تحرّي– استخبار – تبيّن – تحقق – تجسس – تحسس – توسّم – القصّ والقصص – تنقيب
هذه الكلمات كلها تدخل قي منظومة كشف الغيب وطرق الحصول على معلومات.
الغيب غيبان: غيب يختص الله تعالى به أو يعلّمه من أراد من رسله (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) الجن) (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) لقمان) هذه الغيببيات الخمس من اختصاص الله تعالى وحده أو يعلّمه رسوله كما أخبرنا الرسول r عن غيبيات علّمه إياها ربه تعالى فأخبرنا بما يجري في الدنيا. والغيب الثاني هو غيب إنساني وهو كل ما غاب عنك وما لا تراه ولا تعرف عنه شيئاً وهذا الغيب يتقلص من جيل إلى جيل فالبترول مثلاً كان غيباً عن السابقين ثم أصبح مشاهداً وكذلك أخبار الأمم السابقة التي ذكرها تعالى في القرآن الكريم (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) الأنفال) (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) هود) (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) آل عمران) وما أخبرنا به النبي r أصبح مشاهداً منه إخباره بحصار العراق وبقتل العلماء في أحاديث “لا تقوم الساعة حتى..” مثل:”لا تقوم الساعة حتى يكون الروم أشد الناس عليكم” “لا تقوم الساعة حتى يتحدث رجل في المشرق يسمعه من في المغرب” وهذا أصبح مشاهداً الآن وكان غيباًَ فيما مضى.
وهذه المنظومة تهيب بنا وتستفزنا وتطلب منا أن نسعى لاكتشاف الغيب سواء كان علماً أو آثاراً أو معادن أو أشخاص ضاعوا أو أشياء فقدناها. وكل حركة الكون تقوم على كشف الغيب عن شيء لا بد أن نعرفه لأنه بمعرفته دفع لشرّ أو كسب لخير. وهذه المنظومة هي منظومة البحث عن ما غاب عنك بطرق مختلفة حسب الشيء المطلوب وأصلها أحكام لفرد بمعنى أن التحري كان منفرداً وشخص واحد يقوم به وعلى مرّ الزمان أصبح عمل مؤسسات ودوائر عظيمة. وهذه المنظومة تؤثر بالناس شقاء وسعادة، سلاماً وحربا والعالم كله اليوم يقوم على هذه الدوائر التي تتحارب فيما بينها بالمعلومات والتحريات والمعارف وغيرها.
وهذه المنظومة تحقق هدفان إما أن تجلب نفعاً كأسولق جديدة واكتشافات جديدة وإما أن تدفع شراً وهذه المؤسسات مُطالبة اليوم بأن تكون دروع الأمة فلو كنت ضعيفاً لا تستطيع التقدم فهذه الأجهزة يجب أن تدفع عنك على الأقل الشر والضرر من العدو وعلى كل دولة الاهتمام بهذه الأجهزة اهتماماً عظيماً.
حَرِيَ: التحري هو أن تتناول الأمر من جانبه اي سراً بمعنى تأخذ الحَرَى أي الجانب بدون أن يشعر بك أحد (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) الجن) لم يعرفوا من مرة واحدة ولكنهم مرّوا بتجارب عديدة كما تحرى ابراهيم u حتى بلغ إلى الرشد تحرى الكوكب والقمر والشمس وعبادة عمّه للأصنام فأدّى به التحري إلى الرُشد وهو أرقى أنواع التفكير العقلي (وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) الأنبياء). وهناك طريقتان للتحري إما عن طريق التجارب تجربة تلو الأخرى كما فعل ابراهيم u حتى وصل إلى الحقيقة والحقّ، والطريقة الثانية هي استعمال الشكّ حتى يؤدي إلى اليقين كما في قصة ابراهيم u في قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) البقرة) فالتحري يوصل إلى اليقين والذي يؤمن بالدين يكون بعد يقينه بهذا الدين أنه هو الدين الصحيح.
الاستخبار: هو أن تكشف خطط العدو وتعرف تصرفاته من بعيد كما فعل الهدهد مع ملكة سبأ (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) النمل) (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) التوبة). والخبر يكون من قريب أما الاستخباروالنبأ فيكون من بعيد.
التبيّن: هو المراقبة من بعيد أو التغلغل في صفوف الآخرين لمعرفة صدق الخبر لأنه لا بُدّ من التيقن من صحة الخبر أو كذبه كما في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) الحجرات) بمعنى اُطلب البيان وهو تفصيل كامل من الذي نقل الخبر.
التحقيق: هو كشف مدى صدق الدعوة وهو يختلف عن التبيّن الذي هو كما أسلفنا يكون لكشف صدق الخبر. وفي الإسلام علم عظيم هو علم التحقيق لإثبات احاديث رسول الله r ويُقال أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع حديثاً من أبي هريرة فخزنه عاماً ثم سأل أبا هريرة عنه فرواه عليه بنفس لفظه الأول فقال له عمر لو كنتَ أخطأت لدلّ على كذِبك. والفرق بين التبيين والتحقيق أنك في الأول تجعل صاحب الخبر يبيّن ويٌبين أما في الآخر فأنت تجعل صاحب الدعوة يأتي ببرهان على صحة دعوته. قال تعالى (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) البقرة) طلب تعالى منهم أن يأتوه بالبرهان على صدق دعواهم تلك. إذن على صاحب الخبر أن يبيّن عما قال بالتفصيل وعلى صاحب الدعوة أن يبرهن عن دعواه لادليل.
التحسس: هو معرفة مكان شسء أو شخص غائب أو مفقود ولا بد من الانظلاق بالحركة للسؤال عن هذا الغائب أو المفقود في محاولة لإيجاده ولا بد من استعمال كافة الحواس حتى تجعل المفقود أو الغائب مُشاهَداً كما في قوله تعالى في سورة يوسف (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)) .
والفرق بين التحسس والتجسسس أن التحسس يكون للصديق أو إذا ضاع منك كنز أو ولد أو معلومات والتحسس يكون عادة لمصلحتك أما التجسس فهو محاولة اكتشاف غيب العدو وحركاته وخططه ويكون ذلك عن طريق استراق السمع ونشر العيون وهذا يكون لمصلحة الآخرين. والتحسس والتجسس محاولة اكتشاف الغيب. والتجسس إن كان على العدو فهو من التجسس الإيجابي وهو فضيلة كما فعل الهدهد في قصة سبأ، لأنه قد يدفع شر العدو ويُفشِل خططه أو قد يُعين على مهاجمته أما التجسس على المسلمين فهذا من التجسس السلبي المذموم الذي نهى الله تعالى عنه في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) الحجرات) ونهى عنه الرسول r “لا تحسسوا ولا تجسسوا” وهذا من خائنة الأعين. وقد تجسس عمر مرة على شاربي خمر فحاججوه فاعتذر منهم.
القصّ والقَصص: هذه كانت موهبة وأصبحت الآن علماً قائماً بذاته. وقد كان السابقون يقصون آثار الناس ويتعرفون على آثار شخص ما من بين آلآف الأثار وكان هذا العلم يسمى (قص الأثر) أما الآن فلدينا بصمة الأصابع وبصمة الصوت والشفرة الوراثية وبصمة الشعر والعين وغيرها وهذه كلها تطوير لعلم القصّ حتى أن الكلاب الآن تستخدم لتقصي الأثر. قال تعالى (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) القصص) و (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) الكهف) اتبعوا آثارهم حتى وصلوا إلى المكان المُراد.
التوسّم: وهو من اللامعقول كالقصّ سابقاً. فالله تعالى يعطي من يشاء من عباده بصيرة عظيمة كأنه يكتشف ما وراء الحُجُب فيرى ما لا يراه أحد وهو ناجم في الغالب عن طاعة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) الحجر) كما في قصة الخضر كشف الله تعالى له أن الغلام سيكون شقياً وكذلك قصة عمر بن الخطاب (سارية الجبل) والتوسم من الفراسة ومن ضمنها أيضاً الرؤية الصالحة “اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله”.
التنقيب: هو البحث عن الشيء الثمين في موقع معين. أو البحث عن طريق سريّ يهرب منه (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) ق).
هذه جملة الأساليب التي يكتشف بها الإنسان الغيب فيصبح مُشاهداً وهي أساس حركة الكون كله من البحث عن المعادن والخصب والمرض والمجرمين وكل الاكتشافات.
وقد أمرنا الله تعالى أن نتخذ من هذه الكلمات سواء كنا أفراداً أو أجهزة ما يمكننا من منع الأذى عن أنفسنا والوقاية من الشرّ القادم ووعدنا أن لا نُفنى بما في هذه الأمة من علماء وأجهزة كما جاء في الحديث الشريف :” وعدني ربي أن لا يسلّط على أمتي من يستبيح بيضتها من سوى أنفسها” ويُشترط في هذه الأجهزة أن تكون سلاحاً ذو حدين ويجب أن نتعلم ونأخذ العبرة من قصة الهدهد في القرآن الكريم لأن فيها صفات الاستخباري الناجح وهذه الصفات هي:
v الانتماء إلى الوطن انتماء شديداً لا شك فيه والولاء المطلق عقائدياً وعاطفياً. فالهدهد لا يغادر وطنه وأهله وفيه عاطفة على أسرته فيموت حنيناً إلى أهله إذا غاب عنه طفله أو أُنثاه فهو عاشق مثالي وكذلك على صاحب المخابرات أن يكون عاشقاً لوطنه عشقاً كاملاً.
v ضورة الإلمام بلغة العدو ومعرفتها معرفة كاملة وأن يكون صاحب المخابرات عالماً بلغة الدولة التي تستخبر عنها وتعرف آدابها وأحكامها وإشاراتها.
v أن يتمتع بالسريّة التامة الكاملة.
v أن يكون سريع الاستيعاب
v أن يكون تحت أنظار رئيس الدولة كما فعل سليمان مع الهدهد لم يأخذ منه الخبر مباشرة بل امتحنه ليُثبت حقيقة ما نقله إليه. وكم نحن بأمس الحاجة إلى هذا التحقيق الآن وسجوننا ممتلئة بمن سجنوا من أكثر من ثلاثين عاماً على نكتة قالوها أو كلمة تفوهوا بها وقد لا تكون حقيقة أصلاً فيجب أن تُمحّص الأخبار جيداً وعلى الأمة أن تعيد النظر في مهام هذه الأجهزة وأن توجهها لاكتشاف مصادر الثروة وكف الأذى والتصالح مع الناس وأن تعمل خارج نطاق حدود الدولة وأن تكون لخدمة الشعب وليس ضده فعلى هذه الأجهزة أن تكون سلاح الأمة فترفع عنها الأذى فإن لم يكن لنا جيوش تُقاتل فيجب أن يكون لنا عقول تدافع وتخطط وتدفع الشر وتناور.
بُثّت الحلقة بتاريخ 13/8/2004م