جوع – خصاصة – مخمصة – مسغبة
كل هذه الكلمات تنتمي الى منظومة الجوع وكل منها لها معنى خاص بها ولا يصح استبدال كلمة بكلمة وإلا تغير المعنى كلياً. وكل هذه المرادفات تعني الجوع وتدل على خلو البطن من الطعام لكن لكل منها معناها الخاص المتفرد الذي لا يصح المعنى بدونها ولا يغني عنه استعمال كلمة أخرى
الجوع : هو ألم البطن الأولي لفراغ المعدة من الطعام وهو أول درجات خلو البطن من الطعام. فكل يوم نصاب بالجوع وهو من قوانين البشر كما نظمأ منشرب ونتسخ فنغتسل وكذلك نجوع فنأكل. فقد نشعر بالجوع صباحاً فنفطر ونجوع ظهراً فنتغدى ونجوع مساءً فنتعشى. وقد قال تعالى في كتابه العزيز:
(لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) (الغاشية:7)
)الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش:4)
(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال و الانفس والثمرات وبشر الصابرين) ( سورة البقرة: 155)
خصاصة: إذا استمر الجوع في الانسان او في مجموعة من الناس لمدة أطول كأسبوع او اسبوعين او شهر او اكثر يسمى خصاصة. والخص هو نبات من القش أصفر وضعيف وهزيل، فإذا أدى الجوع بالانسان الى اصفرار لونه ولا يشبع مما يأكل ولكنه لم يصل بعد الى درجة المجاعة إنما الطعام قليل فيظهر على الوجوه عدم الشبع وهو ما يعرف بمصطلح العصر بـ(سوء التغذية) تسمى هذه الحالة خصاصة وهكذا كان أهل المدينة المنورة من الأنصار لقلة الطعام عندهم بعدما تقاسموا مع المهاجرين طعامهم وآثروهم على أنفسهم في كثير من الأحيان. قال الله تعالى:
وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر:9)
مخمصة: إذا تطور الجوع بحيث أدى إلى تشويه في الوجه والجسد كأن تصبح العيون غائرة والبطن مخسوف وغائر إلى حد مشوه فعندها يسمى مخمصة (غار الوجه بحيث تبدو الجمجمة ظاهرة والبطن عظامها ظاهرة) كما نرى في صور من أصابتهم المجاعة في أفريقيا ودول العالم الثالث الفقيرة. ويقال أخمص القدم إذا تشوهت القدم من الاسفل اي حدث فيها خسف غلى الداخل. هذه الحالة تسمة مخمصة وهي الحالة التي فيها يحق لصاحبها ان يأكل مما حرم الله عليه كما في قوله تعالى:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة:3)
)مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (التوبة:120)
(فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم) والآية هنا لا تعني من كان في سفر قصير ولم يجد طعاماً حلالاً وجاع فالإنسان يمكنه البقاء بدون طعام مدة من الزمن وذلك لوجود الدهون والشحوم في جسده التي تذوب عند الاحساس بالجوع وتغطي احساس الجوع الذي يشعر به الانسان، وعندما تنفذ هذه الدهون ويصفر الوجه ويهزل الجسم وتغور البطن وتصبح حياة الانسان مهددة، عندها يجوز أكل المحرمات فقط. ولهذا يجب مراعاة هذه النقطة لئلا نقع في المحظورات لمجرد سوء فهم معنى الكلمة (مخمصة)
مسغبة: إذا صادف مع هذه المخمصة حالة من التعب والعناء والحالة المزرة تسمى مسغبة. والله سبحانه وتعالى عنده عبادات تكفي عن كل العبادات مثل الشهادة في سبيل الله فكأن كل طاعات الشهيد الاخرى اختزلت في هذه الشهادة. كذلك الذي يطعم في مسغبة فالحال هنا تشابه حال المحكوم بالاعدام ثم تفكه او عبد مملوك فتعتقه وتحرره (فك رقبة) وكذلك الاطعام هنا يجب ان يكون له مزية وليس باطعام ما تبقى لدينا من طعام في يوم ذي حصار شديد ومعاناة شديدة وتعب شديد ثم يصبح عندك طعام فتطعمه هذا الذي يحاسب الله تعالى عليى بما شاء سبحانه.
أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) (البلد:14)
الجوع له جانبان:
-
جانب ايجابي عظيم وهو الجوع الاختياري او الجوع لهدف عظيم
-
وجانب سلبي لئيم كالجوع الاجباري كأن تجوع لأن غيرك استولى على حقك بالغذاء.
وللجوع عدة انواع منها:
-
الجوع العظيم: وهو الصوم الذي يعتمد على الجوع اولاً وهو أعظم العبادات (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) فالصوم يطهر الشمائل ويكفر الذنوب وما من حسنة وفضيلة في الانسان إلا الصوم اساسها ولما أراد الله تعالى أن يقابل موسى ليكلمه طلب منه الصوم فصام موسى 40 يوماً فارتقت نفسه عن الغرائز والشهوات. وفيما يروى أن الله تعالى خلق العقل فقال ما خلقت أفضل منك فقال له أقبل فأقبل ثم قال له تعالى أدبر فأدبر فقال له الله تعالى من أنا قال: انت الله لا اله إلا انت، وخلق الله تعالى النفس فقال لها ما خلقت أشر منك فقال لها من أنا قالت أنت أنت وأنا أنا ففرض عليها الصوم ثم دعاها فأقبلت قال من أنا قالت: أنت الله لا اله إلا انت. والله أعلم. ولأهمية الصوم وعظم ثوابه وحسناته كان كفارة للذنوب، فكفارة القتل الخطأ صيام شهرين متتابعين وكفارة اليمين الكاذب صوم ثلاثة أيام وكفارة الحلق للمحرم صيام عشرة أيام وكفارة ترك معاشرة الزوجة الصوم أيضاً ولولا ثوابه العظيم وما يفيد النفس البشرية لما فرضه الله تعالى علينا وجعله كفارة لذنوبنا. وقد وصف الله تعالى الصوم بالصبر في قوله (واستعينوا بالصبر والصلاة).
-
الجوع الإجباري: هو أسوأ انواع الجوع بأن يحرمك غيرك من حقك بالطعام فالتجويع من شر الأعمال على الأرض فما من شر أشد من أن تتعمد ان تجيع فرداً او مجتمعاً او شعباً بأكمله كما يحصل في الحصارات للبلاد العديدة كما حصل في العراق وغيره من البلاد التس يتسلط عليها من يجوعها ويمنع الطعام عنها. وصدق الرسول الكريم r في حديثه (امرأة دخلت النار في قطة حبستها وأجاعتها)
-
الجوع الرحيم: كأن تجوع لغيرك كما فعل أهل المدينة من الأنصار، جاعوا هم ليطعموا اخوانهم من المهاجرين.
-
الجوع الكريم: او جوع العفة كما في قوله تعالى: (للفقرآء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الارض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس الحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم) (البقرة:273) حتى ولو كان بهم جوع لا يسألون أحداً الطعام لشدة عفتهم وعزة نفوسهم مع انهم يتضورون جوعا.
-
الجوع الوسيم: هو ما يفعله الناس من جوع بهدف الرشاقة واللياقة او ما يفعله بعض فرق الكوماندوس الذين يتدربون دريباً قاسياً ويتبعون حمية معينة فلا يأكلون أي شيء يريدون متى شاؤوا.
-
الجوع اللئيم: وهو شعور الجوع الذي يشعر به من لا يثق بالله تعالى (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) (النحل:112) يخاف الناس من الجوع القادم لأنهم لا يثقون بالله الرزاق العليم.
-
الجوع السقيم: وهو جوع المرض او الخوف او الكآبة فكل هؤلاء يفقد شهيته للطعام.
-
الجوع العظيم: وهو الابتلاء (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين) ولنتوقف قليلاً عند هذه الآية: الخائف لا يتلذذ بشيء فالأمن والغذاء هما أساس كون الإنسان صالح للحركة، الجائع حركته خاطئة والخائف حركته خاطئة (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)(قريش:3-4) وفي حديث الرسول r: (لعن الله من أخاف مسلماً). وهنا ينبغي أن نفرق بين البلاء والفتنة والامتحان.
الابتلاء يكون بما تكره (الجوع، الخسف، الخوف..) ويكون لجلاء الصبر. (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين)
الفتنة تكون بما تحب كالمال والسلطة والنساء والأولاد وهي لجلاء الشكر وليرى الله تعالى مدى شكرك له وكيف تستعمل هذه النعم بالكفر او الشكر.
الامتحان هو الامتحان بما يخفى وهو اختبار الكفاءة.
الخوف والجوع متلازمان والفرق بين الخوف والجوع أن الجوع يزول بلحظة ما إن تأكل الطعام حتى يتلاشى الاحساس بالجوع حتى ولو استمر الجوع لسنين. أما الخوف فلا يزول. كما في قصة بني اسرائيل مع فرعون، فمن كثرة ما أخافهم فرعون وارهبهم لم يصدقوا ان الله نجاهم مع موسى في البحر وأغرق فرعون وجنوده فلما قال لهم موسى ادخلوا الارض قالوا لموسى إن فيها قوماً جبارين. ولكي يزول الخوف من شعب أو أمة يجب أن يزول الجيل بكامله ولأجل هذا بقي بنو اسرائيل تائهين أربعين عاما حتى نشأ جيل جديد لا يخاف.
في النعمة فقد قدم الله تعالى الطعام على الأمن (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).
أما في النقمة فقد قدم سبحانه الخوف على الجوع (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين)
والصوم هو ابتلاء من رب العالمين ليعلم صبرنا، اما تجويع الناس فهو من فعل الناس(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) وليس من فعل الله عز وجل فقد قال تعالى: (لنبلونكم بشيء من الخوف والجوع)
ولا بد من الشعور بشيء من الخوف لجلاء الصبر والتحمل عند مواجهة العدو جعل الله تعالى الجوع والخوف والتضحية جعلها في أيدينا.
فلسفة الجوع الإيجابي:
· قال يحيى بن معاذ وهو من صالحي هذه الأمة: جوع الراغبين منبهة الذين يرغبون بالتقرب الى الله. مثل سيدنا موسى عليه السلام صام أربعين يوماً حتى صفت نفسه وطهرت من الغازات والتجشؤ وغيره من أدران الجسد. وجوع التائبين تجربة (عندما يتوب المذنب من ذنوبه ويريد أن يكون عبداً صالحاً يجب أن يجرب الجوع هتى يعود نفسه على حسن العبادة وعلى الصبر)
· وقال سعد بن سهل: أفضل العبادة ترك فضول الطعام اقتداء بالرسول r.
· وضعت الحكمة والعلم في الجوع والمعصية والجهل في الشبع وما وصل الصالحون إلا باخماص البطون.
· من جوّع نفسه انطعت عنه الوساوس.
· اقبال الله على العبد بالجوع
· سألوا حكيماً: بأي قيد أقيّد نفسي؟ قال: قيّدها بالجوع والعطش، وذلّلها بإخمال الذكر وترك العز، وصغّرها بوضعها تحت أقدام الصالحين.
· قال ابن القيم رحمه الله: عندما صام سيدنا موسى ثلاثين يوماً فأتمها بعشر مع أنه كان صائماً وجائعاً لم يشكو تعباً ولا جوعاً وفي قصته مع العبد الصالح خرج مع فتاه وقال له آتنا غدائنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا.
بثت الحلقة بتاريخ 5/10/2003