهم جدّاً، فلمّا يأتي بثَّ بمعنى خَلَق، أيهما الآن أوسع من الآخر؟. لا يكون بث إلا بعد خلق، لازم له،كأنّه أشار إلى الأصل، فهو الخلق وأنّه لن يحصل هذا البث إلا على الخلق، فمثل هذه الدقائق أو إدراكها، البعض يقول تفسير السلف كلام عادي.
د. الشهري: يعني الآن عفواً، أنا أريد الآن أسأل سؤالين ؟ أنت قلت الآن : قال السُدّي، من هو السُدّي إذا أُطلق عند المفسريّن ؟
د. الطيّار: طبعا السُدّي، هو السُدّي الكبير.
د. الشهري: الذي هو إسماعيل بن عبدالرحمن السُّدي.
د. الطيّار: نعم، توفي سنة 128، وقيل أنه رأى أنس بن مالك، و لهذا بعضهم يضعه في طبقات التابعين .
د. الشهري: طبعاً أنا سألت هذا السؤال حقيقة يا بو عبد الملك، ودكتور محمد، لأنّ فعلا كثيرٌ من النّاس يسمعون يقولون: قال السُّدي، قال مجاهد، يقرأونه في كتب التفسسير ، طبعاً أنت إذا كنت لا تفرّق بين السُدّي ومجاهد وابن عبّاس لا تثمّن كلام هذا ولا هذا، في حين إذا عرفت مكانتهم في تاريخ التفسير، وأن كلمة مثلاً مجاهد وقتادة لها وزنها عند المفسرين، إذا وجدت قال: مجاهد، خلاص لم ، كما يقولون، كان يقول سفيان: إذا أتاك التفسير عن مجاهد فحسبك به، أنا والله كنت أدرس الطلاب في تفسير فتح القدير وهو يذكر هذا بكثرة هذا قول مجاهد وقتادة، وهذا قول السُدّي ، فقلت وقّفوا يا شباب من هو مجاهد ؟ جاهد!، طيب قتادة، وهم طلاب كلية شريعة، تكتشف فعلا!، انا قلت يا إخواني القراءة في تراجم المفسِّرين مهمّة، أنك تعترف عن المفسرين الذين يُنقل عنهم تفسير القرآن الكريم. لأنّه يأتيك ناس بكل بساطة الآن ويقول: بلا قتادة، بلا مجاهد، بلا السُّدي أنا عربي وأستطيع أن أفهم العربية وسوف أخلَّي بيني وبين القرآن، وجنَّب هؤلاء ، طيب يا أخي هل تعرف هؤلاء من هم؟! هم رجال ونحن رجال!! لا يا أخي، ليست المسألة بهذه البساطة.المسألة أكبر من كذا، هؤلاء الصحابة وهؤلاء التابعين، تخصصوا وانقطعوا لفهم القرآن الكريم، وهم أهل اللُّغة، وهم الذين شاهدوا أهل التنزيل، وصحبوا النبي صلى الله عليه وسلّم. هذه كلها لا تنطبق عليك لا من قريب ولا من بعيد، المسألة ليست لغة وتذهب تراجع لي لسان العرب، هذا فقط تعليق على قولنا السُدّي
د. الطيّار : في أيضاً فائدة مهمّة جدا وسبق أن أشرنا بها في بعض الحلقات: وهي الإظهار في مقام الإضمار، وكل موطن له خصوصيته، هنا قال: واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام. إنّ الله ، ولم يأتي إنّه ، وهذا لزيادة تربية المهابة، نعرف أنّ لفظ الجلالة، الإتيان به، في هذه المواطن لتربية المهابة في نفس العبد في أنّه إن لم يفعل هذا فإنّه يخالف أمر الله.
د. الشَّهري: هذه لفتة كريمة حتى في استهلال السّورة، لإظهار مهابة الله في قلوب من تُخاطبُ بها، حتى يستجيبوا لهذه الحقوق والأوامر التي فيها.
لعلنا نختم، انتهى الوقت أيها الإخوة ، لعلنا نختم بهذه الفائدة اللطيفة التي تفضّل بها الدكتور مساعد الطيّار، وأسأل الله أن يُربّي في قلوبنا وفي نفوسنا المهابة منه سبحانه وتعالى.ونلتقى بكم في الحلقة القادمة، أيّها الأخوة المشاهدين من هذا البرنامج ” بيّنــــات” والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته…
بُثّت الحلقة بتاريخ 2 رمضان 1431 هـ