مجالس تدبر القرآن

تدبر آية – (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴿٦﴾ العاديات) – د. رقية العلواني

تدبر آية – (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴿٦﴾ العاديات)

د. رقية العلواني

تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والآه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حديثنا اليوم عن الإنسان الكنود، الإنسان الذي عابه الله سبحانه وتعالى بتلك الصفة في سورة العاديات حيث قال (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ﴿٧﴾ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴿٨﴾ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ﴿٩﴾ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ﴿١٠﴾ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ﴿١١﴾ العاديات)

الإنسان الكنود، الإنسان الذي يقف طويلًا عند المصائب والمحن والابتلاءات فيرى المصيبة وكأن الدنيا ما عاد فيها أثر لنعمة أنعم بها الله سبحانه عليه، يرى الكون بأسره وإلى حياته السابقة والحاضرة واللاحقة من زاوية تلك المحنة التي ابتلي بها أو ذلك الفقد الذي أصابه. يقف طويلا عند المحن والمصائب وينكر تماما النعم التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها عليه في قديم أو حديث ينسى تماما أن الله قد أنعم عليه قبل أن يخلقه ثم منذ خلقه ثم بعد خلقه ثم عند مماته ثم عند بعثه، هو يرفل في نعم الله عز وجلّ لا تفارقه تلك النعم ظاهرة وباطنة حتى وإن غاب عنه أي نعمة من النعم، أي شيء من ذلك الفقد ففي ذلك كله لا يخرج الأمر عن عدل الله سبحانه وحكمته ولطفه ورحمته فلربما تلك المحنة أو المصيبة أو الفقد ينقلب إلى عطاء ينقلب إلى منحة. وحياتنا المعاصرة وحياتنا الإنسانية التي نعيشها لو نتفكر بها مليًا لوجدنا عشرات الأمثلة التي فعلًا نؤكد هذه المعاني أن المحن ليست كما هي في ظاهرها ليست بذلك السوء الذي تصوره لنا أنفسنا الضعيفة حال وقوع الموقف الشديد أو الموقف الصعب وأن كل ذلك التصور التشاؤمي السوداوي إنما ينبثق عن غفلتنا عن معنى الحياة لطبيعة الحياة لمعنى الابتلاء وأننا لا سابقة فضل ولا إحسان لنا عند الله سبحانه وتعالى لكي ننكر عليه سبحانه وتعالى نعمه ونقف طويلا عند المصائب أو المحن حتى وإن تعددت، صحيح أننا نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة ولكننا في نهاية الأمر لا ينبغي أن نخرج عن حدود بشريتنا وعبوديتنا له سبحانه وإدراكنا تمامًا لمعنى أننا عبيد لمعنى أن الفضل والأمر والإحسان والخير والعطاء بيده سبحانه وأن لا حجة لنا بين يديه سبحانه لنطالبه بالعطاء أو ننكر عليه المنع أو نتسال عن تلك الحكمة وراء ما نصاب به. صحيح أننا ضعفاء صحيح أننا تعترينا أحوال الضعف لكن حتى في أحوال الضعف والمحن والصعوبات لا ينبغي لنا أبدًأ أن نتناسى طبيعة إيماننا بالله سبحانه تلك الثقة التي ينبغي أن تبنى بيننا وبينه عز وجلّ زلا ينبغي كذلك أن نتناسى عشرات، مئات،عدد لا يحصى من النعم العظيمة التي يغدق الله سبحانه بها علينا في الليل والنهار في حال الطاعة أو في حال المعصية فنعمه وعطاؤه غير موقوف ولا موصول فقط لمن أطاعه، غير مرتهن بمن يطيعه سبحانه وإنما هو مبذول لكل عباده سبحانه وتعالى، نعمه علينا لا تحصى نسيناه أم ذكرناه شكرناه أم قنطنا وجزعنا زكندنا له الفضل والإنعام، النعم متواصلة.

ولو تأملنا على سبيل المثال في نعمة واحدة فقط: تلك الأنفاس التي تدخل وتخرج دون شعور منا في كثير من الأحيان هذه الأنفاس التي حين تتوقف لأي سبب أو عارض مرضي يشعر الإنسان حينئذ بمعنى ضعفه وعجزه الحقيقي بمعنى حاجته إلى الله سبحانه وتعالى يشعر وكأن الدنيا بكل سعتها وحجمها أصبحت أضيق من ثقب إبرة ضاقت عليه أطبقت عليه كتمت على أنفاسه هذه نعمة واحدة فقط ونحن نرفل في تلك النعمة منذ أن خلقنا إلى أن نفارق هذه الدنيا، هذه واحدة فقط فما بالنا حين تنزل بنا نازلة ما، عارض من العوارض ربي له فيه حكمة فيه إرادة فيه سبب ولا تخرج تلك الأسباب حين نثق بالله حق الثقة ونؤمن به حق الإيمان عن عدله وحكمته ورحمته، ما بالنا حين تحل تلك النازلة تتغير الأمور وننسى كل النعم؟! ننسى في بعض الأحيان حتى حين نصاب بألم بسيط ألم الصداع الذي يمكن أن يذهب بتناول قرص من الدواء ننسى كل ما لدينا من نعم في الصحة على الرغم من أننا نتنعم بكل هذه النعم دون أن نقف طويلًا عندها.

كثير منا اليوم وخاصة مع طبيعة الحياة التي نعيشها حياة السرعة، حياة كل شيء فيها أصبح متسارعا بشكل مخيف يكاد أن يفقدنا البشرية والإنسانية في بعض الأحيان. فقدنا مع تلك السرعة في بعض الأحيان الإحساس بالنعم، التوقف عند النعم، الشعور بمعنى أن نعدد النعم في كل صباح، في كل نفس من الأنفاس، في بداية اليوم الذي نبدؤه باسم الله سبحانه ونشكره على أن أعطانا يومًا جديدًا، ساعة من نهار جديدة يمكن أن نزيد من خلالها في أعمال صالحة أو نتوقف عن أخرى سيئة أو نبادر إلى أخطاء ارتكبناها فنصححها، نتناسى كل هذا! ولكننا بحاجة ماسة لأجل أنفسنا، لأجل حياتنا، لأجل أن نتخلص من حالة الكنود، حالة تدخل الإنسان في شقاء، في تعاسة حقيقية. القرآن أعطاني شيئا من العلاج بتذكر الموت حيث تنقطع كل النعم التي اعتدنا على أن تكون بين أيدينا وفي متناولنا. القرآن يعلمنا أن نكون لله شاكرين، لحكمته خاضعين مستسلمين منقادين، مستشعرين بأنعم الله سبحانه نحن لا نكاد ولا نستطيع أن نحصيها ولكننا نستطيع أن نتنعم ونستشعر معنى شكر هذه النعم، معنى أن تؤخذ منا هذه النعم، معنى أن تفارقنا تلك النعم التي ألِفنا واعتدنا على وجودها في حياتنا.

أجمل من أن يكون لدينا تلك النعم أن يتحصّل عندنا الشعور بشكر تلك النعمة، الشعور بالامتنان لله الذي خلق وأعطى ووسّع علينا في أرزاقنا وفي حياتنا وأعظم تلك الأرزاق أن يرزقنا الشكر والشعور بالنعم.

 

https://soundcloud.com/aldu3at/wswc3dz3n3ti