الحلقة الثانية
2 رمضان 1432 هـ
(وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74))
د. الخضيري: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أما بعد، هذه حلقة جديدة من برنامجكم بينات وقد كنا نتدارس فيها مع المشايخ الكرام هذه السورة العظيمة سورة النساء وتحدثنا في الحلقة الماضية عن أول آيات الجهاد في هذه السورة المباركة وهي قول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا) ثم تحدثنا عن موقف أناس بطأوا عن الجهاد قال الله فيهم (وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا (72)) (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)) كنا وصلنا إلى هذا الاعتراض البياني الجميل وهو قوله (لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) وكان د. مساعد يريد أن يتحدث عن هذا الاعتراض وما فيه من بلاغة وجمال فلعله يفتتح هذه الحلقة.
د. مساعد: بسم الله الرحمن الرحيم. كما ذكرت هذه جملة معترضة ولو نحن قرأنا النص بدونها لكانت عندنا (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) فقد أدت المعنى وهي راجعة إلى قوله (منكم) هؤلاء الذين منكم يقولون هذا القول. لكن مجيء (كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) أنا ألحظ فيها أن هذا المجتمع المسلم وخصوصاً الذين خرجوا إلى الجهاد وغنموا وأصابوا كأن الله سبحانه وتعالى ينبهنا أن هؤلاء لا يستأثرون بما يأتيهم من الخير بل إنهم يعطون من لم يأتي معهم لأنه قال (كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) لم يصيبهم مما أصابهم أي شيء فكأن فيها إشارة إلى هذا النوع من التكاتف والتكافل الاجتماعي وأن هؤلاء الذين خرجوا للجهاد لا يبخلون بما آتاهم الله من فضله على من لم يحضر معهم (كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) فما دام بينكم وبينهم مودة فمعنى ذلك أن الخير الذي حصلوا عليه سيصلكم لما بينكم وبينهم من المودة.
د. الخضيري: أمر آخر وهو أن هؤلاء ينظرون إلى المصلحة التي تكون من الجهاد بغض النظر عن معاني الجهاد الأخرى. وهو أنهم ينظرون إلى الجهاد على أنه إن كان فيه غنيمة فهم ينظرون إلى الغنيمة أما نصرة المؤمنين والحرص عليهم والقيام بحقوقهم ودفع العدو عنهم هذا لا يهمهم فهم ينظرون إلى هذه الثمرة الوحيدة يعني المصلحة ترسخت أو تأصلت في شيء واحد وهو الرأسمالية كم ستحصّل من الفلوس هذه هي الثمرة، كم سيموت من الناس؟ ماذا سيحصل من نتائج أخرى؟ هل سيقوم دين الله أن يخسر؟ هذه قضية لا تهمه أبداً، نظرة مادية وهي النظرة الغربية الآن الموجودة، كم تملك أخبرك من أنت، مقامك بقدر ما تملكه والذي يؤكد هذا المعنى قوله (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظالم أهلها (75) النساء) لماذا لا تقاتلون في سبيل الله وفي سبيل هؤلاء المستضعفين؟ فأنا أقاتل في سبيل هؤلاء المستضعفين لأنقذهم من براثن الظلم الذي حل بهم بغض النظر ماذا سيحصل لأن النتيجة العظمى هي نصرة إخواني أما ذاك المنافق أو المبطئ فينظر إليها من زاوية واحدة وبُعد واحد فقط كم سيحصل من المال؟ إن حصلوا مالاً يا ليتني كنت معهم وإن لم يحصلوا مالاً فالحمد لله أن لم أكن معهم ولم أحضر هذا المشهد ولم أشهده.
د. الشهري: أيضاً من الفوائد في قوله سبحانه وتعالى (كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) المودة هي مرتبة زائدة عن المحبة، هي محبة زائدة ولذلك ذكرها الله تعالى في العلاقة بين الزوجين قال (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً (21) الروم) فوصف ما بين الزوجين من الحب والعلاقة أنها مود يود كل واحد منهم الآخر فقوله تعالى (كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) فيها إشارة أنها تصل العلاقة بين المسلم الصادق المخلص وبين المنافق الذي يظهر خلاف ما يبطن تصل العلاقة إلى المودة وهي درجة عالية من درجات المحبة فلا تستغرب أنت هذا، كأن الله يقول للمسلمين المؤمنين الصادقين لا تستغرب أن يقع مثل هذا من أناس أنت تكن لهم مودة ومحبة ثم تفاجأ بأنهم لم يكونوا يستحقون ذلك لأنهم يظهرون لك ما لا يبطنون وهذه مسألة أخرى تدل على أن المنافقين يندسون في الصف الاسلامي لدرجة لا تشعر بها ولا تتقوقع أنهم يكونون أناس يصلون إلى هذه الدرجة من المودة بينك وبينهم ولا تظن أنهم يتصفون بهذه الصفة ثم تفاجأ بهم في مثل هذه الظروف وهذه أشرنا إليها سابقاً أن المنافقين يظهرون وتظهر صفاتهم في مواقف حساسة مواقف فتن مواطن التقاء صفوف كما هو هنا الله تعالى يقول انفروا وهم يقولون اصبروا انتظروا الوقت غير مناسب الوقت هذا حر العدد غير مناسب وهذا وقت حساس في التاريخ الاسلامي وقت ملاقاة الأعداء هذا وقت أنت بأمس الحاجة إلى من ينصرك ويثبتك ويقدم في هذا الموطن لكن تجد من يثبطك. هذه فائدة من فوائد الآية عندما عبر (كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) أنتم بينكم وبينهم مودة ظهرت في مواطن كثيرة لكن كأنهم يتأسفون على فوات هذه الغنيمة كأن لم يكن بينكم وبينهم أي مودة وعلاقة.
د. الخضيري: أيضاً في هذا الموضوع نلاحظ قضية الحذر من التردد في المواطن الحاسمة في غزوة أُحد لما إستشار النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة هل يخرج لملاقاة عدوه أو يقاتلهم في المدينة شباب الصحابة لحماسهم وغيرتهم وفورة الشباب لديهم قالوا والله لنخرجنّ إليهم والرسول صلى الله عليه وسلم كان يميل إلى البقاء ولكن لما رأى أنهم متحمسون للقاء وهم عدة الجهاد فالنبي صلى الله عليه وسلم لحكمته انصاع لرأيهم دخل بيته ولبس لامة الحرب ثم خرج فالصحابة ندموا وقالوا لعلنا أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر لا يرغب فيه وبالفعل لما جاؤوا إليه يرغبون إليه في أن يرجعوا إلى رأيه قال ما كان لنبي لبي لأمة الحرب أن ينزعها حتى يقضي الله بينه وبين عدوه. قال المترجمون أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقطع شأن التردد لأنه لو قال نعم صار الناس بين شد وجذب وصار لهم هذا التردد الذي يؤثر على نفسياتهم.
قوله عز وجل (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) قوله (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) هل هي أمرٌ للمؤمنين أو أمرٌ لغيرهم؟ وهل هنا (يَشْرُونَ) بمعنى يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة أو يشرون بمعنى يشترون؟
د. مساعد: بودي فقط سبق أن ذكرنا في اللقاء السابق قضية عناية العرب بلغتها بالأداء كنت أتمنى لو وقفنا عند فوزاً عظيماً لو قال يا ليتني كنت معهم فأفوز ثم وقف، أدت المعنى أنه يريد الفوز لكن نظرته الددنيوية هذه ليس مجرد الفوز بل الفوز العظيم هو في الحصول على هذا المغنم فأعطانا هذه النفسية الدنيوية المتكالبة على الدنيا كيف تؤكد أن الفوز العظيم عنده هو الحصول على هذه.
قوله (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) هو أمر للمؤمنين ثم وصف هؤلاء الذين يقاتلون في سبيل الله قال (الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ) يشرون يعني يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة يعني يقدمون الحياة الدنيا مقابل أخذ الآخرة لأن شرى هنا بمعنى باع فالعوض هو الحياة الآخرة والمعوض عنه هو الدنيا فأعطى الدنيا وأخذ الآخرة
د. الخضري: إذن هو خطاب للمؤمنين وحث للمؤمنين على أن يقاتلوا في سبيل الله ووصفهم بأنهم يبيعون الدنيا ليشتروا بها الجنة وما أعد الله عز وجل للمجاهدين والمقاتلين. ويمكن أن يكون خطاباً للمنافقين ويكون يشرون بمعنى يشترون فيكون فليقاتل هؤلاء المبطؤون في سبيل الله الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة يجب عليهم أن يقاتلوا كان عكس المعنى الأول. والذي يظهر لي أن المعنى الذي ذكرته د. مساعد هو الأظهر لأن قوله (وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) كأنه يؤيد أن السياق في حث المؤمنين على القتال في سبيل الله.
د. الشهري: لفظة شرى في اللغة العربية هي من الأضداد، شرى تأتي بمعنى اشترى وشرى تأتي بمعنى باع، فيقوله هنا (الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ) تحتمل المعنيين لكن هناك من ذكر المعنى الثاني
د. مساعد: لما قال (يشرون) على وجهين الوجه الأول خطاب عام للمؤمنين ويدخل فيه المبطئون وخطاب خاص للمبطئين أنه يكون من باب الحثّ ونوع من التوبة لهم عما قالوه
د. الشهري: هذه الآية فيها فائدة جميلة متكررة أن القتال الذي يؤجر عليه هو القتال في سبيل الله فقط والنبي صلى الله عليه وسلم عندما سأله أحدهم الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل حميّة أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. فهو هذا المعنى في قوله (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) يعني لتكون كلمة الله هي العليا ثم وصفهم بوصف على المعنى المقصود الأول (يَشْرُونَ) بمعنى يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة وهم المؤمنون الصادقون فيها حثٌ لهم وتحفيز لهم بأنهم يتخلون عن الدنيا مقابل الآخرة وهذا قد ذكره الله في سورة التوبة (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)) نفس المعنى هنا قال (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ) يعني يبيعونها يأخذون الآخرة ثمناً مقابلاً وهناك قال الله بأن لهم الجنة يعني ليس المقصود يشرون الحياة الدنيا بالآخرة وإنما بالجنة ولكن عبر عنها هنا بالآخرة للإشارة أن مصير هؤلاء المجاهدين الصادقين في الآخرة هو الجنة فعبّر عن الجنة بالآخرة.
د. الخضيري: في قوله (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) نحن نعرف أن أهداف الجهاد كثيرة قد يقاتل الانسان من أجل ماله ويكون شهيداً ويقاتل الإنسان من أجل وطنه يدافع عن الوطن الإسلامي وإذا مات مات شهيداً لأجل هذه الغاية ويقاتل من أجل إنقاذ المظلومين من المسلمين فيكف يتسق هذاما ذكرت (في سبيل الله)؟
د. الشهري: يظهر لي أنه لا تعارض أنت عندما يقوم الجهاد فإنه قد يكون لأسباب خاصة إما اعتداء على مالك، عرضك على وطنك على دينك على مظلومين لكنك أنت عندما تنبعث فهو كله ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى ليس الآن عندما ترفع الشعارات القومية الآن من أجل الوطن فيعظِّم شأن الوطن كأنه أعظم من الدين وأنت عندما تدافع عن الوطن تدافع عنه ديانة لله سبحانه وتعالى عن وطن المسلمين وعن ديانة المسلمين وعن أعراض المسلمين وأنت تفعل ذلك صحيح لهذا الساب الخاص ولكنه ابتغاء لمرضاة الله ةطلباً لما عند الله وليس طلباً لمنصب ولا جاه وفي التاريخ الإسلامي قصص من المجاهدين الصادقين الذين حملوا رايات الجهاد ثم لما انتصر الجيش تخلى ورفض أي منصب مما يدل على أنه انبعث ابتداء لنصرة الدين فلما جاءت الغنائم اعتذر ورجع إلى الصفوف الخلفية ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم طوبى لعبد ثم قال إن كان في الساقة كان في الساقة وإن كان في الحراسة كان في الحراسة. فالعبرة أن النية التي من أجلها جاهد لم تكن المغنم ولم تكن المنصب ولا القيادة وإنما كانت لوجه الله.
د. الخضيري: يمكن أن نقول أيضاً أن الغاية التي تحرك المقاتل هو أن يكون لله عز وجل أما الأهداف فتكون متفرقة مرة يكون الهدف رد عدوان المعتدين ومرة يكون نصرة المظلومين ومرة تأديب الناكثين للعهود أو غيرهم فهذه كلها أهداف لكنها تسعى في النهاية لغاية واحدة وهي علو كلمة الله وفي سبيل دين الله وأن تكون النية والمبعث والمقصد الأساسي أن يكون لله عز وجل ليس من أجل كيانه ولا ماله ولا مصالحه الخاصة مما يقاتل عليه الكفار ومن سار على نهجهم.
د. الشهري: عندما تتأمل في سيرة الصحابة رضي الله عنهم وكيف فهموا هذه الآيات، تعال عند عمير بن الحمام في معركة بدر عندما كان معه تمرات في المعركة ثم كما تروي كتب السيرة لئن بقيت حتى آكل هذه التمرات ثم أبدأ أقاتل إنها لحياة طويلة والله تعالى يقول (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فرمى هذه التمرات، إستعجل هذه الشهادة! كيف فهم هو هذه المسألة بكل بساطة، ليس فيها فلسفات ولا تعقيدات فهم أن الله تبارك وتعالى يدعوك إلى السرعة والنفير والاستعجال تقارنه بهذا الذي قال عنه هنا (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) فجعل هذه المغانم التي غنمها الجيش غوز عظيم، فرق كبير بين هاتين النفسيتين! والجميل في التاريخ الاسلامي أنك تجد صوراً كثيرة لعمير بن الحمام، الماء مر على عدد من الجرحى في معركة من المعارك في معركة اليرموك هذا وصله الماء قال أنت تشرب أنت تشرب فلما وصل إلى آخر واحد كان قد مات الأول والثاني وماتوا جميعاً من العطش مع أنهم في أمس الحاجة للماء لأنهم يحملون أخلاق الإيثار والصدق والإخلاص.
د. مساعد: وهذا دليل أن قضية في سبيل الله متحققة عندهم تحققاً تاماً مثل خالد بن الوليد لما جاء الأمر من عمر أن يكون قائد الجيش أبو عبيدة بن الجراح سلّمه خالد بن الوليد وقاتل معه ولم يعترض ولم ينفصل الجيش
د. الشهري: بل لم تناقش هذه القضية أبداً لما تذكرها في التاريخ مع أنه كان قراراً استراتيجيًا كبيراً أن تغير القائد العام للجيوش مع أنه كان في أوج انتصاراته، ما السبب؟
د. الخضيري: لكن عمر نظر إلى قضية التوحيد وأن النفوس بدأت تتعلق بخالد إن فليغير هذا الذي تتعلق النفوس به ليعلم الناس أن النصر من عند الله وليس من خالد ولا من أبي عبيدة ولا من عمر ولا من سياستنا ولا من عدتنا ولا من عتادنا ولا من شيء آخر.
د. مساعد: في قوله في سبيل الله، السبيل هو الطريق فليقاتل في الطريق الذي أراده الله في طريق الله إذا أردنا أن نفسر تفسيراً لفظياً مجرداً لكن لفظة سبيل الله في القرآن وردت في مواطن متعددة وجُل ما ورد في سبيل الله خصوصاً في القتال أن المراد بها الجهاد في سبيل الله يعني الجهاد وقع بحوث ودراسات كان لها أثر حتى على مفهوم المراد بقوله (في سبيل الله في قضية الزكاة (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ (60) التوبة) هي في سبيل الله في عموم أعمال البر ووقع خلاف بين العلماء وهناك من ينظر في هذا الخلاف لو كان المراد بعموم البر فما معنى (إنما) وما معنى الأعمال السبعة التي قبلها وكلها خاصة؟ وفيها أعمال برّ، كلها كانت أعمال خاصة وهذه خاصة. لكن بعض العلماء المتقدمين أو المعاصرين جعل في سبيل الله عامة في جميع أنواع البر من أراد أن يبني مسجداً أجازوا له أن يأخذ من أموال الزكاة، من كان عنده حلقة تحفيظ أجازوا أن يأخذ من مال الزكاة لأنه كلها في سبيل الله.
د. الشهري: لعل من جمال اللغة العربية وأيضاً من بلاغة كتاب الله تعالى وكلامه أن هذه الألفاظ تحتمل هذه وهذه في اللغة فالذين قالوا أن في سبيل الله خاصة بالجهاد حصوصاً يمكن أنهم يستندون إلى قاعدة وهي عادة القرآن في التعبير عرف قرآني إجمع كل ما ورد (في سبيل الله) في القرآن الكريم تجمعها ستجد أن ربما 98% منها المقصود بها الجهاد فيحمل هذا الموضع الذي وقع فيه الخلاف على هذا العرف وهذا أسلوب صحيح والذين لجأوا إلى أن في سبيل الله أعم من الجهاد في سبيل الله فقط إنما كل أعمال البر سواء بناء المساجد هو دعم لدين الله وتقوية له وتحفيظ القرآن أيضاً هذا وجه صحيح يستفاد من هذا القول في حال السلم عندما تمر سنوات كثيرة على المسلمين وهم في سلم فهل معنى هذا أن يتعطل في سبيل الله؟ فيمكن أن يستفاد من هذا القول الذي عمم في دلالة (في سبيل الله)
د. مساعد: كأن الذي قال به لمح هذا المعنى.
د. الخضيري: أحب أن أضع فرقاً عند القائلين به، القول بأن في سبيل الله أنواع البر العامة مثل شق الطرق وبناء المساجد قول قال به جماعة لكن الحقيقة أن الآية كأنها تأباه لأن السياق سياق حصر والحصر يأبى التعميم، هذا واحد، يبقى في سبيل الله، ما معنى الجهاد؟ هل الجهاد جهاد السيف فقط أو جهاد السيف والكلمة؟ فالذي يدور الحديث حوله بين المعاصرين الفقهاء هل يدخل جهاد الكلمة في سبيل الله أو لا يدخل؟ المجمع الفقهي في مكة التابع لرابطة العالم الاسلامي غالب المشايخ والعلماء فيه رأوا أن جهاد الكلمة والدعوة داخل ضمن الجهاد في سبيل الله، رأوا أن الجهاد نوعان جهاد برهان وجهاد سنان وأن جهاد السنان داخل بالاجماع لم يختلفوا فيه. هل يدخل جهاد الكلمة فيه أو لا؟ الذي يترجح لي أنا شخصياً وبناء على ما يقوله هؤلاء العلماء أن جهاد الدعوة أيضاً يدخل لأن الدين إنما ينتشر بهما وليس بواحد منهما جهاد كلمة وجهاد سنان ثم إن الله سمى الجهاد بالكلمة جهاداً (وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) الفرقان) وصفه بأنه كبير، الجهاد بالقرآن لأنه هو الباقي وهو الدائم وهو الذي يصلح للمسلمين في كل حال أما جهاد السنان فيكون في حال القوة وفي حال الدولة وفي حال الفيئة فالذي يظهر والله أعلم أن ما كان من جهاد الكلمة ككفالة الدعاة وطباعة الكتب وإنشاء القنوات الفضائية والبرامج الاسلامية والإذاعات وغيرها مما هو دعوة ودفاع عن الدين وبيان لحقيقة هذا الدين أنه داخل في سبيل الله أما ما كان من أعمال البر العامة مثل كفالة الأيتام وشق الطرق وحفر الأنهار فهذا من أعمال البر التي لا تؤخذ من أموال الزكاة. ومن دقائق هذه المسألة أن شيخنا عبد الله ابن جبرين رحمة الله تعالى سئل عن بناء المساجد في الدول الضعيفة والتي فيها الدعوة إلى الله عز وجل هل تبنى من الزكاة أو لا؟ فقال إن كان يترتب عليها بقاء الدين وإذا الناس يرتدون فتبنى من الزكاة لأنها أصبحت من أنواع الجهاد أما إذا كانت في بلاد المسلمين العامة يعني لو ما بني في الرياض مسجد مثلاً يصلي الناس في دكان في حديقة في أي مكان لا يضرهم ذلك بينما أولئك يضرهم أن لا يبنى لهم مسجد فيكون سبباً في الردة.
د. مساعد: قوله (وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) لم يقل ومن يقاتل في سبيله،
د. الشهري: تقصد يضمر بعد الإظهار، أظهر في الآية التي قبلها
د. مساعد: لأنه عادة يكون الاضمار بعد الاظهار لكنه صار إظهاراً بعده إظهار خاصة بعد لفظ الجلالة هنا الذي فيه تربية المهابة وفيه تعليق النفوس بهذا الإله العظيم سبحانه وتعالى فتكرار الاسم مقصود وهناك جانب وهو محبة المسلمين لهذا الاسم والشيء المحبب يُعاد ويُكرر ويتلذذ في التعبير عنه مرة بعد مرة.
د. الخضيري: قول النبي صلى الله عليه وسلم: “فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله” كرر ولم يقل فهجرته إليه، “ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر له” لم يقل فهجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها.
د. مساعد: هذا مهم جداً
د. الشهري: وهذا الأسلوب في الكلام كان مقصوداً عند العرب في وقت نزول القرآن الكريم وما قبله، مقصود في كلامه العادي وفي شعرهم وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم هنا، عندما يُظهر هو يقصد هذا الاظهار وعندما يُضمر هو يقصد هذا الاضمار، أنت إبحث عن السرّ ولذلك حتى في الشعر الجاهلي يمكن أن تبحث عن أسرار الإضمار والإخفاء فهم يقصدون هذا المعنى.
د. الخضيري: عندنا مقابلة بين (عظيما) في الآية السابقة و (عظيما) في الآية التي تليها تبين أن العظمة فيما عظّمه الله سبحانه وتعالى، هؤلاء المنافقون أو المبطئون بشكل أدق قال (يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) هو يصف العظمة من وجهة نظره بأنها في نيل هذا الحطام لكن الله يقابله ويعارضه فيقول (وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) العظمة حقيقةً في الأجر الذي أعده الله لهؤلاء المقاتلين في الآخرة وليس فيما ذكرتم، كذبتم فيما قلتم فهذا الحطام لا يمكن أن يكون عظيماً كما قال صلى الله عليه وسلم “لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء” تصور هوانها على الله عز وجل!
د. الشهري: يعني لو كانت بهذه المثابة تساوي جناح بعضوة لكانت تعتبر ثمينة لدرجة أنه لن يسقي الكافر منها شربة ماء
د. الخضيري: لذلك هي أدنى من جناح البعوضة
د. الشهري: ما أجمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم هنا في تهوين شأن الدنيا! في المعنى الذي ذكره د. مساعد (فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ) فقدم الله سبحانه وتعالى ما تكرهه النفوس وهو الأعلى عنده وعندما قال سبحانه وتعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم (216) البقرة) فقدم الله سبحانه وتعالى ما يعرفه من طبيعة النفس البشرية أنها تكره القتل والقتال والمواجهة هذه طبيعة النفس البشرية
د. الخضيري: وهو الأحب إلى الله سبحانه وتعالى
د. الشهري: فالله سبحانه وتعالى قدم ما تكرهه النفوس لأنه أعظم أجراً والأمر الثاني حتى تعلم وأنت تدخل المعركة أن المسألة ليست لعباً وعبثاً وإنما فيها قتل ولذلك قال تعالى في سورة التوبة (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) قدّم هنا قتلهم لغيرهم على قتل أنفسهم تحريضاً لهم على الدخول في المعركة وهنا قال (فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ) فقدم ما تكرهه النفوس على ما تحبه فهي تكره القتل وتحب الغلبة والفوز وهذا إشارة إلى أن هذا وإن كان مكروهاً لكم ونفوسكم تتردد في قبوله إلا أنه أحب وأنه أكثر أجراً ولذلك قال (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)
د. مساعد: ولو تأملنا النظم قال (وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) رتب الأجر العظيم على المقاتلة، قال (فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ) لأنها هذه الأحوال التي تكون إما قتل وإما غلبة
د. الخضيري: إن قاتلت فلك الأجر
د. مساعد: قال (فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ) ليس هناك إلا هاتين الحالتين فمن يُقتَل فله أجر عظيم ومن يغلِب فله أجر عظيم لأن المقصود هو القتال في سبيل الله
د. الشهري: لم يقل هنا فيَقتل أو يُقتل كما في آية أخرى وإنما قال (فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ) لأنه قد تكون الغلبة بغير القتل لأنك قد تهزمهم ولا تغلبهم، فعبر بالغلبة ولم يعبر بالقتل فقال هنا (فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ) لم يقل فيُقتل ويَقتِل وفعلاً قد يكون غلبته إما بقتل غيره أو بهزيمته وردعه دون أن يُقتل الطرف المقابل.
د. الخضيري: في قوله (أَجْرًا) هذا التنكير يقول فيه العلماء هذا للتعظيم والتكثير بحيث يتصور الإنسان شيء هائل لا يمكن أن يحد ولا يوصف ثم زاد في وصف عظمته بأنه يقول عظيماً ولو قال أجرا لكان دالاً على هذه العظمة فكيف وقد وُصِف؟! ومن مَنْ؟ من الله تعالى الذي وصف نفسه (من أصدق من الله قيلا) (ومن أصدق من الله حديثا). لعلنا نصل في نهاية المطاف إلى هذه الآية نسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن ينفعنا بالقرآن العظيم وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.