الحلقة التاسعة
تأملات في سورة النساء الآيات (15-16)
د. الشِّهري: بسم الله الرّحمن الرحيم، الحمدلله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين. مرحباً بِكم أيُّها الإخوة المشاهدون الكِرام في كل مكان في برنامجكم “بيِّنات”، والذِّي يَتواصَلُ الحديثُ فيه حول آياتِ سورةِ النٍّساء من كتابِ الله تعالى ولا زِلنا في هذا المجلس المتجدد نتحادَث ونتدبَّر في هذه الآيات مع المشايخ الفُضَلاء الدُّكتور: محمد بن عبدالعزيز الخِضيري، والدكتور: مساعد بن سليمان الطَّيار، ونحن في هذه الاستراحة الجميلة في مدينة تُنومة والتي أتاحها لنا الوالد الكريم الأستاذ: علي بن عبدالرحمن الشِّهري جزاه الله خيراً.
كُنّا قد توقّفنا يا مشايخ في المجلس السَّابق عند قول الله تعالى: (واللاَّتي يأتِينَ الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهُنَّ في البيوت حتى يتوفَّاهُنَّ الموت أو يجعل اللهُ لهُنَّ سبيلاً( ولعلّنا قبل أن نبدأ في الحديث عن هذه الآيات نستمع إليها مُرَّتلة ثم نواصلُ الحديث عنها..
الآيات من سورة النِّساء (15-16)
(واللاَّتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهُنَّ في البيوت حتى يتوفَّاهُنَّ الموتُ أو يجعل الله لهُنَّ سبيلا (15) واللَّذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تَابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إنّ الله كان توَّاباً رحيما (16))
وبعد أنِ استمعنا إلى هذهِ الآيات الكَريمة والتي تتحدّث عن حَدِّ الزِّنا والفَاحشة في هذه الآيات الــمدنية، ونحن سبق أن تحدَّثنا في أوّل اللِّقاء في سورة النِّساء، أنَّ سُورة النِّساء سورة مدنية بالإجماع، نَزَلت على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، والسُّور المدنية من أبرز مميِّزاتها وخَصَائصها أنَّها مشتملة على الحُدود، فمن ضَوابط السُّور المدنية أنّها ورد فيها حدود (حدِّ الزِّنا، حد السَّرقة، حد شُرب الخمر… إلى آخره).
هنا يأتي سؤال سبق أن أشرنا إليه لَيتك تُذَّكرنا به دكتور محمد بإيجاز، وهو أنَّا كُنَّا نتحدَّث عن آيات المواريث وحقوق الوَرثة، ثم انتقل الحديث عن حَدِّ الزِّنا هُنا (واللاَّتي يأتينَ الفاحشةَ من نسائكم) ما وجه الارتباط بين هذه الآيات؟
د. الخضيري: هذه السُّورة سورة النِّساء،تحدَّثت في أوَّل السُّورة عن النِّساء وحقوقهنّ، وعن حفظ مال اليتيمات وعن عدم الزَّواج بهنّ لمن يخشى أن يَظلمهُنّ، ثمّ عَن المواريث التي كان من أعظم أسباب نزول آياتها إعطاء النِّساء حقوقهنّ ثمَّ جاءت هنا لتتحدَّث عن جانب آخر مُتصِّل بالنِّساء وهو أن يأتين بالفاحشة هذا من زاوية وهي زاوية عامَّة وكبيرة.
الثَّانية: في آخر آيةِ المواريث قال (تِلك حدودُ الله)، فذَكر أنَّه أشار في أوّل السُّورة أو في آيات المواريث إلى حدود حدَّها الله سبحانه وتعالى وشَرَعها لِعباده فلا يَجوز تَعدِّيها، وهذا كثيرٌ في القرآن الكريم يعني منها على سبيل المثال ممّا مرَّ بنا في هذه السُّورة لــــمّا ذَكرَ (وإن خِفتم ألا تُقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طابَ لكُم من النِّساء مثنى وثُلاث ورُباع)، هُنا انتهى إخراج الإنسان من إشكالية أنّه يخشى الجَور إذا تزَّوج باليَتيمة وخَشي ألا يُنصِف معها. ثمّ قال الله عزّ وجل انظر وهذا من التَّخلُّص (فإن خفتم ألا تعدِلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألاَّ تعولوا).
ثُــــمَّ قال وهذا من التَّخلُّص (وآتوا النِّساء صَدُقاتِهنّ نِحلة) لــمَّا ذَكَرَ الزَّواج بالنِّساء وما يتصِّل به ذَكَر مُهُورهنّ وهذه طريقة مُطَّرِدَة في القرآن وهو التَّرابط والخُروج من موضوع إلى موضوع بسلاسة، وجَمَال، وعدم حُصول فجوات.
د. الشِّهري: مع أنَّ الذِّي لا يُدرِك بلاغة القرآن يرى أنَّ هناك انتقالات غريبة، وأنا أذكر أنِّي قرأتُ لبعض المستشرقين أنَّه كان يتكلّم عن القرآن الكريم فيقول إنَّه كلامٌ غير مُترابط لأنّه لا يفهم البلاغة، وإنَّه في حاجةٍ إلى تشكيل لجنة متميِّزة في اللُّغة لإعادة ترتيبه.
د. الخضيري: مسكين، والله هذا كمن يبصُق على الشَّمس.
د. الشِّهري: والله هذا هو، فهو يعني مُنتهي هذا الــمُستشرق تماماً. فإذاً هو بعد أن تحدَّثَ عن حقوق التَّرِكة الآن انتقل بعدها إلى واجب إصلاح النِّساء عندما قال: (واللاَّتي يأتين الفاحشة من نسائكم)، أُذّكِّركُم يا مشايخ بما ذكرناه في أوَّل لِقاء من لِقاءات سورة النِّساء، وهو لماذا سُمِّيت سورة النِّساء بهذا الاسم فكُنَّا ذكرنا قول الدكتور إبراهيم خليفة عندما قال: إنَّه ينتشر في سورة النِّساء مَعنيَان لَصِيقان بالنِّساء وهُما جانبُ الإنصاف وجانبُ الإِصلاح، يعني الآن عندما نُطَبَّق حدِّ الزِّنا على المرأة التي وقعت في هذه الفاحشة فهو من بَابِ استصلاحها وإعادتها إلى المجتمع المسلم وهي طَاهِرة نقيِّة، ولذلك النَّبي صلى الله عليه وسلم عندما سَبَّ بعضُ الصَّحابة امرأة وَقَعت في فاحشة الزِّنا وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأقام عليها الحدّ وطَهَّرها، فَلَعَنها بعضُ الصَّحابة عندما وقع شيءٌ من دَمِها على ثوبه وهم يرجمونها فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: لقد تابت توبة لو وُزِّعَت على أهل المدينة لَوِسعتهم. ممّا يُشير إلى أنَّ هذا الجانب وهو جانب الاستصلاح، يعني سبحان الله العَظيم فعلاً هذه فكرة جميلة جدّاً وهو أنَّ إقامة الحُدود على من وقع في شيء من هذه الحدود سواء كانت سرقة أو كانت زناً أو قذف، فإنَّه من أجل استصلاح أنَّه في الخاتمة وفي المال هو استصلاح له وتهذيبٌ له، وهو من أجل إصلاح المجتمع نفسه حتى لا يَبقى فيه مثل هذه النُتُوءات والسَّلبيات.
د. الخِضيري: وهذا ذَكَّرني بِقصَّة مرَّت بي لــمَّا طَبَّقت إِحدى وِلايات نيجيريا الحُدود بعد أن كان لا يُطَّبق فيها الحدود منذُ زمن بعيد، منذ زمن فُودِي وغيرهم، فالــمُهم أنّ هذا الرّجل طُبِّق عليه حَدّ السَّرقة وهو كما يُقال حَرامي محترف، قديم والنّاس يخافونه ويهابُونه، فَلمَّا حُكِّمت الشَّريعة في تلك الولاية، واسمها ولاية “زَانفرا” أُخِذَ هذا الرَّجُل فَقُطِعت يده، فجاءت مُنَظَّمَات حقوق الإنسان إلى هذا الرَّجل تريد منه أن يَرفع دعوى قضائية ضد هذه الولاية التي طبّقت الشَّريعة من أجل أنَّها تتكئ على دعواه في الانتصار لإبطال الشَّريعة. فالرّجل قال: والله ما فرحت بشيء في دُنيايّ مثل ما فرحت بأن يدي قُطعت لأنِّي شَعُرت أنَّ الذَّنب الذِّي كُنت أقترفه قد طهّرني الله عزّ وجل منه، انظر كيف يشعر بأنّه صلاحٌ له، يقولون وصَلُح هذا الرَّجل يعني ترك ما كان عليه من الفَسَاد بسبب تطبيق هذا الحد، وارتدع بِصَلاحه فئامٌ كثير، فصارت هذه الولاية من آمن الوِلايات، حتى إنَّك كُنت في السَّابق لا تأمن على الجوال في جيبك، الآن تضع الجوّال يمكن في الشَّارع ما يمَسَّه أحد من الأمن! يا أخي من يُحصِّل مثل هذا؟!
د. الشِّهري: وهذا من برَكة تطبيق الحُدود، لأنَّ أحياناً بعض أفراد المجتمع المسلم لا يُدرِك هذه الأبعاد لِتطبيق الحدود وينظر إليها نظرة سطحية وسَاذِجة، وينظر إلى مثل الجَلد، أو قطع الأيدي، أو الرَّجم على أنَّه وحشية وقسوة، ولذلك تجد أنّ في الحدود التي ذكرها الله فقال (تلك حُدود الله) ولاحظوا حتى أنَّه لــمَّا أضافها إليه فهي إضافة فيها إشعار بالعدل والحِكمة والرأفة والرَّحمة حتى أنّه قال في سورة النُّور تذكرون في حدِّ الزَّاني عندما قال (ولا تأخذُكُم بهما رأفَةٌ في دين الله إن كنتم تؤمنون باللَّه واليومِ الآخر). ممّا يُشِير إلى أنّ الحُدود مع أنّهاَ قد ينظر إليها من ينظُر إليها على أنّها حدود قاسية، أنّها من الرأفة ومن الرَّحمة بالمجتمع.
د. الطيّار: وهذا نظر إلى الــمآلات.
د. الشِّهري: بالضَّــبط.
د. الخِضيري: الآية طبعاً يقول الله عزّ وجل فيها (واللاَّتي يأتِينَ الفاحشةَ من نسائكم فاستشهدوا عَلِيهنّ أربعة منكم فإن شَهِدوا فأمسكوهُنَّ في البيوت حتى يتوفَّاهُنَّ الموت أو يجعل اللهُ لهُنَّ سبيلاً). قال فاستشهدوا :أيّ اطلبوا شهداء عليهنّ أربعةً مِنكم يعني من المؤمنين، فإن شَهِدوا أيّ هؤلاء الأربعة وصَرَّحوا بالشَّهادة وتأَكّد وقوع ذلك الأمر، فإنَّ حَدَّهُنَّ كما ورد في هذه الآية ( أمسِكوهُنَّ في البُيوت) يعني احبسوهن عندكم في بيوتكم، (حتى يتوفَّاهُنَّ الموت) يعني حتى يموتوا، أو (يجعل الله لَهُنّ سبيلاً) يعني يأتيَ بِحُكمٍ آخر غير هذا الحُكم الذِّي أنزله في هذه الآية.
فالآية اشتملت على أمرين: أَمسِكوهُنَّ في البُيوت حتى يتوفّاهُنّ الموت أو يأتِيَ سبيلٌ من عِند الله عزَّ وجل يكون لهنّ وهو مخرجٌ من هذا الحُكم الذي فيه حبسهُنَّ حتى يَـــــمُتنَ، فالحاصل أنَّ الحدَّ الآخر الذي استقلّ عليه الأمر قد طُبِّق أمّا هذا الحد فلا نعرف عنه
د. الطَيَّار: لا أذكر أنَّ أحداً ذَكَر مثالاً تطبيقيّاً له أنّه وَقع وطُبِّق.
د. الشِّهري: طبعاً كُنَّا قد تحدَّثنا في حديث سابق عن وقت نزول سورة النِّساء وأنّها كانت في السَنَّة السَّادسة تقريبا من الهجرة، والحديث الآن في هذه الآيات في سورة النِّساء يقول أنّ التي تأتي الفاحشة فإنّه يجب أن يُستَشهد على وُقوعها بأربعة شهداء، فإذا شهدوا فإنَّ العقاب أن تكون تُحبس في البيت أو يجعل الله لهُنَّ سبيلاً،ثمّ جاءت الآيات التي تنسخ هذه الآية.
د. الخِضيري: النَّسخ طبعاً يُطلق على النَّقل، ويُطلق على معنىً آخر وهو الإزالة، النَّاسخ مثلاً تقول نسَخ فلانٌ الكِتاب أي بمعنى نَقله، ويأتي النَّسخ بمعنى الإزالة نسخ الشيء أي أزاله، وهذا هو المعنى المُراد في القرآن والسُنّة. (ما ننسخ من آيةٍ أو نُنسِها ) يُقصد به الإزالة والرَّفع، والمقصود به طبعًا في عُرف الشَّارع رَفــــعُ حُكم خِطابِ بخطابٍ آخر، يعني أن تنزل آية مثل هذه الآيات ثم ينزل بعدها ما يَرفع حُكمها، أو يأتي من الله عزَّ وجل رفعٌ لها بالكُليِّة إمَّا حُكماً وإمَّا تلاوةً.
د. الشِّهري: يعني مثلاً عندنا في الآيات هنا الحُكم الذي قـَرّره الله هنا هو أنَّ المرأة إذا وقعت في الزِّنا وتمَّ الاستشهاد عليها أربعة شهود شَهِدُوا أنّها وقعت في الزِّنا تُحبَس في البيت حتى يتوفَّاهُا الله أو يجعل الله لهُا سبيلاً، لكنّه غير مُحدِّد هذا السَّبيل، يعني أنت الآن لو أردت أن تُطَّبق هذه الآية ماذا تُطَّبق؟ ستُطبِّق طبعاً أنّك تحبسها في البيت، ما تُطبِّق أنَّك تجعل لها سبيلاً، فَبَقي هذا الحكم حتى نزلَ حُكمٌ آخر في سُورَة النُّور في قوله سبحانه وتعالى (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا ءاياتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(2)).
إذاً انتقل لم يَعُد الآن سجن حتى الموت وإنَّما فيه جَلد مائة جلدة، أليس هذا هو الحكم النّاسخ؟
د. الخِضيري: يمكن أن يكون هذا ناسخاً في جزء منه، ولكن جاء في حديث عُبادة بن الصَّامت الذي في الصَّحيح وهو: خُذوا عنِّي، خُذوا عنِّي قد جعل الله لهنّ سبيلاً- وهو تفسيرٌ للآية- البِّكر بالبِّكر جلدُ مائة وتغريب عام، والثِّيب بالثِّيب جلد مائة والرَّجم”. فَذُكِرَ فيه أيضاً الجَلد والرَّجم، والجلد طبعاً مُطابق للآية لأنَّ الآية ذُكِر فيها الجَلد فقط. (الزّانية والزّانية فاجلدوا كلَّ واحِدٍ منهما مائة جلدة) ولم يُذكَر فيها الرَّجم.
د.الشِّهري: هل يا تُرى حديث عُبادة بن الصّامت كانت قبل آية النُّور يا تُرى أم بعدها؟
د. الخضيري: الذي يظهر أنَّه بعدها لماذا؟، لأنَّه ذّكَر الجَلد في حقِّ البِّكر وفي حقَّ الثَّيب، ثمّ ذَكَر العُلماء أنَّ الجَلد قد رُفع أيضاً عن الثَّيب ولم يَبقى في حقِّه إلا الرَّجم لأنَّ الرَّجم يستوعب
د. الطيَّار: إذا قلنا إنَّ قوله سبحانه وتعالى (أو يـجعل الله لهُنَّ سبيلاً) فلا يكون من بَاب النَّسخ، فالسَّبيل بيَّنه في سورة النُّور وبيّنته الأحاديث وذكره أبو عبدالله قبل قليل، هنا ينتفي النَّسخ.
د. الشِّهري: لماذا ينتفي يا شيخ، لأنّه رُفع الآن الحبس؟
د.الخضيري: لا، هو يقول لك أصلاً الآية لــمّا نزلت فتحت بابًا آخر، فما يقول أنّها نُسخت، هي أصلا كانت هيّأت لباب جديد.
د. الشِّهري: لكن حُكمها ذَهَب!
د. الخضيري: لا لم يذهب.جعل الله لهنّ سبيلا. يعني مَا قَال حُكمهُنَّ أن يُحبَسن حتى يَــــمُتنَ وانتهى فقال: أو يجعلَ الله لهنَّ سبيلا. هذا ما حكم الآية أيضاً، لكن ما بيَّن هذا السَّبيل، يذكر العلماء هذه الآية ليست من باب النَّسخ.
د. الشِّهري: والله، ما أدري الحقيقة أرى أنّها واضح فيها حكم النَّسخ، يعني خُذها بكلِّ بساطة.
الحكم الأوّل : أنَّهم يُحبَسون حتى الموت
الحُكم الثّاني: أنَّه يُجلد أو يُرجَم.
فلم يَعُد يُحبس لأنَّ هذا ليس شَرطاً في النَّسخ أيضاً، أن يكون في المنسوخ إشارة إلى أنَّه سيُرفع.
د. الخِضيري: بلى، هو الآن لـــمَّا نقول رفع حكم خطاب متقدِّم بخطاب متأخِّر. الآن هذه الآية ما رُفعت، لأنّك ممكن تقول: (أو يجعل الله لهُنَّ سبيلاً) والسَّبيل رجم المحصن وجلد البِّكر.
د. الشِّهري: لكنّه كان متراخيًا!
د. الطيَّار: لا، الذِّي ذَكَره أبُو عبدالله شيخ عبدالرّحمن، أنَّ قوله سبحانه وتعالى (فأمسِّكوهُنَّ في البُيوت) هذا المقدار رُفع، وهذا واضح أنَّه رُفِع، ورُفِع بالبَّديل بقوله (أو يجعل الله لهُنَّ سبيلاً).
د. الشِّهري: ولكن هُوَ ما رُفِعَ بها،ولكنَّه رُفِعَ بالسَّبيل الذي جاء فيما بعد.
د. الطَيَّار: إيِّ نعم بالسَّبيل الذي جاء فيما بعد.
د. الشِّهري:يعني لو كان جاء مُتَّصِلاً به في الآية التي بعدها مباشرة، ولكنَّه جاء في سورة متأخِّرة، و متى جاءت سورة النّور ، في السَّنة التَّاسعة تقريباً.
د. الطيَّار: هذا مِنَ الآيات التِّي تحتاج إلى النَّظر إلى التَّاريخ لــــمَّا تَكَلَّمنا عن قضية ترتيب النُّزول وغيره، أنّه الآن هذه الآية قطعاً ويُجزم به أنّها نزلت قبل سورة النُّور، أنَّ هذه الآية نزلت قبل قوله (الزَّانية والزّاني) هذا بلا ريب.لأنّ واضح أنَّه سبحانه وتعالى قال (أو يجعلَ الله لهُنَّ سبيلاً) وكان السَّبيل مثل ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم
د. الشِّهري: مَعناه هذا أنَّ الرَّجم لــــم يَـــرِد في القرآن.
د. الخِضيري:لــــم يَرِد فيما بين يَدَينا وإلا هُو قد نَزَل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عمر.
د. الشِّهري: يعني معناه أنَّ الرَّجم قد ثبت في القرآن، ولكنّه أيضاً نُسِخ لفظه وبَقي معناه، وهنا نشير إلى أنّ النّسخ في القرآن الكريم إلى أنَّه من حيث الرَّفع ومن حيث الثُّبوت ثلاث أنواع:
* ما نُسِخ حُكمُه وتـِلاوَتُه.يعني كان هُناكَ آية قرآنية فيها حُكُم فرُفِعت الآية ورُفِعَ الحُكُم والخبر. فالخبر يدخُله النَّسخ إذا كان محتملاً على الأمر
د. الطيّار: لا لا ،إذا كان خبر مطلقاً .
د. الشِّهري: عجيب! مثل ماذا يا دكتور كيف يدخل عليه النَّسخ؟
د. الخِضيري: إذا كان الخبر المطلق يَدُخُله النَّسخ فقد احتمل التَّكذيب
د. الطيّار: لا، هُنا ليس النَّسخ بمعنى إبدال، بل نسخ أي رفعٌ بالكليِّة أي يُنسى.
د. الشِّهري: يعني تـَقُول نسخ الحكم والتلاوة ونسخ التلاوة وبقاء الحُكم، ونسخ الحكم وبقاء التلاوة، باعتبارات ماذا هذا؟
د. الطيَّار: جميل، النَّسخ الأوّل الآن هذا الذي فيه رفع الآية لفظاً ومعنى، دعنا من لفظ حكم حتى لا تُقِّيدنا بالأحكام العملية، هل وقع أم لم يقع؟
د. الخضيري: وقع.
د. الطيَّار: خلاص يدخل.
د. الشِّهري : طيب هل هناك مثال؟
د. الطيَّار: ما أصبح عندنا لفظاً ومعنى، أصبح مجهولًا.
د. الطيّار: مثال رفع اللّفظ والمعنى: حديث أبُيّ كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة، ويأتي رفع المعنى وبقاء اللفظ مثل آية المناجاة ومجموعة من الأخبار والأحكام. ويأتي رفع الحكم وبقاء اللَّفظ مثل هذه الآية (فأمسكوهنّ في البيوت).
د. الشِّهري: فأمسكوهُنَّ في البيوت الآن اللَّفظ موجود ولكن الحكم مرفوع، لم يَعُد أحد إن وقعت موليِّته في الزِّنا فإنه يحبسها وإنّما هناك تطبيق للحد وهو الجَلَد أو الرَّجم.
د. الخضيري: لاحظ قول الله عزّ وجل: (إنَّ الله يأمــُر بالعَدل والإِحسان وإيتاء ذي القُربي وينهى عن الفَحشَاءِ والـــمُنكر والبَّغي)، فَذكَر الفحشاء والمنكر والبغي، قال العُلماء إنّ الفحشاء ما عُرِف قُبحُه حتى بالعقل مثل – أكرمكم الله – إتيان الرَّجل للرَّجل، ولذلك يُسَّميه الله عزَّ وجل في القرآن في كل الموارد يسميّه ” الفاحشة” بالألف واللام لاستبشاعه وشدة نكارته، المنكر ما يُعرف نُكرانه بالشّرع يعني الغَالب أنَّ النُّكر فيه يكون من جهة الشَّرع، قد لا يهتدي العقل إلى أنّه منكر، مثل كَون الإنسان يُفطر في نهار رمضان، هذا لا يمكن أن يهتدي العاقل إلى أنّه منكر إلا بدلالة الشَّرع نفسه. أمَّا مثلاً إتيان الرَّجل لإمرأة لم يعقد عليها، أو إتيان الرَّجل لرجل مثله، أو السَّرقة فهذه تُسمَّى فواحش ومثلها كما سيأتينا بعد قليل ولعلّنا ننّبِه عليها أيضاً مرة أخرى في الحلقة القادمة إذا يسَّر الله (ولا تنكحوا ما نكح آباءكم من النِّساء إلا ما قد سلف إنَّه كان فاحشةً) ، سمّى الله منكوحة الأب يعني نكاح زوجة الأب فاحشة لأنّها مستبشعة، ولذلك قال بعده ( ومقتاً) يُورث المقت والبغضاء لأنَّ العادة أنّ الزّوج الذي يلي على المرأة يُبغِض الأوَّل لأنَّ المرأة تجلس دائما تذكره وتُقارن فلان ما كان يقَّصر عليّ، فلان كان يصنع لي كذا. فإذا كان ابن الأوّل سبباً لورود البغضاء بينهما فالحاصل لــمّا قال (واللاَّتي يأتين الفاحشة) يعني أنَّ هذا الأمر المنكر الذي يُهتدى إلى نُكرانه بالعقول لو لم تَرِد به الشّرائع، فكيف وقد وردت به الشَّرائع.؟!
د. الشِّهري: ألا تُلاحظون معي في التعبير بقوله (يأتين) وقوله (واللَّذان يأتيانها) إشارة إلى أنَّ هذه الفاحشة قد اُرتكبت بنوع من الإصرار وكأنَّه هو قد أتى إلى هذه الفاحشة وأنَّ هذه النَّفس قد ألِفت هذه الفاحشة مما تستوجب الكفّ والمعاقبة وإقامة الحد. أليس كذلك؟
د. الخضيري: يقولون الشَّر الدُّخول فيه لجاجة يعني يلِّج الإنسان فيه بِقوّة، بِخلاف الخير، الخير موافق للفِطرة وموافق للهَدي العام وأيضاً لفطرة الله وصِبغته في كلّ شيء، ولذلك انسجام الإنسان في عِفَّته يُعتبَر هَدياً قاصداً، أمَّا إذا أراد أن يَخرج تجده يحمل نفسه حملاً حتى يدخل في هذا الوادي المظلم من أودية المنكر والمعصية نسأل الله العافية والسَّلامة. لذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فَخِذيه أضمن له الجَنّة”، فالإنسان يستطيع أن يحفظ ولكنَّه إذا أراد أن يَذهب إلى أرض المنكر نسأل الله العافية، ويُدخل نفسه في هذا البلاء فإنّه يَلِّجُّ فيها لجَجّاً.
د. الشِّهري : وهذه الحقيقة دلالة كلمة (يَأتين) وكلمة (يَأتيانها) فيها هذه الإشارة والله أعلم، يعني أنّهم يقصدون إلى هذه الفواحش قصداً مما يستلزم من المجتمع أن يقف لهؤلاء بالمرصاد وأن يُقيم الحدّ، كما قال الله (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)، كثيرٌ من النَّاس فِعلاً تُدرِكه الشَّفقة عند إقامة مثل حدِّ الرَّجم خاصَّة تُدركه الشَّفقة وربَّــــما يَعطِف على هذه المرأة وعلى هذا الرَّجل فالله سبحانه وتعالى قد حذّر من هذا ونهى عنه في هذا الموطن وأنَّه لا ينبغي للمؤمن أن تَأخذه رأفة بمن وقع في مثل هذه الفواحش.
د. الطيَّار: العَجيب في قضِّية أيضاً لها دِلالة، الله سبحانه وتعالى شدَّد وغَلَّظ في قضية الشَّهادة هنا في قوله (فاستشهدوا عليهنَّ أربعةً منكم فإن شَهدوا) يعني وقعت شهادته متوافقة أو متطابقة وقع الحكم ولهذا في الإسلام لــمَّا شهِدَ ثلاثة على أبي بكرة جُلِد، فَنقُول من باب التَّنبيه إنَّ هذا الحُكم يَدل على أنَّ الإسلام يَحرص على السِّتر، وأنَّ من أذنب فاستتر بذنبه واستغفر الله منه فإنَّ الله يغفر له، لكن إذا وصل الُحكم إلى الَحاكم اختلف الأمر كما حصل في عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً هذا كونه أربعة من الشهداء يجعل الإنسان لو شَهِد منفرداً أو شهد اثنان أو شهد ثلاثة يعني لم يَتِمَّ أربعة فإنَّهم أولى النَّاس بأن يستروا، لأنّهم إن لــم يفعلوا صاروا قَذَفة يُقام عليهم حد القذف ولا مخرج. ولهذا صارت هذه الشَّهادة شَهادة مُغَلَّظة، يعني متى تأتي بأربعة فيَشهدون هذه الشَّهادة التَّامة التي لا يختلف بعضها عن بعض، ولهذا نقول إنَّ مما يجب أن يُنتَبَه لهُ هذا الأمر، في أنَّ من -لا سمح الله- وقع على أمر من هذا فإنَّ عليه أن يَسكُت ولا يتكلّم به، وأن يَكِلَ أمرهم إلى الله سبحانه وتعالى.
د. الشِّهري: الحقيقة أنّ هذا غَاية الاحتياط والله للأعراض، لأنّه متى يَتيّسر أربعة شُهود يَشهدُون على مثل هذه الواقعة إلا في حالة إذا كانت هذه المرأة أو هذا الرَّجل الذي يُمارس هذه الجريمة رجل قد استهتر بالدِّين وبِالعِرض وأصبح يعني ولغ في هذه الجريمة ممَّا ربَّما يَدفع النّاس لمتابعته ومراقبته والشّهادة عليه، أليس كذلك؟
د. الخِضيري: نعم، والعجيب أنَّ الحكم يا أبا عبدالله، كما ذكرنا قبل قليل انتهى وهو قوله (فأمسكوهُنَّ في البيوت)، لكن استشهاد أربعةلم ينتهِ، بَقي، وهذا تَابع لِقَول الله عزَّ وجل فيما سبق من السُّورة (وليَقُولوا قولاً سديداً) .
القول السَّديد يعني الموافق للصَّواب، ونحنُ هُنا نُوَّجه الحقيقة رسالة لإخواننا ولأنفسنا في أن يـَتثَّبتوا فيما يَنقلون ويقولون على أنفسهم أو على النَّاس لِيحرصوا على ألاَّ يتَكلَّموا بكلمة إلا وهم يعلمون أنَّهم ينقلونها عن ثِقّة وعَن وقوع، وأيضاً ليست كل كلمة تُقال حتى لو وقعت ما يقول الإنسان أيَّ كلام لأنّ الله تعالى قال في هذه السُّورة أيضاً (إذا جاءهم أمرٌ من الأمنِ أو الخوف أذاعوا به) على سَبيل الذّم، (ولو رَدُّوه إلى الرّسول وإلى أولي الأمر منهم لَعَلِمه الذِّين يستنبطونه منهم) يعني لا تُسَارِعوا في إذاعة أمر ولو كان حقًّا حتى تعلموا أنّ في إذاعته مصلحةً عامّة ويتحقّق به خير لكم وللمسلمين .
د. الطيّار: الحكمة من إمساك الزَّانية في البيت واضح جِدّاً هو أن يكون هناك استصلاح لها في البعد عن الرِّجال، وتعويدها على العَّفة التي فقدتها.
د. الخِضيري: وأمرٌ ثالث هو أنَّ هذه الــمرأة لو خَرجت إلى النّاس بعد فعلها الفاحشة لأصبح النَّاس يُشيرون إليها، فَدَعِ النّاس ينسون ذكر هذا الأمر تماماً.
د. الشِّهري: وهو نفس المعنى الذِّي وُجِد في التغريب.
د. الخِضيري: في التغريب تمام، فيكون أيضاً معنىً مهمَّاً وهو إنساء المجتمع هذه الفاحشة لأنَّ كثرة ترددُّها على الألسنة قد تُهَيِّأ نفوساً أخرى إلى الوقوع فيها
د. الطيَّار: وهُناك ملحظ دقيق جدّاً وخفي، وكأنَّه يُشَار إلى أنَّ سبب الوقوع في الزِّنا هو الخروج، فقُوبِل الخروج بالإمساك يبدو لي، ولهذا أنبِّه على هذا في أنّ خروج المرأة سبب من أسباب الوُقوع في الزِّنا، ولكن ليس معنى هذا أنّ كل امرأة تخرج فلا يُفهم من كلامي أنّ كل امرأة تخرج ،لا ولكن نقول أنّ هذا لا شك أنّه ييسِّر هذا السَّبيل.
د. الخِضيري: لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : قد أَذِن الله لكُنَّ أن تخرجُنَّ لِحاجِتِكُّنَّ. انظر قد أذِنَ للدَّلالة على أنّ الأصل أنّ المرأة تَقَرّ في بيتها لقول الله تعالى ( وقَرنَ في بيوتكنَّ ولا تبَرجنَ تَبرُّجَّ الجاهليّة الأولى)
د. الشِّهري: هذا والله دِلالات جميلة جدّاً في الآية، هذا الآن قوله سبحانه وتعالى في النِّساء، ثمّ قال: (واللَّذان يأتيانها منكم فآذوهما) هناك معنى موجود في هذه الآيات وموجود في آيات سُورة النُّور، أنَّ الله سبحانه وتعالى قدَّم المرأة على الرَّجل في مسألة الفاحشة فقال في سورة النّور ( الزَّانية والزَّاني فاجلدوا كل واحد منهما) وهنا قال ( واللاَّتي يأتين الفاحشة) في حين أنَّه في حدود أخرى قدَّم الرَّجل فقال( والسَّارق والسَّارقة) فما هي الحكمة برأيك يا دكتور محمّد؟
د. الخضيري: طبعاً الحِكمة ذكرها كثير من أهل العلم، وهي أنَّ الزِّنا من المرأة أقبح وأشدّ نُكراً وتَوابِعه عليها أكثر، الرَّجل- أكرمكم الله- يزني ثُمَّ يذهب خَفيفاً، أمَّا المرأة إذا تزني قد تحمل ويَبقى الولد عارٌ عليها وعلى أسرتها، ثمَّ أيضاً دَلالة أخرى وهي أنَّ المرأة في الغَالب في موضوع الزِّنا هي التي تكون هيَّأت للرَّجل أسبابه، في العادّة أنَّ الرَّجل لا يكاد تطمَح عَينه إلى امرأة قد استترت عنه،وإنَّما تطمح عينه ويتهيّج للقيام بهذه الفَعلة بالمرأة التي ألانت في القول، وخضعت به، أو تبذَّلت في لِباسها أو كما ذَكر دكتور مساعد قبل قليل أكثرت في الخروج والوُلوج فرآها النّاس فبدأوا يُراودونها. وهذا نراه حتى من أصحاب المنكرات يقولون المرأة المستترة لا نُفكِّر أنّنا نعاكسها أو أننّا نحاول أن نتحرّش بها، أمّا تلك المرأة التي قد أبدت مفاتنها لا شك أنّها تكون محل ريبة.
د. الشِّهري: جميل ،هذا معنىً بديع.
د. الخضيري: في قوله ( واللذَّان يأتِيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) من العلماء من حمل هذه الآية على اللُّوطييِّن، لأنَّ هذه الآية الوحيدة التي جاءت في ذكر حَدِّ اللِّواط، وإنَ كَان سائرَ الــمُفَّسرين أو أكثرهم حملوها على الزانيِّين بين الرَّجل والمرأة، وكان هذا في أوَّل الإسلام قبل أن يُبيِّن الحُكم.
د. الشِّهري: حقيقة الآية محتملة لهذا وهذا،ولعلّها تُحمل عليهما ما المانع من حملها على المعنييِّن؟. في قوله تعالى ( فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) الحقيقة فيها فائدة تربوية مهمّة جِدّاً في عدم تذكير الــمُذنب بذنبه إذا تاب وأنَّ مجرَّد تعييره وتذكيره بالذّنب تهييج له على العودة عليه من باب العِناد والــمُراغَمة .
د. الخضيري: صحيح هذا أوَّلاً، والثَّاني تَعييِّره بهذا الذّنب قد يُهيِّأ آخر للوُقوع فيه لأنَّه يَشعر فلان وفلان كلهم قد وقع منهم، طيِّب أنا واحد أيضاً من هؤلاء، أمَّا إذا تعفَّف النَّاس عن ذِكر ذلك حتى على وجه التَّثريب والعَيب والتَّعيير فإنّ النّاس لا يكادون يسمعون هذا الأمر، ويشعرون أنّه لا يمكن أن يقع.
د. الشِّهري: ولذلك لاحِظ حتى لــمَّا جاء الحكم النّاسخ وهو الجَلد والتَّغريب للزَّاني البِّكر، الحقيقة أنَّ التغريب يَكُّف ألسنة حتى النَّاس عن ذِكر هذا الرّجل لأنَّه إذا غاب عن العيون فإنَّه يغيب بأخباره وبماضيه فينساه النّاس، في حين أنّه إذا بقي في المجتمع ويَرونه يَغدو ويروح، أو يرون المرأة تغدو وتَروح فإنّهم يجعلهم يَستعيدون تلك القصَّة انظر كيف حرص الإسلام على تنقية المجتمع وتطهيره حتى من هذه الألفاظ قال ( فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما).
د. الطيّار: وهذا يدل على أنَّ هذا الأمر يــُمكن إدراكه، لما قال ( فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) فالتَّوبة والإصلاح أمرٌ يمكن إدراكه.
د. الشِّهري: ألا تُلاحِظون يا إخواني الآن، الله سبحانه وتعالى وهو التَّواب الرّحيم حتى في ختامه الآية ( فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إنَّ الله كان توَّاباً رحيماً) ثمّ ذكر التَّوبة بعدها، كيف أنَّ المجتمع أحياناً لا يَغفر أليس كذلك، يعني يرى المرأة الزّانية في المجتمع لا تعود في نظر المجتمع كما كانت من قبل، ولكن قد تكون بعد التوبة خيٌر من قبلها لذلك هذه الآية فيها عدّة فوائد منها:الفائدة الأولى ينبغي على المسلم أن يتَحَرَّز غاية التَّحرُّز من الوقوع في هذه الشُّبهات وينبغي على المسلمة أن تُغلِق كلَّ بابٍ قد يُفضِي إلى هذه الفِتنة، والأمر الآخر:أنَّ على المجتمع المسلم أيضاً أن يتقبَّل التائبين وأنَّ هذا جُزء من مسئوليات المجتمع المسلم أنَّه يتقبّل التَّائبين ويكون عوناً لهم على التَّوبة، ولذلك لاحظوا عندما كان يُؤتى بأحد الصّحابة ويُجلد على شُربه لِلخَمر فبعضُهم يَذُّمَّه، فيقول النَّبي صلى الله عليه وسلّم: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم.وأنَّه ينبغي على المجتمع المسلم فعلاً أن يتقبَّل التَّائب وأن يُعرض، انظر ما اجمل قوله إلى قوله: فأعرضوا عنهما. يعني كأنّك تغاضَّى عن الموضوع تناسى الموضوع لأنّ نفسك تدفعك للحديث
د. الخضيري: ورد في السُّنّة يا أبا عبدالله ما يُؤيِّد ما ذكرت في قوله: إذا زنت أمَةُ أحدكم فليجلدها الحدَّ ولا يُثّرِّب، فإن عادت فليجلدها الحدّ ولا يُثَّرِّب، فإن عادت فليجلدها الحَدَّ ولا يُثَّرِّب، فإن عادت في الرَّابعة فليبعها ولو بحبلٍ من شعر.أي َّ أنَّ هذه لا تصلح ، الشّاهد في قوله: ولا يُثّرِّب فلا يُعيِّرها لأنَّ التعيير مثل ما ذكرت دكتور عبدالرّحمن قبل قليل يُهيِّأ النَّفس على العودة للمعصية يتذَّكَّرها وأيضا يُهيَّأ الآخرين على الوقوع فيها. نسأل الله العافية والسَّلامة.
د.الشِّهري: هل يمكن يا إخواني أن يقول مثل هذا الكلام بشر؟ لا يمكن والله أن يقول مثل هذا الكلام بشر يعلم النُّفوس. ولذلك من الأشياء الجميلة التي تجدها في بعض كتب البَّلاغيين قضِّية دراسة أسرار البلاغة في مثل هذه الآيات، وأنَّك تستشِّف من وراء هذه الآيات إلهاً يعلم السِّرَّ وأخفى، وليس بَشراً يُشَّرع لِبشر ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ليقول مثل هذا الكلام أبداً وما ينبغي له أليس كذلك، هناك قال (وما ينبغي لهم وما يستطيعون). هذا شيء فوق طاقة المخلوقات أن يقولوا مثل هذا الكلام الذِّي يتحدَّث عن خائنة الأعين والنُّفوس لا يمكن هذا.
د. الخضيري:في قوله (فإن تابا وأصلحا) نرغب بمعرفة الفرق بينهما، لأنه قد يظن بعض الناس أنّ هاتين الكلمتين قد يدُّلان على معنى واحد، حقيقة اجتماعهما يدل على افتراقهما فما هو الفرق؟
د. الطيّار: واضح أنَّ التَّوبة تعود إلى النّفس، والإصلاح يعود إلى السُّلوك، لأنَّ توبته في القلب، والصَّلاح في العمل.
د. الخضيري: بمعنى النَّدم على ما مضى، والصَّلاح صلاح في العمل لا نراه في الأماكن الــمُريبة التي كان يعتادها ونراه قد بدأ يعتاد المساجد، ويجلس مجالس الرِّجال الصّالحين فهذا يُعتبر صلاحاً في حقّه.
د. الشِّهري: جميل، لعلَّنا إن شاء الله في اللِّقاء القَادم، لأنَّ الوقت الآن انتهى معنا، لأنَّه جاء بعد هذه الآيات التي وردت فيها ذكر الفاحشة والحدّ، حديثاً رائعاً جِدّاً عن التَّوبة، عن معنى التوبة، وعن شُروط التَّوبة و كيف تكون،وعلى من تكون التوبة، لعلَّنا نبتدأ المجلس القادم بإذن الله تعالى بالحديث عن التوبة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتوب علينا وعلى إخواننا المشاهدين، وأن يجمعنا وإيَّاهم جميعا على خير ولعلنا نكتفي بهذا في هذا اللِّقاء، ونلقاكم أيها الإخوة المشاهدون بإذن الله تعالى في اللّقاء القادم من سورة النِّساء وأنتم على خير، حتى ذلك الحين. نستودعكم الله، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بُثّت الحلقة بتاريخ 9 رمضان 1431 هـ