تفسير المقطع الختامي لسورة الاسراء
من التفسير الجديد لفضيلة الدكتور احمد نوفل
تفسير سورة الإسراء
المقطع التاسع عشر الختامي
الآيتان: ( 110 – 111 )
﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ﴾ 110
الربط والمناسبة: ألا ما أروع هذه الآية وتاليتها لتكون ختاماً لهذه السورة الجليلة المباركة العظيمة المليئة الزاخرة الحاشدة, المستشرفة مستقبل الأمة والعالم. وأن تردك آيتا الختام إلى مقام العبودية في أروع تجلياته: الصلاة. فيتعانق بدء السورة من جديد مع ختامها, حيث تحدث في البدء عن الإسراء “بعبده” ليرتقي بهذا الإسراء ثم من بعده المعراج إلى معارج القرب الذي لم يتح لأحد, وهذه الصلاة في هذه الآية معراج المؤمن يرتقي بها إلى جنات القرب ومنازل المقربين, إذ يحقق بها أروع تجليات العبودية كما قلت قبل قليل.
ثم التوسط “وابتغ بين ذلك سبيلاً” لينسجم مع ما مر في بدايات السورة من التوسط في موضوع الإنفاق, فالتوسط روح هذا الدين وروح هذا المنهج وروح هذه الأمة وجو هذه السورة, وكم كلفنا الغلو, سواء كان منا أم من غيرنا, فكلاهما “دفّعنا” ضريبة غالية.
فيأتي هذا الختام يشير إلى التوسط حتى في الصوت في الصلاة والعبادة, بين الرفع والخفض والمخافتة.
ثم ما أجمل هذا الختام وهو من أقوى الأسلحة وأمضى العدة للمؤمن في مواجهة الأعداء من أمثال هؤلاء المفسدين, أعني سلاح الدعاء, والاستعانة والاستغاثة.
“إذ تستغيثون ربكم”
وموقعتنا هذه بدرنا الثانية إن شاء الله, كما كانت لنا بدرنا الأولى وافتتحت بالاستغاثة وختام هذه السورة المتحدثة عن بدر الجديدة وبدر سيطلع في سماء الأمة, جميل أن يتضمن هذا الختام الإشارة إلى سلاح الدعاء والاستغاثة.
وجميل كذلك أن نعمق عقيدة التوحيد في ختام السورة فهي أقوى الأقوى من أسلحتنا, فلا قوة إلا لله وبالله ولا عزة إلا بالله ومن الله ولا نصر إلا من عند الله. والتوحيد أعظم التعبئة وأعظم التحشيد!
وجميل أن يكون بداية السورة “سبحان” وختامها “الحمد لله” والتسبيح والحمد قرينان لا ينفصلان.
وأما كلمة ختام الختام فالتكبير, ولئن كان العدو يرهبه شيء أي شيء, فلا يرهبه شيء قدر سلاح التكبير, فما أروع أن تختتم سورة المنازلة الكبرى, ومعركة الأمة العظمى ضد العدو الأخطر وسرطان هذه الدنيا, ما أروع أن تختتم بالتكبير: “وكبره تكبيراً”. والآن بعد هذا الربط القصير نعود إلى التفسير. ونواصل المسير بإذن القدير النصير.
المعنى: قل: يا خير من يقال له قل.
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن: أعظم اسمين من أسماء مولانا هما: الله والرحمن, ولم يتسمَّ بهما أحد, ولم يتصف أحد.
فأياً دعوت من هذين: الله, أو الرحمن, سبحانه, فإنما تدعو من يستجيب, وإنما تدعو بأعظم الأسماء الجامع لكل الصفات.
أياً ما تدعو: أيّاً يكن دعاؤك بهذا الاسم الكريم أو بهذا. فله الأسماء الحسنى( ): فالأسماء الحسنى كلها له وأحسن الأحسن هذان الاسمان ولذا اختارهما مولانا ليقول ادعوني بأيهما.
ولا تجهر بصلاتك: لا ترفع صوتك بالصلاة فوق المتوسط المطلوب المسمع لنفسك إن كنت وحيداً, أو لمن معك إن كنت في جماعة وأنت إمامها.
ولا تخافت بها: ولا تخفض صوتك بالصلاة بحيث لا تسمع نفسك إن كانت الصلاة جهرية أو من معك.
ولاحظ اختيار لفظ بصلاتك, دون حرف الجر في صلاتك, لشدة الإلصاق في الباء. وحتى لا يفهم أنه قد ترفع صوتك في الصلاة بأي شيء خارج عن الصلاة.
وابتغ بين ذلك سبيلاً: وتوسط في ذلك بين الجهر والمخافتة, وقد مرت سبيلاً قبل ذلك في السورة مرات, وهنا ختامها, أي طريقاً وسطاً بين طريقي الجهر الزائد أو المخافتة الشديدة.
قال ابن عاشور: “لا شك أن لنزول هذه الآية سبباً خاصاً( ) إذ لا موجب لذكر هذا التخيير بين دعاء الله تعالى باسمه العلم وبين دعائه بصفة الرحمن خاصة دون ذكر غير تلك الصفة من صفات الله مثل: الرحيم أو العزيز وغيرهما من الصفات الحسنى. ثم لا بد بعد ذلك من طلب المناسبة لوقوعها في هذا الموضع من السورة. وبعد أن يذكر سبب النزول يقول ابن عاشور: “وأما موقعها هنا فيتعين أن يكون سبب نزولها حدث حين نزول الآية التي قبلها”( ).
والكلام رد وتعليم بأن تعدد الأسماء لا يقتضي تعدد المسمى, وشتان بين ذلك وبين دعاء المشركين آلهة مختلفة الأسماء والمسميات, والتوحيد والإشراك يتعلقان بالذوات لا بالأسماء.
و”أي” اسم استفهام في الأصل, فإذا اقترنت بها (ما) الزائدة أفادت الشرط كما تفيده كيف إذا اقترنت بها ما الزائدة, ولذلك جزم الفعل بها وهو “تدعوا” شرطاً وجئ لها بجواب مقترن بالفاء, وهو “فله الأسماء الحسنى”.
والتحقيق أن “فله الأسماء الحسنى” علة الجواب, والتقدير: أي اسم من أسمائه تعالى تدعون فلا حرج في دعائه بعدة أسماء إذ له الأسماء الحسنى والمسمى الواحد”( ).
وتابع ابن عاشور: ومعنى “ادعوا الله أو ادعوا الرحمن” ادعوا هذا الاسم أو هذا الاسم, أي اذكروا في دعائكم هذا أو هذا, فالمسمى واحد. وعلى هذا التفسير قد وقع تجوز في فعل “ادعوا” مستعملاً في معنى اذكروا أو سموا في دعائكم.
ويجوز أن يكون الدعاء مستعملاً في معنى سموا, وهو حينئذ يتعدى إلى مفعولين, والتقدير: سموا ربكم الله أو سموه الرحمن, وحذف المفعول به الأول من الفعلين وأبقى الثاني لدلالة المقام”أ.هـ. ( ).
قلت: كلام ابن عاشور يشير إلى احتمالات, لكن المعنى الظاهر أهم من تشتيت الانتباه بكثرة الاحتمالات, وظاهر معنى النص: الدعاء. ادعوا الله في حاجاتكم باسمه العظيم الأعظم الجامع لكل الصفات: الله, أو ادعوه باسمه الثاني في الذكر وفي القرآن وفي الشهرة في دعاء الناس.
فحتى في البسملة: “بسم الله الرحمن الرحيم” وفي أول آيات الفاتحة بعد البسملة: “الحمد لله رب العالمين, الرحمن..”, فبأي هذين الاسمين دعوتم استجيب لكم, ومناسبة ختم السورة بالدعاء أنها سورة المواجهة بين الأمة وعدوها الأدوم عداوة والأخطر عداوة, وهذه المواجهة ككل مواجهات الأمة تستغيث فيها الأمة بالله وتلجأ إلى سلاح الدعاء.
“ولا تجهر بصلاتك”
قال ابن عاشور: ” لا شك أن لهذه الجملة اتصالاً بجملة “قل ادعوا” يؤيدها تقدم في وجه اتصال قوله: “قل ادعوا” بالآيات التي قبله, فقد كان ذلك بسبب جهر النبي في دعائه باسم الرحمن( ).
والصلاة تحتمل الدعاء, وتحتمل العبادة المعروفة. وقد فسرها السلف هنا بالمعنيين, ومعلوم أن من فسر الصلاة بالعبادة المعروفة فإنما أراد قراءتها خاصة لأنها التي توصف بالجهر والمخافتة.
وعلى كلا الاحتمالين فقد جهر النبي بذكر الرحمن. (وأعاد ابن عاشور ما ذكره في سبب النزول من استغراب المشركين وقولهم وما الرحمن يدعو محمد إلهين .. إلخ).
ثم قال: فأمر الله رسوله أن لا يجهر بقراءة صلاته في الصلاة الجهرية( ). ولعل سفهاء المشركين توهموا من صدع النبي بالقراءة أو بالدعاء أنه يريد بذلك التحكك بهم التطاول عليهم, فاغتاظوا, فأمره الله بألا يجهر هذا الجهر تجنباً لما من شأنه أن يثير حفائظهم ويزيد تصلبهم في كفرهم في حين أن المقصود تليين قلوبهم. والمقصود من الكلام النهي عن شدة الجهر( ).
وأما قوله: “ولا تخافت”، فالمقصود منه الاحتراس لكيلا
من دروس الآية 110
1- الله والرحمن أعظم أسماء المولى سبحانه.
2- بأي الاسمين الجليلين دعوت الله فإنما تدعوه بأعظم أسمائه.
3- الأسماء الحسنى كلها لله, وكلها سواء في استجابته لك, إذا دعوته بأيها.
4- الدعاء عبادة والدعاء سلاح والدعاء صلة بالله وتقو واستمداد منه سبحانه.
5- التوسط سمة هذا الدين وسمة أمته.
6- إذا كان التوسط في الصوت في الصلاة مطلوباً فكيف في خارجها؟!
﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ﴾ 111
الربط والمناسبة: ألا ما أجمل وما أروع وما أبهى وما أجمع وما أزهى وما أكمل هذا الختام الجامع الرائع.
ألا ما أجمل اصطفاف هذه الأرقام 111 وكأنها جند في جيش فتح بيت المقدس وتحرير أقصاها ومسراها وثراها. ألا ما أجمل صدى صوت “الحمد لله” يتردد في جنبات المسجد الأقصى في الصلاة بعد تحريره.
ألا ما أجمل أن يقر في كل الأرض كلمة التوحيد وتندحر كلمة الشرك والكفر التي كان يريد نشرها هؤلاء المفسدون, حين شربوا الخمور في ساحات الأقصى ليس فقط عند احتلاله, عندما اختل ميزان وجود العرب واعتل حالهم حتى استقوى عليهم أرذل الخلق وأجبن الخلق وأخس الخلق.
ألا ما أروع التكبير قبل النصر للتعبئة وبعد النصر للعيد الكبير الذي من شعائره التكبير .. الله أكبر .. الله أكبر.
ألا تسمع هدير الملايين بالتكبير؟ ألا ترى الحشود كموج البحر, ضاقت بها الساحات وغص بها الفضاء, وشق عنان السماء الصوت الهادر: الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. كبيراً.
المعنى: وقل: عطف على قل.
الحمد لله: الثناء بالمجد والعظمة والعزة والكبرياء والجلال لمولانا ذي الجلال والعظمة والكبرياء والقوة: الحمد لله. الحمد لله الذي يستحق الحمد, الحمد لله على نصر الله, والحمد لله على هذا القرآن الذي نهج لنا طريق النصر. الحمد لله أن تفرد مولانا بالوحدانية فما كان معه إله ولا ندٌّ ولا شريك.
الذي لم يتخذ ولداً: الحمد لله على استغنائه عن الولد والصاحبة, والحمد لله على الكمال, وعدم الافتقار وعدم الاحتياج. الحمد لله على غناه عن كل أحد, وافتقار كل أحد إلى غناه ! والحمد لله أن مولانا هذا شأنه.
وما الحاجة إلى الولد؟ وكيف يكون له ولد ولم تكن له صاحبة. ولو كانت له صاحبة لكان عنوان النقص وحاشاه, فالبشر المحاويج يحتاجون الصاحبة لاستمرار الحياة أولاً ولمآرب أخرى, فما حاجة الله لهذا وهو الحي القوي الغني المستغني؟ ونحتاج الولد ليرث ما جمعنا, والله الوارث فلم يحتاج الولد؟
ولم يكن له شريك في الملك: ليس له شريك في هذا الوجود، إذ خلق مولانا ما خلق, فلم يخلق أحد معه شيئاً, ولو كان فليقل من خلق, وليذهب بخلقه, تعالى الله عن هذا. ولا شريك له في إدارة هذا الملكوت الهائل.
ولم يكن له ولي من الذل: إذا كان الولي يتخذ ليتقوى به المخلوق من ضعف ويعز من ذلة, فإن الله لا يحتاج إلى الولي لأنه العزيز المطلق القوي المطلق الغني المطلق, فمن الولي الذي سأحتاجه ليرفع من قوتي أو عزتي؟ تعالى الله !
أما المؤمنون فهم أولياء الله ليتقوّوا به من ضعف, وليعتزوا به من ذلة وقلة, وليستنصروا به أمام عدو حشد العالم كله في مواجهتنا فاحتجنا إلى أن نكون أولياء الله من ذلنا نحن وضعفنا لنعالج ذلك بالولاية له والاستمداد منه والتقوي به.
وكبره تكبيراً: وكبر الله أيها الرسول, ويا كلّ من اتخذ هذا الرسول إماماً ورائداً وقائداً وعزاً وعزوة وأسوة ونبياً وحبيباً وزعيماً ورسولاً .. كبر هذا الإله العظيم تكبيراً.
فقل في صلاتك: الله أكبر, وقل حين ضعفك: الله أكبر, وقل عندما ترى قوة عدوك: الله أكبر, وقل في احتفالك بنصرك ويوم الفتح الأكبر (بعد الفتح الأكبر) قل: الله أكبر. فالله أكبر الله أكبر الله أكبر( ).
“وقل الحمد لله…”
قال ابن عاشور: “لما كان النهي عن الجهر بالدعاء أو قراءة الصلاة سداً للذريعة. ذريعة زيادة تصميمهم على الكفر أعقب ذلك بأمره بإعلان التوحيد لقطع دابر توهم من توهموا أن الرحمن اسم لمسمى غير مسمى اسم الله, أمر النبي بأن يقول ما يقلع ذلك كله وأن يعظمه بأنواع من التعظيم”( ).
وقال ابن عاشور بعد الربط في معنى الآية: “وجملة “الحمد لله” تقتضي تخصيصه تعالى بالحمد, أي قصر جنس الحمد عليه تعالى لأنه أعظم مستحق لأن يحمد. فالتخصيص ادعائي بادعاء أن دواعي حمد غير الله تعالى في جانب دواعي حمد الله بمنزلة العدم.
“من الذل” من بمعنى لام التعليل, والذل: العجز والافتقار, وهو ضد العز, أي ليس له ناصر من أجل الذل. والمراد: نفي الناصر له على وجه مؤكد, فإن الحاجة إلى الناصر لا تكون إلا من العجز عن الانتصار للنفس, ويجوز تضمين الولي معنى المانع, فتكون “من” لتعدية الاسم المضمن معناه.
ومعنى “كبّره”: اعتقد انه كبير, أي عظيم, العظم المعنوي الشامل لوجوب الوجود والغنى المطلق, وصفات الكمال كلها الكاملة المتعلقات, لأن الاتصاف بذلك كله كمال, والاتصاف بأضداد ذلك نقص وصغار معنوي.
وإجراء هذه الصلات الثلاث على اسم الجلالة الذي هو متعلق الحمد لأن في هذه الصلات إيماء إلى وجه تخصيصه بالحمد. والإتيان بالمفعول المطلق بعد “كبره” للتوكيد, ولما في التنوين من التعظيم, ولأن من هذه صفاته هو الذي يقدر على إعطاء النعم التي يعجز غيره عن إسدائها”( ).
من دروس الآية 111
1- الحمد لله في البدء والختام, فكل عمل يفتتح بالحمد وافتتح القرآن بالحمد وتفتتح الصلاة بالحمد, وتختتم المجالس بالحمد, وهذه السورة وعدة سور أخرى اختتمت بالحمد, ويوم القيامة يختتم فصل القضاء بالحمد, فالحمد لله أولاً وآخراً: “وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين” الزمر. “دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين” يونس 10
2- الولد علامة فقر, والله غني مطلق فما به حاجة إلى الولد.
3- الولد يحتاج إلى صاحبة, والله غني عن هذا وهذا والذين ادعوا الولد لله أحمق الخلق طراً.
4- لا شريك لله لا في الخلق ولا في التدبير ولا في أمر من الأمور. والشرك جنون والشرك مخدرات وأفيون, والشرك بدعة الظالمين وضلالة المتحجرين, ليكونوا هم آلهة على الخلق بدل الله الخالق. والتوحيد تحرير والشرك استعباد وقهر وإذلال وبئس المصير.
5- الولي يتخذ للنصرة والتقوية, والله غني عن كل هذا وإنما نحن نحتاج أن نتخذه ولياً.
6- التكبير شعار معركة التحرير وختام سورة التحرير والنصر الكبير لأمة الإسراء على أمة إسرائيل.
والحمد لله على القرآن والإسلام وعلى الإسراء والنصر القادم إن شاء الله في أرض الإسراء.